Powered By Blogger

الجمعة، ديسمبر 09، 2011

من مخطوطة كتاب : " كلمة في تبجيل الفنان وردي " !

الأغاني تَنْتَمِي للفرح الجميل،
حقول مطر ونوافذ ياسمين!.

(جِيِتْ أسألِك
ياطفلة الأُم الرضيع
تدَينى خاطْرِك شَان أضيع
فى شوق موزَّع في الزحام.
جِيِتْ أسألِك مِيْن علَّمِك
أَنُّو الزَّمن في مرَّة ناقِص
ومرَّة تام؟!
جِيِتْ أسألِك
الشُّوق مكتَّف في الطريق،
والخوف مداخِل للفريق.
جِيِتْ أسألِك
مين علَّمِك لُغة الزهور
مِيْن علَّمِك غَضَب الحريق
وانْتِ باحَة
وانْتِ واحَة
وانْتِ ذَاتِك سِكَّة الزول للمضيق!
فارْدَهْ السَّوَاعِد للزَوَابِع والمطر،
للْهَم يَوَلْوِل للشَّجر؟.
عايز أسألِك
مين علَّمِك
لَمَّ السلامَةْ مع الخطر؟!) (1).
قـال وردي وهو يتحدث عن أُغنية (الوُد)، التي كانت فتحاً ومساراً جديداً للأُغنية السودانية: (الود) للشاعر العظيم الراحل الدوش، وفي رأيي أن الدوش من أشعر شعراء الغناء، أعطاني الأُغنية سنة 1965م، ولحَّنتُهَا في فترة طويلة؛ عاكستني جداً في التلحين رغم سهولة كلماتها، وانتهيت منها سنة 1970م! قدّمتها مرةً في التلفزيون وفي القاهرة قعدت فترة طويلة لمقابلة الموزع الكبير (أندريه رايدر)، وهو يوناني مصري، وكُنتَ أَقعُد جَنْبُه وأخاف من التوزيع الكثيف، وطلبت منه أن يُسمعني إياها، لأن مستمعنا بسيط، فيغيرها، أعارضه وأُوافقه، فوزّعها خلال أربعة أشهر وانعزفت بأروكسترا مصرية. السوداني الوحيد المشترك في العزف في القاهرة الفنان الكبير محمد عبد الله محمدية، وأنا من عزفت على الطمبور. أنا أَصْلِي طمبراوي، فَتْوَزَّعَت صَاح!.
الطمبور أعطى النكهة السودانية، وهو إمكانيته اللحنية سودانية، وله صوت مُتفرّد يمكن يدخل ويُعَبِّرْ في أغاني كثيرة. عندي تسجيل في أغنية (الرِيلة) سجلتها في لوس أنجلوس، و(بِسِيْمَاتِكِ) كانت طمبور ساكت، وإيقاع الدليب إيقاع صعب لا يقدر عليه إلا الفنانين الذين من تلك البيئات) (2).
بدأ وردي ينتقي الكلمات، يتفحص وهو يقرأ الشعر الجميل، فيقوده وعيه وتقوده ذائقته الشعرية المدهشة إلى حديقة الشعر المُزهرة، وإلى حيث القصائد الجميلات! القصائد التى تُعَبِّرْ عن المرحلة التي يعيشها الوطن، ثم عن أشواق وطموحات وآمال أبناء وبنات الوطن. ينظر في الشعر فيختار أجوده وأجمله وأكثره تعبيراً ودلالة ومعانٍ، لا، أبداً ما توقف عند شاعرٍ لامع أو صاحب صيت ونفوذ ثقافي أو أدبي؛ ما كان همه الشعراء بقدر ما كان همه هو: الشعر. لهذا تجده غنَّى للعديد من الشعراء مختلفي المشارب والسمات، وموزعون على جغرافيا الوطن الكبير الحَدَّادِي مَدَّادِي؛ غزير التنوع والسحنات، وفيهم (المغمورون) البعيدون عن مساقط الضوء وأجهزة الإعلام، غنَّى لهم فجعلهم ـ بين إذاعة الأُغنية ووصولها إلى أسماع الناس ووجدانهم ـ من جملة الشعراء اللامعين المعروفين، وبدأ الناس يبحثون عن أشعارهم ويتداولونها!، وابتدأ يطلع في ساحة الغناء ذلك التلازم الخلاَّق بين الشاعر والمُغني، التقى بقصيدة (الوُّد) والشاعر الدوش:
أحِبَّك
لا الزمن حوَّلْني عن حُبَّكِ
ولا الحسرَة
وخوفي عليكِ يمْنَعْني
وطول الإلفَة والعُشْرَة
وشوقي اللِّيْكِ مِن طَوَّل
لِسَّه مَعَاي
ولِي بُكْرَة) (3).
