Powered By Blogger

الثلاثاء، مايو 29، 2012

أنظر إلي الحداثة من حولي فأتذكره جبرا !

 -------------
" آه ... !                                                     - جبرا -
أي خوف كبير عانيت من أجله
وما نفع دمي إذا ما مت أنت ؟
أيستطيع عصفور الطيران دون هواء ؟
إذن ... ،
لن أستطيع أبدا أن أقول لك
كم أحبك !! " .
- لوركا -
جبرا إبراهيم جبرا ،( 1920-1994) وتعني جبرا في الآرامية القوة والشدة ، هو في الأصل من السريان ، كان أرثوذكسيا ثم أعتنق الأسلام حتي يستطيع أن يتزوج من " لميعة برقي العسكري " التي أنجبها ولدين ، " سدير وياسر " . ولد جبرا في بيت لحم لكنه أستقر في العراق بعد حرب 1948م ، ومنها إلي لبنان ثم لندن التي قضي بها وقتا خصبا من حياته ! ما يعجبني في مسيرة " جبرا " ثقافته الموسوعية الضخمة وقدراته اللغوية الهائلة في العربية والنجليزية ، ثم – وهذا ما يحببه إلي أكثر ، نظرته ورؤياه حول " الحداثة " ! إذ يعتبرها موضوعا حيويا جادا وجديرا بأن نتدبره ونبحث فيه ، درسا مستمرا وتأملا فيه من جميع جوانبه . فالحداثة ، كما هو معلوم ، تنطوي علي عمليات " الهدم " ثم – من بعد – يأتي البناء ، أي هدم الموروث الثابت السائد وبناء الجديد المتحول . وأما الحداثة في الأدب فهي تلك الأشكال والقوالب الأدبية التي عرفها الأدب الغربي بعد الحرب العالمية الأولي ، وكانت نتيجة لمحصلة الخيبة والأحباط من الأفكار والنظريات الأجتماعية والسياسية التي كانت سائدة قبل الحرب ... وأدت – في ما أدت إليه – إلي القتل والدمار والبشاعة ! ومن أبرز رموزها في الشعر : عزرا باوند وهو من مؤسسي الشعر الحر المتحرر ، لأول مرة ، من قيود الوزن والقافية . و ت.س.إليوت مؤلف القصيدة المطولة المشهورة في تاريخ الأدب العالمي " الأرض الخراب / اليباب " 1980م . وفي النثر جيمس جويس أحد مؤسسي تيار الوعي ومولف " يولسيس – عوليس " 1922م . و وليم فوكنر مؤلف " الصخب والعنف " 1929م . ومعلوم أن الأدب العربي الحديث قد تأثر ، في بداياته الباهرة تلك ، بالحداثة الغربية هذه أواخر النصف الأول من القرن العشرين . فظهر الشعر الحر في العراق لدي السياب ونازك الملائكة وغيرهم أضافة لجماعة مجلة شعر في لبنان !
تمثل أعمال جبرا الروائية والقصصية وترجماته تجليات الحداثة الغربية وتمظهرات الرموز المسيحية في الكتابة العربية . أفاد جبرا جدا من تقنيات الحداثة الغربية في الرواية ، ثم شرع بنفسه في تكسير التابوهات والمسلمات الفنية ، وهذا وحده وجها نيرا وجسورا من وجوه الضمير الحداثوي لدي جبرا ، لكنه حافظ ، في الوقت نفسه ، علي الخصوصية العربية / الفلسطينية ! لقد نظر ، بوعيه العميق ، إلي ظاهرات " التناص " و التهجين وتعالقت نصوصه ، هنا بالذات ، مع النصوص الغربية ... وأجري تلاقحا حميما وشفيفا معها ، علي المستويين ، الدلالي والشكلي . ولم يفته أن يجعل ذلك كله في أطار " العولمة " ، ونعني بها التقدم العلمي والتقني الهائل الحادث ، الآن ، في عالما ، وما صاحبه من تغيرات أجتماعية وأقتصادية وثقافية وسياسية كبيرة ! كما تطلع جبرا ، بثقافته العالية ، إلي مجالات معرفية شتي في علوم النفس والأجتماع والفلسفة والأديان والأساطير والموسيقي والمسرح والسينما والنحت والرسم ... ، تداخلت جميعها وأختلطت لتشكل النسيج الحي لأعماله في الشعر والمسرح والقصة والرواية . لربما ساعدته دراسته نفسها في اثراء وجدانه اللغوي بالأنجليزية ، حيث أن دراسته الثانوية في الكلية العربية في القدس قد أمدته بزاد وفير يكاد لا ينضب من المعرفة في اللغة والأدب الأنجليزيان ، بالذات في مسرحيات شكسبير ، فأستمر تواصله الحميم مع الأدب النجليزي بعد تخرجه ، إذ تم إبتعاثه إلي بريطانيا ليدرس الأدب النجليزي وينال فيه درجة الماجستير ... وكانت انجلترا وقتذاك تعيش في أحضان الحداثة وعلي ذراها العاليات ، وهذا ما شكل مهدا معرفيا غزيرا له حد أن قام بكتابة أعمالا روائية بالأنجليزية منها روايات : صيادون في شارع ضيق 1960م وقبلها كان قد كتب العام 1946 صراخ في ليل طويل ! رأينا الحدثة ، أيضا ، في أجلي مظاهرها في ترجماته أيضا ، إذ ترجم أكثر من ستة وعشرين كتابا ، عرفنا عبرها بأبرز الكتاب الغربيين ومدارسهم الفكرية والأدبية ، وبذلك أسهم ، بجدارة محترمة ، في أثراء الأدب العربي الحديث في الشعر والرواية وتقنيات الترجمة و ... النقد !
وأنا أتابع حالة الكتابات الجديدة في الشعر والرواية والقصة و ... التشكيل والموسيقي ، أنظر ، مجددا ، لأعمال جبرا ، وأسعي لمقاربة مقولاته مع واقع هذه " الحالة " الجديدة و ... تداعياتها ، لربما تضئ تجربته الكبيرة زوايا وأبعاد لا تزال معتمة هنا أو هناك ، لأن الأشواق الثقافية لإنسان الحداثة منابعها ، في مجال التنظير والبحث ، تبدو متقاربة جدا أن لم تتماثل وتتقاطع في بعض دروبها ! رغبت ، وأنا في برهة القراءة هذه ، أن أحييه و ... ذكراه ، فقد كان بحرا عميق الغور ، صخاب في صيرورة الماء وفي الروح نفسها ، روحه التي كانت – إذ تراوغنا – تبدو لنا وادعة هادئة ! سلام إليك ، جبرا ، في الخالدين !                                                                   

السبت، مايو 26، 2012

و ... للنساء وجوها في الحب !

                                                         - هل تراها حزينة ؟ -
في النسا ء ،
عديدة هي وجوه الحب ،
منها :
العارية المفضوحة في صراخها الليلي
كأنها النيزك يشق ظلام الحجب
وتوترات الصخب !
والصامتة التي لا تبوح بكنونها
إلا لعصافيرها وحدها
فتدخل إلي شغاف القلب عنابها !
ومنها ، المراوغة ،
التي تتراقص في سامر الوجد
ولا تقيم وزنا لقرب يوفر لأحضانها
مأوي ولا مهد !
وتلك اللامعة التي تضئ وتؤمض
حتي تخالها قد كسرت مراياها
بفعل النبض !
وواحدة تراها ، في بؤبؤ عينيها
ساحرة ماكرة
تسوق الدلال في صدرها ،
لتبدو في ظلال مدائحها سامقة
فاتنة
فتدس في خصر حبيبها أغنية
لا نادمة هي
ولا خائفة !
وتلك التي لا تري من دنيا الناس
إلا حبيبها ،
تهدهده فوق نهديها ،
تنومه ،
وتظل هي الصاحية !
تحلب إليه عصير الغيوم
ولعاب سرتها الحامضة !
لكنها ، هي وحدها ، التي جرحتني
ثم ظلت في عنادها سادرة !
ضيعتني ،
حد أن عذبتني ،
بنبوءاتها الشاردة !
لفظتني ،
وبدت في لياليها
مزهرة لاهية !
لكنها في رؤاي
في " مناي "
تظل هي " السوسنة " الزاهية !

الأربعاء، مايو 23، 2012

في ندوة " مسارات بركة ساكن " كان حاضرأ ، محمد الصادق و ... يحدثكم !