قرأ وردي الدوش جيداً، تماماً كما قرأ شعراء آخرين كُثر، الفنان هنا يقرأ بوعيٍ كبير محيط، وبفهمٍ تاريخيٍّ وجماليٍّ وحساسيةٍ فنيةٍ عالية الوتائر؛ يقرأ ويقرأ ولكنه، وهو يقرأ، يستوعب ويفهم؛ يفهم القصيدة والشاعر معاً، ويختار! لاحَظَ أن الدوش هنا يُخَاطِب الحبيبة ويعلن حُبَّه لها، ولكنها ـ أيضاً وأيضاً ـ هي الحبيبة/الوطن؛ مفهومان للجمال والقيم الإنسانية النبيلة، يتلازمان ويختلطان معاً، حتى تخالهما، وأنت تستمع للأغنية، واحداً لا ينقسم، وكُلٌّ لا يَتَجَزَّأ!. ثم أنه يُعلِنُ على الملأ أنه لن يتحول عن هذا (الحب)، فهو غير قابل للتغيُّر بفعل الزمان وتقلُّبَاتِهِ، ولا حتى بفعل الحسرة التي تعتريه ويعيشها أحياناً بسببٍ من متغيرات الواقع وتبدِّل حالاته من حالٍ إلى حال!. ثم أن الخوف نفسه لن يثنيه عن هذا (الحب) المُعلَن، الذي ـ يؤكد ـ أنه سيمضي معه الآن وغداً إلى ما شاء الله!. تلك لغة للعشق جديدة، وقيم جديدة يضيفها الفنان والشاعر معاً على وجدان الناس!، وهي البذور التي يُتقِنُ وردي إدخالها ووضعها في التربة العفية الخصبة التي تحتضن هذا البذار الواعد بالخير العميم!. ثم إن الفنان قد أدرك أن الدوش يكتب عن الوطن/الحبيبة، أنَّ له رسالة نَهَضَ بعبئها كله؛ في الشعر وفي الحب والحياة نفسها؛ فقد لاحظ الفنان كيف يكون حُبُّ الحبيبة، ثم حُبّ الوطن لدى الدوش، والأسئلة التي يجترحها للناس ثم لا تُقدَّم لهم الإجابة، فمن الناس ستطلع كل الإجابات كما قال محجوب شريف بحق:
(بنسْأَلَك انْتَ،
وانتَ وَرِّيْتنَا الإجابة)!.
ويقول الدُّوش:
(وأسأَل عن بَلَد مجروح،
وعَارْفَ الجَّارْحُو لِيْه جَارِح.
وأَبْكِي على بَلَد مَمْدُوح،
وعَارْفَ المَادْحُو
مَا مَادِح!
وأحْلم بِيْ حِلم مسروق
لا هو الليلَة
لا امْبارِح.
حأسأل عن بلد غَاطِس
لحَدِّ الليلة في الوَجْعَة
أَنُط فوق سرْجي واتْحزَّم
أَقُوم من وَقْعَة
لي وَقْعَة
أَخُتْ إيدي البِتوجِعنْي
على السَأَم البِرَاجِّعني
وأَسْأَل،
يا وطن يا بِيْتَنا
لِيْه شُوْقَك مُوَاجِهْنِي
ليه حُبَّك مُجهْجِهني
وليه تاريخ زمن خسران
مُوَكَّر لِسَّه في شجني؟!) (4).
قصدنا بإيراد هذا الجزء من القصيدة تقديم إضاءةٍ واجبةٍ تُمكِّننا من أن نؤشِّر ـ مجرد إشارة ـ لرؤية الشاعر لـ(حالة) الوطن، وكيف هو يُعايشه ويحادثه ويسأله، وفي حنوِّ ورجاءِ المحبّ ينتظر منه الإجابات كلها، ولا يطول عليه الإنتظار حتى تأتي الإجابة!! تلك هي رؤيا الشاعر التي استطاع وردي أن "يلتقطها" من منظومة أشعار الدوش، كلمة من بعد كلمة، وقصيدة من بعد قصيدة، وعندما وجد فيها الرؤيا الجديدة، وبعضاً كثيراً من القيم "الجديدة والسِيَر"، كما يقول ود المكي، اختارها، فطلعت الأُغنيات العظيمات: (بناديها – الوُدْ – الحزن القديم)!
إننا ما نزال نتحدث عنه، هذا الفنان الإنسان، محمد وردي، المكتنز بالأحلام والألحان والشذى والعبير، إن المادة الخصبة لتجربته العظيمة في الحياة تظل منتصبةً صامدةً خارج الأشكال والصِيَغ، فدعونا نُصوِّب أنظار أهل السودان قاطبة في هذه "الاحتفالية الذهبية" لتكريمه نحو هذا الظل العظيم، الذي غنَّى أعلَى مما غنينا، وأحيا بصوته العبقري الفخيم هذه الأرض التي نطأها؛ تكريماً له وتمجيداً نرفع إليكم هذه الكلمات، ثم إنها أيضاً تحيةً له وتقديراً!.
نقول إذن، أنه أحياناً كثيرة يُغيِّر ويبدل في القصيدة التي يختارها: كلمة أو كلمتان هنا، وكلمةً أو كلمات هناك، يحذف حرفاً في صدر البيت أو كلمة تُضاف في عجزه. مرات تضطره ذائقة الفن الشفيف أن يحذف تعبيراً كاملاً ويترك بقية الأبيات كما هي، وتظل ـ رغم هذا التبديل (الجميل) ـ القصيدة هي القصيدة، والمعنى هو المعنى، والدلالة هي الدلالة، ولكنها تصبح، عندما يُغنيها، كالفراشات الملونة، تطير فوق ورود مزهرة في حديقهٍ باذخة!!.
وجدت شيئاً كثيراً من ذلك كله في قصيدة الدوش (بناديها)، فهو يحذف:
(في شهقة لون وتكيَة خط)!
ويضيف كلمة واحدة (فى الأعياد) لتصبح العبارة:
(في الأعياد،
وفي أحزان عيون الناس
وفي الضُّلَّ الوَقَف ما زاد).
ثم (بناديها)، يكررها خمس مرات بَمَدَّةٍ كبيرةٍ متواصلة، تأخذ الموسيقى خلالها مساحاتها الحُرّة الكاملة! يفعل هذا مع قصائد الدوش بشاعريته الضخمة التي اعترف هو نفسه بها للدوش، ومن قبل فعلها كثيراً مع إسماعيل حسن، ومن بعد نراه يفعل مثل هذا مع شعراء آخرين تغنى بقصائدهم، ولم أسمع قط أن هنالك واحداً منهم قد اشتكى من لمسات الخَلْقِ هذه، يُجريها الفنان الكبير لتكتسب مخلوقاته سمات البهاء والنضارة والإشراق، فتبدو، وهي تبلغ أسماع الناس وأفئدتهم، تلتمع بجمالٍ فذٍّ وبحبٍّ مُشع وقد أزفت لحظة الغناء. إنه، بذلك الفعل الخلاق، يُعيد إلينا صفاء الذات وتوازنها الضروري في الحياة، ويجعلنا ـ وقد حُزّنا شجنه في دواخلنا ـ نتعالى، بطاقة أُغنياته العبقرية، فوق آلامنا وواقع حياتنا الخشنة!.