                                                    -  صاحب " الأخوات " -
* هذا المساء ، شرعت - كعادتي - أتصفح كتاب " أخوات ميم " لمحمد الصادق الحاج ، ولدهشتي ، وجدته في ص 101 كأنه كان حاضرا الندوة ، ثم - من بعد - شرع يرد علي من تناولها قدحا أو تقريظا ، أنها ، في ظني ، ذات الحالة التي صرنا فيها وحدس بها هو ! احببت أن أشرك قرائي هذا الفيض النوراني من الشعر الراقي ، وأعهم بنشر الكتابة عن " الأخوات " قريبا !
---------------------------
"ما لن يدركه أحَدٌ مُطْلَقاً، ولا حتَّى أنا ـ رغم ما سَلَفَ مِنِّي مِنْ إقرارٍ قَضَى بِأنِّي لَسْتُ أحَداً ـ هو، لِمَنْ؟، ولِمَ هذا العذابُ الإنشائيُّ المطَوَّل، ما نوازِعُه؟، كيف كُلُّ هذه العيونُ مريضةٌ، وأيُّ طِبٍّ سَيَتَوَلاَّها بِرَحْمَانِ المخاليطِ المستحيلِ، وما مِنْ عَشَّابٍ يزرعُ الغَمْضَاتِ الرَّخِيَّةَ وشهقاتِ البراءةِ في هذه الدِّيارِ، كلاَّ!، ولا التُّجَّارُ السَّفَرَةُ يجلبون في رِكَابِهم من البلادِ المجهولةِ نُوَّارَ الأسئلةِ المُعَسَّلَ ومزيجَ الصَّهيلاتِ وخمرَ اللِّحاظِ النَّاهِدَةِ تحت براقِعِها في البراري؟!. أثَانِيَةً هذا الحزينُ أتَى رافعاً قرونَه؟، أوَثانِيَةً يُلَوِّحُ في وَجْهي بقبضتِهِ السَّرديَّةِ هذي؟، ماذا؟، ماذا يقول؟،...، أهْ، سَمِعْتُهُ هذه المرَّة!، ولن أسمحَ لِنَابِيَاتِهِ التَّرْبَوِيَّةِ بِأن تشهدَ صلاحاً وتقوَى داخل هذا المَقْدِسِ الزِّرَاعِيِّ الغالي، ولن يَقِفَ نَقَاؤهُ عائقاً أمامَ نكاتي وقنصي وألعابي، فأخوكَ ياصَاحِ بلا وازِعٍ ولا يَأكُلُ الثَّناءَ، صوتي يعلو هُنَا، ولا أنوي إزاحةَ خِمَارِ الثَّوْرِ عن قلبِك، فكيفَ لِجَنِينٍ مَحْرُوفٍ ومَنْقُوطٍ مِثْلَكَ أن يصطبِرَ على رخاءِ الصَّفْرِ ونعيمِ الصَّاد. أتَمْضَغُ الآنَ عِلْكَةَ البِلَّوْر؟. يَجْدِرُ بك ذلك لِتَحُوزَ شَرْطَكَ الحاسِمَ كجُمْلةٍ مفيدة، وإلاَّ فَلَنْ يَعِزَّكَ اْنتحارُكَ، وسَتَلْقَانِي في سِجِّينَ، أيضاً، أرْعَى سِرْبَ تناقضاتي وسط السَّافِلينَ الكُمَّلِ والحمير. ألَيْسَ العبثُ نَجَّاراً؟، أوَمِنْ رسولٍ خَلاهْ؟. فَمَنْذَا سينشُرُ الجنونَ خشبةً فخشبةٍ إن لم أفعل؟. وأنا صاعِدُ الدَّرَجاتِ الألْفَ التي مِن رنينٍ، أجُزُّ خُضْرَوَاتٍ في نورِيَ الشَّخْصِيِّ أهَاجَها الصَّمْتُ بِإرسالٍ خفيضٍ اْنْطَوَى على ذُرِّيَّةِ المزرعةِ المكتوبةِ بجانبِ الصَّفَحاتِ البيانيَّةِ الظَّليلةِ بِأرْضِ الملامح. أحْزِمُ الجَّوْهَرَ بنظراتٍ متينةٍ مِنْ لِيفِ الانجذاباتِ الـ...، ولكن ما بَالُهُ هذا الخريفُ يرمقني شزراً؟. أغاضِبٌ عليَّ أيضاً أنت يا خريف؟. أنصحُكَ بحليبِ الحزنِ، ولا بأس بملعقةٍ من برميلِ التَّقْوى، كذلك، قد تَفِيدُ مِنْ كلبِ الرَّحْمَةِ لو أنابَ أو دِيكِ العدالةِ لو باعَها أو حريرِ الحُرِّيَّةِ لو ضَحِك. يا خريفُ، أتَدْرِي ما الإصبَعُ الوُسْطَى حين أثْنِيها إلى باطِنِ راحتي، وأهُزُّها أمامَ عينيكَ، مَقْرونَةً بإحدى أهازيجِ السَّمَّاكَةِ في مراكبهم؟. ألا تدري؟. أقولُ لك؟. بِأعْمَقِ الوَطْءِ أثَرَاً على طريقِ الجَّوَّافة، يجوزُ لك أن تبيضَ سواخِطَك!، لكن، فَدَيْتُكَ، لا تُرِنِي جَفْنَكَ المقلوبَ هذا مِنْ بَعْدُ، هَا؟. لستُ أصْلُحُ لأن أكتبَ لك ما تفهَمْهُ من ملابس، وما يصيبُكَ من الفاكهةِ إلاَّ الأسئلة!. لا تُرْسِلُ الفاكهةُ اْستفهامات!. وبما أنَّها لم تُوْكِلْ أحَدَاً بِأنْ يُخَيِّطَ لِلْعُرْيِ إجاباتٍ، ففي هذا من الإبانةِ ما يُخْرِسُ حتى لسان المُمْكِنِ ويجعله على يقينٍ من أنَّ لا كَلْبَةَ في الفِرْدَوْسِ المؤرَّقِ ذا ترتضي لنفسها وظيفةَ عامل الإستعلامات أو حتى المعلِّم. لاشَيْءَ هنا يستحمِلُ عَيْبَ أن يكونَ مفهوماً!، لاتَهْزَأْ!، فهناكَ محلاَّتٌ حقَّاً يُمْكِنُ أن تَفْهَمَ بِوَسَاطَتِها الواصلةِ ما تَوَدُّ مِمَّا أعْضَلَ عليك وبغايةِ الوضوحِ، خْذْ أقْرَبَها إليك مَثَلاً، سُوق الصُّوَر. ليست الجَّوَّافَةُ مُؤرِّخَةً، وهي لا تَنُوءُ بطموحاتٍ خُلُقِيَّةٍ مِنْ مِثْلِ مُعاشَرَةِ الواقعِ والانفعالِ بِهِ أو مَعَه ثُمَّ تقليبِهِ بالجَّرَّافاتِ الحِبْرِيَّةِ بغايةِ العثور على مُسْتَحَاثَاتِهِ الفكريَّةِ وطَرْقِ مَوَاطِنِ الجَّمَالِ أو العناءِ فيه. هذا عملٌ يُؤَدِّيه الأذكياءُ بَحَّاثَةُ العلومِ الإنسانيَّةِِ والهُجَنَاءُ من عبيدِ الحقيقةِ الذين، لا تَخَف، عَمَّا قليلٍ، لن يكونَ هنالك غيرهم في أرضِ التَّسْلِيَاتِ العظيمةِ هذي!. لَقَد ارتَضَى الأثَرُ اللَّوْحِيُّ العظيمُ المسمَّى شِعْرَاً، ضِمْنَ سُرَاهُ الأزَلِيِّ على الأرضِ، أن يكونَ صِفَةً، فأَزْهَدَتْهُ في ما عَدَاها وكَفَتْه!. هو الدَّوَّامَةُ الصِّبْغِيَّةُ الفارغة، هو الثُّقْبُ الأسوَدُ المُسْتَعْصِي على تخطيطاتِ الزمنِ والفضاء، يَرْكَنُ إلى مُسْتَطِيعِيهِ ويَنْغَمِرُ في عارِ التَّعْبِير، فاْلْتَقَطَتْ فِرَاؤهُ العَصَبِيَّةُ المقلَّبَةُ كُلَّ ما لا صِلَةَ له به من جواهرِ الحّيِّ والمُتَبَدِّدِ، فَتَقَسَّمَ أرْفَفَاً وطُسُوتَ ليأخُذَ السَّائحُ ـ حَالَكَ ـ سِلْعَتَهُ المُوَاتِيَةَ وصِفَاتِهِ الوجدانيَّةَ المُجَرَّبة، وتَوَزَّعَ ـ الشِّعْرُ ـ أغراضاً وطِبَاعَاً مُقَدَّرَةً بالقنطارِ والأوقيةِ، واْلْتَحَقَ بِوَظَائف. وهي مُحَدِّداتٌ دقيقةٌ محسوبةٌ، ويَصِحُّ لَوْ عُدَّ أيُّ خروجٍ عنها خروجاً عن الشِّعْر!. فَلِمَن أحْفَظُ هذه الصِّفَةَ وقد اْنْقَطَعْتُ عن طباعِها: شَاعِر!. أ لأتَّخِذَ منها عماداً عليه أسْنِدُ بِئْرِيَ الخائرة؟، أ لأسْتَمِدَّ منه شرعيَّةً وغطاءً لوجود كلّ هذه العَوْرَاتِ في قلبي؟. إذَاً فقد اْحْتَمَى الصَّبِيُّ الخائفُ وهو يمشي في ظلامِ الوجودِ بالشَّرِّ الفاتِكِ يَحْسَبُهُ غريباً عابراً قد يحميه من الشَّرّ!، واْلْتَمَسَ الصَّيَّادُ شرعيَّةَ القَنْصِ في المستحيلِ ـ وهي ليست شرطاً بحالٍ ـ من والدٍ أُحْفُورِيٍّ لم يَعْدْ هو ذاتُهُ شرعيَّاً إلاَّ بحسبانِهِ تاريخاً له ما للأثَرِ من جلالة. لَيْسَ طيِّباً، وإنَّهُ لَيُوْحِي إليَّ بِشَيْءٍ من العَوَارَةِ، ان تُبَارِكَ وَصْفَكَ بِـ«شَاعِر»!، شاعِر!!، شَاعِر!!. ثُمَّ ـ وقد شَحَذْتُ على هُدَايَ الجَّافِّ شفرةَ الصوتِ بيننا بلا هَوَادَةٍ، وبَدَا بيِّناً أنَّ الأمْرَ لَمْ يَعُدْ هُذَاءً كما كان، بل أمْسَى محاضرةً، موعظةً، خُطْبَةً، ذَوْدَاً رشيداً عن البئرِ والجَّوَّافَةِ لا يأتيهِ الباطلُ من جَبَلٍ ولا من بِئْر، يستشهِدُ بي، مِنْ أنِّي لا أنْشِئُ قصيدةً هنا، لذا لا أبدو صارماً في حساب المقادير ومراعاةِ وضع أختام الجَّودة والإقرارِ الضريبيِّ، بل أستنْزِلُ كُلَّ ما يحومُ في الجّوارِ وأُوْتِيهِ الحَقَّ نظيفاً في أن يأوِيَ إلى فجريَ المُعَطَّلِ بلا تَوَثُّقٍ من صحيفةِ أخلاقِهِ، مُتَّخِذَاً من مجاهَرَتي السَّالِفةِ بِشَأنِ عَدَمِ حِرْصِي على رضوانِك عنِّي سَبَباً كافياً لي لأن ألْهُو بِمَكَاييلِ العَدَمِ وأخشَابِهِ العَدْلِيَّةِ الذَّارِيَةِ بلا خَشْيَة ـ إنِّي لَمُزْدَهِرٌ كالعُضَالِ في هذا البَدَنِ هذه المياهِ، بَعْدَ أنْ تَكَشَّفَ لي غيابُ المُمَثِّلاتِ عن تَلٍّ غامضٍ من أجداثِ طيورِ الجَّبَرْكَلِ المُحَطَّمَةِ ينمو في صفاءِ الأفقِ الرَّقميِّ ويَتَضَوَّرُ سُرْعَةَ التَّصْدِيقِ مِن قَوْمٍ يُحْدِثُونَ المعجزاتِ بلا اْنْفِعَالٍ ويصيحونَ مندَهِشِينَ إذْ يَرَوْنَ الزَّهرةَ أو الشَّفَق. أنْعَامُهُم، ثَرِيدٌ جَبَلوهُ من أضَاحٍ مَنَوِيَّةٍ تَفُورُ كَرِغْوَةِ المُسْتَقْبَلِ الزُّخْرُفِيَّةِ الكاملةِ في تَنُّورِ التَّوْحيد. أنعامُهُم الكسيحةُ، بُطُولَةٌ سَعَادِيَّةٌ جَلاَّدةٌ مَطْلِيَّةُ الأحشاءِ بما بَقِيَ من ألواحِ القُزَحِ المذبوحةِ التي لَوَّنوا بِنَجِيعِها صُوَرَ ومصائرَ التَّصْمِيماتِ الدَّقيقةِ لأشراطِ مَنْ يُنْبَغي أن يَمْرُقُوا مِن خيوطِ مشيماتِهم الوجوديَّةِ مُتَّخِذِينَ على سيماهم الباهرةِ شِيَمَ الشُّهَداءِ، وأن يُبْلُوا بِقِياماتِهِم أشِعَّةَ العَدَمِ الهَدَّام بحيثُ تَخْلُصُ أجْرَامُهم الدَّامِيَةُ لِخِدْمَةِ الحُرِّيَّةِ الأرْمَلَةِ التي نَاكَتْها صِيَغُهُم الفِرْدَوْسِيَّةُ ونَظَرِيَّاتُهُم الجَّامِعة. أنعامُهُم الكاسِرَةُ، تماثيلٌ مُنْتَعِظَةٌ مُلَطَّخَةٌ بالشُّرُوقِ، تَعْدُو على السُّهادِ قاطِفةً أقداسَ؛ وَسَامَاتِ؛ أمْكِنَةَ؛ قلوبَ؛ بَكَارَاتِ؛... واْحْتِشَامَاتِ الصّلصالِ الذي أثْقَلَ الخيرَ بِأجِنَّتِهِ اللَّبَنِيَّةِ المُهَنْدَمَةِ وأعْدَى مكانَ المَهْتوكةِ بِزُكامِهِ المشيجِيِّ الخصيب. أمَّا أنعامُهُم السَّائرةُ في الدَّيْنُوناتِ، فَيَقِينٌ عَفْنٌ تَنَاسَلَ داخلَ الآنِيَةِ التي مِن بَيَاضٍ، نَصَّبوه جلاَّداً جَوْفِيَّاً لِيَسُوطَهُم بالحروفِ الجِّلْدِيَّةِ المَسْقِيَّةِ قِطْرَاناً ويُرَبِّيهم. السَّهَرَةُ على التَّرْقِيمِ لا يَمَّحِي، وعلى الطَّبَقِ لا يُمْطِر، وعلى الكمالِ خيفةَ ينجبُ أعضاءَ تناسليَّةً تُبْصِر. سأعْهَدُ إليك بِسِرٍّ غَضٍّ فلا تُمِتْهُ بالورعِ وبَشَاعَةِ الكتمان،... لَقَد أُحِلَّتْ لِيَ الأنعامُ جمعاءَ ذات يومٍ، فأجْفَلْتُ مضطرِباً وبكيت. كنت أعرفُ منذ الأوَّلِ أنَّهم قومٌ ذَوُو خطوةٍ في البئرِ، وأنَّه ما أصابت عيونُ الجَّمَالِ درَجَاتِ الأفقِ الرَّقْمِيِّ إلاَّ بمباركةِ أمثالِ هؤلاءِ المغتبِطينَ بِدِفْءِ حِجَابِ القبول. بكيت. كان أمْسِيَ مضروباً بالفَرْهَدَة، وكان أدنى من الزَّهرةِ والشَّفَقِ للسقوطِ في قُزْحَةِ الشَّهيدِ أو قُزْحَةِ البَطَل، وفي المجالِ فَيْضٌ من الثَّنَاءِ وتسليحاتِ الغَيِّ، ولكنِّي بكيتُ، وأشْهَرْتُ اْنحِلالي لا حُلُولِي، وأوْجَبْتُ على القَوْمِ زُرَّاعِ العصافيرِ المستقبليَّةِ داخلَ الخرائبِ المُعتمةِ يومَ مَطَرٍ، أن يَطْرُدُوا تِلاَلِيَ الغامضةَ متى ما رَأوْهَا تُحَلِّقُ فوق جَنَّاتِهِم، وأن يَسْتَجْلِبوا مِن بَعْدُ فَزَّاعاتٍ مصنوعةً من روحِ التَّراكمِ الأسطوانيَّة فيصيرُ بذلك في مُمْكِنِهِم أن يستشعِروا آلِيَّاً كافَّةَ التَّهَيُّؤاتِ السِّحْرِيَّةِ المُطْبِقَةِ بِيَدِها على أطرافِ قُوَّةِ العمل. السَّرّ؟، ألَمْ تُدْرِك السَّرَّ لِسَّه؟!".
---------------------------------------------------------------------------------
* نرحب جدا بالأراء و التعليقت بصدد كتابة " الأصمعي " ثم ، هذه " الحدوس " من " الأخوات " !

ما كتبه " الأصمعي باشري " حول الندوة !

                                                           - الأصمعي -

مسارات بركة ساكن بين عنصرية المتنبئ وشعرية محمد الصادق ..ما هكذا تُمزق الاقنعة يا جابر حسين

by Elasmaie Bashri on Friday, May 18, 2012 at 4:10pm ·
  • لن أكون حذرا فى تناول الموضوع ولست مثقلا بموازين الحياد ..هكذا خرجت مشحونا بالفكرة من القاعة الفخيمة القابعة فى رئاسة مجموعة شركة دال هذا المساء ,حيث ذهبت بالعديد من المشاعر والاحاسيس المتناقضة ولعل فى مقدمتها لقائى الاول بالاستاذ جابر حسين الناقد والمثقف السودانى بلا منازع وثانيها لقائى الثانى بالروائى الحصيف عبد العزيز بركة ساكن وهو يحاور القراء والمهتمين بالشأن الثقافى السودانى فى احلك مشاهده واخطر منعطفاته بوجه التحديد
وقبل أن أدلف لصلب الموضوع فلزاما على أن اسجى أسمى آيات التقدير لمنتدى دال الثقافى الذى هيأ هذا اللقاء وجعله ممكنا ..
لا أحد يشك فى مقدرات الاستاذ جابر حسين النقدية والكتابية والتى يرفدها بمعارف واسعة وقراءات عديدة فى شتى ضروب الادب والفن أهلته ليكون واحدا من أعظم كتاب النقد والمقال الصحفى خلال السنوات الاخيرة ,ان لم يك أولهم بلا منازع فى أزمنة القحط والضباب الثقافى الكثيف الذى يجتاح المشهد الابداعى السودانى بوجه التحديد ولعل من نافلة القول فان الرجل يستحق ذلك وأكثر ,بيد أن الاستاذ جابر حسين لم يحالفه التوفيق هذه المرة فى فتح مسارات الروائى بركة ساكن الكتابية ولم يكن موفقا ايضا فى الاشارة الى الكيفية التى مزق بها بركة ساكن الاقنعة والتابوهات الاجتماعية والسياسية فى السودان ,أقول هذا وانا لا أدرى الظروف والمعطيات التى صاحبت اختياره لتقديم تلك الندوة ولا اعرف اجابة السؤال التالى ..هل كانت هنالك موجهات فُرضت عليه وهل ثمة يد خفية استطاعت التأثير على تناول الاستاذ جابر حسين لموضوع الندوة وتحديد أجندة بعينها مثلا محاولته لالقاء الضوء على مشهد الكتابة السودانية الجديدة كتقدمة تشعبت وطال زمنها لتأخذ أكثر من نصف زمن الندوة برمتها والاسهاب كثيرا فى الاشارات لاسماء شعرية شبابية بدأهم بالصادق الرضى مرورا بعاطف خيرى وبابكر الوسيلة وتعريجا لاسماء اخرى جديدة فى المشهد الشعرى السودانى بدأ من محمد الصادق الحاج مرورا بناجى البدوى ومازن مصطفى وأحمد النشادر ومامون التلب موضحا لضرورة الالتفات لهذه الاصوات وكتاباتهم المغايرة والمختلفة خصوصا المجموعة الشعرية لمحمد الصادق الموسومة بأخوات ميم وكيف ان هذه الكتابة أعتبرها واحدة من الكتابات الابداعية المكتملة فى شعريتها البازخة ولغتها الشفيفة ونبوءة رؤياها وتماسك عناصر نصييِّتها ..حتى أن الملتحق بقطار الندوة فى تلك اللحظات سيندهش من اختلاف عنوان الندوة على الخلفية من المنصة واحتفائية مقدم الندوة بشعرية مبدع آخر ..فكان من الاجدى اذا كانت ضرورة التقدمة أو التمهيد لمدخل موضوع الندوة ان يذكر جابر حسين التحديات التى تجابه مشروع الكتابة الجديدة فى السودان ومحاولات البعض فى اجتراح وسائل ولغة جديدة تصب فى خانة الثورة على القديم والتغيير الذى تجاوز مفهوم السياسى والاجتماعى كمدخل لابداعية بركة ساكن والبدء من هذا المنطلق لفتح مسارات كتاباته الروائية وطريقته الابداعية والجمالية فى تمزيق الاقنعة ..فطول الفترة الزمنية فى الاشارة للكتابة الجديدة والاحتفاء بشعرية محمد الصادق الحاج انعكست اثرا واضحا وجليا كموضوع اساسى فى الندوة حتى على شكل المداخلات والتساؤلات اللاحقة لجمهور الندوة واكتفى الاستاذ جابر حسين بفتح مسارات بركة ساكن الروائية بقراءة احتفالية وجمالية قصيرة كانت بعيدة لكل البعد لا عن النقد وبل عن القراءة نفسها والتى اشار اليها جابر نفسه من انه سيتجاوز مأزق النقدية الكلاسيكية لموضوع الندوة ومحاولا فى أكثر من مرة التنبيه الى انه لا يتعمد كثيرا خلط الاوراق واقحامها فى السياسى وليته فعل ولو بخجل لقطع نصف أرض تمزيق الاقنعة وابقى على ظهر الكمال لجمهور الندوة الذى تأثر أيضا بمقدمها حيث جاءت كل المداخلات باعتبارها قوة استعراض لعضلات القراءات والمعارف بعيدا عن الموضوع ,والحق اقول فقد خلت من العلمية والامانة بالتزام موضوع الندوة الا مداخلة واحدة لمدة خمسة دقائق كانت من نصيب احد الجمهور ويُدعى أحمد الحاج فقد قدم قراءة مسئولة لكتاب بركة ساكن العاشق البدوى أعادت الندوة لمسارها الطبيعى أما ماتبقى فقد كان زبدا لاينفع الناس ولا الكاتب ,
ملاحظة أخرى حول الرجاء المريب للاستاذ جابر حسين والذى حُظى بالاطلاع على مخطوطة بركة ساكن الروائية الجديدة (قيد الطبع) والموسومة بذاكرة الخندريس أو من يخاف عثمان بشرى ..حيث طلب من الكاتب أزالة مقطع الشاعر العربى ابو الطيب المتنبئ المصدر للمخطوطة معللا ذلك بعنصرية المتنبئ برغم الاعجاب بشاعريته كموقف انسانى وهذا موضوع يطول الحديث فيه ويحتاج لمقال منفصل نتتبع فيه حياة الشاعر المتنبئ ومواقفه التاريخية ..فكيف يمكن بين لحظة واخرى اخراج ابداعه من سياقه الجمالى والتأريخى ولى عودة !
--------------------------------------------------------------------------------------------------
* نشرها " الأصمعي " علي صفحته في " الفيس " وبالملف الثقافي لصحيفة السوداني السبت 19/5/2012م.

و ... عادت السوسنة !

    عاد ...                                             - السوسنة -
الليلة عاد
يا إرم التي في البلاد !
... لست أعرف ، بعد ، كيف عاد
ولا من أين عاد !
لكني رأيتها بأم قلبي
وهي تزيل عني العطن !
تري في ملامحنا ،
المراوغة الحزينة والمحن
وفي عيون الناس،
سيماء الآسية و ... الشجن !
سوسنتي ...
بعضا كثيرا في حياتي ،
وجها أليفا في الوطن
عشقا وتحنانا
و أبحارا شذيا في الزمن !
                                                          

الأربعاء، مايو 16، 2012

بركة ساكن و ... تمزيق الأقنعة !

                                                             - بوستر الأمسية -

تقديم:

يقدّم منتدى دال الثقافي، خلال هذه الأمسية، عَرضاً شيِّقاً لتجربة القاص والروائي عبد العزيز بركة ساكن، وحوار مفتوح بينه وبين الجمهور. وهي مسيرة مثيرة للجدَل، فرغم ابتعاد أضواء المدينة عنها، بمنتدياتها ومنابرها لزمنٍ طويل، إلا أنها ـ التجربة ـ أثبتت وجودها بجدارة، داخل وخارج البلاد، معتمدةً على قوّتها الذاتيَّة، وقدرتها على اجتذاب الجمهور من مختلف الفئات والأعمار.

يتعرّض لهذه التجربة هذا المساء الشاعر والناقد جابر حسين، والذي يَتَهرَّب ـ بطريقةٍ مريبة ـ من تسمية (شاعر) هذه. ويُمكن أن يُغفَرَ له التهرّب بالاستناد إلى أن الألقاب لن تَستطيع أن تُعرّف أنواع الكتابة التي دَرَجَ جابر على إلهابنا بها؛ فأعماله المنشورة في الصحف، وعبر الانترنت مُؤخّراً، سَخَّرت نفسها لملاحقة الحيوات السريَّة، والمشاعر المُغفَلَة في سِيَرِ الكتّاب والشعراء والفنانين. وبذلك يُمكن أن يُوصف بأنه، أيضاً، مُمَزّقُ أقنعةٍ مُحتَرف. لكنّ المكتبة السودانية، وبكلّ أسف، لا تَحمل في صدرها ـ المشوّه عمداً ـ سوى كتابٍ واحدٍ له: (كجراي، عاشق الحريّة والقول الفصيح). إلا أن خروج ذلك الكتاب كان شافياً لظمأ القراء المتنبِّهين لتجربته الكتابيَّة. وكيف لا يُصيبهم الظمأ وهم يُتابعون مُشعل الروح القديمة والخالدة لشاعر إسبانيا العظيم (فيدريكو غارسيا لوركا) عبر مقالٍ مطوّلٍ عنوانه بـ(لوركا، ريحانيّة الألفيّة الثالثة أيضاً)، ونشره الشاعر الصادق الرضي في الملاحق الثقافية في الصحف!. فالرجل يمتزج بحياة الشاعر الإسباني بذات القوّة الضاربة ـ المُمَيِّزة لإيقاع كتابته ـ والتي بَذَلَها في الكتابة عن صديقه الشخصيّ، الشاعر محمد عثمان كَجَراي، تلك القوَّة الضاربة التي من الممكن أن تتَحوَّلَ تنيناً بآلاف الرؤوس يَنظر، بكلّ ذلك العدد من العيون، في عيون المستهترين بالعظماء وإنسانيّتهم، تماماً كما فَعَل في كتابه الجبَّار (جملةٌ في تبجيل الفنان وردي). وبذات القوَّة تتحوَّل الكتابة الضارية إلى لطافةٍ ومحبّةٍ بَحتة؛ أعماقٍ تُخاطبُ العاطفة والوعي بحكمةٍ تستطيع أن تُطْرِقَ رأسَ المغرور الذي لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا.

يبقى أن نقول أنَّ جابر صديق الفنان. والـ(جابر) ـ بتعريفٍ آخر ـ هو من يستطيع أن يَرَى الخير ويغفر الطيش ويُفتنُ بجماليات الشرّ، ومن ثمّ يَجبُرُ ذلك كلّه أمام غَضَب العَقل الجَمعي، المُتحامل كثيراً على الإبداع المُخَالِف لما عَهِدَ؛ مُتجاوزاً، بذلك، الصراعات السطحيّة، التصنيفيَّة، والاقصائيَّة. فهو يُتابع، بشغفٍ، الحياة الشخصيّة للكُتَّاب عن قرب، واضعاً أعمال الفنان ذاتها نظَّارة يُراقب من خلالها تلك الحياة.

و القاص والروائي عبد العزيز بركة ساكن معروفٌ لكلّ من حضر هذه الليلة، ولآلاف القرَّاء المنتشرين في هذا العالم الفسيح؛ فهو قد أصدرِ إلى الآن ستة كتب، طُبعت لأكثر من مرّة وبِصِيَغٍ مُختلفة؛ إذ خَرَجت إلى الوجود بدايةً ثلاث روايات [الطواحين ـ رماد الماء، وبعد زمنٍ لحقت بهما رواية (زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة)] لتنتشر في المكتبات وبين الكتب المفروشة على أرض المدن السودانية بأسواقها الكبيرة، ذلك ما أكسبه تلك الشعبيّة الكبيرة وسط الطلاب والشباب، وسخطاً نَقديَّاً سطحيّاً لم يتجاوز في نَظرته ما يسمّيه العقل الجَمعي بالـ(فسوق)، وذلك، بالتأكيد، لم يؤثّر على مسيرته الشجاعة، فأصدر كتابه القصصي المثير (امرأة من كمبو كَديس). شَكَّلت تلك الاعتراضات السطحيّة على تحربته مُقَدِّمةً منطقيَّة لملاحقة السلطة لأعماله وحَجبها، من بعد، وأحياناً بطرقٍ طريفةٍ مثلما حَدثَ بعد أن أُطلِقَ (قِيْد) كتابه (على هامش الأرصفة) بِيَدِ وزارة الثقافة، لتقوم، ذات السلطة، بلملمة النسخ من الأسواق القليلة المتبقية في الخرطوم بعد توزيعها. كما أن أعماله مُنِعَت بصرامةٍ من دخول البلاد من الأساس، مثلما حَدَثَ لروايته (الجنقو مسامير الأرض) الفائزة بجائزة مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أعني جائزة الطيب صالح الروائيّة! تُرجمت أعماله مؤخراً إلى اللغات الانجليزيّة والفرنسيّة، وربما نشهد ترجمات للغات أخرى في المستقبل القريب؛ إذ أن صيته ذَاعَ في السنوات الأخيرة، خصوصاً وسط قرّاء اللغة العربيَّة. أجرى العديد من حوارات في صحف ومجلات خارج البلاد، كما أن أعماله القصصية والروائيّة انتَشَرت في مواقع الانترنت العربيَّة المُمَيَّزة بكتّابها العالميين. وتجد كتبه إقبالاً كبيراً في المكتبات ومعارض الكتاب العربيَّة.

إذاً هي تجربة تستحق التوقّف عندها، ونأمل أن نستمرّ في (منتدى دال الثقافي) في عمليّة إضاءة العديد من التجارب التي أنجَزَت قدراً كبيراً من النجاح، داخليّاً في بدايتها، ثم خارجيَّاً بعد سنوات، وهو ما يَلفِتُ الانتباه إلى هشاشة المقولة التي تُؤكّد أن القارئ السوداني لا يقدّر فنّانه إلا بعد أن يقدّره "الآخر الخارجي" إن صحَّ التعبير. أترك الفرصة للأستاذ جابر حسين ليتحدّث عن تمزيقه للأقنعة، ونكتفي بهذا القَدر.
--------------------------------------------------------------------------------------------

بركة ساكن و ... تَمزِيق الأقنِعَة!
جابر حسين

مع بداية الألفيَّة الثالثة بدأ عالمنا يتغير، تغيرات جذرية ونوعية كبيرة، شَملت تلك التغيرات الكونية كل أوجه الحياة تقريباً: في الفكر والثقافة، في الاقتصاد وفي الاجتماع وفي السياسة؛ انهارت "مفاهيم" وتصورات معرفية عديدة وتداخلت مع حياة الناس! انهارت، مطلع التسعينيات، العديد من الدول الاشتراكية فور انهيار الاتحاد السوفيتي، وقال الكثيرون بانهيار الآيدولوجيا، وبَدَأَ العالم وكأنه يدور في فَلَك الرأسمالية، في أعلى مراحلها، في ما عُرِفَ بـ"العولمة"! أعتقد أن الأدب، بجميع ضروبه، كان يَرهَصُ بملامح الجديد؛ في الشعر والقصة والرواية والتشكيل وفي المسرح، والفنون عامة، بدأت مرحلة إبداع جديدة وبملامح أيضاً جديدة!. وللملاحظ أن يرى أن الشعر بالذات، ثم الرواية والقصة وبقية سائر الآداب، كانت هي التي حَدَست وأرهصت بفعل الثورة والتغيير! وذلك موضوع درسٍ وبحثٍ كثير سيأتي عندما يُنظَر إلى التغيّرات الأدبية التي حدثت عندنا! خذ مثلاً تغيرات كل من: الصادق الرضي وعاطف خيري، ثم خذ ظهور كتابات محمد الصادق الحاج ومأمون التلب وناجي البدوي ومازن مصطفى وبابكر الوسيلة وأحمد النشادر ونجلاء التوم... معذرة، لن أستطيع استحضار كل الأسماء، لكنهم غدوا في الريادة كُثر! ثم أتت – في هذا الإطار نفسه – أعمال بركة ساكن القصصية والروائية!.

التفتُّ الآن إليه؛ يَجمد بيرق الموت ويمحو بعضاً كثيراً من شبق اللغة ونزواتها وخياناتها، التي لا تزال ترافق الكتابة عندنا، ثم يراوغ الرؤيات والريبات ليهبط بهما إلى قاع المدينة وبيوت القرى القلقة؛ حيث تكثر وجوه الهامش المتشَقِّقَة كأفرعِ شَجَرٍ يابسة. وهو ـ هذا الضاج بعنفوان الحياة ولذاذات الواقع الحامضة ـ يعبر البلاد كل صباح، من أقصاها إلى أدناها، نيزكاً طالعاً من ليلِ البازار، وخطاه ترنُّ وتقرع الأجراس عند مداخل الأزقة والحارات، في معية الفقراء، وسطهم و... يجترح الكتابة، كزنبقة وحيدة، والعسس يطاردونه، بهراوات مكَهْرَبة وبذاءات دَبِقَة، وهو، مثل خنجرٍ حاد، ينغرس في جسد الدولة التي تشنّ الحروب وتشعل النيران لتضرم الحرائق في جديد الكتابة وأوجه اللغة!.

بدأ بركة كاتباً للقصص القصيرة، ويعمدهن في الفاتنات، بقرينة جسد النساء وقلوب الغرانيق؛ يوقفن الدبابات ويشعلن التظاهرات، والشرطة بنت "الانتباهة" واقفة إليهنَّ بالمرصاد؛ ناعسة ومتعبة وقليلة الحيلة، لكنها تطاردهن على أية حال دون أن تظفر منهنَّ باعترافٍ أو انكسار؛ انهنَّ نساء "البلاد الكبيرة"، حبيبات بركة ساكن وملهماته الفارهات! أقام مع "الجنقو"، فوق الأرض وتحت أحضان الليالي العاريات.

العام 1963 م وُلِدَ عبد العزيز بركة ساكن في كسلا، إنه الآن على مشارف الخمسين، لكنه كان في أربعينياته أيضاً حين نشر مجموعته القصصية الأولى "على هامش الأرصفة" العام 2005 م! أصدر حتى الآن:

- على هامش الأرصفة: مجموعة قصصية.

- أمرأة من كمبو كديس: مجموعة قصصية.

- ثلاثية البلاد الكبيرة، رواية:

   * الطواحين.

   * رماد الماء.

   * زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة.

- الجنقو مسامير الأرض: رواية.

ثم، مخطوطته تحت الطبع: "ذاكرة الخندريس، أو مَن يخاف عثمان بشرى" وهي رواية جميلة جداً عن الأطفال المشردين، من أبناء ناس الهامش والفقراء وبيئاتهم المحاطة بالمرض والبؤس، وتعرَّضَت أيضاً ـ بجسارة الكاتب المشهودة ـ للمأساة الإنسانية التي أَدَّت لموت أكثر من سبعين شخصاً من الشباب جراء تناولوهم لمادة "الأثينول" السامة في الكحول، وهو الكاتب الوحيد، حتى الآن، الذي تناول هذه المأساة في عمل روائي وفق منظور إنساني وتضامني، وحدد الجهات المسؤولة عن هذا الموت البشع! ولست أدري لم غَيَّر عنوان الرواية الذي كان في المخطوطة التي اطلعت عليها "ذاكرة الكحول" وهو ـ في ظني ـ عنوان جميل، دلالياً ومعرفياً، علاوة على أنه معروف للناس والقراء الذين يكتب لأجلهم بركة، هل الأمر "تقية" تلتف على العنوان فتكسبه غموضاً زائفاً؟، لست أظن ذلك؛ فالكاتب كَسَرَ ألف قاعدة، وتحدَّى أعرافاً وتابوهات سائدة دون أن يكترث. وعجبت له، أيضاً، حين جعل أبيات للمتنبي عن "الخندريس" تتصدر عمله الروائي، ولا شك أنه يعرف أن شخصية المتنبي وخطه العروبي وانحيازه العرقي وانتهازيته، هي تصادم وتناقض الأهداف الأنسانية النبيلة لأعماله كلها؛ ليته يتدارك الأمر ويدع العنوان الأول للرواية، فهو أقرب لعقول وقلوب قرائه ومحبو أدبه الجميل!.

لا، ليست لكتابته اسم! واقعية، لكنها مراوغة، من يدٍ واحدة وذاكرة بشرية محبوبة. ظل يداوم في رفقته النهار، رغيف كل يوم، وحلوى للصغار. كتابة ليلية، لكنها مقذوفة في رحم أيامنا، أخلاطٌ من أصوات ودموع، من خطايا وصلوات، ومن حجارةٍ و قُبَل! رأيته يفصل بين المبارك والملعون، لكنها تنثر بذاراً كثيراً وتقيم حوائطاً تصرخ ساكنةً مثل اسمه، لكنها تصرخ؛ ضد البناءون الكذبة، والحراس الكَذَبة، والقواميس الكذبة، ويعلن وجهاً في الناس؛ قلماً مغموساً في حبر الوجع اليومي و... كراس!.

نعم، إننا نصغي إليه ونقرأه لنراه، إنه يحدثنا عن كتابة بركة ساكن فماذا قال عن ما يكتبه ورؤاه؟!.

في حواره مع وداد الحاج لصحيفة "الجزائر الجديدة" قال : [... حيث يظن البعض أن في كتابتي ما يسيء لمشروعاتهم الآيديولوجية، ويخترق كتاباتهم المستفزة؛ بالطبع لا أقصد ذلك، كلما أفعله هو أنني أنحاز لمشروعي الإنساني، أي أكتب عن طبقتي: أحلامها، آلامها، طموحاتها المذبوحة و ... سكّينتها أيضاً التي تذبح بها هي الآخر!. وحتى لا يلتبس الأمر مرةً أخرى، أقصد بطبقتي المنسيين في المكان والزمان: الفقراء، المرضى، الشحاذين، بائعات الخمور البلدية، الداعرات، المثليين، المجانين، العسكر المساقين إلى مذابح المعارك للدفاع عن سلطة لايعرفون عنها خيراً، المشردين، أولاد وبنات الحرام، الجنقو العمال الموسميين، الكتاب الفقراء، الطلبة المشاكسين، الأنبياء الكذبة، وقس على ذلك من الخيرين والخيرات من أبناء وطني! إذن أنا كاتب حسن النية و... أخلاقي، بل داعية للسلم والحرية، ولكن الرقيب لا يقرأني إلا بعكس ذلك!] .