قُلتُ: إن وردي (صياد) ماهر للشعر الجميل، لللحن الجميل والموسيقى الجميلة، إن عمل الكتّاب والفنانين العظام، في رأيي، له شبهٌ كبير بعمل أولئك الصيادين في القطب الشمالي؛ على الكاتب والفنان أن يبحث عن النهر، فإن وجده متجمداً فإنه يضطر أن يثقب الجليد، عليه أن يتجلدَ ويصبر، أن يتحمل الطقس المُعادي والنقد المضاد، أن يتحدَّى التفاهة، أن يبحث عن التيار العميق، أن يرمي بالصنارة الصالحة الصائبة، ليُخرج، بعد جهدٍ جهيد وصبرٍ شديد، سمكة صغيرة، بيد أنه لابد له من أن يُرجِعَ [A1] الكَرَّة ويعود للصيد من جديد؛ ضد البرد، ضد الصقيع، ضد الماء، ضد النقد، وهكذا دواليك حتى يُخرِجَ في كلّ مرةٍ صيداً أكبر وأعظم) كما قال نيرودا العظيم (5).
وسنرى إن وردي قد صوَّب كلّ مقدراته الفنية الرحيبة الفذة باتجاه أن يُحدِثَ (نقلةً) كبيرةً في مسيرة الأُغنية السودانية برمّتها؛ كان هذا الواجب، الباهظ الوطء على كاهله، إحدى محطات تجلياته الوضيئة في الأغاني، فأخَذَ يحفر لتجربته الفخمة هذا المسار الباهر كالضوء الشفيف. ومن المعلوم أن الأغاني هي، من بين سائر ضروب الفنون جميعها، أكثر[A2] التصاقاً حميماً بالوجدان الإنساني وثأثيراً فيه، وهكذا كان أن جاء القول أنها (تُشكِّل) ذلك الوجدان، فتجعله في متناول التجربة الجديدة والقيم النبيلة التي تُلِحُّ التجربة نفسها في طلبها.
سياحة في بحر التجربة العميق
للتجربة (الوردية) سماتها البهيجة وإشراقها البهيء، والفنان مُترَعٌ كله بالوجد والشجن والأشواق، جسداً وروحاً وذاكرة حية:
(زول مليان إيقاع
من شَعَر الرأس لي راحة قَدَمُو
صدرو يهزّ دقة إيقاع
نظرتو تَكْسِر بالإيقاع
زمن الشُعراء الوَقّفْ حالن حور العين
وربنا راسم حور العين مليان إيقاع) (6).
الفنان يُهيم بالكلمة ويذعن لها، يتابعها وينتظرها في نهمٍ بالغ، ويترصدها في شغف إلى أن تحطّ، على حِينَ غرة، لفظةٌ حبيبةٌ تلتمع كالدرة أمامه، وتقفز كالسمكة الفضية الجميلة، كالزبد والخيط المعدني الرهيف، كالندى، يُلاحق كلمةً هنا ويُطارِدُ أُخرى هناك، أحسَّ بحُسنها وجمالها فيريد أن (يلتقطها) جميعها؛ أن يحتضنها ويضمّها إلى مخلوقاته البديعة: الأغاني! نقول (يلتقطها) ثم يُجَسّمها فيحسّ بها شفافة، رجراجة، عاجيّة، لَزِجَة، دَبِقَة: كالثمرة ومصقل العقيق، كحبة الزيتون الطازجة، يُقلّبها، يحضنها، يَهزّها، يرشفها ليتمثلها فيُزخرفها ويُعتّقها، فتتدلى من (الأغنية) كما تتدلى عناقيد الرواسب من سقف مغارة، صقيلةً كرصائع خشبٍ ثقيف، كالماس تترسب في أغانيه كما تترسب بقايا سفينٍ غريقٍ في قاعٍ أليم، مجلية كهدايا الموج، كالدُرّ، كم هي رائعة وعذبة تلك الأغاني التي تطلع من روح الفنان وتجلياته العبقرية:
(الكَلْمَة الحِلْوَة الْفِي قَلْبَك،
وحياتك مَا تْعَانِد: قُوْلها؛
خَلّينا نصابح بيها العيد،
نرحل لعوالم مجهولة!