ذلك هو عبد العزيز بركة ساكن، وتلك هي شخوصه وعوالمه، وكنت قد رأيته قبل ذلك في "رماد الماء" كيف يصور لنا بشاعة الحرب وويلاتها وكيف ـ في ذات الوقت ـ يجعل من السلم كيف يكون بهياً ويانعاً ومحبوباً مطلوباً في الناس، ثم كيف كتب الواقع نفسه في "المهمة الأعظم" متدثراً ومختلطاً بالخيال المجنح المثير! ولكن، هل كتب الشعر و ... بمن يا ترى قد أَثَّر عليه فترك بعضاً من ملامحه على كتابته؟ يقول بركة للصادق الرضي: [نعم، أحب الشعر جداً]، ولاحظوا أنه قد كتب [ما يتبقى كل ليلةٍ من الليل]، قصة تفيض شعرية على المعنى والمبنى و... تكون في القارئين العسل!. يمضي في إفاداته ليقول : [أعجبت بولت ويتمان وجبران خليل جبران ونشيد الإنشاد، هذا الثلاثي أثَّر في أسلوبي ولغتي، وتجدهم ماثلين في رواية "الطواحين"، ويلوحون لك بأذيالهم في "رماد الماء"، ولا أدري ما ينجيك من غبرة حوافرهم وأنت تقرأ "على هامش الأرصفة"]! القراءة والانغماس الحر في بلبال الحياة، ذاك مهده الوثير ومعلمه، ويبدوا أن الكتابة لديه تطلع وتزدهر من هذا النبع بالذات. وقد امتلك، بجانب ذلك كله، جسارة في القول والمعنى و... في فعل الحياة نفسه. ذلك في ظني منحىً هام في شخصيته المقتحمة المغامرة. ورغم ما ذكره هنا من تأثره ببعض ممن قرأ لهم، فإنني أراه عديم الشبيه، في كتابتنا وفي كتابنا أيضاً! إنه أيضاً يخوض تجاريب الكتابة غير هياب، بذات الروح الجسورة المغامرة فيكتب "فارس بلالة" للأطفال، لكن الوقت ـ في ظني ـ لايزال مبكراً ليتيح لنا الحديث عن هذا الوجهة في كتابته! وثمة ملاحظة أثارت لدي تعجباً و... تساؤلاً: التعجب لما ذكره حين سأله عيسى الحلو "مَن مِن النقاد ناصر الكُتَّاب الجدد؟ "، فأجاب: "هنالك النقاد الشباب (ولم يذكر منهم أحد) وهناك بشرى الفاضل فقط"!! تعجبت لقوله هذا، لكن السؤال "لماذا"؟ فذلك أتركه له يجيب عليه إن أراد!.

 تلك بعضاً من ملامح الكتابة عنده: مارس إبداعه الجسور بتمزيق الأقنعة الزائفة أينما وجدها، بإرادة وجسارة وبلغة عادية تنحو منحى الشعر أحياناً، لكنها تظلّ، في جوهرها، لغة الحياة اليومية لدى الناس العاديون الذين جَعَلَ منهم مصادر لكتابته وإبداعه، ومن مصائرهم مداخله البهية لإكساب الحياة حيويتها ونضارتها وجدواها!.

و ... دعني – مرةً أخرى – أسألك يا بركة: ماذا سيحدث لو أن السماء كانت صافية، وصادفت المرأة التي شَدت في دماك العصير... لو اشتم منك الجسد رائحتها، والتراب وعذابات البشر، ماذا كان ينقصك لو شفيت من رؤيا الصباح، وأوجاع الليالي العاريات وحصار اللغة والتاريخ الدامي من الرائحة التي سَكَنَت قلبك، ماذا كان سيحدث؟ نعرف أنك قد عايشت موتاً وشهوات ونزوات كثار

ورأيت ما رأيت؛ الرصاص المتناثر في الشوارع، والبطالة، مذابح العواطف، الوطن المجَرَّح والدخان في القرى والأزقة! وكنت ـ ويالحظنا ـ جاهزاً يا عزيزنا لتكون ضحية الحرب والمسغبة، وترى الأشجار ملطخة بالدم! لكن... كان بك جوعٌ إلى الكتابة والغناء، كأس الشراب، و ... صحبة العنقاء! مذاق الموت في ظهيرة حامضة، شهوة ومحبة، وجسارة في المعنى ووجهاً للموت، للطفولة والرصاص المألوف في القرى وفي المدن، في هواء الأمكنة كلها يا صديقنا؛ حيث الدبابات والعسس، والسجناء والمفقودون والأرامل! الجروح النازفات والجسد الملطخ بالدمامل! الجنون عناوينك إلى النهر والعدالة! والحريق في الغابات والشوارع والشمس، التي غَدَتَ حارقة والمحطات خالية، والنساء في باحة الرقص يكملن الأناقة. ينثرن عطرهن في اللغة كأن الوطن لم يعد صالحاً للإقامة، كأن الزمان قيامة!. لكنك، يا حبيبنا، أعطيتنا الآن وجهاً وقنديلاً وإكليلاً وقامة؛ أعطيتنا وجهاً وقلباً بهياً كثير الوسامة!



وتبقت كلمة: أقرأ أعمال بركة ساكن بغبطة مشوبة بلذة تطال القلب والجسد و... أتذكرهما معاً: جان جينيه ومحمد شكري! فهو مثلهما؛ أتى لعالم الكتابة فجأة في الناس، في الزمان المسخ والوقت المأزوم، أتى، كما أتوا، صقيلاً ولامعاً كنصلٍ حاد، وشَرَعَ لفوره ينظف منَّا الجروح والقروح، ويزيل عن الجسد الصديد، لكنه، إذ يفعل ذلك، يربي ـ في ذات الوقت ـ الأمل ويطلق في الحدائق الفراشات الملونة وعطر الكتابة، برؤيا الجسارة حين تغدوا لغة تؤشر وتُعَرِّي سوءاتنا كلها ونفاقنا الكثير الكثير...

عبد العزيز بركة ساكن، الليلة أعطيك صوتي وباقة ورد وأنت في المجد و ...المنور في أفقنا القصصي والروائي، فكن يا حبيبنا في الضوء البهيج، في دروب التغيير والثورة القادمة لأجل أبناء وبنات شعبك، برفقة أدبك وإبداعك الجميل!.

الأحد، مايو 06، 2012

جســــــدان في حلم اللذة ... !


في حلمه الليلي ،
والوقت مائي الملامح
والهواء ،
من خلل الستائر يبدوا
غماميا ومالح !
قالت له :
سأنضو عني ردائي
فضمني إليك دون أن
تكسرني !
خذني إليك و ... فضني !
قال لها :
أنت حبيبتي
وأنثاي ...
لكنني جسد يحن إليك
و ... يشتهيك !
فهاتي فواكهك اللذيذة ...
هاتي مالديك ،
وهيئيني للقاء جسدك ياحبيبة !
فأحتويك بساعدي
وأمنحك المسرة !
لذة الملامسة الأولي ،
في كل نهد قبلة
أشتعال في كل قبلة !
وفي العناق ،
يأخذنا إليه المدي
فنذهب في الندي
معا ... ،
جسدان ،
 نذهب في الندي !

حنا مينه ، ... أينك !

                                                              - حنا مينه -   

----------------------
  كلما أشتد عصف الثورة السورية وجاء ذكرها تحلق مخيلتي عاليا و ... تذهب إلي اللاذقية ، حيث ولد حنا فيها في التاسع من أذار 1924 إذ يبلغ الآن عمره الخصيب 78 عاما !
وكانت بعض الصحف الرسمية السورية قد نشرت في وقت سابق وصية كتبت بخط يد " حنا مينا " تضمنت بعض طلبات الكاتب بعد رحيله ، كان أبرزها أن لا يشاع خبر وفاته في وسائل الإعلام وأن لا يتم حفل تأبين له بعد رحيله ..

 وقال " حنا مينا " في بداية وصيته قائلا : " أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية وقد عمرت طويلا حتى صرت أخشى ألا أموت مع يقيني بأن لكل أجل كتاب "

وتحدث مينا عن حياته التي وصفها بأنها كانت سعيدة جدا  ، مؤكدا أنه ولد منذورا للشقاء وأنه حاربه وانتصر عليه ...ا

وشدد في الوصية على عدم ذكر نبأ وفاته في أي وسيلة إعلامية مقروءة كانت أو مسموعة معتبرا نفسه عاش بسيطا وراغبا أن يموت بسيطا ، وقال مينا : " ليس لي أهلي ، لأن أهلي جميعا لم يعرفوا من أنا في حياتي وهذا أفضل لذلك ليس من الإنصاف أن يتحسروا علي عندما يعرفونني بعد مغادرة هذه الفانية "

ووصف مينا بأن ما فعله في حياته هو معروف وهو أداء واجبه تجاه وطنه وشعبه مكرسا كلماته لأجل هدف واحد هو نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين .

واعتذر مينا من أقربائه وأصدقائه لطلبه بان يدعوا نعشه ليحمله أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى ليهال عليه التراب في أي قبر متاح منهيا بذلك الحفل ، وطلب منهم عدم البكاء والحزن و ارتداء اللون الأسود !

وشدد مينا قائلا في نص الوصية : " أشدد لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها."

وعن ممتلكاته في مدينة دمشق واللاذقية أعطى مينا حق التصرف بها لمن " يدعون بأنهم أهلي " مشددا على منزله في اللاذقية ليكون لزوجته " مريم " ‏!

والكاتب " حنا مينا " من مواليد مدينة اللاذقية عام 1924 حيث عاش طفولته في حي " المستنقع " احدى قري لواء اسكندرون قبل أن يعود مع عائلته الى اللاذقية حيث عمل في عدة مهن منها كبحار على المراكب .

ومن أهم أعماله الأدبية "المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة" و"الياطر" و"الأبنوسة البيضاء" و"حكاية بحار" و"نهاية رجل شجاع .
أشهر رواياته: "المصابيح الزرق"، خط فيها الأسس الواقعية للرواية السورية وقد أثارت جدلاً عن عدائه لنظرية الفن للفن وتأكيد التزامه السياسي. له روايات عديدة منها: "الشراع والعاصفة، الياطر، الشمس في يوم غائم، بقايا صور، حكاية بحار، المرصد، الربيع والخريف، المستنقع وغيرها". كما أصدر عدة مؤلفات منها "هواجس في التجربة الروائية، أدب الحرب، ناظم حكمت ثائراً".
حنا مينة من رواد البحر في الأدب العربي حيث أعطى كثيراً من الاهتمام لقصة الارادة البشرية في انتصارها على الطبيعة القاسية بالإضافة إلى المغامرة لكن بدرجة إنسانية عذبة تغري بالسفر لكنها لا يشغلها الانتقام أو الذل أو الغرق في مستنقعات التفاهة. مينة روائي مغامر بعين المحب البصير يتطلع في خبرة تحمل أسى العمر نحو سماوات مشرقة من تاريخ الأدب وروح الرواية التي تحمل الأمل في النفس رغم مفاجآت الواقع!

ويعد حنا ، أحد أجمل الروائيين العرب وأكثرهم إلتزاما بصف الفقراء والكادحين و .... بالثورة ، يساريا تقدميا من طراز فريد ، لم يبارح وطنه أبدا إلا حين ذهب للصين في منصف الستينيات من القرن الماضي ليكتب عنها ثلاثيته الضخمة البديعة : ( حديث في بيتاخو / عروس الموجة السوداء / المغامرة السوداء ) ، عملا أدبيا كبيرا لم يسبقه إليه أحد في الكاتبين العرب ، كأنها الأمتداد لما كتبته الروائية الامريكية " بيرل باك " حول الصين في روايتها " الأرض الطيبة " !
حنا مينا ، وسط هذا " الجحيم " السوري المجنون ، وأنهار الدم تملأ شوارع المدن و ... ملامح الناس ، أين أنت الآن ياحبيبنا ، الإنسان الرائع والكاتب الروائي الكبير ... أتطلع ، بشغف يملأ قلبي ، أن أعرف عنك خبرا ... !
                                                    

الجمعة، مايو 04، 2012

إنتهاك الحريات ... !

  
                                                         - حرق الكتب المقدسة -

في حمي الهوس الديني / العنصري الذي ظل يؤججها نظام الخرطوم مؤخرا ، قامت مجموعات من المتأسلمين الموتورين بحرق وهدم المجمع الكنسي بضاحية الجريف بالعاصمة السودانية الخرطوم ! معا - للمناسبة - نقراء مقال " إشكاليات الهوية في السودان " للكاتب الروائي السوداني د . أبكر آدم إسماعيل !
--------------------------------------------------------------------------------

مقدمة:
لقد ظلت قضية الهوية في السودان، تطرح في الرواق المثقفاتي من أيام المجادلات حول ما إذا كان (شعب السودان) "شعب عربي كريم" أم "شعب سوداني كريم" في مباراة سليمان كِشّة وعلى عبد اللطيف، كقضية فكرية سياسية. وقد أخذت المسألة بعد ذلك منحى أدبيا يمكن تلمسه في محاولات حمزة الملك طمبل لتأسيس خطاب (سوداني) موازِ أو مقابل للخطاب العروبي السائد، المتمثل في مذهب البنا والعباسي وغيرهما. واستمرت المسألة حتى الستينات، إذ ظهر جيل أكثر حداثة، حيث ذهب هؤلاء الإنتلجنسيا إلى افتراض خيارات لهوية (السودان). فمنهم من نزع إلى العروبة، ومنهم من نزع إلى الأفريقية، ومنهم من مضى في سبيل التوفيق بين الاثنين ليصل إلى ما عرف بمدرسة الغابة والصحراء أو الآفروعروبية. وقد آثر آخرون غموض السودانوية. وانصب جل أبناء هذا الجيل أخيرا فيما أسماه محمد جلال هاشم بالسودانوعروبية. ولكن القضية عادت إلى حقل السياسة مرة أخرى مؤخرا، وهذه المرة من خارج (الخطاب الرسمي) أي خطاب أيديولوجيا المركز، وفرضت عليه بأجندتها الحربية، وبذلك تجاوز سؤال الهوية إطاره الأدبي المثقفاتي وسياقه الذاتي، وأخذ طابعاً شعبياً وبعداً موضوعيا، واعتلى سلم الأولويات في حلبة الشجار الدائر في السودان.
إن الهوية ـ في رأينا ـ قضية أيديولوجية في المقام الأول. لأنها في الواقع جزء من محددات تحقيق المصالح المادية أو المعنوية أو الاثنين معا. لذلك مهما تدثر الناس حولها بالأكاديمية أو المدرسية والدرجات العلمية أو المناهج النقدية ـ وكل ذلك له قيمته ـ إلا أن المسألة تبقى في جوهرها هي هي، ولا تكون الأفضلية لباحث أو كاتب في هذا الموضوع إلا بمقدار ما يزودنا به من معرفة (بالواقع) وما يتميز به من شجاعة في الطرح.
لكن يا ترى، ما هي هذه الهوية؟ وما مشكلتها في السودان؟
فبالرغم من ولع الكتاب السودانيين بالتعريفات، وولع العروبيين منهم "بالمناجد" و"التأصيل"، فقد خاب مسعانا في الحصول على تعريف. وتبقى الحقيقة، وهي أن (الهوية) ليست بأي حال من الأحوال (شيئا) واضحا و(متفق عليه)، ومعروف سلفاً للدرجة التي لا تستدعي تعريفه. ومن هنا، توكلنا على الله، وحملنا فأسنا وقلنا نحتطب بالقدر الذي يضيء لنا الأبعاد الضرورية للمفهوم، وعلاقته بالقضية في السودان.

مقاربة مفهومية:
عتبة أولى: إنسان/حيوان: يقوم فعل الحيوان على الفطرة، والأسد لا يحتاج إلى مشروعية ليأكل الخروف، بل يكتفي بدافع الحاجة لأكله وكفى، ولكن الإنسان كنوع بيولوجي تأهل تاريخيا لامتلاك الوعي بنفسه وبالعالم من حوله. ربما كان هذا الوعي هو الدافع لاختلاق (أسطورة آدم) للتأكيد المعنوي على وقائعية تميزه عن الحيوانات الأخرى، وبالتالي مشروعية تسخيرها، والمشروعية هي التبرير العقلي للفعل، إذ لا تكفي الحاجة لوحدها كمبرر في وجود (العقل) و(الوعي). لماذا وكيف؟؟ فعندما يذبح الخروف مثلا فإن ذلك يبدو عادياً بالنسبة لغالبية الناس، ولكن إن ذبح شخص، فإن المسألة تأخذ طابعاً آخر، وتنشأ سلسلة من المواقف والأفعال تجاه هذا الفعل الأخير تبدأ من الشعور بالفظاعة، وتنتهي بالإنتقام. ومن مقاربة الحالتين يظهر اللامفكر فيه، وهو أن الألم الذي يحسه الخروف مساوٍ على الأقل لذلك الذي يحسه "الشخص" وأن الخروف يحب الحياة كما نحبها. وهذا ما يورطنا فيه وعينا. فالأسد لا يفكر في ذلك مطلقا. إذن كيف نجرؤ على ذبح الخروف؟ لأجل ذلك لابد من تغييب جزء من الوعي بآلية "اللاتفكير" في الموضوع ـ أي ألم الخروف وحبه للحياة ـ حتى تسلك المسألة وتأخذ مشروعيتها المعنوية بالإضافة للمشروعية المادية (الحاجة) أو الحيوانية ، سمها كما شئت، واستساغة ذلك بحكم العادة. وما يشجع على ذلك كله هو الفارق النوعي بين الإنسان والحيوان.
عتبة ثانية: الشخص والقرابة: ففي حالة ذبح الشخص يتكون لدى الناس "شعور" بالفظاعة، ويبدون درجات متفاوتة من ردود الأفعال، بمقدار القرابة بمعناها العام. وهذه القرابة إما أن تكون انتماءا أساسياً في علاقة إثنية ثقافية بكل ما تحمله من مضامين؛ أو انتماءً ثانويا عرضياً في علاقة العمل والمهنة أو السكن أو الإقليم أو الطبقة الاجتماعية؛ أو انتماءً وضعيا في علاقة المواطنة والدولة.
عتبة ثالثة: تعقيدات الوعي الجمعي: وقياساً على ما سبق، وفي أمور أخرى فقد تطورت علاقات البشر باتجاهات مختلفة ونشأت تقسيمات وفوارق عديدة. ففي وقت ما كان الناس ينقسمون إلى أحرار وعبيد، ونساء ورجال يهيمن بعضهم على البعض ويسخره، وقد تصل المسألة في النظر إلى الآخر إلى ما يقارب وضعية الخروف في مثالنا ـ كما في النظريات العرقية، مثل شعب الله المختار والجنس الآري والرجل الأبيض والنازية والفاشية والعروبة والبراهمية.. إلخ ـ وهكذا حاول البعض إعادة إنتاج (أسطورة آدم) في الحقل الإنساني لتأكيد تفوقه الإثني/الثقافي. وفي كل ذلك هناك "لامفكر فيه" وهو (كينونة الآخر وحاجته الإنسانية). هذا اللامفكر فيه أدى إلى خلق (المشروعيات) عبر آليات التغييب وترسخها بحكم العادة أو الإرث حيث تشرعنت الفوارق بمرور الزمن في الوعي الجمعي.
ومن أمثلة اللامفكر فيه في الوعي الجمعي؛ العقائد الدينية؛ فالمسلمون مثلا، لا يرون في بقرة الهندوس (المعبودة) إلا مضحكة، ولكن الهندوس يرونها بمقدار (الله) عند المسلمين. كما يرون (الله) من زاويتهم هم كما (البقرة) في عين المسلمين. أي أن الآلهة متساوين بعيون عابديهم، في الوعي الجمعي باللامفكر فيه. ولكنهم غير متساوين بالمفكر فيه وبالأحكام.
عتبة رابعة: المواطنة والدولة: فالسوداني عندما يذهب إلى أي بلد آخر، فلنقل مصر مثلان فإنه يجد معاملة مختلفة عن المصريين في أمور كثيرة، فمثلا لا يمكن أن يجد نفسه في كشف المتقدمين للخطة الإسكانية لاعتبارات وضعيته الأجنبية.
وفي كل ما سبق ذكره، فإن الشخص (هو) أو الجماعة (هم) بضمير الكينونة هذا لا يتحددون إلا إزاء (آخر) أو (آخرين)، وإلا لا يكون هناك معنى لهذا الضمير في الواقع، ما لم يوجد فارق موضوعي. وإذا جردنا الضمير بإرجاعه إلى المصدر (الهوية) فيمكن أن نعرفها في هذا السياق بأنها: كينونة وانتماء مبنيان على أساس فارق موضوعي يكون مبررا للتحيز (مع أو ضد) بلامفكر فيه أحياناً وبمفكر فيه أحيانا أو بالاثنين معا في أحيان أخرى. وقد يكون هذا الفارق الموضوعي:
1
ـ نوعياً: كما في حالة إنسان/حيوان. أو؛
2
ـ أساسيا: كما في حال كيان إثني ثقافي/كيان إثني ثقافي آخر. أو؛
3
ـ عرضياً ثانوياً: كما في حال علاقات العمل، السكن والطبقة الاجتماعية. أو؛
4
ـ وضعياً: كما في علاقة مواطنين/أجانب أي مواطن دولة/ دولة أخرى.
وفي الحالة الأخيرة؛ فطالما أن الأمريكان أمريكان، والمصريين مصريون، والسودانيين سودانيون، فما هي المشكلة في السودان؟
المشكلة في السودان هي أن علاقة المواطن بدولته مأزومة، فهي قائمة في داخلها على أساس فارق (أساسي) بتحيزها ـ أي الدولة ـ لكيان إثني ثقافي يقوم باستثمارها إقصائيا ويفرض توجهاته ضد كيانات إثنية ثقافية أخرى. وهذا لب موضوع بحثنا.

خلفية تاريخية:
السودان بحيزه الجغرافي، وحدوده السياسية القائمة اليوم، كان ـ وما يزال ـ فضاءا تقطنه مجموعات إثنية ثقافية متنوعة عرقياً وثقافيا ومتفاوتة تاريخيا ومتوزعة في أرجائه. وما زال بعضها يعيش في بيئاته الطبيعية التاريخية بنمط عيشه الخاص وتركيباته الاجتماعية وقيمه وعاداته ولغاته وعقائده. وقد تطورت بعض الكيانات النيلية وأسست لها نظما حضارية متقدمة كما في الدولة المروية في شمال السودان. وعلى هذا الأساس، كان مفهوم الدولة جزءا من ثقافة تلك الكيانات، وهو وجه من وجوه التفاوت التاريخي مع الكيانات الأخرى التي لم تصل إلى مرحلة الدولة بعد. ويمكن افتراض تخالط تلك الكيانات مع بعضها بدرجات متفاوتة، كما يمكن افتراض انشقاق وتفرع بعضها واستقلالها تاريخيا، وقد لا يكون ذلك متأكداً منه (تاريخيا) ولكن الدراسات الاثنوغرافية والتحليلات الثقافية تدعو لأخذ هذه الافتراضات في الحسبان في سياق الحديث عن (تاريخ السودان القديم)، وخاصة في العصور المسيحية.
أما في العهد الإسلامي، فقد دخلت إلى السودان الكيانات والثقافة العربية الإسلامية على شاكلة (الاستعمار الاستيطاني)، وظلت تكتسب لها مواقع فيه ضمن كياناته وثقافاته المتعددة. وهي في ذلك مسنودة بخلفيتها الإمبراطورية من الناحية المادية، ومن الناحية المعنوية بما يعرف بـ(المد الحضاري) العربي الإسلامي، الذي من أهدافه بالطبع إعادة إنتاج الآخر داخل (الهوية) الإسلاموعربية أو على الأقل إلحاقه بسياقها الحضاري. هذا النهج الاستتباعي قد يبدو عاديا ومفهوما ومعقولا في إطاره العام في ذلك الوقت، ولكن استمراره بعد انهيار الحضارة العربية الإسلامية أصبح إشكالياً بالإضافة لإشكاليات أخرى في بنية ومحددات الثقافة العربية الإسلامية نفسها وكيانها الاجتماعي في السودان، مضافا إلى ذلك الملابسات التاريخية التي جعلت من هذه الثقافة (المأزومة) (مركزية) في الوضعية التاريخية للدولة السودانية. ويمكن مناقشة هذه الإشكاليات في الأبعاد التالية:
أولا: الإشكاليات الداخلية أو أزمة الثقافة الإسلاموعربية: المتمثلة في نزعة الهيمنة والإقصاء المتشددة وتجليها في:
أ/ البطرياركية الأبوية القائمة على التشدد العرقي: فعبر ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال في معادلة التزاوج الأحادية الاتجاه، التي يأخذ فيها الكيان العربي ولا يعطي، تم طبع أجزاء عديدة من شمال وأواسط السودان بالطابع العربي عرقيا وثقافيا، وعبر الأسلمة ـ أي التحرك عبر المقدس ـ تم ويتم التوسع.
ويقوم ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال (الاستعراب العرقي/الثقافي) على تزوج الرجال العرب بنساء (الآخرين)، وتكون الذرية وفق البطريركية الأبوية (عربية) ولا يعترف بمكونها الآخر. البنات يتزوجن حصريا في الكيان العروبي، أما الأبناء الذكور فيواصلون طريق الأسلاف، وهكذا بمرور الزمن ينمو الكيان العربي على حساب الكيانات الأخرى التي تتآكل في نهاية المطاف.
أما الأسلمة، فعبر الدعاة ـ الفكي، والطريقة الصوفية ومؤسسات التعليم الحديثة لاحقا ـ يدخل الناس الإسلام، وهو بالطبع يتضمن "أيديولوجيا العروبة" خاصة في تفسيراته السنية ومسوغاته لعلوية المؤمن والعربي وتشريعاته في حصر زواج المسلمة. وتلقائيا يصبح العرب (أو بالحد الأدنى يتم تصويرهم على أنهم) أعلى شأنا عرقياً باعتبارهم على الأقل "حاملي الرسالة الأصليين"، وهكذا يواصل الكيان العربي تغلغله. وتبقى المشكلة فيما يولده هذا النهج من وقائع الاستعلاء العرقي والاجتماعي خاصة في وجود التعددية والتباين العرقي والثقافي في ظل هيمنة الكيان الإسلاموعروبي على جهاز الدولة.
ب/ نمط الاقتصاد الريعي العشائري (الطفيلي): ومعروف تاريخيا عن العرب والثقافة العربية ومن ثم الثقافة الإسلاموعربية احتقار المهن والحرف والعمل اليدوي باعتباره عمل العبيد أو الموالي. فحتى القطاع الحضري ـ غير الرعوي ـ يتبنى هذا النمط من الاقتصاد القائم على استثمار السلطة والتجارة التي لا تعنى بالإنتاج. ومن ثم التمسك بالجوهر العبودي في تقسيم العمل. وهذا النمط يتطلب بالطبع فرض (هويات) جزئية في المجتمع أي سادة (أحرار) وعبيد.
ج/ النزعة الاستبدادية المتشددة: فبسبب نظام التراتبية الاجتماعية القائمة على التشدد العرقي، ونمط الاقتصاد الطفيلي الذي يستلزم ليس فقط امتلاك السلطة بل الاستبداد بها، فقد كان وما يزال وعي السلطة في هذه الثقافة وعياً استبدادياً، والاستبداد لزيم الإقصاء، والإقصاء يتطلب في الواقع فرض هويات جزئية حتى في المجتمع الواحد لتحجيم وعي التنافس على السلطة مثل ما كان يوضع من أحاديث لتبرير ذلك كـ(الأئمة من قريش).

ثانيا: الإشكاليات المتعلقة بصيروة الكيان الإسلاموعروبي في السودان:
فيما يختص بسؤال الهوية، فإن أهم الإشكاليات، هي آثار ما نسميه بـ(عقدة النقص) تجاه العروبة لدى الكيانات الإسلاموعربية في السودان. وهذه ـ في رأينا ـ مرتبطة بظروف تاريخية معينة؛ حيث أن الغالبية الساحقة من الناقلين للثقافة الإسلاموعربية للسودان هم من (الأعراب) الذين يمثلون الكيانات الهامشية بين العرب، وهم ليسوا ذوي جاه ولا علم، فكان من الطبيعي أن ينقلوا معهم واقعهم مؤسطراً، وبالتالي اختلاط الحقيقة بالادعاء على مستوى الفكر والأنساب. ومع مرور الزمن وإعادة إنتاج "النوستالجيا" لذلك الزمان وذلك المكان الماورائيين المقدسين أصل و(مركز) الثقافة الإسلاوموعربية التاريخي، كان الناتج تضخم الوعي الأسطوري. بيد أن تطور العلوم في العصر الحديث كشف الحقائق المتعلقة بهم مما أدى في تقديرنا إلى خلق عقدة النقص تجاه العروبة، ومن ثم التشدد فيما لا يستدعي تشدداً، خاصة في قضية "الهوية السودانية" ومحاولة التأكيد على (عروبة) السودان بمناسبة وبدونها. وهناك طبعا أسباب أخرى لذلك سنناقشها لاحقاً.

ثالثاً: أيديولوجيا الأصالة:
فبعد انهيار الحضارة العربية الإسلامية، وظهور حضارة الغرب كمنافس وهيمنتها مؤخرا، تمت الاستعاضة عن الاعتراف بالواقع والسعي للتقدم بمحاولة إعادة إنتاج الزمن الحضاري العربي الإسلامي المقدس ـ بواكير الإسلام وأيام المد ـ أي (الزمن المستعاد) لاسترجاعه في الوعي على أمل استرجاعه في الواقع. وقد تلقف الكيان الإسلاموعروبي في السودان هذه الأزمة وزادها من عنده بوعيه الأسطوري وعقدة نقصه المذكورة، وصار الأمر كالتالي: فبالرغم من مركزية الكيانات الإسلاموعروبية في السودان، إلا أنها تعي نفسها وتتصرف كهامش لمركز ثقافي آخر يمثله زمانيا (الزمن المستعاد) ومكانياً الجزيرة العربية. فنشأت المركزية المركبة للإسلاموعروبية في السودان. ومن هنا يقوم عدم الاعتراف بمحصول الواقع، حتى المؤسلم والمستعرب نفسه، والسعي لتأصيله هو الآخر على أساس (الزمن المستعاد والجزيرة العربية). وتصبح نزعة الاستتباع في السودان مركبة، فهي ليست استتباعاً لواقع حضاري مشكوك في حضاريته فحسب، وإنما محاولة الاستتباع للماضي أيضا.