لو نِحن مقامك ما قَدْرُه،
أعذارك عندنا مقبولة!
يا روعة سحر الأسطورة،
يا سمحتنا الما بنطولة!
بس نحن بطبعنا ناس طيبين،
غلطاتك عندنا مغفورة!) (7).
الكلمات الجديدة ذات البريق تدخل في جسد الأُغنية فتزيد في حُسنها وسحرها ورحيقها؛ تأخذك الآن إلى حيث الحبيبة وضفافها ذات الأريج والشجن العفي. هي الأغاني تدخل إلى رحاب الوجدان (العام) فتسكن فيها كشذى الورود وعبقها الفواح!.
و.. (مافي داعي تقولي مافي
يا الربيع في عِطْرُو دافي
لهفة الشوق في سلامك،
في كلامكِ
وسِر غرامك ماهو خافِي) (8).
و.. (بالله، يا الطير المهاجر
للوطن زمن الخريف،
تطير بِسْرَاع،
تطير ما تْضَيِّع زَمَن،
أوْعَك تقيف
وتواصل الليل بالصباح!
تحت المطر، وسط الرياح
وكان تعب منك جناح،
في السرعة زِيْد
في بلادنا ترتاح
ضُلّ الدَّليب أَرْيَح سكن). (9)
و.. (عيونك، زي سحابة صيف تجافي بلاد، وتسقي بلاد
وزي فرحاً، يشيل مني الشَّقَا، ويزداد!
وزي كلمات بتتأوَّه، تَتُوْه لَمِن يِجِي الميعاد
وزي عيداً غشاني وفات، وعاد عم البلد أعياد
وزي فرح البعيد العاد
وزي وطناً وَكِت أَشْتَاقْلُو بَرْحَل لِيهُو من غير زاد
بدون عينيكِ بصبح زول بدون ذكرى وبدون ميلاد) (10).
جميعها، بلا استثناء، هي صور جديدة ومعانٍ جديدة، في عشق الحبيبة، وفي عشق الحياة، وفي عشق الوطن!. حتى (النسمة) دخلت في قاموس الأغاني الجديدة برؤى جديدة منعشة، إن الثوب القديم قد بدأ يتآكل من داخل الرَّحِم ليطلع الميلاد الجديد:
(يا نسمة، يا جاية من الوطن،
بتقولي لي أيام زمان ما بِرْجَعَن!
باكر، يودِّعني الشجن وأتهنَّى بيك طول الزمن!،
حظّك جميل، دايماً تسافري بلا تصاريح، رحلة سفر
وتعودي، عبر المستحيل، نديانة زي صَدَف البحر) (11).