جدلية المركز والهامش:
هي منهجياً، الوضعية التاريخية للدولة التي تجمع فيها كيانات (ماقبل برجوازية =ما قبل رأسمالية) متنوعة ثقافيا ومتمايزة عرقيا ومختلفة دينيا ومتفاوتة تاريخيا، في شكل الدولة الحديثة. وتقول الفرضية أنه غالبا ما تقوم بعض هذه الكيانات بالسيطرة على جهاز الدولة وتستثمره إقصائيا على مستويات عديدة، وتتحول المحددات الثقافية من لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات اجتماعية إلى أسلحة أيديولوجية، ويتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل، والديني مع السياسي، والمذهبي واللغوي مع الاجتماعي، وتكون النتيجة وضعية تاريخية مأزومة ويكون الصراع فيها صراعا شاملا، صراع هويات ضد هويات، صراع كل ضد كل، صراع ثوابت ومتحولات عند كيان اجتماعي ما ضد ثوابت ومتحولات عند كيان آخر. هذه الوضعية نسميها جدلية المركز والهامش التي هي ليست بالضرورة قائمة على البعد الجغرافي، بل هي جوهريا تمركز وتهميش عرقي وثقافي وسياسي واقتصادي وديني. وقد تأخذ أبعادا مذهبية في الدين الواحد، وتتطور بإعادة إنتاج نفسها في شكل أزمات متصاعدة. وتتعارض هذه الوضعية التاريخية جوهريا مع الديمقراطية والتنمية مما يقود إلى أقصى تجليات أزمتها في الحروب الأهلية وأزمات الهوية.
فبعد صنع الدولة الحديثة في السودان، مع عهد الاستعمار التركي المصري 1820ـ1885م، نشأت فيه مركزية الكيانات الإسلاموعربية بسبب تفوقها النسبي على الكيانات الأخرى وبسبب توجهات الاستعمار في التعاون مع هذه الكيانات، وخاصة الحضرية منها، بالإضافة لرغبتها هي في التعاون معه لتمكين وضعها. وقد ملكها الاستعمار أهم أدوات السيطرة، ألا وهي جهاز الدولة الحديثة وفتح شهيتها من خلال تطوير الأسواق والتجارة على شاكلة الاقتصاد الطفيلي. وبسبب انتشار بعض أبناء الكيان الإسلاموعروبي من التجار المعروفين بالجلابة في أصقاع السودان واستنزاف ثرواته لمصلحة (أوطانهم) الطبيعية في أواسط وشمال السودان عبر تجارة الرقيق وجلب العبيد وتسخيرهم كأيدي عاملة، بالإضافة لأشكال التجارة الأخرى غير المتكافئة، مما زاد تفوق هذه الكيانات التي أسست لما يمكن أن نسميه قومية عربية في السودان. وتدشن ذلك في زمن المهدية بسبب التحولات الديموغرافية التي أحدثتها حروبها وأيديولوجيتها ومن ثم انكباب الكيانات الأخرى في ماعون الإسلاموعروبية بشروطه الإقصائية المذكورة آنفا. وبسبب ضآلة الوعي السياسي لهذه الكيانات والتزام أغلبها أنماط الاقتصاد الاكتفائي البسيط، فقد ظلت "مفعول به" وآلت إلى ما هي عليه الآن فيما يعرف بـ"الكيانات المهمشة" أو الهامش.

التطورات:
ولأن الاستعمار عادة لا يكون معنيا بتطوير المستعمرات على أسس (العدالة) كما يدعي، وإنما على أسس الاستغلال حسبما يقتضي الظرف، فإنه بالتالي تمسك بالسير مع التوجهات التي كانت تفرزها الديناميات الداخلية (الاستغلالية أصلا) في المستعمرات مع إجراء بعض التعديلات التي تخدم مصالحه بالدرجة الأولى.
ولأن الرأسمالية الغربية قد بلغت سن الرشد في نهايات القرن التاسع عشر، فكان من استراتيجياتها تعديل توجهات الإنسان بشكل من الأشكال بما يتوافق مع مصالحها على المدى البعيد. وبما أن الأنظمة العبودية تتناقض مع توجهات الرأسمالية (التي تستلزم أفراداً مستقلين لسوق العمل ولسوق السلع)، فكان لابد من (تحرير العبيد) ـ ليس من أجل سواد عيونهم طبعا ـ وتأسيس نمط الدولة الوطنية (شكل الدولة الحديثة) الذي يتواءم مع تلك التوجهات كقناة تسلكها إجرائيا على الأقل. فكان من أولويات الاستعمار الإنكليزي في السودان أن قام بإلغاء مؤسسة الرق. وقد كان لذلك وقعاً صعباً على الكيانات الإسلاموعروبية بمساواتها ضربة لازب هكذا مع العبيد ـ شكلياً على الأقل ـ أمام الدولة والقانون. وهذا في رأينا من أهم الأسباب التي قادت إلى تشدد الخطاب في التأكيد على عروبة السودان ونفي الآخرين ـ أي العبيد ـ من (السيرة) و(الذات) السودانية (الرسمية)؛ أي الكيان المسيطر اجتماعيا فطالما لا مفر من (سودان) الدولة فليكن الشعب السوداني (شعب عربي كريم)، وليس فقط لأن الاستعمار الإنكليزي "هزم ثورتهم [المهدية] واغتصب بلادهم وكاد أن يحتويهم بحضارته الأوروبية" كما يقول يوسف فضل، فهم في ذلك متعاونون لحد كبير في عهده.
وقد ظل خطاب المركزية الإسلاموعروبية المعبر عن أيديولوجيتها مواصلا تشدده في تعابير مثل "شعب عربي كريم" ليواجه بالخطاب الآخر (شعب سوداني كريم) ويستمر في مشاتمات أولاد الهاشماب (محمد أحمد محجوب وأحمد يوسف هاشم ومحمد عبد الحليم) لأولاد الموردة ـ أو عبيد الموردة بالمسكوت عنه ـ (محمد وعبد الله عشري الصديق وآخرين) بعد الانشقاق ومواجهة الأخيرين لخطاب التشدد (الأرومي) بخطاب الموهبة. وقد اندثرت سيرة هؤلاء الأخيرين بسبب هيمنة خطاب المركزية ومآلات أصحابه بعد ذلك. فقد أصبح محمد أحمد محجوب رئيسا للوزراء وأحمد يوسف هاشم اعتلى رئاسة القضاء، أما محمد عبد الحليم فوصل إلى رئاسة الاتحاد الأفريقي لكرة القدم ممثلا للسودان مما يكشف دور الانتماءات الإثنية الثقافية في عملية الـ Access to Power.
وقد ثار الجدال مرة أخرى في مجال الأدب، وقد انبرى حمزة الملك طمبل لمواجهة الخطاب العروبي الذي يمثله العباسي والبنا كما ذكرنا، في مقالاته التي جمعها في كتابه (الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه، 1928م) في محاولة للجم الغلو. ولا ننسى الخلفيات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية التي تعبر عنها خطابات الأدب، فكل التعبيرات الهويوية هي في الواقع نابعة من الحراكات الاجتماعية. ويمكن أن نقول أن الخطاب الموازي أو اللاجم للخطاب العروبي هو نتاج صحوة الكيانات الأخرى (المدينية خاصة) التي لا يعبر عنها خطاب العروبة. ولكن بالإضافة لسطوة الكيانات العروبية وغياب التوازن الكمي للآخرين، فيمكن عزو ضعف الخطاب (السوداني) الموازي لعوامل أخرى. فأصحابه لم يجدوا في الواقع سنداً حضارياً أو ماضوياً يتكئون عليه للتباهي. فمبادئ المساواة المفترضة ضمنا في الهوية (السودانية) على أساس الدولة الوطنية لا تجد لها سنداً إلا في خطاب التنوير الغربي وهو في ذلك الوقت يمثل الاستعمار موضوعيا، ولا (يجوز) تبني نظرياته أو على الأقل يصعب تبنيها علناً. أما الاتجاه نحو الإسلام مجرداً هكذا فغير ممكن لأنه ملغم بالاعتراف بالتقسيم العبودي والاستعلاء العروبي اجتماعياً، على الأقل على مستوى تفسيراته الفقهية. لقد كان هذا التعقيد هو السبب وراء تبني النخب المدينية لشعار (وحدة وادي النيل) في محاولة لإسقاط صورة مصر على سودان متخيل أو التطلع لصورة مصر كسقف لوعي ذلك الجيل باعتبار أن المسائل العرقية لم تعد ذات وزن كبير، قدر ما هي الحال في السودان، بالإضافة للسطوة (الحضارية) لمصر على مثقفي السودان. وقد ظهرت في تلك الفترة تنظيمات مثل اتحاد القبائل الذي كان على عبد اللطيف عضوا فيه، والاتحاد السوداني واللواء الأبيض، والكتلة السوداء فيما بعد، تلك التنظيمات التي كان يغذيها شعبيا كيان المنبتين قبلياً ـ أي الأجيال الأولى من أبناء العبيد المحررين ـ بالدرجة الأولى، تلك التنظيمات التي كانت تبحث عن هويتها ضمن هوية (شعب السودان) خارج الأطر العشائرية الطائفية السائدة التي تمثل المركزية الاسلاموعربية، وهذا البحث من قبل المنبتين قبلياً لابد أنه نابع من ومدفوع بوضعيتهم الشاذة كأبناء عبيد محررين، تعلموا واكتسبوا وعياً جديدا بذواتهم تجاوز عتبة التحرير الشكلية في وسط سادتهم القدامى المهيمنين اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.
وعلى هذا الأساس يمكننا افتراض عدم وضوح الرؤية بالقدر الكافي بالنسبة لخطاب (السودانية) الموازي لخطاب (العروبية) مما أوقعه في ماعونه في نهاية المطاف، الأمر الذي دفع الباحث محمد جلال هاشم إلى تصنيفه (جوهريا) كامتداد للخطاب الإسلاموعروبي. وذلك لعدم توفر الشروط التاريخية لاكتمال (خطاب مواز أو مقابل) في ذلك الوقت.
أما فيما يتعلق ببعض الكيانات الإثنية الثقافية الأخرى، في جنوب السودان وجبال النوبة، فقد خضعت لسياسات المناطق المقفولة Closed District Policies في الفترة من 22ـ1947م. وفي تقييمنا لذلك، فنحن لسنا من أنصار (جملة وتفصيلا) لأن الاستعمار هو جوهريا استغلال مادي وإعادة إنتاج ثقافي أو إلحاق واستتباع حضاري، أي علاقة تابع بمتبوع. وبهذا الفهم فإننا ننظر إلى المسألة على أساس أن الكيانات الأثنية الثقافية غير الإسلاموعربية في السودان، كانت تتعرض لاستعمار مزدوج؛ الاستعمار الانكليزي الخارجي، والاستعمار الاسلاموعروبي الداخلي. وبالتالي، فإذا كان لابد من (نظر) للمسألة فليكن بمنظور هذه الكيانات المقفولة نفسها The Closed Entities Paradigm وليس بمنظور المركزية الأروبية Eurocentric Paradigm أو منظور المركزية الإسلاموعربية Islamoarabocentric Paradigm . فبمنظور الـClosed Entities ، وبعبر النتائج، فإن أهم (إيجابيات) الاستعمار الانكليزي في السودان، أنه قام بإلغاء مؤسسة الرق أولاً ثم ألحقها بسياسات المناطق المقفولة، مما ساهم في محافظة هذه الكيانات على هوياتها. والمنطق في ذلك هو أنه إذا كان لابد من (مسرحية الثعلب في حظيرة الدجاج)، فالأقل سوءاً هو (ثعلب واحد) وليس ثعلبين أو أكثر، خاصة إذا كان هذا الثعلب الواحد على شاكلة (العدو العاقل) وهو بكل تأكيد خير من (العدو الجاهل). ولنترك المنطق (الصرف) جانباً، لنتجه إلى ماهية هذه السياسات الخاصة بالمناطق المقفولة التي أصبحت شماعة الخطاب الرسمي يعلق عليها أخطائه في إدارة مشكلات السودان وتسببه فيها. وتتلخص أهم ثلاثة بنود منها في:
1
ـ محاصرة تجارة الرقيق. مع العلم بأن (الجلابة) الذين التزموا بهذا البند سمح لهم بالعمل في المناطق المقفولة طيلة سريانها.
2
ـ الحفاظ على هويات الكيانات المقفولة باعتبار واقعها، وتوجيهها (غرباً) في أسوأ الأحوال.
3
ـ منع تسرب الأمراض التناسلية Venereal Diseases المتفشية في شمال السودان إلى الجنوب (العذري) في ذلك الوقت. ونأمل أن نجد من بين البحاثة الشجعان من يستطيع أن يفتح لنا صفحات من تاريخ الدعارة في السودان وعلاقته بأركيولوجيا الثروات المسكوت عنها، حتى نستبين أهمية هذا البند في الواقع.
وبالطبع ظل الخطاب الرسمي يغيّب مضمون هذه البنود ويصر على أن سياسات المناطق المقفولة هي السبب في مشاكل السودان ويعتبرها أساس أسس المنطق (التبريري). ولكن الواقع هو أن هذه السياسات قد عوقت مشروع الاسلاموعروبية الاستغلالي وفي لحظة حاسمة من لحظات نهوضه الاسترجاعي لبناء الدولة العبودية بآليات الحداثة. لذلك كان التباكي والعويل والصراخ، وتحميل هذه القوانين ما لا يمكن أن تحتمله. فإذا سلمنا جدلاً بأحقية المركزية الإسلاموعروبية في فرض هويتها على هذه الكيانات وحسب مزاجها؛ وهي التي احتاجت لما يزيد عن الاثني عشر قرناً لتعريب وأسلمة شمال السودان فحسب، وقد كانت هذه المناطق المقفولة مفتوحة أمامها في ظل الدولة الحديثة من 1821 وحتى 1922م، ولمدى قرن من الزمان كانت تقيم فيه الزرائب والأديام مثل ديم زبير ولم تعرب ولم تأسلم تلك المناطق والكيانات، فما الذي يجعلها قادرة على أسلمتها وتعريبها في 25 عاماً هي عمر هذه السياسات كقوانين وما لا يزيد عن 15عاما تنفيذاً؟ ثم ها هي الآن كيانات ومناطق أخرى في شرق السودان وغربه وأقصى شماله تقف نفس موقف المناطق المقفولة وكياناتها، في الحرب وفي السلم، فهل كانت هذه أيضاً مقفولة بقوانين سرية لم نسمع عنها؟ (الله أعلم).

على كلٍ، فأنه بعد تأسيس نوع من الحياة الحضرية وانتشار التعليم وتخرُّج أجيال جديدة من أبناء الكيانات المهمشة ودخولها معترك الحياة المدينية، تم اكتشاف الفوارق وأسس السيطرة وربما أبعادها التاريخية وأشكال الهيمنة والإقصاء المادي والمعنوي. فكان الجنوبيون الأبدر صحوة بعد كيان المنبتين قبلياً وأبناء العشائر غير العربية من المدينيين والانتلجنسيا.
وأثناء ذلك المخاض جاء الاستقلال، الذي يمكن أن نسميه "هجمة البدو"، فقد ورثت المركزية الاسلاموعربية جهاز الدولة وهشمت جو (العدالة النسبية) التي كانت توفرها دولة الحكم الانكليزي (الاستعمار) وبدأت تستثمره إقصائياً على كافة المستويات (الأمر الذي كان يمنعها منه الاستعمار الانكليزي نسبيا) وفرضت سيطرتها من خلال نخبها وطوائفها. أما على مستوى الهوية فقد سعت لفرض هويتها على السودان عبر مؤسسات التعليم وأجهزة الإعلام من خلال مشروع بوتقة الانصهار على أساس الثقافة الإسلاموعربية التي تغلف بإسم "القومية" بالمعنى السوداني للمصطلح كمصطلح من مصطلحات الترميز التضليلي للخطاب. وفي البداية كان لغياب التوازن الكمي والنوعي على مستوى الوعي أثره في اكتساح هذا التوجه الملغم ـ بتعبير الناقد حسن موسى ـ فقد كانت الغالبية الساحقة للمتعلمين والمسيطرين على مفاصل الدولة هم أبناء المركزية الإسلاموعروبية ومواليهم. ولكن كان لليسار دوراً لاجماً للغلو والتطرف نسبة لوعيه بـ(ديالكتيك) المسألة الذي يمكن أن يولد النقائض التي ستطيح بوضعية المركزية. ولكن هذا اليسار المنتمي اجتماعياً لهذه المركزية المهيمنة كان متواطئاً أيديولوجيا، إذ أن موقفه من فرض الهيمنة الإسلاموعربية هو موقف تكتيكي وإجرائي متستر (بالأممية) وليس موقفا مبدئيا.
وبالرغم من كل شيء، فلم يكف الخطاب المتشدد عن الإطلال برأسه من هنا وهناك. وها هو السيد إسماعيل الأزهري ـ رئيس الدولة ـ يدلي بشهادته: " … أشعر في هذا المنعطف بأنني مضطر لأعلن أننا نعتز بأصلنا العربي، بعروبتنا، وبكوننا مسلمون .. العرب جاءوا إلى هذه القارة كرواد، لنشر ثقافة أصلية، وإعزاز مبادئ سامية، أشاعت العلم والحضارة في كل بقاع أفريقيا، وفي وقت كانت فيه أوروبا غارقة في دياجير الظلام والجهل والكهنوت والتخلف المريع.. أن أجدادنا هم الذين حملوا المشعل عالياً وقادوا قافلة التحرر والتقدم.." أما التجاني عامر فيكون أكثر إفصاحا، وفي تبريره لعروبة السودان يقول "كان الغزو السلمي للقبائل العربية منتشراً في كل أرجاء السودان الشمالي والشرقي والغربي بالنسبة التي اقتضتها حياة العرب وطريقة عيشهم. فسكن المستقرون والزراع على ضفاف النيل. وانتشر الرعاة في شرق البلاد وغربها وقد ظلوا كما ذكرنا [يكرر هنا مدخل مقالته] يحررون ويعربون بين السلالات المحلية حتى صار السودان كله عربياً في ثقافته ومسلماً في عقيدته". وما بهذه المقولات من مغالطات تاريخية هو جزء لا يتجزأ من إكليشيهات الخطاب الرسمي. وتنفضح هنا نزعة الاستعلاء المسكوت عنها عند أطراف أخرى. ولكن المشكلة كما يرى د. موسى الخليفة هي أنه "إذا كانت ثقافة قد افترضت أن لغتها هي الأحسن، ودينها هو الأحسن، وعنصرها هو الأحسن [وهذا ما ظلت تشيعه المركزية الاسلاموعربية في مؤسسات التعليم وأجهزة الإعلام في السودان] فإنها تربي مواطنها بالإسقاط بأن الثقافات الأخرى أقل. وعند النظر للمشاكل الموجودة في السودان، خاصة المشاكل العنصرية، نجد أنها ناجمة عن هيمنة ثقافة معينة والنظر إليها على أنها متقدمة ومختارة. وهذا يتأسس على مفهوم أن هناك ثقافة أعلى Superior وثقافة أدنى Inferior، وبالتالي صار هناك مفهوم اجتماعي باختلاف درجة بين العناصر المختلفة".
وفي سياق التأرجح بين التشدد ولاجماته، برزت في الستينات خطابات داعية (للاعتراف) بالمكون الأفريقي للذات السودانية. وسنحاول تلمس الظروف التي تساوقت لبروز هذه الخطابات، والخلفيات التي شحذت همم "المثقفاتية" للاندفاع لهذا الاتجاه الذي تبدى توفيقياً؟
هناك في رأينا عدة أسباب لذلك، منها ما هو داخلي في الحراك الاجتماعي، ومنها ما هو خارجي.
على الصعيد الداخلي، فقد تنامى نوع من الوعي (القومي) لدى أبناء الكيانات المهمشة خاصة فيما يعرف (سابقا) بمشكلة الجنوب وبروز إشكالات الحرب الأهلية. وقد شهدت الستينات أيضاً تنامي وعي كيانات إثنية ثقافية (غير جنوبية) كقوى سياسية تجاوزت حاجز التخويف الأيديولوجي المجهّز في الدمغ وأختام الاتهام بالعنصرية، الذي كان وما يزال من أهم أسلحة أيديولوجيا الهيمنة المركزية الاسلاموعروبية. وقد خاضت تلك الكيانات الانتخابات في فترة الديمقراطية الستينية مثل مؤتمر البجا الذي تأسس عام 1958م، واتحاد جبال النوبة، ووحدة غرب السودان، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنه كما ذكرنا، من خلال توسع قاعدة التعليم والحياة الحضرية والتراكم الكمي والنوعي لأبناء الهوامش في حلبة الصراع فقد تطور وعيهم بذاتهم وبمصالحهم في ظل الهيمنة الثقافية والإقصاء المادي والمعنوي المتمثل في العنصرية الاجتماعية والاستعلاء العرقي، وتجلي ذلك في توزيع الثروة وتقسيم العمل، ومن ثم بينونة الطبقيات ذات الطوابع العرقية. هذا بالإضافة لاطلاع المتعلمين منهم على فلسفات التقدم عامة. ولما لتطور أجهزة الاتصال من أدوار، ومما لا شك فيه أن كان لذلك دور في محاصرة الأيديولوجيا المركزية وشروطها الإقصائية وإكساب الآخرين مساحة للتحرك. ولكنها بالطبع لها خبرة تاريخية كبيرة في المواجهة، فكان تنامي التيارات الدينية التي أصبحت تهدد الجناح العلماني داخل الأيديولوجيا المركزية نفسها، مما دفع هذا الجناح للاتجاه الآخر سواء تكتيكيا ـ على الأقل في سعيه للجم الجناح الديني من جهة، واحتواء نهضة الكيانات الإثنية الثقافية الأخرى من جهة ثانية. وبالطبع لكل أيديولوجيا نظام خطابها القادر على التوسع والامتداد دون أن يفقد اتصاله بمحوره متى ما تعرض للضغوط الداخلية أو الخارجية. وذلك من خلال (فضفضة) المعايير عبر سلسلة من الترميزات التضليلية لمجابهة التكاثر الكمي والنوعي (الواعي) للذين لا تنطبق عليهم أو يعدون خارج هذه المعايير الأيديولوجية السائدة في حلبة الصراع كاستراتيجية خطاب تمهد الطريق لإعادة الإنتاج(في بوتقة الانصهار على الأساس الاسلاموعروبي في حالة السودان) ومنع الاستقطاب الذي يمكن أن يطيح بمشروع الهيمنة برمته وبما يستضمنه من مصالح مادية ومعنوية.
ولما كان ما هو(أفريقي) في الواقع مصدر (إشانة)، بسبب احتقار اللون الأسود، وبسبب تاريخ مؤسسة الرق قريبة العهد التي لا تتيح أي فرصة (للتباهي) بأصل أفريقي، أو كسب الوجاهة أو تحقيق مصلحة مادية على هذا الأساس لاعتبارات مرتبطة بالتقسيم العبودي في الوعي الاسلاموعروبي السائد؛ فلم يكن ممكنا بهذا الشرط التاريخي الاعتراف بأفريقية (العرب) و(أولاد العرب) أي (أولاد السراري بالمسكوت عنه)، ناهيك عن الإندغام في أفريقية العبيد أولاد العبيد أولاد الخديم "في بلد يتبرأ فيه الناس من العرق الزنجي تبرؤهم من الجذام" كما يقول عبد الله بولا.
ولكن على الصعيد الخارجي، فقد كانت الستينات فترة للتحولات. فظهور نماذج القادة الأفارقة (المحترمين) أمثال الأب جوليوس نايريري، وجومو كينياتا، ونكروما ولوممبا الذين ملأت سيرهم الأناشيد التي باتت تغنيهم في أرجاء الدنيا، في أيام صعود الأممية، وباتوا مصدر احترام أكثر من غالبية قادة العرب والمسلمين والبيض، فكان لابد أن يكون لذلك أثرا، ودافعا نفسيا ومعنويا للوعي (الأفريقي) المكبوت للتعبير عن نفسه. خاصة بعد انفتاح الاسلاموعروبيين السودانيين على العالم واكتشاف هامشيتهم ومنقصة عروبتهم بالنسبة للعرب وحتى في مصر القريبة حيث يعتبرهم (الشارع) ليس أكثر من (سمارات). ثم تنامي خطاب الخصوصيات في مواجهة الهيمنة الحضارية الغربية وأثره حتى في الخطاب العربي. وفي هذا الجو كان لابد من إيجاد مخارج من هذه الورطة وردم الهوة النفسية، إما بالتشدد الخطابي لتأكيد الإدعاء (العروبة) ـ وهذا ما حدث على مستوى الوعي الجمعي الاسلاموعروبي في السودان ـ أو الاعتراف بمنطق الواقع بالنسبة لأقلية من المثقفين لا تستطيع تنكب طريق المغالطة (بالظاهر والمشكوف) في حال وضعيتها الجهيرة. وقد كانت تلك ـ في رأينا ـ هي الظروف التي تساوقت لبروز خطاب الآفروعروبية، تكتيكيا على الأقل كمحاولة لرسم الطريق لإعادة التوازن النفسي للكيان الإسلاموعروبي. وهذا يعني في الأساس الاعتراف بمكونهم (هم) الأفريقي، وليس بأفريقية الأفارقة في السودان. ويشاركنا في هذا الرأي الباحث محمد جلال هاشم الذي ذهب إلى ذلك من قبل. هذا هو الأساس الذي قام عليه الوعي الآفروعروبي الذي تلقفه الآخرون من المثقفين المتحلقين حول حلبة الخطاب الرسمي واعتبروه تنازلا (ولا حتى تحلم بيه) وتعلقوا به (والغريق يتعلق بالقشة). وكانت النتيجة هزيمة الوعي القومي (الوطني) وإعادة إنتاج الأزمة. وبعبرة النتائج فقد كانت الآفروعروبية ليست أكثر من شكل من أشكال التواطؤ الأيديولوجي مع المركز محور الأزمة في الوضعية التاريخية للدولة السودانية ـ جدلية المركز والهامش. فمواقف أصحاب الألمعية صلاح أحمد إبراهيم ومحمد المكي إبراهيم المؤيدة للإنقاذ، وتوجه د. محمد عبد الحي نحو حزب الأمة وعودته في أواخر أيامه للحظيرة الإسلاموعربية وتحفّظ النور عثمان أبكر عن إكمال إفادته في قوله "لست عربياً … ولكن!" تكمّل الدلالة، أي التمهيد (الرصين) لسير الهيمنة الإسلاموعربية التي آلت في النهاية إلى (المشروع الحضاري).
أما المتحلقون حول خطاب الآفروعروبية من دعاة السودانوية فقد تاهوا في سديم صنعوه بأنفسهم بتجاوزهم للواقع وأسس إشكالاته، وتغاضيهم عن ذكر حقائقه المتعقلة بآليات الهيمنة والإقصاء، إذ لم يمتلكوا الشجاعة في قول أن (أم المك عزباء) بالسوداني أي (ثيّب) بالعربي الفصيح. أو أن (البغلة في الإبريق)، واكتفوا بالحلم وبـ(الذاتي) في المسألة وتركوا ما هو موضوعي، فلم تأخذهم الرجل الواحدة بعيدا باتجاه الحلم.
ولكن الواقع اليوم تجاوز أطروحات الآفروعروبية بالذات، لأن قضية الهوية في السودان لم تعد مسالة "ذاتية" سودانية يبحث لها عن متكأ عربي أو أفريقي أو آفروعروبي أو سودانوي. كما لم تعد مشكلتها محصورة في الترميزات الاستفزازية مثل إكليشيه "منذ دخول العرب السودان" في الإجابة على طلب الجنسية السودانية، أو تسمية شارع في العاصمة (القومية) باسم الزبير باشا أكبر تاجر رقيق في السودان، ولا حتى في تجاوز قوانين الجدوى الاقتصادية واختيار مسقط رأسه (الجيلي) لإنشاء محطة تكرير البترول المجلوب من آباره في الجنوب كما سبق وتم جلب العبيد. ولكن المسألة تبدت أبعادها في الواقع المادي المتعين: في التراتبية الاجتماعية، والـAccess to Power ، وفي تقسيم العمل، وفي تجليات ما يسميه د. منصور خالد بالتعالي العنصري المستتر والأبرتهايد الديني.
وقد (جاهد) د. فرنسيس دينق لإبراز هذا الجانب ولكنه حصره خطيا في علاقة (شمال ـ جنوب) مما أنقص خطابه الماضي في سبيل الكشف عن الاشكالات الحقيقية للهوية في السودان المتعددة الخطوط.
وسنحاول أن نسرد هنا بعض الأمثلة على ما ذهبنا إليه:
فبالرغم من إلغاء مؤسسة الرق (رسميا) إلا أنها ظلت ممارسة شعبية في الكثير من المجالات.
فاجتماعيا؛ ما زالت معادلة التزاوج الأحادية مستمرة لحد كبير. وإذا كانت المسألة مفهومة ومقدرة في القطاعات الريفية المغلقة، فإنها ما زالت تفعل فعلها في القطاعات المدينية وكان من آثارها الطبقية العرقية البائنة. واستمرار الوعي الاجتماعي على أساس التقسيم العبودي عبر ما أسميناه بميكانيزم النفي البيولوجي للرجال في معادلات التخالط الاجتماعي. هذا بالإضافة للتدجين المتصاعد للمرأة في السودان كأثر مباشر لهذا النمط من الوعي الاجتماعي.
أما اقتصادياً؛ فما زال تقسيم العمل العبودي واقعاً، فقد تم إعلاء العمل الذهني على العمل اليدوي/الجسماني ـ باعتباره عمل العبيد ـ بما لا يقاس ووزع على كل فريق حظه. ومما لا يمكن أن تخطئه العين هو تجلي هذا الوعي في الواقع. فالغالبية الساحقة من (الخدامين) و(الخدامات) أي (العبيد بالمسكوت عنه) هم من أبناء الكيانات السوداء التي كانت مصدرا لتجارة الرقيق وللاستغلال العبودي. وكذلك الغسالين والكناسين ومنظفي المراحيض في كل مكان، والأعمال الحرة الشاقة في تشييد المباني والخفراء فغالبيتهم من الكيانات السوداء (جنوبيون ونوبة وغرّابة وبقارة). في الوقت الذي نجد فيه أن الغالبية الساحقة من (أصحاب الياقات البيضاء) وخاصة المراكز العليا، هم من المندوكروز Mandocoroos (جمع مندكورو ـ أي أصحاب الآذان الحمراء ـ بتعبير أهلنا في الجنوب)، بالإضافة للمنتمين إليهم قيمياً وثقافياً (مواليهم).
وفي نفس السياق تدخل اللغة واللون في تقسيم العمل (الرسمي) فكل من لديه (لكنة) محروم من العمل في أماكن معينة مثل الأجهزة الإعلام والعلاقات العامة بسبب (الأحادية الرسمية للغة العربية) واحتقار اللغات الأخرى خوفاً من إبراز وجه السودان (غير الحضاري!) وهذا بالإضافة لتقلص أعداد (الملكونين) عامة في مؤسسات التعليم العالي وما يستتبعها من وظائف، بسبب اشتراط النجاح في اللغة العربية لمنح الشهادة السودانية ومن ثم تضاؤل فرص هؤلاء في عملية الـAccess to Power.
أما موضوع اللون، فسواد لون الإنسان السوداني [كذا] كفيل بإبعاده عن العمل في جهاز مثل التلفزيون!! فهناك تواطؤ غير معلن على (الحد الأدنى من اللون) للعمل كمذيع أو مذيعة في البلد الإسمه السودان. هذا بالإضافة للتوجهات العشائرية في الخدمة العامة طبعاً.
أما على مستوى الملكية وتوزيع الثروة في السودان، فمثلا في مشروع الجزيرة تم توزيع الأراضي الزراعية في المشروع على أبناء الكيانات ذات الأصول العربية بحجة أنهم ملاك سابقين للأرض قبل قيام المشروع. بينما ترك أبناء الكيانات الأخرى يعيشون في الكنابي كعمال منذ تأسيسه في العشرينات. وقد ظل هذا التوجه مستمرا بعد الاستقلال وحتى الآن دون أن تقوم الدولة (المستقلة) التي غيرت كل شيء بمراجعة وضعية توزيع وتمليك الأراضي الزراعية ومراعاة ظروف سكان الكنابي (المزارعين الحقيقيين) المستقرين منذ ذلك الوقت. وقد ظل هذا التوجه قائما عند تأسيس امتداد المناقل بعد الاستقلال. ولكن الحجج التي كانت تساق لتبرير عملية توزيع الأراضي وتمليكها في الجزيرة، تم التخلي عنها عندما تعلق الأمر بمناطق الزراعة الآلية في جبال النوبة والنيل الأزرق وأعالي النيل. بل قامت الدولة بإزالة القرى وطرد المواطنين لإقامة المشاريع التي تم توزيعها على تجار المدن وكبار (البيروقراطية) المدنية والنظامية، الذين في غالبيتهم ليسوا من تلك المناطق.
أما تجليات القضية في السكن وتركيب المدينة السودانية، فواضح للعيان وزيارة واحدة إلى الأحياء (الراقية) ذات الطوابق وأخرى للغيتوهات Ghettos أي الأحياء الشعبية جداً تكفي للتأكد من الأزمة وتغني عن المجادلات. ومن أمثلة التوجهات المنحازة من قبل الدولة، عندما تم ترحيل كرتون شمبات إلى الحاج يوسف الجديدة، فقد قسمت الأراضي ووزعت إلى أسر كبيرة وأسر صغيرة ودرجة رابعة فيما سمي بـ(الوحدة الوطنية) ـ وهذه واحدة من الترميزات التضليلية ـ كان التقسيم في الواقع قائم على أسس عرقية وجهوية، إذ احتل أبناء المناطق المهمشة (الزنوج والبقارة) الذين هم في الواقع الأسر الكبيرة ـ بالمعيار العددي ـ مساكن الدرجة الرابعة ذات المساحات الضيقة (200متر مربع) والتي تخلو من خدمات الكهرباء والماء. بينما وزعت منازل الأسر الكبيرة وغالبية الأسر الصغيرة (الأوسع والأفضل المزودة بخدمات الكهرباء والماء) لأناس آخرين ذوي أصول عرقية وجهوية مختلفة.

أما فيما يتعلق بما يسمى بالسكن العشوائي، فبالرغم من أن معظم الأحياء السكنية في العاصمة مثلا، غير مخططة وينطبق عليها عملياً تعريف السكن العشوائي، إلا أن التكسير والإزالة تطال غالباً المناطق التي يقطنها أبناء المناطق والكيانات المهمشة بالدرجة الأولى. وبطريقة مهينة، وبدون تعويضات على الخسائر المادية. في الوقت الذي تترك فيه مناطق أخرى مجاورة تنطبق عليها كل المعايير الموضوعية، لا لسبب إلا الأصول العرقية والجهوية لقاطنيها.
ويتجلى تحيز الدولة على الأساس العرقي في ظاهرة (الكشات) (خاصة في أيام النميري)، حيث كان يتم القبض على المواطنين (السود) وترحيلهم (عراة إلا من سراويلهم الداخلية) إلى أقاليمهم بحجة تفريغ المدن من المتبطلين.
وأخيراً، المماحكة في إيجاد حلول للحرب الأهلية لأنها ببساطة تدور في المناطق المهمشة، ويتضرر منها بالدرجة الأولى أبناء هذه المناطق. بل واتجاه الدولة إلى سياسة الإخلاء والتنزيح القسري بمد نطاق الحرب إلى مناطق كان في إمكان الحكومة السيطرة عليها ولكنها تتركها كمناطق علميات وتمنع وصول المساعدات الإنسانية إليها (بسبب مركزية الطرق ـ حيث أن الطرق دائماً تبدأ من المركز ـ وسيطرتها عليها) وكل ذلك بهدف تهشيم السياق الإثني الثقافي والجغرافي الطبيعي لهذه المجموعات بغرض مسح هويتها بواسطة سياسات هوامش المدن عبر المنظمات الإسلامية. وتكشف ذلك التقارير والدراسات المتعلقة بالحرب في جبال النوبة وإثارة الحكومات للفتن العرقية في غرب السودان، وأخيرا بالهيكلة المبتدعة للإدارة الأهلية وتحيزها لبعض القبائل ضد الأخرى.
الصدام القومي ومأزق الإسلاموعروبية في السودان:
إن الوضعية التاريخية للدولة السودانية ـ كما ذكرنا ـ هي وضعية مأزومة بسبب ميكانيزمات التمركز والتهميش القائمة على التحيز على أساس الفارق الإثني الثقافي، ومن ثم استثمار جهاز الدولة إقصائيا وتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل، والديني واللغوي والجهوي مع السياسي، فمن الطبيعي أن ينشأ صراع الهويات. ولأن هذه الوضعية تتناقض جوهريا مع الديمقراطية والتنمية، فكان لابد من أن تتولد المضادات الأيديولوجية للمركزية المسيطرة. والآن، بعد تتويج مشروع المركزية الإسلاموعربية في السودان نفسه في نظام الجبهة الإسلامية (المشروع الحضاري) الذي أخرج المسكوت عنه إلى حيز الممارسة العلنية، وتشديد الخطاب في قمة تجلياته الدينية لمواجهة نهوض القوميات وخاصة المسلمة منها، وبعد تفشي الحروب الأهلية، فقد وصلت الأزمة إلى قمة تجلياتها. والواقع هو أن ما تفعله الجبهة الإسلامية كان دافعه وعيها الحقيقي بمهددات هذا النهوض القومي للمركزية الإسلاموعربية وهيمنتها ومكاسبها التاريخية. إن الشراهة في النهب والتفكيك والاستيلاء والعنف الزائد هي في الواقع محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ـ لذلك سمو أنفسهم "ثورة الإنقاذ" ـ لإحساس النخبة الإسلاموية باحتمالات ما يمكن أن تؤول إليه الأحداث وحتى لا تخرج من المولد بدون حمص قبل (التحول التاريخي) فهي كانت تسابق الزمن للخروج بأقل الخسائر عامة وبأكبر المكاسب الحزبية خاصة، لذلك أقنعت نفسها بدور الوصي على الكيان. وجملة القول، أن الإسلاموعروبية في السودان في مأزق خطير، فالتاريخ قد كشف عورتها التاريخية، والواقع قد أنتج أو في طريقه إلى إنتاج مضاداتها الأيديولوجية المكافئة قوة ووعياً، وهي من جانب آخر عاجزة عن التخلي عن مكاسبها غير المشروعة في سياق الدولة الوطنية في السودان.
الريتوريكا وازدواجية الخطاب الإسلاموعروبي في السودان:
ففي سياق تأرجحه بين (الإسلامي) و (العروبي) من جهة، و(الوطني) و(الأممي) من جهة أخرى، فإن الخطاب الإسلاموعروبي ظل مستنداً في جله على النزعة البلاغية والإنشائية العاطفية (الريتوريكا) المستترة وراء الترميزات التضليلية كالقومية، والأمة السودانية والوحدة الوطنية وبقية المصطلحات المذكورة، بالإضافة لاستضمان إكليشيهات التعددية والتنوع كديكور خطابي يقوم بطلاء برنامج (بوتقة الانصهار) التذويبي سبب المشاكل في السودان. وبذلك فهو محدد بوعي (الهيمنة والإقصاء). ولا ننسى تضامن جميع أطرافه في المغالطة إزاء وقائع الاسترقاق التي تدور في السودان هذه الأيام.
من جانب آخر هو أيضا خطاب مزدوج ومتناقض ويقوم على مبدأ الكيل بمكيالين؛ ففي مواجهة (الغرب) يستعمل كل أدوات النبذ للهيمنة والقهر الثقافي وإلحاق الحضاري بحجج خصوصية القيم الثقافية والدفاع عن الهويات الحضارية والدينية، ورفض آليات الإقصاء القائمة على اللاتكافؤ بين المركزية (الغربية) وهوامشها في العالم الثالث، والدعوة إلى إعطاء الفرصة للثقافات والحضارات المختلفة للمساهمة (بعدالة) في تحديد ملامح الحضارة الإنسانية؛ وكل ذلك صحيح في رأينا؛ لأنه بالرغم من أن حياة البشر في تحولات مستمرة، وأن مسألة الانتماء والهوية "قابلة للتغير والتبدل وهي مع ذلك مفهوم ديناميكي قادر على التكيف" إلا أن المسألة لا تتأتى بضربة لازب أو بالإكراه لأن منظومات القيم التي تشكل معنى حياة الإنسان في مجتمعه لا يمكن إزالتها جزافاً وبمبررات (برانية) بل هي عزيزة ولا تشترى إلا بعملة (التاريخ). ولكن هؤلاء الإسلاموعروبيين أمرهم عجب! فبمجرد الانتهاء من الخطب الموجهة إلى الخارج، والالتفات إلى الداخل، يدعون ذلك دبر آذانهم وأعينهم ويصادرون حق الآخرين بـ(التلفُّظ بهذا المنطق) مدخلين أياديهم في جيوبهم الأيديولوجية مخرجين الدمغ والأختام والسكاكين. فكل داعية لحقوق خصوصية ثقافية وإثنية في السودان عنصري. وكل متكلم عن حقوق سياسية للقوميات الأخرى وشائر إلى حقيقة هيمنة ومركزية الإسلاموعروبية، معادٍ وكائد للعروبة والإسلام، وربما عميل للغرب. وكل مطالب بعدالة اقتصادية للأقاليم (المهمشة) داعية للتشرذم وتفتيت وحدة الوطن. والجهة الوحيدة المصرح لها بالكلام هي (الإعترافية الرسمية) أي مركزية الذات الاسلاموعروبية التي لا يتجاوز اعترافها الأعور ـ الذي يسكت عن ممارساتها التاريخية ـ تسويد أوراق المؤتمرات والدساتير والقوانين التي لا تساوى قيمة الحبر الذي تكتب به. ويظل هذا (الاعتراف) في حد ذاته شكلا من أشكال الاستعلاء، طالما هناك جهة (ترانسدنتال=أولية ومسلمة سابقة لإجراءات المنطق) (تعترف) (كاعتراف الأب ببنوة إبن الحرام تفادياً للمشاكل) وتفترض في نفسها أنها هي التي (توزع) الحقوق دون أن تسمح بمناقشة المصدر الذي (اشترت منه ملكية الدولة) الذي أعطاها هذا الموقع الاعترافي التوزيعي المعطاء.

المآلات المحتملة وآفاق الحلول:
كما ذكرنا، أن جدلية المركز والهامش، هذه الوضعية التاريخية المأزومة قد وصلت أزمتها (في السودان) إلى قمة تجلياتها بتفشي الحروب الأهلية. ومنهجياً، ليس بمقدورها إعادة إنتاج نفسها واستمرارها مرة أخرى، وتبقى مآلاتها في الاحتمالات التالية:
1
ـ قيام الثورة: وذلك بتشكل كتلة تاريخية Historical Mass عبر تحالف الكيانات المهمشة مع قوى الوعي والتقدم في (المركز) للإطاحة بهذه الوضعية التاريخية التي باتت تضر بغالبية الناس في السودان بمن فيهم السواد الأعظم من أبناء المركز أنفسهم. وبالتالي تأسيس الأوضاع بشروط جديدة تستند على حقيقة التعددية وتلتزم بتوجهات العدالة والمساواة والتعايش السلمي، والارتفاع بقضية الهوية المشتركة ـ هوية الدولة ـ من الظرفية إلى التاريخ (أي لكل هويته والدولة للجميع) حتى يحكم التاريخ في مسألة (الذاتية السودانية) جيلا بعد جيل. أو؛
2
ـ التسوية التاريخية: إن لم يتيسر قيام كتلة تاريخية ناضجة وقادرة على إنجاز فعل الثورة لأي أسباب أو تداخلات أخرى، فتبقى المسألة مرهونة بمقدار التنازلات التي يمكن أن تقدمها النخبة الإسلاموعربية (يمينها ويسارها) واستعداد قوى الوعي والمهمشين للتضحية للاتفاق على برنامج حد أدنى مثل (ميثاق أسمرا للقضايا المصيرية) والالتزام به مما قد يؤدي ـ على المدى الطويل ـ إلى التحولات الضرورية، وإنجاز ما كان يمكن أن ينجزه فعل الثورة. أو؛
3
ـ الانهيار: فإذا استمرت المساومات السياسية التي لا تعنى بجوهر المشكلة، واستمر العجز عن تشكيل كتلة تاريخية ناضجة (وعيا وقوة) وعجزت المركزية عن تقدير الواقع حق قدره وأصرت على مشروعها، فيبقى احتمال الانهيار على شاكلة الصوملة أو تفتت الدولة السودانية إلى أقاليم متحاربة. ولا تستبعد التدخلات الخارجية كنتيجة طبيعية لذلك. وقد يكون انفصال الجنوب البداية لهذا الانهيار، وربما ساعد ذلك في إعادة الإنتاج للأزمة في السودان الشمالي واستمرار الوضعية فيه إلى حين اكتمال نهوض قوميات الأخرى والدخول في مأزق جديد. مع احتمال نشوء نفس الأزمة في الجنوب إن لم يستفد الجنوبيون من الدرس التاريخي.

خاتمة:
إذن فقضية الهوية في السودان، معقدة للغاية. ولا يمكن حلها بآليات الحسم الظرفي والطلاء التنظيري المثقفاتي. ولم يعد ممكنا التحايل على الواقع بدعاوى الحرص على وحدة أو مشتركات واقعية أم مفترضة. وأن المشكلة في جوهرها ليست في نظام الجبهة الإسلامية فحسب بل في الوضعية التاريخية وهيمنة (المركزية الإسلاموعروبية) برمتها. وبالتالي بات من الضروري مناقشة هذا الواقع بوضوح حتى تقوم علاقات المستقبل ـ إن أريدت ـ على الحقائق الكاملة والوعي الكامل وليس على (التلغيم) بالأجندة السرية أو الغش والتدليس، لأن من هو جاهل بالحقائق اليوم لابد عارف بها غداً. ومن لا يملك سلاحاً اليوم يدافع به عن هويته وحقه المستلب تاريخياً، فلابد مالكه غداً. وقد يكون سلاحاً ذرياً فليس ذلك بمتعذر في عالم اليوم. وهنا لن تغني المجادلات عن الحق في شيء.
وإن أردنا أن نبقى سوياً فلابد من العمل على إعادة تأسيس (الدولة) على (شرعية الاختلاف). ولتبقى المشتركات زاداً للمسير. وعلى رأي عبد الله علي إبراهيم "فأهدى السبل إلى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الإقرار بقوامين أو أكثر للثقافة السودانية" ولسياسات الدولة السودانية. وعلى حد قوله "أن يكف أبناء الشمال العربي المسلم عن خلع حضارتهم بدعوى الهجنة" ولكن الأهم في رأينا هو أن يكف (هؤلاء) ومعهم عبد الله على إبراهيم عن فرض هويتهم على (الدولة السودانية) وأن يقروا بحقائق التاريخ. وهي (نعم) أن الحضارة العربية الإسلامية كانت في يوم من حضارة عظيمة، ولكنها أكملت دورتها وانهارت كما انهار (الاتحاد السوفيتي). ونرجو من الدكتور عبد الله على إبراهيم أن يبصر أهله بأن التاريخ ليس (بعيراً) يمكن قيادته إلى حيث نشاء (الرُّجعى). وأن (النهر لا يمكن عبوره مرتين). ولهم بعد كل ذلك مطلق الحرية في تنكب هذا الطريق. لكن دون أن يحاولوا سوقنا معهم فيه. وأنه كما للهجناء الحق في أن يكونوا عرباً أقحاحاً أو يدّعون، فللآخرين أيضاً حرية أن يكونوا دينكا ونوبا وفور وبجا. وأن يدّعوا الأنجلوساكسونية والفرانكوفونية والأمريكانية والكنغولية والآرية كما تُدّعى العروبة، وأن ينضموا إلى الكمونولثية وحلف شمال الأطلنطي كما هم منضمون إلى جامعة الدولة العربية، دون أن يصادرهم الإسلاموعروبيون عبر أجهزة الدولة بادعاءات الحفاظ على هوية حضارية (للسودان).
د. ابكر ادم اسماعيل
القاهرة ـ ديسمبر 1999م