ومنذ الآن سيصبح للحب معنى جميل وآمال كبار، تطلع لتبقى في ذاكرة المحبين والعشاق من أبناء وبنات الوطن، وتنشأ علاقة رحيمة بين الحبيبة وأشياء الوطن الجميلة؛ تطال النهر والعُشرة، عينيها والمودة، حتى العالم يصبح (ربوة جميلة). تنشأ وتتشابك هذه العلائق الحميمة لتتصالح النفس مع ذاتها، ومن ثم تبرأ تلك (الجروح)، وتعود العافية للجسد فيزداد قوةً وفتوةً، ليكون الإنسان ناهضاً وعفياً، قدر (التحدي) والصعاب:
(أَحِبِّك، أحبكِ أنا مجنونِك
أحلى فصول العمر حنانِك
أجمل حِتَّة لقيتها مكانِك
أجمل سِكَّة مشيتها عيونِك
معاكي معاني حياتي بْتَبْدَا
وأفتح باباً يا ما انسدَّ
وأشوف العالم ربوة جميلة
عليها نسيم الصُبح مخدّة
وبيني وبين النهر عشانِك عُشرة بْتبدَا
وبين عيني وخدَّ الوردة تبقي مودة
أصالح روحي، تبرى جروحي، وابْشِر باسمك
وأغنِّي وأقيف أتحدَّى،
أحبِّك، أحبِّك أنا مجنونِك). (12)
و.. (ومعاك بحلم كأنِّي على فَرَس طَايِر
يغني على وتر مشدود،
وأطير عبْرَ السَّمَا الممدود،
سَمَا الوطن اللّي مالِي حُدود!
حمامة جَنَاها لا خايف ولا مفقود،
وفى السكة اللِّي ما بتعود
معاكِ لآخر المشوار،
نغني على وتر مشدود) (13).
وكانت (الجميلة ومستحيلة) نقطة تحول كبيرة في مسار أُغنيات وردي، وفي ذات الوقت امتَدَّ تأثيرها إلى العديد من القصائد، والعديد من الأغاني، فقد حاول كثيرون أن ينسجوا على منوالها، بل استفادوا بإدخال صُوَرِهَا الجميلة في أشعارهم. لقد أبدع شاعرنا الكبير محجوب شريف في كتابتها، وفي اعتقادي أنها قد أصبحت من أجمل الأغاني في مسيرة الأُغنية السودانية:
(حَدّثت عنِّك نجمة جارة،
وزَرَعْتَ اسمك، حارة حارة!
في مناديل العَذَارَى
في مشاوير الحيارى
في لِحَى الأشجار كَتَبْتُو،
نَحَتُّو في صمّ الحجارة!
وبُحْتَ للشمس البتقدل، في مَدَارَها!
عيوني في الدمعات وَحِيْلَة
أَسْمَحِيْلا تَشُوف عيونِك
أَسْمَحِيْلا،
ويا صبيّة، الريح وَرَايَا
خَلِّي مِن حُضنِك ضَرَايَا).
هذه الأغاني وغيرها الكثيرات الفاتنات، هي الأكثر قرباً من القلوب ومن الأفئدة، هي الأكثر جوهرية وفتنة وبقاءً! هي الأكثر سعةً في القلوب، امتداداً وعمقاً. هذا ما أراه حتى اللحظة وأنا أتصفّح كتاب الأغاني الكبير: هذه الجواهر الفريدة استنبَطَت قلب إنسان بلادي ووجدانه في حِرزه المكين؛ سكنته وأخذته أخذاً ودوداً إلى حيث المدى الممتد يتسع ويغدو كبيراً وعميقاً وسرمدياً، ها نحن الآن ـ ونحن نقف إجلالاً له في (يوبيله الذهبي) ـ نقف فوق الأرض التي شيَّدَها بعرق السنين الطوال، ورهق الأيام في توهج عذاباتها وفرحها على حدٍّ سواء!. كافح الفنان كفاح (الضواري) حتى يُعطينا هذا الألق الجميل الذي يُزَاوِجُ بين العلاقات المنسية، بين الخريف والإنسان، لقد أعطانا هذا البريق المشحون برحيق الحياة وسر الأرض، تلك هي ضفاف حياته كلها، وهذا هو ملكوته الغامض المثير

ليست هناك تعليقات: