Powered By Blogger

الأربعاء، يونيو 27، 2012

إليها ، الحاضرة الصامتة ... !

                                                         - أراغون - 
تركتني من كل الأبواب

لم تكوني في أي مكان أصل إليه

من يمكن أن يقول صحارى غرفة من دونك

جموع الأحد حيث لا يشبهك شيء

النهار أكثر فراغاً من جسر صوب البحر

الصمت حين أناديك ولا تجيبين

تركتني أيتها الحاضرة الجامدة

تركتني في كل مكان تركتني بعينيك

بالقلب الأحلام

تركتني كجملة ناقصة

متاع صدفة، شيء، كرسي

معطف في آخر الصيف

بطاقة بريدية في درج

سقطت كل حياتي منك لدى أدنى حركة

لم ترني أبداً أبكي من أجل وجهك المشيح

نظرتك في قراري

آه كنت غائباً عنها

هل أشفقت مرة على ظلك

عند قدميك.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
*
لويس أراغون
Louis Aragon
1897-1982
France

ولد في 2 اكتوبر عام 1897
رائد م نرواد النقد الأدبي والفني الواقعي
شاعر وقصصي وصحفي وناقد كبير
وقف بقوة إلى جانب شعوب فيتنام والجزائر كما وقف إلى جانب مصر أثناء العدوان الاستعماري
اشترك في تأسيس مجلة الآداب الفرنسية
مؤسس اللجنة الوطنية للكتاب وهي الجبهة الثقافية في فرنسا
تزعم المدرسة السريالية في الشعر والأدب بين عام 1920-1930
تحول عن السريالية بعد التقائه بزوجته الزاتريوليه واعتناقه الفلسفة
الاشتراكية ثم انضمامه إلى العمل الحزبي في سنة 1932
كان منذ عام 1932-1939 من أقوى المناضلين ضد الفاشية والحرب
منذ 1945 وهو يدير الحركة الثقافية والأدبية النقدية في فرنسا بوصفه رئيس تحرير الآداب الفرنسية ومدير دار الناشرين الفرنسيين المتحدين ونائب رئيس اللجنة الوطنية للكتاب

سجن خمس مرات بسبب كتابة قصيدة "الخطوط الأمامية الملتهبة"
عمل فترة من الوقت محررا في كل من :"الاومانيتيه" و"سي سوار"

من مؤلفاته الشعرية "قلب كسير" و "عيون إلزا" و "متحف جريفان" و "ديانا الفرنسية"
يعتبر كتابه "أحاديث الغناء الجميل" من أهم ما وضع في نظرية الشعر المعاصر
أجمع النقاد على اعتباره من كبار كتاب القصة الواقعية لأعماله القصصية الرائعة وخاصة سلسلة "العالم الحقيقي" التي تشمل "أجراس مدينة بال" ثم "الأحياء الجميلة" و"المسافرون على عربة امبريال" و"اورليان" أصدر في مجال النقد والنظرية الجمالية: "بحث في الأسلوب" "الثقافة والانسان" "من اجل واقعية اشتراكية" "ستندال" "الآداب السوفيتية" لعبت "الاداب الفرنسية" التي يرأس تحريرها دورا هاما في التعريف بأدب شمال إفريقيا العريبة "المغرب وتونس والجزائر".




                                                                      

الجميلون في عصرنا ... !

محمد وردي ، مارسيل خليفة ، ومحجوب شريف : الموسيقي ، الغناء ، الشعر و ... المواقف الباسلة !

ديشاب : الكائن الشعري ... !

                                                             * ديشاب *
ديشاب* ، الكائن الشعري ... !*
---------------------------                         

ما هذا الذي يتقوض في نص ما
و ... يتسكع ،
هذا الذي يجب الإنصات إليه ،
وعي الكتابة ،
أم كتابة الوعي ؟
كتابة ...،
لم يقل لها أحد بمراجع
ولا الدوزنات في كون
غدا في التسارع .
مرح الكتابة حين تلامس الجسد
تراوغه ،
فتعريه ...
حتي تصير في بهائه الأبد !

ديشاب ، رأيته الشاعر منذ أن كان ، شاعرا في زمان خشن بأمثولاته الضاجة بالفحيح في جهاته كلها ، في بلبال السائد المشوه ، حيث الصراخ لغة ، حين يهان المعني فيبدأ الشعر ويطلع . فليس ثمة " ألعاب " في الشعر ، بل مجازفات دموية تستنزف اللغة ... ، كالفصد ، لتحيا أو تموت كما يقول بركات . الشعر ، إذن ، جزء ناصع من القدر الإنساني ! لهذا أمتهن ديشاب اللغة ، أحتفي بها ، ثم جعلها في شعره بستان ورد و جرح . كان غريبا في أطواره حياته ، ولا يزال ، غريبا في لغته و شعره حين إلتقيناه آواخر سبعينيات القرن الماضي ، وهو – غارقا وسط الرعيل الباسل – يؤسسون " رابطة أولوس " بكسلا ، فتصالح الشاعر معها ومنحها رحيقا ولغة وضوء و ... شعرا ! كنت أراه ، وقتذاك ، كأنه يمنحها الصور البديعات مؤجلا فكرة القصيدة نفسها بإستمرار عبر تهجيرها من مسكن كينونتها وتعويضها بأطروحات برانية ، لأن القصيدة لديه – هكذا رأيته يومذاك – صارت " لحمته " الجوانية ، ماهيته التي يتكلمها كلامه وعالمه في آن ، تماما كما هي ملاذا حتميا تسكنه وتساكنه الكينونة ذاتها ! ولأنني – وقتذاك أيضا – كنت أري في الشاعر حافظ وجوه الكائن اللامتناهية كما يقول رونيه شار . فلقد سألت نفسي كثيرا و ... سألته : ما الذي يجعلك " أساسيا " في الشعر ، هل هي " الوجازة " الغمامية التي تسم شذراتك أم هي سيلانات اللغة إذ تنسكب لديك في كينونة الأقامة الأصيلة داخل زمن الصباحيين ، والإنصات الحميم / الرحيم / الرجيم للتراب ، لترسبات أسرار ترقص وترتعش بنشوة شاعرية الصحو المحتشم و ... " بجينات " رشيقة تسعي لنحت ممرات ممكنة داخل مناطق رؤي غرائبية تراها أنت موصدة ؟ هل هو التجاور الخلاق الذي بلورته تجربته بين الشعر واللغة ، بين النوبية والعربية ، أم هو تأكيده المستمر لطرحه الشاعر في الناس كحافظ لوصايا وحيوات الآلهة في وضع غياباتها التاريخية وأوجاع الدين والتدين في سماتها المرعبة / المنافقة الكاذبة ... أم – وهو الشعري في إبداعية كينونته نفسها – ليبدع صيغة شعرية نحو " المقدس " ، والمقدس عنده هو اللغة لا غيرها ، أم هي كثافة الإلتزام التي تجعل منهما – الشاعر والشعر واللغة – وحدهما يهمانه بهذا القدر الكبير الغريب ، إلي حد " تشييد " الكتمانات في دواخله كأرقي أشكال تمظهرات القول واستنطاق الفواصل الصامتة ، الرابطة بين فصولها ووجوهها ؟ لا ... ، لم يكن ، أبدا ، ديشاب مجرد شاعر ، بل هو الكائن الشعري بإمتياز . فهو من يجعل الكلمات إحالات وإشارات ... ياااه ، رأيت هنا أيضا ، الشاعر يشير فيكتفي بالإشارة ، شأن عراف معبد دلف ، الذي لا يكشف ولا يخفي لكنه يشير و ... يكتفي بالإشارات ، يتكلم من خلالها ، لا يشرح ولا يبين ، فيفضي إلي موطن عتماته الشمسية التي يراها عبر صور ملمومة علي بذخ معانيها ، يسمي الأشياء ، لا عبر إخضاعها لسلطة " التسمية " بل عبر إستدعائها من إنكتامها ، من عنفها وتشوهاتها ، ليجعلها حرة طليقة تمشي مفكوكة الشعر تغني هذياناتها ، لكنه ، الآن ، يذهب بها – وهو برفقتها – نحو إرثها المعتم غير المعروف ، ليكشف عنها سترها لنراها ...، ذهب ، عميقا ، نحو مادتها الخام حيث تكون متجذرة في لمعان عناصرها التي لا تخبو . يكتب ديشاب كثيرا ويتعذر عليه الغياب طويلا عنها ، وهو الكائن الشعري ، ليس جسدا منسوجا من اللغة وحدها ، بل من " الخيمياء " الحميمة أيضا ، من المعيش الخلاق لحياته والحيوات من حوله ، محكوما بضرورياتها الإبداعية السيدة ... ، بتجربة الكينونة / كينونته ، داخل العالم التي تنخرط في أعمق تجلياتها وأكثرها أشراقا وشفافية ، تعتصر نسغ كلامها من نداءاته ، وتجعل " الشروخ المعتمات " التي يراها ، مضاءة بعزلته المجيدة في وطنه وادي حلفا الذي أبي إلا يكون المهاد لتلك العزلة المجيدة وإنتساباته الرحبة : يفكر ديشاب ، إذن ، شعريا في اللغة النوبية والنوبيات بإتجاه حضور الراهن وفي معيته ، الذي يغدوا فضاءا مفتوحا علي رحاب إتيان يحرر اللغة ، لغته الأم كما يسميها ، من سكونها وسياجها ، ويدفع بمصابيحه ، الكاشفات العاريات كلها ، إلي إضاءات الدغل ! شذرات ديشاب النوبية هي – في ظني – وثبات شعر ، هي الحياة المستقبلية داخل الإنسان المؤهل لقراءتها ثانية ، وثبات متناسلة ، إستغوارات تنتخب كل مرة أسئلتها الشعرية : هل بامكان العتمات أن تصير في الضوء داخل " قول " يدرك ، ويزن ، بحدس العراف ذاك ، رهانها وفداحتها ؟ و ... إلي أي حد يستطيع الشاعر أن يقود تجاربه للمكنات عبر وعورة الطريق وخشونته ، قولا وفعلا ، وهو القول / اللغة التي تظل بكرا رغم إبحاره الجسور فيها ؟ وأين ستجد عنده تجاريب اللغات ، بكثافتها الباذخة ، سيادتها ، وأين سيكون مستقرها ، وهي المولعة بالزواج ولقاحاته الحامضة ولذاذاته ، ثم كيف سيصير ، مجنون اللسانيات واللغات هذا ، عرافا يتكهن بما ستكون عليه تلك الجميلة في الجميلات ؟؟
   أيكون لهذا قد توجه صوبها : اللغة النوبية ، ثم جعل يقلب منها وجوهها وأرديتها وفساتينها ورائحتها الشذية ؟ وفي النوبية – وهي اللغة – إيقاع وصور ومعاني ، فيها الغناء والرقص الرشيق ولذة الإيحاءات والإيماءات والنداءات التي تلامس الأفئدة فترقشها وتوشحها فتجعلها أسيرة فتنتها ، هي ، مثل ما رأها ذات يوم بعيد ، " صبية تخرج مبتردة من النهر " جميلة مثل الآلهات أخوات السماء في الأرض فلاذ بها ، أم تكون هي التي إلتجأت لأحضانه الرحيمات ؟  كنت ، لما رأيته يذهب فيها ، هذا المذهب مجنونا بها ، دارسا ومنقبا وباحثا بهذا القدر الكبير التي الذي تنوء عنه المؤسسات ، ليس كتابيه اللذين صدرا له مؤخرا : " النوبية في عامية السودان العربية " و " النوبية في شعر بوادي السودان " فقط ، بل في أكثر من عشرين مخطوطا في النوبيات تنتظر الطباعة والنشر ... لما رأيته في هذه الحفريات الشاقة ودروبها ذوات الوعورة التي تستوجب التوفر والصبر الكثير علي مشقاتها ، سألته ، مشفقا وقلبي علي شعره العظيم وشعريته الباذخة : "لقد أخذتك النوبيات عن حديقة الشعر إلي شعرية اللغة ، فما وجدت لديك شعرك المجيد كالذي كنت ، في ما سبق ، تقراءه فينا !!" . لتوه بادرني بضحكته الطفولية التي يفصح عنها ، دائما ، قلبه البرئ كقلب طفل : " الشعر موجود ... موجود ! " . ثم منحنا - مأمون التلب وأنا – عشر قصائد كاملات مؤرخات بزمان كتابتها ، حين نظرتها وجدتها من شعره القديم ، وقرأت تعابيرا في بعضها سبق لي أن أطلعت عليها وعلقت بقلبي منذ سنوات عديدة ، لكنني ، لا أزال ، أنتظر جديده الشعري الذي سيطلع يوما ما في الناس لا محالة ! وهكذا إذن ياصديقي، تري أن المخيلة هي القدر نفسه واقعا في العالم ، والحقيقة " الواقعية " ما هي إلا ثرثرة في علوم القدر ، فواجه إذن ، أيها الكائن الشعري الجميل ، تجليات ثرثرات مخيلتك الرحبة وثرثرات علوم القدر ... وياديشششششششاب : " كأسك ياوطن " !! .

-------------------------------------------------------------------------------------
* كان مقدرا لهذه الكتابة أن تنشر اليوم  الثلاثاء بملف " تخوم " الثقافي بصحيفة " الأحداث " ولكن – للأسف العميق – توقفت ، منذ الأمس  واليوم ، الصحيفة عن الصدور ، ولربما لن تصدر إلا مطلع الأسبوع القادم بحجة " عدم توفر الورق وإنعدام الدولار " ، تلك هي الحجة المعلنه ، لكنني أري أصابعا قد عبثت أيضا لتصنع في الناس هذا الحجب البغيض ! كان الملف بكامله قد خصص عن تجربة ومشروع " ديشاب " ، الشعري وفي درس اللغات والنوبيات في وجهاتها الفسيحة ... ننتظر ، أيضا ، لنراها كلها تلك الكتابات حول إنشغالات هذا الإنسان الجميل !
* " ديشاب " : هو الشاعر السوداني والباحث في اللسانيات والنوبيات ميرغني ديشاب !
                                                              

الأحد، يونيو 24، 2012

كمال الجزولي : في رحيل نقـــــــد ... !



نصٌّ محوَّل من حوار صحفيًّ إلى مقالة)

(1)
إنْ كان ما يعنيه الموت هو فناء الخلايا الذي لا بُدَّ أن يحيق يوماً ما بأيِّ جسد حي، فلا جدال فـي أن ذلك قد حدث، بالعاصمة البريطانيَّة، لمحمد إبراهيم نُقُد، السكرتير العام للحزب الشِّيوعي السُّوداني، بعد ظهيرة الثاني والعشرين من مارس 2012م، مثلما يحدث لكلِّ الناس، بإرادة الله التي لا رادَّ لها، طال الزمن أم قصُـر.
ورغم أنه لم يرحل بغتة، بل هيَّأنا لذلك تماماً، إلا أنني أكذب، قطعاً، إن قلت إنني تجاوزت الصَّدمة، أو إن بمستطاعي تجاوزها فـي المستقبل القريب. إن بعض الفقد يُتْمٌ، ونُقُد، بالنسبة لـي، لم يكن فقط قائدي السِّياسي والفكري الذي لطالما تشـرَّفت، علـى مدى سنوات طوال، بالاصطفاف فـي النضال خلفه كواحد من عشرات الآلاف من الزملاء، بل كان أكثر من أخ أكبر، وأكثر من وليٍّ حميم، جمعتنا ذكريات كثيرة، مع أصدقاء مشتركين أوقن تماماً أن الأحياء منهم يقاسمونني، ولا بُدَّ، شجن الرحيل، وفداحة الخطب، ومرارة الإحساس الشَّخصـي بالفقد، ويدركون، بوجه خاص، أطال اللـه أعمارهم، معنى كل حرف أذرفه، هنا، فـي ذكراه العطرة، وفي سيرته النضرة، علـى نواقص العبارة، وعلـى قصور التَّعبير، بمثل ما ذرفت من دمع ربما لم أكن لأتصوَّر فـي أيِّ يوم أن بمقدوري أن أذرفه؛ جعل اللـه البركة فيهم، وفينا، وفـي أهله، وفـي الحزب، وفـي السُّودان، ونسأله، جلَّ وعلا، أن يتغمَّده برحمته، وأن يلهمنا الصبر من بعده.
لكن نُقُد، من الناحية المعنويَّة، لم يمُت، ولن يموت، وما تلك محض حماسة لفظيَّة؛ فالرَّاحلون يخلدون بطيِّب الذكرى وجليل الأعمال، لذا، سيبقى الرَّاحل العزيز حيَّاً فـي إرث الحكمة والاستنارة الهائل الذي تركه، لا للحزب الشِّيوعي السُّوداني وحده، ولا للحركة الشِّيوعيَّة الإقليميَّة والعالميَّة فحسب، بل وللأجيال القادمة من السُّودانيين قاطبة، أولاداً وبنات، ليس فـي السِّياسة أو الفكر فقط، وإنما، أيضاً، وربَّما قبل كلِّ شئ .. فـي أفق القيمة الإنسانيِّة.
لقد كان، فوق كاريزميته التي بوَّأته مكانة عليَّة فـي قيادة الحزب والحركة الوطنيَّة، إنساناً بسيطاً، شفافاً، يتلألأ بقدر عظيم من المعني الإنساني الرفيع. كان يغالي فـي بغضه، لا لـ "الملكيَّة الخاصَّة" فحسب، بل وحتى "الملكيَّة الشَّخصيَّة" المقبولة ماركسيَّاً! كان يحبُّ أن يهدي أشياءه على بكرة أبيها، ولا يطيق أن يحتفظ لنفسه بشئ أبداً! أهداني، مرَّة، ساعة يد، وعندما أهديته، بالمقابل، ساعة جيب سارع إلى إهدائها هي الأخرى. وبعث إليه أمين مكي، عن طريقي، بباقة قمصان أنيقة من غزة، فأهداها كلَّها! ولدى زياراته الرَّسميَّة لبعض البلدان تغدق عليه الهدايا، فلا يهدأ له بال، عند عودته، حتى يوزِّعها جميعاً .. وهكذا! كان بلا شبيه، تقريباً، علـى هذا الصعيد!
كانت نفسه الكبيرة تذخر بفيض دافق من الرِّقة والحنان؛ وكان يكفيك، كي تلمس شيئاً من ذلك، أن تسمعه يحدثك، هاشاً، وعيناه تبرقان بذلك الشَّغف العجيب، عن بعض الأماكن، كالقطينة أو حلفا أو مدني أو حنتوب، أو يذكر، بتقدير كبير، أصدقاء له من غمار الناس علـى عهدي الطفولة والصِّبا الباكر، أو يجترُّ ذكريات بعيدة، سواء مع أهله، وفيهم، بالأخص، أخوات وخالات وعمات كان يترفق بهنَّ، ويعطف عليهنَّ، وقد بكينه بدمع الدَّم، أو مع زملاء قدامى يناضلون بتواضع جمٍّ، كما الجنود المجهولون، فـي قواعد الحزب. وقد يندهش الكثيرون إذا عرفوا أنه، علـى مبدئيته الصَّارمة، لم تكن له، مع أحد من الناس، عداوة لأسباب خاصَّة، مطلقاً، ولم يكن يبغض إنساناً، قط، فـي المستوى الشَّخصـي .. ولا حتى جعفر نميري الذي بقي يطارده بالموت طوال أنضـر سنوات عمره!
هاتفته، ذات مساء، أنقل إليه خبر وفاة أحمد سليمان المحامي، ومعلوم، بالطبع، أن المرحوم أحمد كان ضالعاً، فكريَّاً وسياسيَّاً، في الانقسام الأشهر الذي كشف ظهر الشيوعيين، أواخر ستينات ومطالع سبعينات القرن الماضـي؛ مع ذلك لمست حزناً صادقاً عليه لدى نُقُد الذي طلب مني، علـى الفور، أن انتظرهما، هو وشقيقه سيِّد، لنذهب معاً للمشاركة فـي التشييع! وفي منطقة أبوروف، حيث منزل المرحوم أحمد، كانت الكهرباء مقطوعة، ذلك المساء، والظلام دامساً، لكن صديقنا القديم عثمان النصيري، صهر المرحوم أحمد، ما لبث أن تعرَّف علينا، فأحسن استقبالنا، ودلَّ علينا الأقارب الآخرين فهبُّوا يتلقون عزاءنا، وإنْ هي إلا لحظات حتى انساب الخبر إلـى داخل الدار، فخرجت إلينا السَّيِّدة نعيمة بابكر، أرملة المتوفي وابنة عمه، فـي جمع من نساء العائلة، يتلقين، بدورهنَّ، العزاء من نُقُد ومرافقيه؛ ثم مشينا خلف الجُّثمان إلـى مقابر أحمد شـرفي، فكان الناس يتزاحمون لتحية نُقُد ومصافحته، ولسان حالهم يقول: "عشت أيَّها الرَّجل الكبير"! كان الجَّميع منفعلين بذلك المعنى الإنسانيِّ العظيم، الموقر، بوجهٍ خاصٍّ لدى شعوبنا بمختلف قبائلها وتكويناتها القوميَّة، حين يهون، فـي مشهد الموت، كلُّ خلاف دنيويٍّ مهما كان، ولا يعود حاضـراً، ساعتئذٍ، سوى فداحة الفقد، وحسن الاستغفار، والترحم.
وعلى شدة الصراعات السياسية التي خاضها نُقُد فإنك لن تجد من يقول لك إنه سمعه، يوماً، أو رآه يعنِّف إنساناً، مثلاً، أو يتجهَّمه، لسبب شخصي، رغم أن تلك الانفعالات، فـي رأيي، قد تمثل، أحياناً، تنفيساً تلقائيَّاً مشـروعاً عما يعتمل فـي الصَّدر من مشاعر ضاغطة تكاد تشقه نصفين! كما وأن ثمَّة، فـي هذه الحياة، من يستحقون، بالفعل، تفجير شئ من هذه الانفعالات فـي وجوههم، خصوصاً لما يتَّسم به سلوكهم من وضاعة وكذب ورياء ونفاق! سوى أن نُقُد، برغم شدَّة مقته لمثل هذه المثالب، كان لا يكاد يستوقفه شئ منها إلا حين كان يمسُّ قيمة من قيم العمل العام، أما ما كان يمسُّه فـي المستوى الشخصـي، فإنه سرعان ما كان يتجاوزه، ويمرُّ به مرور الكرام، بل ويضـرب عن سفالات أصحابه صفحاً جميلاً هو إلـى التجاهل أقرب، خصوصاً من كان يتعمد منهم الإساءة إليه وإيذاءه وتجريحه! كان حمولاً، صبوراً، جلداً، يستعين علـى المكاره بحكمة مشهودة فـي تفجير طرائف يعممها فتهدي، ولا يخصصها فتؤذي!
على أن شيئاً من ذلك كلِّه لا يعني، البتّة، أنه لم يكن لديه رأي سالب فـي أحد، فمجال السِّياسة نفسه الذي سلخ فيه عمراً بأكمله، هو، بطبيعته، مجال صـراعات تكاد لا تهدأ. ونقد بشـر وليس ملاكاً. لذا كان لديه، بطبيعة الحال، رأيه السَّالب فـي كثيرين، وفـي كثيرات، وفـي أمور شتَّى! مع ذلك، كان دائم النَّأي بنفسه عن الاشتغال بالفارغة! كان يزعجه، مثلاً، الابتذال حدَّ إثارة إحساسه بأقصـى درجات القرف! لكنه كان يغالب النفس، ويأخذها بالشِّدة والمراقبة الصـَّارمة، فلا يغادر جانب الموضوعيَّة أو عِفَّة اللسان، قط، فـي تعبيره عن وجهة نظره، مما ظلَّ ينأى به عن غثِّ القول، دون تفريط فـي قيمة النَّقد الصـَّريح والمبدئي، بعيداً عن المجاملات الفجَّة والترضيات المجَّانيَّة؛ علـى أنه كان أميل ما يكون، فـي العمل العام، إلـى مزاج العفو دون إهدار للحقِّ، وأبعد ما يكون عن مشاعر الثأر بلا تفريط فـي العدل، ولعلَّ هذا ما يفسـِّر حماسته الكبري لفكرة "العدالة الانتقاليَّة" المفضية، حال اكتمال أشـراطها، وعلـى رأسها الكشف عن "الحقيقة" وإشاعتها، إلـى تطييب النفوس، وإبراء الجِّراح، وإفساح المجال، من ثمَّ، للتَّسويات والمصالحات التَّاريخيَّة التي من شأنها فتح الأبواب علـى مصاريعها أمام إعادة صياغة الدَّولة والمجتمع بشكل إيجابي؛ وليس صدفة أنه خصَّ دعوته إلـى ذلك بجانب غير يسير من خطابه الشهير أمام الجَّلسة الافتتاحيَّة لمؤتمر الحزب الخامس!

(2)
وعلى كثرة ما كان يتَّسم به الرَّاحل العزيز من صفاتٍ طيِّبة، فإن المُرونة ونفاذ البصيرة تكادان تشكلان السِّمَتَين الأكثر بروزاً في شخصيَّته .. كان مرناً جدَّاً لدرجة أن طرفيه قد يلتقيان .. دون أن ينكسـر قط! وكانت له بصيرة نافذة بشكل مدهش، وربما يكفي أن نذكر دعوته الباكرة إلـى "مشاكوس أهلـي" حول دارفور، والتي كان قد طرحها في أوَّل وآخر حوار له في ظروف اختفائه، وكان أجراه معه الأستاذ عمر العمر لصحيفة "البيان" الإماراتية، وذلك عقب توقيع بروتوكول مشاكوس عام 2002م، في وقت لم يكن أحد قد انتبه بعد لوجيب الجلجلة فـي دارفور، والذي ما لبث أن استحال إلى حريق شامل، بعد وقت قصير من جرس الإنذار ذاك الذي أهمِل للأسف!
كانت لديه، دائماً، حياتان: إحداهما "تحت اﻷرض"، حسب المسكوكة الشَّعبيَّة الرَّائجة، وذلك كلما حزب أمر الشُّموليَّة، واضطره للاختفاء اضطراراً، لا اختياراً كما يشيع البعض تنطعاً! ولأن حياة "المخابئ السِّياسيَّة" عادةً ما تكون محفوفةً بالمخاطر، فإن أكثر ما كان يشغله، فـي هذه الناحية، هو صون أسـرار الاختفاء، وعدم السَّماح لكائن من كان بالاقتراب منها! جهة واحدة كانت، بطبيعة الحال، تشكل، افتراضاً، الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة الصَّارمة، هي الجهة الحزبيَّة الموكل إليها أمر تأمينه!
بعد وقت قصير من عودتي من الدِّراسة في الاتحاد السُّوفيتي عام 1973م، تمَّ تكوين المكتب المركزي للفنَّانين والأدباء الشِّيوعيين، فألحقتُ به تحت المسئوليَّة السِّياسيَّة المباشـرة للزميل الصديق عبد الله علـي إبراهيم. ومن ثمَّ بدأت علاقتي بنُقُد الذي وجدته شديد الاهتمام بذلك المكتب، وبالإسهام فـي عمله. ولأسباب تأمينيَّة كان يواصلنا، في الغالب، عبر عبد الله الذي كان "موظفاً" فـي الحزب، ضمن حلقة الكادر المتفرِّغة للعمل "تحت الأرض"، أو "الأفنديَّة المضادين" بمصطلح عبد اللـه نفسه! كان نُقُد يبعث إلينا بملاحظاته كتابة، فـي قصاصات ورقيَّة متناهية الصِّغر، وهي العادة التي لازمته، لاحقاً، حتى فـي ظروف العلن! ولئن كنا نخصُّه هو بالذكر، هنا، فإن هذه العادة قد لازمت، في الواقع، كلَّ الكادر السِّري للحزب على مدى عشـرات السِّنين؛ ولو أن كلَّ الناس اقتصدوا فـي استخدام الورق كما ظل يفعل هؤلاء، لحُفظت غابات كثيرة حول العالم!
كنا نحاوره، ونعقب على ملاحظاته، بذات الطريقة. وكان أكثر ما يبهرني فـي تلك الملاحظات، ليس فقط عمقها المعرفـي والأيديولوجي، أو دقة إلمامها بقضايا الفنِّ والأدب، وإنما الطاقة التي كان يبذلها الزميل "الخير" أو "عبد الرحمن"، وتلك بعض الأسماء الحركيَّة التي كان الرَّاحل يتكنَّى بها فـي مختلف الفترات، وذلك فـي حمله لهموم هذه الجَّبهة، وسط كلِّ مشاغله الأخرى، ودأبه علـى العناية بمن كان يسمِّيهم، تحبباً، "قَبور المبدعين" ـ بفتح القاف ـ أي أولئك الذين لم تقو أجنحتهم، بعد، علـى الطيران البعيد؛ وكان يبذل تلك الطاقة، ويحمل تلك الهموم، ويبدي تلك العناية، مع أن ظروفه كانت، في مجملها، غير مواتية، ومشاغله بالغة الخطورة فـي قيادة معارك الحزب الجريئة مع سلطة مايو، والعهد كان لما يزل قريباً بيوليو 1971م، وما أدراك ما يوليو 1971م، وطيوف أجساد الرِّجال القتلـى، من قادة الحزب والحركة العماليَّة والضباط الأحرار، إما مدلاة تتأرجح علـى أعواد المشانق، أو مثقوبة بالرصاص يعبرها الهواء، كالغرابيل، فـي ساحات الإعدام الحربي! مع ذلك، كان الرَّاحل، وهو الرَّأس الأوَّل المطلوب للإعدام، يخصِّص جزءاً من وقته الثمين ليعالج معنا، بجديَّة تامَّة، قضايا الإبداع والمبدعين!
كان الرَّاحل العزيز مشغولاً، دائماً، وعلى نحو مخصوص، وفـي كل الظروف، بفتح آفاق جديدة لتطوير موقف الحزب من موضوعتي "الدِّين" و"الدِّيموقراطيَّة"، بالذات، من زاوية سودانويَّة محضة، ارتقاءً بالنَّهج الذي كان أرساه الشَّهيد عبد الخالق فـي "الماركسيَّة وقضايا الثورة السُّودانيَّة" عام 1967م، فضلاً عن الوجهة التي اختطتها اللجنة المركزيَّة، فـي عامي 1977م ـ 1978م، عبر وثيقتيها التاريخيَّتين: "الدِّيموقراطيَّة مفتاح الحل"، و"جبهة للدِّيموقراطيَّة وإنقاذ الوطن"، واللتين أسهم الرَّاحل بقدح معلـَّى فـي صياغة أفكارهما الأساسيَّة. كما تسطع فـي الذاكرة، أيضاً، عودة الرَّاحل للانشغال، تحت أكثر الظروف تعقيداً، بحلِّ المشكلات التي جابهت مكتب الأدباء والفنَّانين، قبل وبعد الانتفاضة، وكذلك فـي عقابيل نيفاشا. لقد ظل نُقُد، حتى آخر نفس فـي صدره، وآخر نبضة فـي قلبه، شديد الثقة فـي الدور الذي يلعبه الإبداع فـي بلورة الوعي الثوري، ودفع الجَّماهير باتجاه فعل التَّغيير؛ وللعجب، فقد عاد هذا الإبداع، عند وفاته، ليلعب دوراً تعبويَّاً ثوريَّاً مشهوداً فـي مهرجان تشييعه هو نفسه إلـى مثواه الأخير .. فتأمَّل!
الحياة الأخرى التي عرفتها لنُقُد كانت في العلن، حيث أتيح لـي، بعد انتفاضة أبريل 1985م، وكذلك خلال السنوات الماضية، أن أقترب منه أكثر، عبر محاورات حزبيَّة وديموقراطيَّة عميقة ومباشـرة بمشاركة آخرين، على عدَّة جبهات فكريَّة. وكان ذلك علـى فترتين: أولاهما علـى أيَّام الدِّيموقراطيَّة الثالثة، وما أقصـرها، وقد كان الراحَّل يعتبرها، دائماً، محض "استراحة محارب"، فلم يغفل، لحظة، عن الانشغال بتهيئة نفسه، والحزب من خلفه، لجولة جديدة من المعارك مع شموليَّة كان يراها قادمة من وراء الحُجُب، ولطالما نبَّه إليها، وحذر منها، ملتزماً في ذلك بوسائل وأساليب العمل السِّياسـي وحدها .. وقد أسمع لو نادى حيَّاً! أما الفترة الأخرى فقد انقسمت، بدورها، إلـى فترتين: أولاهما هي التي قضاها فـي الإقامة الجَّبريَّة، تحت حراسة فيالق الأمن، منذ خروجه من السجن عام 1990م، وإلـى حين عودته .. "فـي غفلة رقيبه" إلـى "تحت الأرض" عام 1994م، رغم أن قرار الحزب كان يقضـي بعدم اختفائه حال وقوع أيِّ انقلاب، حتى لو أدَّى ذلك إلـى اعتقاله لبعض الوقت، وهذا ما يفسـِّر كونه الوحيد بين القادة السياسيين الذي وجده رجال الأمن بانتظارهم، فجر الثلاثين من يونيو، وحقيبته جاهزة للمعتقل! وما السبب، كما قال لـي، فـي اضطراره للعودة إلـى "تحت الأرض"، خلافاً للمتفق عليه، سوى حالة الخطر القصوى التي هددت بها تحركات المرحوم الخاتم عدلان، أوان ذاك، وحدة الحزب وتماسكه التنظيمي! أما الفترة الثانية فقد أعقبت قرار اللجنة المركزيَّة الصادر في دورة انعقادها بتاريخ يناير 2005م، فـي عقابيل توقيع اتفاقيَّة السَّلام في 9 يناير من ذلك العام، بإنهاء اختفائه، تاركة له وحده أن يقرر متى وكيف ينفذ ذلك القرار. وقد اختار بالفعل ملابسات صدور الدُّستور الانتقالي فـي مايو 2005م تاريخاً للخروج إلى العلن.
هذه الواقعة تستدعي إلى الذِّهن ما كان "أشيع" عن خرافة "زيارة مفاجئة" قام بها الفريقان قوش وعطا لمخبئه هي التي أنهت اختفاءه! سوى أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه هو من حدَّد بنفسه، وبمحض إرادته، تاريخ وطريقة تنفيذ قرار الحزب بإنهاء اختفائه، بل وشـرع، فعليَّاً، فـي تنفيذ خروجه التَّدريجي إلـى العلن، خلال الثلث الأول من 2005م، عبر تحرُّكات كان يقوم بها في وضح النَّهار، وفـي ظروف المتغيِّرات التي رتبتها نيفاشا.
لم يكن من غير المتوقع، بطبيعة الحال، أن تلفت تلك التحرَّكات العلنيَّة أنظار عامة الناس، وبالضـرورة أنظار الأمن أيضاً، حيث أضحى محل استفهام كبير المنزل الذي كان هو فـي حالة انتقال علني منه إلـى بيت اﻷسرة، فكان أن هرع إلـيه تيم من الأمن، أبلغ لاحقاً إلـى قمَّة الجهاز، ليخفّ إلـى هناك أيضاً الفريقان قوش وعطا، تصحبهما كاميرات التلفزة، بغرض الإيحاء بأن الأمن قد اكتشف مخبأ الرجل، فسجل "زيارة" له وُصفت، ضمن "شهادة زور" الأجهزة الإعلاميَّة، بأنها كانت "مفاجئة"!
لكن ذلك لم يكن صحيحاً، البتة، فلا نُقُد كان مختبئاً، وقتها، ولا المكان نفسه عاد مخبأ، أصلاً، منذ شـروع الرَّاحل العزيز فـي تنفيذ انتقاله منه إلـى منزل الأسـرة. وربما كان أبلغ دليل علـى ذلك أنه، عندما لاحظ الجَّلبة التي أثارتها عناصر الأمن حول ذلك المنزل، قبيل وصول السَّيدين قوش وعطا، خرج يخاطبهم قائلاً:
ـ "يا جماعة ما في لزوم لكل الضَّجة دي؟! أنا نُقُد سكرتير الحزب الشِّيوعي .. كنت مختفي وهسِّي ما مختفي"!
ولو أن السَّيدين قوش وعطا تأخرا ساعتين فقط، لكانا اضطرا لأن يكتبا علـى الباب الخارجي عبارة "حضـرنا ولم نجدكم"، لسبب بسيط هو أن عملية نقل آخر دفعة من متعلقات نُقُد وكتبه من ذلك المنزل كانت ستكون، وقتها، قد اكتملت، وما كانت، بالتالي، ستعود به حاجة للرجوع، مرَّة أخرى، إلـى ذلك المكان!
إن أكثر ما يحيِّرني، حقاً، هو إبقاء قيادة الحزب هذه الحقيقة طيَّ الكتمان، طوال السَّنوات الماضية، ونهباً، بالتالي، للمغالطات والتزوير، بل والطمس، فـي نهاية المطاف، تاركة الأمن يرتع فـي مراعي "نصـره" المجانيِّ غير المستحقِّ ذاك!

(4)
عبارة "حضرنا ولم نجدكم" نسبت، صحفيَّاً، إلى نُقُد، بمناسبة أنه كان الوحيد من بين زعماء أحزاب المعارضة الذي وصل، في الموعد المضروب بالضبط، إلـى ميدان أبو جنزير، بوسط الخرطوم، للمشاركة فـي قيادة مظاهرة ضد النظام كانت حددتها تلك اﻷحزاب نفسها، فـي أحد أيام العام 2011م، وبعد أن طال انتظاره لحضور بقية الزعماء بلا جدوى، تناقلت الصحف، في اليوم التالي، صورة له، حاملاً لافتة كتبت عليها تلك العبارة! وبصـرف النظر عما إذا كانت الصورة واقعيَّة أم افتراضيَّة، فإنها تذكر بما عرف عن نُقُد من قدرات مشهودة فـي مزج آراءه بقدر وافر من الطرافة الذكيَّة!
في مطار الخرطوم، ونحن بانتظار وصول جثمانه فـجر ذلك الأحد الحزين، الخامس والعشـرين من مارس 2012م، همس صديقي محمد المهدي عبد الوهاب فـي أذني، ونحن نتعانق ونكاد نشرق بالدمع السخين:
ـ "كان يَودُّك كثيراً، يا كمال، ويذكرك، دائماً، بالخير، وقد قال لـي، مرة، عندما أخبرته بأنني ذاهب إليك: أوع تكون من نوع الناس البيمشوا ليهو يزعلوه ويرجعوا زعلانين منّو"!
فانخرطنا في الضَّحك، للغرابة، وسط دموعنا المدرارة! هكذا كان نُقُد، دائماً، ابن طرفة بامتياز، يتتبَّع المفارقة، ويستلها من حيث لا يتوقع أحد، ومن بين أكثر المواقف والأحاديث جديَّة.
جاءنا، مرَّة، في البيت، بادي الإرهاق، يتصبَّب عرقاً، والوقت منتصف الظهيرة، والدنيا صيف، والحرُّ شديد، فوقف متكئاً على الباب، قبل أن يدخل، وطلب، بلسان طبشوري، أن نلحقه بكوز ماء مثلج، وعندما أسـرع أولادي به إليه اجترعه، نفرةً واحدةً، كاتِماً أنفاسه حتى آخر قطرة، ووضع الكوز عنه، وهو يلهث، ويمط الحروف مطاً قائلاً:
ـ "لا إله إلا الله .. محمد رسول الله"
ثم ما لبث أن انتبه، فجأة، فالتفت إلـىَّ قائلاً:
ـ "بالله شوف ياخينا .. نتشهد فـي اليوم الواحد ألف مرة .. وبرضو يقولوا ليك .. ملحدين"!
فانفجرنا جميعاً بضحك مجلجل!

(5)
فـي كتابي "الشِّيوعيون والدِّيموقراطيَّة فـي السُّودان" ألمحت إلى أن مسألة الدِّين هي واحدة من أعقد المعضلات التي تجابه الحزب؛ وفي كتابي الآخر الموسوم بـ "عتود الدولة: ثوابت الدِّين أم مُتحرِّكات التَّديُّن"، عرضت، باستفاضة، لمسألة الموقف من الدِّين في فكر وبرنامج الحزب الشِّيوعي "السُّوداني"، في المستوى المؤسِّسي الرَّسمي، كما فـي المستوى العقدي للشِّيوعي "السُّوداني" المتوسِّط reasonable communist. وقد يلزمني أن أنوِّه، هنا، بأنني وضعت كلا هذين الكتابين بتحريض وإلهام مباشـرين من الرَّاحل العزيز. لكنني، فـي الحقيقة، وبالنسبة لموضوعة الدِّين، لم أكشف عن جديد، بقدر ما حاولت أن أعمِّق رؤية سبقني إلـى التعبير عنها الكثير من قادة ورموز الحزب، كحسن الطاهر وفاطمة أحمد والرشيد نايل والقدَّال، كما عالجها، باﻷخص، الشَّهيد عبد الخالق عام 1967م، وأنْ أؤكد على أنَّ الشِّيوعيين "السُّودانيين" ليست لديهم، فـي هذا الشَّأن، عصا مرفوعة وعصا مدفونة، وأنَّ ما يراه الناس منهم فـي العلن هو ذات ما يمارسون داخل حزبهم؛ فمهما نقبت فـي أدبيَّاتهم، منذ الحلقات الماركسيَّة الأولـى مع نهايات الحرب الثانية، قبل التأسيس الرَّسمي لحزبهم صيف 1946م، فإنك لن تجد أثراً ولو طفيفاً لأي إلحاد؛ بل، علـى العكس، ستجد نقداً صـريحاً، فـي ذلك الوقت الباكر، لتبنِّي الإلحاد فـي التجربة السُّوفيتيَّة، ويمكن لمن شاء التماس خبر هذا النقد ضمن رسالة محمد نوري الأمين للدُّكتوراه.
الشَّاهد .. ليس ثمَّة إلحاد داخل الحزب، ونظريَّة الإلحاد نفسها تكاد تكون أكثر الجوانب التي لم يحفل بها الشِّيوعيون السُّودانيُّون فـي الماركسيَّة، لا فـي المستوى المؤسَّسـي ولا فـي المستوى الشَّخصـي لدى أغلبيَّتهم السَّاحقة. صحيح أن الحزب لا يتدخل في تديُّن أعضائه، تماماً كسائر مؤسَّسات المجتمع المدني، فهو رابطة نضاليَّة اختياريَّة بين أناس تجمع بينهم رؤية عامَّة مشتركة للوطن وشعوبه ومستقبل التَّساكن بينها علـى أصعدة الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتَّنوع الدِّيني والإثني واللغوي وما إلـى ذلك، تأسيساً علـى نهج من العدالة الاجتماعيَّة التي تستهدف الارتقاء إلى الاشتراكيَّة؛ أما في ما عدا ذلك فإن توقير الدِّين واجب لدى الشِّيوعيين؛ وقد تصـرَّمت عهود طوال مذ أضحت هذه الحقيقة "فولكلوراً" شائعاً، وصار معلوماً للجَّميع، إلا من أبى واستكبر لأغراض سياسيَّة ضيِّقة، أن لدينا فـي الحزب، مثلنا مثل سائر الأحزاب السِّياسيَّة، أعضاء مسلمين قد لا يكونون ملتزمين بعباداتهم كما ينبغي؛ غير أن ذلك ليس مدعاة لرميهم بالإلحاد ضربة لازب، كما وأن سببه ليس وجودهم فـي الحزب، فلدينا أيضاً، وفـي نفس الوقت، من أصغر الفروع إلى قمَّة اللجنة المركزيَّة والمكتب السِّياسـي، من توقف الاجتماعات لتمكينهم من أداء الصَّلوات، ومن يحجُّون إلـى بيت الله الحرام، ومن يرتِّلون القرآن بأصوات حسنة، ومن يرعون مساجد ابتنتها أسـرهم، وهلمجرّا. ذلكم هو الحزب الذي كان يقوده نُقُد، والذي قاده، قبله، الشَّهيد عبد الخالق، وقد قلنا هذا الكلام، بدل المرَّة ألف مرَّة .. لكن من يسمع ومن يعقل؟!
والحقيقة أننا لا نحتاج، في هذا الجَّانب، لدعاية سياسيَّة، بقدر ما نحتاج لمنازلة فكريَّة صارمة؛ فالذين يرمُون الشِّيوعيين السُّودانيين بالإلحاد، كبُرت كلمة تخرج من أفواهِهم، لا يهمُّهم، فـي الواقع، الذَّود عن حياض الدِّين، كما يزعمون، بل الذَّود، فحسب، عن مصالح اقتصاديَّة تخصُّهم، ومواقع سياسيَّة يتشبَّثون بها مخلباً ونابا! إنهم يخوضون حرباً شرسة ضد الحزب لا لأنهم موقنون، في قرارة أنفسهم، بإلحاده، بل لأن سياساته تهِّدد هذه المصالح والمواقع؛ لذا تراهم لا يتورعون عن استخدام أي سلاح فـي هذه الحرب، بما فـي ذلك الدِّين الذي يستغلونه كأبشع ما يكون الاستغلال لخداع جماهير الفقراء، بتصوير الحزب، في أوساطها، كحزب معادٍ للدِّين، وسوقها، من ثمَّ، كالقطيع فـي اتجاه مضاد لمصالحها الاجتماعيَّة والوطنيَّة! لقد أضحت تلك المسألة مفضوحة إلى حد كبير عبر مسالك الصـراع المحتدم فـي بلادنا منذ الاستقلال.
مؤخَّراً جرت محاولات متهافتة لدمغ نُقُد، شخصيَّاً، بالإلحاد، حتى بعد وفاته! وتلك محض شنشنة مكشوفة، وتخرُّص جبان سببه المباشر، في رأيي، أن البعض أفزعهم مشهد التشييع المهيب وغير المسبوق الذي أحاطت به الجَّماهير جثمانه، بمن فيهم الجَّماهير المسلمة! وبالحق، لو أن القمر ينشقُّ لموت إنسان، أو تحترق الشمس حدَّ التفحُّم، أو تنقذف حمم البراكين من جوف الجبال الرَّاسيات، أو تزلزل الأرض زلزالها، وتخرج الأرض أثقالها، وتميد، كترب الجروف الرَّخو، تحت الأقدام، لوقع ذلك كله ساعة دوَّى النبأ المروِّع، ينقل نعيب البوم ونعيق الغربان نذير شؤمه الكالح، كما سجم الدَّواك، عبر المحيطات والغابات والصحاري، من العاصمة البريطانيَّة إلـى السودانيين حيثما كانوا، أن اسمعوا وعوا .. لقد كتب علـى وطنكم المرزوء، أصلاً، بالفقد الجَّلل، وبالموت الكثيف، أن يفتقر، منذ الآن أيضاً، ضغثاً علـى إبالة، إلـى أحد أبرز حكمائه، قاطبة، وأشجع فرسانه طرَّاً، وأصلب قادته بلا منازع!
هو الفزع والرُّعب، إذن، من ذلك الإجماع على الرَّاحل العزيز، ما دفع المتخرِّصين إلـى تخرُّصهم، وإلا فإن نُقُد لم يكن مُلحداً علـى الإطلاق، بل كان، على العكس، متديِّناً بالفطرة! وليت أئمَّة الفتنة هؤلاء، ممن يكفِّرونه بجهالة، ويكفِّرون الشِّيوعيين السُّودانيين عامة، يدركون القدر من الغبن الذي يستشعره من يُرمى بالكفر وهو ليس بكافر، أو حتى بالمجاهرة بالمعاصـي وهو ليس كذلك! وتحضـرني، بهذه المناسبة، حكاية مهمَّة، والكلام يجرُّ الكلام، فرغم أن الرَّاحل كان، فـي العادة، ممهولاً، وذا بال طويل جدَّاً، إلا أنه بدا، ذات مرَّة، رغم الهدوء الظاهري، مستفَزَّاً وغاضباً إلـى أقصـى حد؛ وذلك عندما استضافته قناة النِّيل الأزرق كمرشَّح لرئاسة الجُّمهوريَّة، فانبرى له صحافي غِر يسأله، بكل قلة حياء، إن كان يصلِّي! فما كان منه إلا أن أجابه فوراً، وسط دهشةِ الجَّميع: "أنا الآن لا أصلِّي"! بعدها بيوم أو يومين عبَّرت له عن دهشتي لردِّ فعله الحادِّ علـى غير العادة، فقال: "يا أخي ماذا تتوقع منِّي عندما أرى صبيَّاً كان يمكن أن تلده ابنة لـي فـي آخر بطونها، وهو يحاول أن ينصب لـي محكمة تفتيش بعد كل هذا العمر! لقد كنت مدركاً أن البرنامج مبثوث علـى الهواء مباشـرة، فرغبت أن أعطيه درساً علـى رؤوس الأشهاد بأنني لا أخاف ممن يحاول التفتيش فـي ضميري، فإذا كان يريد تلك الإجابة بالذات فليأخذها، ولينظر إن كان الناس يصدِّقون"!
فـي ما بعد، لاحظت، بالفعل، أن المسلمين السُّودانيين العاديين تحلوا، إزاء تلك الواقعة، بقدر عال من الذكاء جعلهم يتفهمون ردَّ فعل نُقُد، ويقدِّرون دواعي غضبته، الأمر الذي عصمهم من أن يأخذوا إجابته الغاضبة تلك علـى وجهها الحَرفيِّ المباشر، بل لعلَّ ذلك الصحافي الغِر نفسه بات خجلاً من سؤاله الأخرق!
ولكم ماثلت كلمة نُقُد فـي واقعة التلفزيون تلك، كلمته القديمة التي كان ألقاها أمام الجمعيَّة التأسيسيَّة، يوم أقدمت، بفرية الإلحاد، علـى تعديل الدستور، عام 1965م، لحلِّ الحزب، وطرد نوَّابه منها، وكان هو أحدهم، حيث قال: "لسنا ملحدين، ولا نقول ذلك عن خوف، فلم نتعلم الخوف فـي الماضـي، ولسنا مستعدِّين لتعلمه الآن"!
كثيرون تساءلوا، يوم التشييع، عن علاقة نُقُد بالطريقة الإدريسيَّة، علـى خلفيَّة إمامة أحد سادتهم الصلاة علـى جنازته. لقد كانت تلك، في الحقيقة، بعض وصيَّته لشقيقته فائزة وشقيقه عبد الله، عندما أحس بدنوِّ الأجل فـي لندن. وقد لا يعلم الكثيرون ثلاثة أمور بالغة الأهميَّة فـي توضيح هذه المسألة: أولها أن علاقة الرَّاحل بالسَّادة الأدارسة هي بعض إرث عائلته، فاسم شقيقه "سيِّد"، مثلاً، هو "سيِّد أحمد نُقُد"، تيمُّناً بالسَّيِّد أحمد الإدريسـي؛ وكان الرَّاحل يوقر ذلك الإرث، فيحرِّص علـى علائقه تلك بالسَّادة الأدارسة الذين كانوا يبادلونه محبَّة خالصة؛ وأذكر أنه عرَّفني بالمرحوم الدُّكتور عبد العال الإدريسـي، اختصاصـي الأمراض النفسيَّة والعقليَّة، عندما احتجت لاستشارته فـي بعض شأن مهني، قبل أن يشقّ علـي نبأ مصـرعه الفاجع فـي حادث حركة مشؤوم بطريق بحر ابيض؛ أما الأمر الآخر فهو أن علاقات الراحل تلك بالسادة الأدارسة لم تنقطع حتى وهو علـى شفا الموت بلندن، فقد كان خطه الهاتفي مع السَّيِّد المجدِّد الإدريسـي، بالذات، ساخناً طوال الوقت، وكان الأخير يسأل مطوَّلاً عن صحَّته، وكان الرَّاحل يطيبُ نفساً بذلك الاهتمام؛ وقد انتدب السَّادة الأدارسة الدُّكتور التَّازي الإدريسـي ليصلِّي عليه تنفيذاً لوصيَّته. وأما الأمر الثالث فهو أن الرَّاحل كان، حتى وفاته، منشغلاً بوضع مؤلَّف ضخم فـي التصوُّف السُّوداني؛ وعندما كنا نفكر سويَّاً فـي إنشاء مركز للدِّراسات والبُحوث، بعد أن يفرغ هو نهائيَّاً من عمله كسكرتير عام للحزب، وفق ما كان يعتزم قبل المؤتمر الخامس، كان يقول لـي متحسِّباً: "أبعدني فقط عن أي شأن إداري ريثما أكمل كتابي عن التصوّف فـي السُّودان".
اهتمام الراحل بالتصوُّف كان نابعاً من اهتمامه الأصيل بحقائق الحياة السُّودانية الواقعيُّة، لا المتوهَّمة، والتي كانت أجندته المستقبليَّة تشمل الكثير منها، في إطار انشغاله العام بالتطبيق الخلاق للماركسيَّة علـى واقع بلادنا؛ وغاية أملـي أن يسهُل العثور علـى تلك المخطوطة القيِّمة، ليُعهد بها إلـى مختصين أمناء يعكفون علـى تحرير الأجزاء المكتملة منها وإصدارها.

(6)
كانت لنُقُد، خارج العمل السِّياسـي المباشر، اهتمامات أخرى كثيرة، فـي حالي الخفاء والعلن، فهو لم يكن أبداً إنساناً ذا بُعد واحد؛ كان يعشق "البستنة"، مثلاً، وقد اتخذ فـي كل مسكن حلّ به، ولو لبعض الوقت، بستاناً صغيراً، يحيطه ببضع شجيرات، وينمِّي فيه بعض الأزاهير، ويحدِّد حوافه بالنَّعناع عميق الخضـرة، أو الرَّيحان فوَّاح الرَّائحة؛ ولأنَّه لم يكن نؤوم ضحى، فقد كان يستقطع من صباحاته الباكرة وقتاً معلوماً يقضيه، إلـى جانب القراءة والكتابة، فـي تعهُّد تلك البساتين بالعناية تشذيباً وسقيا، وقد قال لي، مرة، إن ذلك يعينه على التركيز.
وأذكر، علـى أيام الديموقراطيَّة الثالثة (1985 ـ 1989م)، أنني كثيراً ما كان يحلو لي أن أزوره فـي تلك الصَّباحات الباكرة، أشـرب معه القهوة على حافة بستانه الصغير النَّضير، وأمتع النفس بمؤانسة ذات مذاق خاص؛ وكان مما يضاعف المتعة أن ألفى معه صديقنا المشترك المرحوم علـي المك، ولك أن تتصور ما كان يدور فـي تلك الجلسات من مؤانسات عفويَّة شائقة. وكان كلا الرَّجلين عاشقاً شغوفاً للغناء السُّوداني، ليس تلقياً فحسب، وإنما أداءً أيضاً، ومن لم يسمعهما يترنَّمان بـ "غضبك جميل زي بسمتك"، سواء فـي الصَّباحات الباكرة، أو المساءات الرَّائقة، فقد فاته، بالحقِّ، شئ كثير، عليهما رحمة الله ورضوانه؛ وبوقوع انقلاب يونيو، ورحيل علـي المك، ثمَّ رحيل نُقُد مؤخَّراً، لم يتبقَّ من تلك الأشياء الصغيرة العزيزة سوى طيِّب الذكرى.
إلى ذلك كان نُقُد قارئاً ومنتجاً دؤوباً فـي مختلف حقول المعرفة، خصوصاً الفلسفة والاقتصاد والتَّاريخ والاجتماع والأدب والمسـرح وعلم الثورة، وله من ثمرات إنتاجه الكثير، أبرزها مؤلفاته فـي واقع الهمِّ السُّوداني، كالرِّق، والدِّيموقراطيَّة، والدَّولة المدنيَّة، ومتغيِّرات العصـر، وعلاقات الأرض، فضلاً عن محاورته العميقة للشَّهيد حسين مروة حول النَّزعات المادِّيَّة في الفلسفة العربيَّة الإسلاميَّة؛ حيث لم ينزع، فـي أيٍّ من هذه الأعمال، إلـى دارج القول أو مكروره، بل زانها برصين الفكر وطارفه، إلـى نصاعة الدِّيباجة، وطلاوة العبارة، وسداد المصطلح، استخداماً وسكَّاً.
كان نُقُد، أيضاً، محبَّاً للشِّعر، ويقيني أنه لو لم تشغله هموم القيادة السِّياسيَّة اليوميَّة لكان شاعراً لا يُجارى، ودونك شواهد كثر من صياغاته التي تتخلل شعريَّتها حتى أسلوبه العلمي! وكانت لديه آراء نقديَّة مدهشة في الإبداع، عموماً، يؤسِّسها على الفلسفة وعلم الجمال، كما كانت له ذائقة فنيَّة رائعة. وكان ملمَّاً بحركة الغناء فـي السُّودان، وإلـى حدٍّ كبير بحركة التَّشكيل، كما كان مستوعباً لمساحات واسعة من القصيدة الجَّاهليَّة، واﻷمويَّة، والعبَّاسيَّة، والأندلسيَّة، والشِّعر الأجنبي، والسُّوداني. لم يكن يتحيَّز إلى مغنٍّ بعينه، وإنما كانت تطربه، بذات القدر، أغنيات لمغنين كثر، من كرومة وسـرور والأمين برهان والكاشف، إلـى وردي وعركي ومصطفى سيد احمد وعصام محمد نور؛ كما لم يكن منحازاً لشاعر محدَّد، بل كان يتذوق الفيتوري وشكسبير وصلاح أحمد إبراهيم وعالم عباس وهاشم صديق، مثلما يتذوق برشت ومحجوب شـريف والعباس بن الأحنف ومحمود درويش وحميدة أبو عشـر. وبمناسبة صلاح أذكر، اجتماعيَّاً، أن نُقُد بادر بزيارته في بيته، للتحيَّة والمجاملة، عند عودته من المنفى عقب الانتفاضة، مما أثار دهشة كثيرين لِما كان بين صلاح والحزب من خصومة مشهودة، علـى أن ذلك كان نُقُد .. وكفى!
اللافت أنه، على ما كان لديه، فـي الإبداع، من نظر متقدِّم، كان يتجنَّب أن يصدر، فـي هذا المجال، عن تنظير علني، حذر أن يُحسب ذلك موقفاً حزبيَّاً رسميَّاً بسبب الثقل الذي كان يمثله فـي قبَّة سنام المؤسَّسة! ولعله، فـي هذا، كان يقتفي أثر الثلاثي ماركس وإنجلز ولينين، وباﻷخص ماركس الذي لطالما اعتذر، حتى وفاته، من أنه لم يستطع أن يتوفر علـى مؤلَّف جامع مانع فـي الظاهرة الإبداعيَّة يوازي مؤلَّفه العبقريَّ "رأس المال" في الاقتصاد؛ والحمد لله أنه لم يفعل .. على أن ذلك أمر آخر!

(7)
ربما خطر للبعض أن رحيل وردي، وحمّيد، ونُقُد، علـى التوالي، أي المغنِّي، والشَّاعر، والقائد المفكر، خلال فترة زمنيَّة متناهية القِصَـر، هو نذير شؤم على السُّودان والسُّودانيين. وفـي كتابه "عصـر البطولة فـي سنَّار" أشار جي سبولدنق إشارة مشابهة إلى أن رحيل أبرز رموز البلد يكون، فـي العادة، نذيراً بزوال "الدَّولة"، وذهاب ريحها، وربما قال "السلطة"! ولا بُدَّ أن تلك الإشارة قد قفزت، لدى توالي هذا الرحيل مؤخَّراً، إلي أذهان الكثيرين ممَّن كانوا مطلعين عليها! لكنني أعدُّها، علـى أيَّة حال، مجرَّد أسطرة للواقع قد تصلح كاستجابة لضرورة الفنيَّة، أو كمحض إلهام برواية عبقريَّة من سنخ الواقعيَّة السِّحريَّة!
أما في ما يتصل بأثر هذا الرحيل الفاجع بالنِّسبة للشِّيوعيين، خصوصاً، فإنهم مطالبون، في بعض أقدار تكبُّدهم ما هو فوق طاقة البشـر أحياناً، بالتعالي على جراحاتهم، وبالمزيد من التماسك والصمود!
في السَّاعات الأولى من صباح الأحد الذي شيَّعنا فيه نُقُد إلـى مثواه الأخير، وبينما كنَّا نعبر بالجثمان شوارع الخرطوم التي اكتست بلون الفجيعة، من المطار، إلـى البيت، إلـى مركز الحزب، إلـى مقابر فاروق، سألني بعض مراسلي الصُّحف والإذاعات والقنوات الفضائيَّة عن رأيي فـي ما لمسوا من غلبةٍ لعنصر الشَّباب على ذلك المشهد، سواء من الناحية العدديَّة، أو من زاوية طغيان لافتاتهم وأهازيجهم وذائقتهم ومزاجهم العام، فقلت إنني لا أنظر للقيادة السِّياسيَّة كظاهرة بيولوجيَّة، لكن الحزب الشِّيوعي، رغم مرارة الفقد، كائن حي محكوم بدورات تجدُّد لا تتقدَّم أوانها ولا تتأخَّر عنه؛ وكلُّ ذي بصيرة يستطيع أن يلمس، الآن، تهيُّؤ جميع الظروف الموضوعيَّة لدورة تجدُّد قادمة لا محالة، وبقى أن يتهيأ الظرف الذاتي الملائم لهذه الولادة الجديدة بعقل ماركسـي جمعي مستنير، وإلا فإن الوقوف فـي وجه هذه الضـرورة الموضوعيَّة سيكون أشبه بخراقة الوعل الذي كسـر قرنيه وهو يحاول أن يناطح صخرة ليوهنها!

(8)
ظلت المرأة في حياة نُقُد، طوال السنوات الأربعين الماضية، هي الأم والأخت والزميلة والخالات والعمات وغيرهنَّ ممن سبق أن أشـرت إلـى ترفقه بهنَّ وإعزازهنَّ له. أما الحبُّ فقيمة كان يحرص على كتمانها، ويكاد لا يندُّ شئ من مرائيها لديه، إلا من بين طوايا التَّضحية، فالمرأة الحبيبة والزوجة باب تتجلـى فيه تضحية نُقُد كما لا تتجلَّى فـي أيِّ باب آخر! إن اللحظة التي وقع فيها اختيار رفاقه فـي اللجنة المركزية عليه ليخلف الشهيد عبد الخالق فـي خندق الحزب الأمامي، ودماء يوليو الساخنة لما تزل، بعد، تغرغر فـي شوارع المدينة، كانت هي ذات اللحظة التي اتخذ فيها قراره الصَّعب بإنهاء مؤسَّسة زواجه، الأمر الذي نفذه بعد فترة قصيرة من ذلك! حدثني، مرَّة، قائلاً، ببساطة أنسه المعهودة: "سألت نفسـي سؤالاً واحداً: أتراني كفؤاً بما يكفي لحمل المسئولَّية التي كان يحملها عبد الخالق؟! وعندما أجبت بالإيجاب لم أتردَّد فـي قبول التكليف فوراً، دون أن أفكر مرَّتين؛ غير أنني أحسست، فـي نفس الوقت، بأنني لا أستطيع أن أظلم زوجة وربما أطفالاً قادمين بأن أفرض عليهم حياة أنا نفسي لا أعلم ما يكون مصيرها فـي الساعة القادمة"!
كانت تلك من المرات النادرة التي كان الراحل العزيز يستجيب فيها للطرق على ذلك الموضوع! أما فـي العادة، فقد كان يحرف الحديث إلى أية ناحية أخرى، أو يستعين عليك، إن أنت ألححت عليه، بطرائف لا ينضب معينها! قال لـي، مرة، بعد الانتفاضة، وقد وجدني ألحُّ عليه ليتزوج حتى لا يظلم نفسه أكثر مما فعل: "ألا تعرف ما قال الإمام السهروردي فـي هذا الشأن"؟! قلت: "لا"، فقال: "من أراد الله به خيراً لم يبتله بأهل ولا ولد"! فضحكنا كثيراً، وأدركت أنه إنما قال ذلك فقط ليصـرفني عن الأمر، فقد كنت أعلم مدى أشواقه لحياة اﻷسرة، ومدى حبه للأطفال!

(9)
مصادر شتى تضافرت لتمدَّ نُقُد بقوَّة الشكيمة، وفضيلة الصبر، وطاقة التحمُّل للمكاره؛ أهمها، أولاً، يقين الاعتقاد فـي المبدأ، ورسوخ قيمة الاستمساك به؛ وثمة، ثانياً، النشأة فـي بيئة أهله الأنصار الأشدَّاء الذين ما نزحوا، أصلاً، من حفير مَشُّو في أقصى الشَّمال إلـى منطقة القِطينة علـى ضفاف "بحر ابيض"، إلا للِّحاق بالإمام الثَّائر محمَّد احمد المهدي عليه السَّلام، والالتحاق بجيشه، وهم قوم ليس فـي عيش أغلبهم لين يُبطر، ولا فـي أنفسهم خنوع يدفع إلى البهرجة يوم الدُّواس؛ لكن شيئاً من ذلك لم يسِمَهم بأيِّ قدر من القسوة أو غلظة الطبع، ففيهم، علـى العكس، من الرقة والحنان كثير؛ وثمة، ثالثاً، سيرة البسالة في التاريخ، والتي لطالما كانت تعطر وجدانه بعطرها الشفيف، بدءاً من بسالات المسلمين الأوائل، وتضحياتهم الملهمة، قبل أن تصير القلة كثرة، و .. "أحد أحد"، و"صبراً آل ياسـر"، وإلـى بسالات رموز حركات التحرُّر الوطني السُّودانيَّة، والإقليميَّة، والعالميَّة، وكذا بسالات الشِّيوعيين "ملح الأرض" الذين ظلوا "قوتاً للخناجر"، عبر تاريخ وضئ من النضال الشريف الصَّامد، كلما وحيثما غرز أحدهم فأساً في بقعة ما وقال هذه ملكي وحدي!
ومع أنه كان يتربَّع على قمة قيادة الحزب الشِّيوعي السُّوداني الذي شاع وصفه، لدى دوائر سياسيَّة وصحفيَّة واسعة، في الدَّاخل والخارج، بأنه الأضخم فـي الشـَّرق الأوسط وأفريقيا، إلا أن شيمته كانت، دائماً، التَّواضع والبساطة؛ وكانت تلك بعض عناصر العبقريَّة والفرادة فـي شخصيَّته، وقد أجملها الإمام الصَّادق المهدي، في كلمته التي ألقاها على حافة قبر الرَّاحل العزيز عقب دفنه، بقوله إن شخصيَّة نُقُد ظلت تعكس قيمة "الارتفاع بالاتِّضاع"، ونادى بجعل هذه القيمة عنواناً لتشييعه وتأبينه؛ كما ظلَّ الرَّاحل العزيز، طوال سنوات عمره التي وهبها لوطنه وحزبه، يجسِّد، عمليَّاً، وبحق، قول الفيتوري: "أدنى ما فينا قد يعلونا يا ياقوت .. فكن الأدنى تكن الأعلى فينا"!
تبقى أن نقول كلمتين عن وصف الحزب الشِّيوعي السُّوداني بأنه "الأضخم" في المنطقة، فهو ممَّا يستوجب التَّصحيح، ولو من باب الوفاء لذكرى نُقُد نفسه الذي كان يقول، كلما سمع هذا الوصف، إنه غير صحيح البتة؛ فحزبنا صغير، ويعمل بإمكانات فـي غاية التَّواضع؛ وربَّما كانت تلك، في الواقع، هي مأثرته الكبرى، حيث أنه، بهذا الصِغَر وتواضُع الإمكانات، استطاع أن يحافظ علـى وجوده، ويبقي صامداً يؤدِّي رسالته، ويناضل وسط شعبه، برغم كلِّ الاستهداف الدَّاخلي والخارجي الذي تعرض له منذ تأسيسه في منتصف أربعينات القرن الماضـي. أما حقيقة هذا الوصف التَّهويلي فيجدر التماسها ضمن لعبة كان يمارسها كلٌّ من النميري والمخابرات الأمريكيَّة علـى بعضهما البعض: النميري كان يستخدم، من جانبه، هذا الوصف "ليعظِّم أجره" لدى اﻷمريكان بزعم أنه يقوم عنهم بجهد عظيم فـي سياق الحرب الباردة أوان ذاك! واﻷمريكان كانوا يستخدمون، بدورهم، نفس الوصف ليكرِّسوا النميري فـي خدمتهم المستديمة تحت حالة شعور ضاغط بالرعب من الشِّيوعيين ظلَّ منغرساً فـي قلبه، يسحق أعصابه، ويزلزل كيانه، منذ ما بعد ظهيرة التاسع عشـر من يوليو عام 1971م، وحتى أطاحت الجَّماهير العزلاء بنظامه فـي أبريل عام 1985م!

(10)
رحل نُقُد، ولن نستطيع، حتى لو مكثنا نتحدث عنه أياماً بلياليها، أن نحيط بكلِّ شمائله العالية، إذ الكلام، في باب سيرته العطرة، كله خواء؛ فمَن لنا بكلمات تكفي ولو لسوق بضع جذاذات من مساهماته الفارهة، دَعْ بياناً يفي بأقلِّ القليل من تمجيده الذي هو بعضُ حقِّه المستحقِّ، أو يوفيه شيئاً من شكر جاء يومه، كما فـي بعض مأثورات أهلنا مستعربي السُّودان؟!
نعم، رحل نُقُد، والموت حقٌّ، دون أن يرى أمنيته الكبرى تتحقق بأن ترفرف رايات الاشتراكيَّة منتصـرة بالدِّيموقراطيَّة التَّعدُّديَّة، وبالاختيار الشَّعبي الحُرِّ، كمنهج حياة وحكم فـي السُّودان؛ وبرحيله تفتقد بلادنا الحكمة في غير ما ادِّعاء، والسَّماحة فـي أرقى تمظهراتها، وأنضـر الأشجار السُّودانيَّة فـي بستان اليسار الماركسي!
***

Kamal Elgizouli [kgizouli@gmail.com]

إليها ، الجسورة في الثورة الراهنة !




---------------------------------
فليكن !
أنتظرناك طويلا
و" قرفنا " * !
خفنا بما يكفي لنذكر كل ما شاءوا لنا نسيانه !
نامي قليلا
نامي قليلا ثم سيري في إحتشادات الجنود
إلي زقاق فيه جثة خوفهم ...
خوفهم المرتب كي يقيم
وخوف العسكر الكاكي ،
لونا كئيبا يزحف في الطريق
يوزع الدم القاني
ويشرع في الحريق !
خوف عيني قاتل
من أن يحدق في إرتباكهما القتيل !
أنت جميلة الثوار في هذا " العجاج " *
بناره ودخانه
سيري ... فأنت ذاكرة البلاد
تمر بين عيونهم
ولك الطريق
لك الطريق
لك الشوارع كلها ،
علي امتداد مكانها
لك الحياة بطولها ،
بحلوها وبمرها !
فسيري ...
سيري مثلما بدأت ...
خذينا حيثما شاءت خطاك ،
و ... حيث شئت !
أغنية لأغنية
ونصرا لنصر ...
وأينما أعطت يداك إشارة
فهي النداء :
القيادة والدليل !
------------------------------------------------------------
* الكتابة لمناسبة أنتفاضات الشعب السوداني لأسقاط نظام المتأسلمين !
* " قرفنا " : منظمة لشباب الثورة والتغيير تعمل عبر " الفيس " وفي الشارع !
* " العجاج " هو أعصار الغبار ، وقد أطلقت في الناس وصفا ليوم بدء الأنتفاضات السودانية " الكتاحة " وهما لفظان لموصوف واحد وكناية عن الثورة !

الحردلو في خواطر صديق محيسي ... !

                                                                               - سيد أحمد الحردلو -
اوراق قديمة في رحيل الشاعر الحاردلو

June 21, 2012

صديق محيسي
فى عام 1976 من القرن الماضي وفي شارع 51 بالعمارات الساعة الثانية عشر ليلا المنزل رقم 62 تناهت الي اذني صوت سيارة تاكسي خارج السور ثم تبع ذلك طرق متقطع علي الباب , كان الطارق هو سيد احمد الحاردلو شامي القادم لتوه من كينشاسا يرافقه قريبه الصديق عبد الله رمرم الذي يعيش ببريطانيا الان, جاء حاردلو منقولا الي الرئاسة في الخرطوم حاملا حقائبه تسبقه ضحكاته قريبة الشبه بصوت ماء يخرج من قلة, عشنا سويا قرابة العام, ثالثتنا الصديق يحي العوض الذي كان كان منزله قريبا منا, عرفت الحاردلو كما يعرف قصاص الأثر عمله , انيقا يقف امام المراة اكثر من مرة , يشد قميصه داخل بنطاله, ويطالع وجهه , ويصفف شعره ليتأكد انه يخرج مكتملا قبل تجيئه سيارة الوزارة لتأخذه الي مكان عمله, كان الحاردلو محبا للحياة شقوفا بها , غارفا من نهرها قدر ما يستطيع, تبتهج روحه للمؤانسه وتفيض احاسيسه رقة تسري علي من حوله مثل عود ندي زكية رائحته, يتنفس الشعر سائحا في جزر روحه الشفيفة يختار مفرادته مثلما يختار خولي ازهاره من بين الحشائش, جاء الحاردلو ومن وراءه تاريخ طويل من السير في درب الحياة ,طالبا في جامعة القاهرة مرتادا منتدياتها الادبية وكاتبا في صحفها اولي قصائده الشعرية تفتح علي حدائق الشعر والمسرح والسينما في عصر نجمات مضيئات فاتن حمامه وشادية ومديحة يسرى وعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب , وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن والفيتوري ومحي الدين فارس وعبد المنعم عبد الحي درس الأدب الأنجليزى وتخصص في لغته ومن هناك كتب اولي مجموعته القصصية ملعون ابوكي بلد التعبير الذى صار مثلا يضربه الناس عندما يهزؤون ساخرين من حكام السودان, وصل الحاردلو الي الخرطوم في ستينات القرن الماضى قبل ان يصلني ونعيش معا فى ثمانينات القرن نفسه زين الصفحات الادبية بأشعاره حين كان للشعر بوح , وللفن اصالة وللمذياع سيادة , وللجريدة سطوة, اشرف الحاردلو علي صفحة الادب في صحيفتي النداء والعلم ونشر قصائد الحب والوله ليفتح نافذة الي مدرسة الشعر المخملي روادها نزار قباني وعمر ابوريشة والياس ابو شبكه يشاركه فيها ابو امنه حامد , والفاتح التيجاني, وعثمان عبد السيد , والسر دوليب ,ومحمد سعد دياب ,انهم جيل من الحداة اضاؤا سما ء العاصمة بالعشق النبيل,نجوم في المجتمع وبيوت الاعراس تهفو لهم قلوب الفتيات فرسان احلام يداعبون خيال الحسان يشار اليهم في المحافل والطرقات عشنا سويا الحاردلو ويحي العوض , وشمس النميري تؤذن للغروب تشتد عليه المعارضة من كل صوب , تعصف المجاعة بالناس في الشرق والغرب يشاركون النمل في بيوته. قاد الطموح الحاردلوالي وزارة الشئون الاجتماعية عندما اختارته الوزيرة يومها فاطمة عبد المحمود مساعدا للوكيل الشاعرعبد المجيد حاج الامين بقرار رئاسي ورغما من تحذيراتنا عدم تركه الخارجية وقبول هذا العرض الغامض ,الا انه اصر علي القبول بأعتبار ان ذلك ربما يقربه من منصب الوكيل , وربما يصير وزيرا, ادخل الحاردلو نفسه في مأزق (غلب الجودية )عندما فصلته الوزيره لاسباب غير معلومة , فلا هو استطاع العودة الي وزارته القديمة لأن العودة تتطلب قرارا جمهوريا من النميري ولا الوزيرة الغاضبة مستعدة لقبوله مرة اخري , فظل معلقا حائرا افضي به البحث عن حل الي البروفسير الراحل محمد عمر بشير الذي توسط له ليعود مرة اخري الخارجية بعد تجربة مريرة تركت اثرا في نفسه, خاض الحاردلو معارك ادبية كثيرة من اهمها معركته مع الروائي والناقد الراحل محمود محمد مدني , كتب محمود يومذاك سلسة مقالات ناقدا فيها ديوانه (غدا نلتقي ) الذي وصفه مدني بأن معظم مفراداته مأخوذة من شعر نزار قباني , وانه يدخل في خانة ادب الفراش , وان الحاردلو نفسه شاعر بلا قضية , فرد الحاردلو علي محمود ردا عنيفا انتهي بمشاجرة واشتباك بالايدي فتدخل الشاعر الراحل عثمان خالد ليفض الاشتباك بين الاثنين, الكثيرون وانا احدهم كنا نأخذ علي الحاردلو محدودية قاموسه الشعري وقدرته علي ترحيل مفرادته وصوره الشعرية من قصيدة الي اخري وهو ما يغيب معه تجدد الابداع عنده , ولكن الحاردلو كان يغضب غضبا شديدا ويرجع رأينا الي مجرد الحسد عليه, في مطلع الستينات شارك الحاردلو ابو امنه حامد والفاتح التجاني وعثمان عبد السيد في طبع الحركة الشعرية بطابع النزارية الوافد الي السودان حيث لم تكن تخلو مكتبة بيت من دواوين نزار قباني طفولة نهد , قالت لي السمراء, الرسم بالكلمات , وخبز وحشيش وقمر , لم يستطع الحاردلو التخلص من نزار قباني الي ان هجر الشعر الفصيح وتحول الي الشعر الدارجي الذي غلب عليه في الفترة الاخيرة فصارت له قضية لأول مرة في حياته ثم سلطت عليه الاضواء مرة اخري عندما كتب قصيدته ( تقولي منو وتقولي شنو ) التي غناها الفنان عثمان اليمني و(يابلدي ياحبوب ) التي انشدها محمد وردي.
لم ينتم الحاردلو الي اى حزب سياسيى في حياته , كان يكتب قصائد معارضة للنميري باسماء مستعاره حتي لا ينكشف امره للجهات الامنية , و في العام نفسه الذي شاركني فيه السكن انخرط يعمل معنا يحي العوض , والطيب محمد الطيب , وحسن جواري وانا في فرقة مسرحية اطلقنا عليها اسم (دفوف,) كانت فكرة الفرقة هي ان تقدم التراث السوداني من مصادره دون تدخل لتغيير طبيعته , وبدأنا اول مابدأنا بتقديم طقس الزار فأخذتنا جرأة الطيب محمد الطيب الي قاع المدينة حيث الذين يؤدون طقس الزار علي اصوله, قدمت الفرقة اول عرض لها علي مسرح المجلس القومي للفنون والاداب , واخترنا قصيدة الحاردلو (تقول منو ) خلفية موسيقية بصوت المذيع المبدع الراحل سمير ابوسمرة, كان المسرح حاشدا والعرض شيقا حضره وزير الاعلام عمر الحاج موسي الذي امر بعد نهاية العرض منعنا من الاستمرار في تقديم مشهد الزار بعناصر من قاع المدينة .
في عام 1983 ذهبت من صحيفة الراية القطرية الي تونس لحضور مؤتمر دولي دعما للقضية الأرترية , هناك التقيت الصديقين عمر السورِي مساعد الامين العام لاتحاد الصحفيين العرب حينذاك, وادريس عو ض الكريم المتفرغ لدعم الثورة الاريترية والذي كان يعمل في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قيادة الدكتور جورج حبش هرب ادريس عوض الكريم من السودان بعد انقلاب يوليو متخفيا حتي وصل الاراضي الاريترية التي تسيطر عليها الجبهة الشعبية بقيادة اسياس افورقي ومن هناك وصل الي بيروت لينضم الي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يعمل في صفوفها مترجما , التقينا ثلاثتنا في تونس اتصلت اول ما اتصلت بصديقي سيد احمد الحاردلو الذي كان يعمل ضمن بعثة السودان فى الجامعة العربية بعد ان انتقل مقرها الي تونس اثر زيارة السادات الشهيرة للقدس
رحب بنا الحاردلو ووعد بزايارتنا في الفندق الذي ننزل فيه , ولكنه استبدل ذلك بدعوة عشاء سريعة في منزله الكائن في احد الاحياء الراقية في تونس فشكرنا ه علي الدعوة ووعد هو بارسال سيارته لايصالنا المنزل , ولكنه عاد مرة اخري وطلب منا طلبا غريبا استهجناه بشدة وهو ان نتخلص من ادريس عوض الكريم اي( نزوغ ) منه ,لأن الرجل في رأيه مشبوه , وأنه يخشي من مسئول الامن بالسفارة الذي سيحضر العشاء, كان رفضنا الغاضب سريعا للطلب إما ادريس معنا أو رفضنا الدعوة كلها وشكرا , فتراجع الحاردلو معتذرا , ووافق علي حضور ادريس ولكنه فرض علينا مرة اخري شرطا جديدا هو الا نتحدث في السياسة في حضرة السفير ومسئول الامن , فعدنا مرة اخري وصرفنا النظر نهائيا عن الدعوة الي ان حضر بنفسه الي الفندق شارحا ظروف منصبه , وجادلنا حتي اقنعنا فقبلنا تلبية الدعوة ولكن بشروطنا نحن ليس بشروطه هو , اخذتنا سيارته الي المنزل هناك وجدنا الصديق عباس اباسعيد الذي كان يعمل مستشارا في اليونسكو بأدارة الدكتور محي الدين صابر, وكذا السفير عبد الله الحسن ومسئول الامن في السفارة, كان الحاردلو مضطربا ومتوجسا طيلة ساعات العشاء وكان الحديث مرتبكا جدا يبتدره المضيف بالحديث عن الشعر ثم نجد انفسنا نقترب من السياسة فيتدخل ليحرفنا الي موضوع اخر.
في بداية الجلسة طلب السفير من الحاردلو ان يقدمنا له , فقدمت نفسي صحافيا يعمل بجريدة الراية القطرية , وقدم عمر السوري نفسه امينا مساعدا في اتحاد الصحفيين العرب , وقدم ادريس عوض الكريم نفسه صحافيا حرا ومترجما , فعاد السفير يستفسر ادريس مرة اخري صحافى في اي جريدة ؟ ومترجما في اي جهة ؟ فغضب ادريس لتحقيق السفير معه , وفجر قنبلته عندما قال له , انا اسمي ادريس عوض الكريم وعضو في الحزب الشيوعي السوداني , وكنت رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم , وهارب من النميرى واعمل الان مناضلا مع الجبهة الشعبية التي زعيمها الشيوعي الكبير جورج حبش , هل ارتحت ام ازيدك من الشعر بيت؟, وهنا كاد قلب الحاردلو ان يسقط تحت قدميه فغادر السفير ومسئول الامن حفل العشاء وضحكنا يومها ضحكا كثيرا ولم يتصل بنا الحاردلو مرة اخري حتي غادرنا تونس .
تفرقت بنا السبل وهاجرت انا الي الخليج وعاد الحاردلو الي السودان ليختار سفيرا في اليمن وبعد سقوط النميري في انتفاضة ابريل دخل الحاردلو السفير في معركة مع الجبهجية الذين كانو يسيطرون علي الجالية السودانية في اليمن حتي اطاح بهم منها , ونشرت ذلك الصحف
ومن تلك الحادثة وضع الاسلاميون الحاردلو في راسهم حتي انتقموا منه بفصله من الخارجية بعد نجاح انقلابهم المشئوم
استمر الحاردلو سفير للسودان في صنعاء حتي قيام انقلاب يوليو 89 الذي قاده الاخوان المسلمون ولم يتأن حتي يتبين من هم وراء الانقلاب ,فعقد علي الفور مؤتمرا صحفيا أيد فيه النظام الجديد , ومع ذلك كان هو أول ضحيه للنظام الذي أيده حيث شملته عملية التطهير التي اطلق عليها الصالح العام, وجد الحاردلو نفسه وحيدا لايجد من يحدثه فقرر الانضمام للمعارضة , وشرع في كتابة اشعار مسجلة بصوته في الكاسيت يهاجم فيها رموز النظام , لا زلت احتفظ ببعض منها , كان يكتب البيانات والقصائد يرسلها للسودانيين في المهجر وداوم علي هذا الحال ورفض الرجوع الي السودان فمنحه الرئيس علي عبد الله صالح الجواز اليمني وأمر بأن يكون الحاردلو ضيفا بكامل امتيازاته علي رئاسة الجمهورية طالما بقي في اليمن .
انهمك الحاردلو في معارضة النظام سلاحه الشعر حتي وقعت حادثة ارجاع اسرته من مطار الخرطوم ومنعها السفر الي اليمن للحاق به وقفنا كلنا معه , ونشرنا القصة في عدد من الصحف الخليجية ,عبرت الحادثة البحار , ووصلت الي منظمات حقوق الانسان حتي مجلس العموم البريطاني اثار قضية اسرة الحاردلو وطالب الحكومة السودانية بالافراج عن الاسرة ,ومن جانبه قام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح متوسطا لدي السلطات السودانية من أجل السماح للاسرة بالمجيء الي اليمن, كان الحاردلو يتصل بي يوميا ويبلغني خطوة بخطوة بما جري وما قد يجري, كنت اطمأنه بأن الفرج قريب وما عليه الا الصبر ,غير ان المشهد تغير فجأة وحملت وكالة الصحافة خبر ا عاجلا يقول السفير السوداني السابق في اليمن ينفي انضمامه الي المعارضة ويقرر العودة الي السودان, سارعت في الاتصال بالحاردلو للتأكد من الخبر ولكن هاتفه كان مغلقا طوال الوقت, بعد فترة حملت الانباء ان الحاردلو عاد الي السودان في رفقة مسئول حكومى كبير هو صديقه 00000 بعد ان وعده بأنه سيقنع المسئولين بأعادته مرة اخري الي وزارة الخارجية , وهكذا توزع الراحل بين المعارضة والتأييد حتي اصيب بمرض الفشل الكلوي .
جاء الحاردلو الي الدوحة في عام2004 لأجراء عملية نقل كليه اليه علي يد النطاسي البارع الدكتور الفاضل الملك , شكلنا له لجنة خاصة بمبادرة من صديقه السفير السابق احمد يوسف التني الذي كان علي اتصال يومي به في السودان , عكفت تلك اللجنة علي التحضير لأستقبال الشاعر الكبير وجري استقباله في المطار كأحسن مايكون الاستقبال, انزل الحاردلو واسرته والمتبرع في شقة سكنية فاخرة ومن السعودية اتصل بنا السفير الراحل كمال احمد داؤد والذي ابلغنا بأن مكتب الامير طلال بن عبد العزيز تبرع للحاردلو بمائة الف ريال سعودى اسهاما في كلفة العملية اضافة الي حملة تبرع كبري انتظمت دول الخليج , السعودية والامارات , والكويت , والبحرين وسلطنة عمان وقطر , إلا رحم الله الحاردلو رحمة واسعة وغفر له وأسكنه الجنة وأنزل السكينة والصبر على أسرته وأهله وصحبه وانا لله وانا اليه راجعــــــــون ولا حول ولاقوة الا بالله !
----------------------------------------------------
*رحل عن عالمنا  ظهر يوم الجمعة 8/6/2012 في الخرطوم الشاعر والدبلوماسي السوداني المعروف سيد أحمد الحردلو عن 72 عاماً أمضاها في العمل الدبلوماسي والصحفي والتربوي. وقد ولد الحردلو عام 1940 في قرية ناوا شمال السودان، وحصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها عام 1965. عمل مستشارًا بسفارة السودان في كنشاسا عام 1975، فوزيراً مفوضاً عام 1977، ثم عين سفيراً عام 1980، فسفيراً فوق العادة 1987- 1989، فيما تقاعد عام 1989.

عمل الحردلو محرراً ومراسلاً لبعض الصحف السودانية والعربية. شارك في العديد من المؤتمرات الرسمية، واللقاءات والمهرجانات الثقافية. وله مجموعة مؤلفات شعرية منها: مقدمات 1970، كتاب مفتوح إلى حضرة الإمام 1985، بكائية على بحر القلزم 1985، خربشات على دفتر الوطن 1997، الخرطوم يا حبيبتي 1999، أنتم الناس أيها اليمانون 1999 إلى جانب الكثير من الأشعار بالعامية السودانية. وله مجموعة قصصية بعنوان (ملعون أبوكي بلد)، وغيرها من الكتب الشعرية بالعامية السودانية. درس شعره وكتب عنه مصطفى السحرتي، تاج السر الحسن، عزالدين إسماعيل، محمود أمين العالم، أحمد رشدي صالح، غادة السمان.





Bottom of Form


الخميس، يونيو 21، 2012

القبـــــــــرة ... !


  
برسي بيش شيللي
الى قُبَرة
ترجمة ماجد الحيدر
---------------------


سلاما ، أيها الروح السعيد
ما كنتَ يوما محض طير
أنت يا مَن مِن السماء ، أو من تخومها
تُسيل قلبك الجياش
في ألحان غزيرةٍ .. من فنٍّ عفوي
**
عاليا عاليا تثب
مودعا وجه الأرض
كغمامة من نار
تشق طريقها في الزرقة العميقة
أبدا تحلق إذ تغني … أبدا تغني إذ تحلق
**
في الغسق الذهبي للشمس الغارقة
الفوقها تبرق الغيوم
تعوم أنت وتجري
كسعادة لا جسد لها .. بدأت للتو سباقها
**
المساء الشاحب الأرجواني
يذوب حول تحليقك
كنجمة في ضوء نهار فسيح
لستَ بالمرئي ولكن
ها أنا أسمع نشوتك الصارخة
**
ثاقبة كسهام تلك الكرة الفضية
التي يتلاشى مصباحها الوهاج رويدا رويدا
في الفجر الأبيض الوضيئ
حتى لا نعود نراها غير أننا
نحس بوجودها
**
الأرض كلها والهواء
يضجان بصادح النغم
كما - حين يعرى الليل من شارد الغمام -
يمطر البدر سناه
حتى تفيض به السماء
**
ما أنت ؟ إنا لنجهل ما أنت
ما أشبهُ الأشياء بك ؟
من حضورك تتنزل شآبيب من ألحان
لا تجود بها غمائم حبلى
وشحتها أقواس قزح
**
كشاعر يتوارى في ضياء الفكر
ينشد طوعا ترانيم لم يُسألها
حتى يضج الكون .. برقيق العواطف
ولا يبالي .. بالخوف والآمال
**
كعذراء نبيلة .. في برج قصرها
تداوي في ساعة سرية
روحها الجريح بالعشق
بموسيقى عذبة كالحب … تغمر مخدعها
**
كسراج ليلٍ ذهبي
بوادٍ غارقٍ بالندى
ينثر في خفاءٍ .. ضياءه الأثيري
بين زهر وعشب
يحجبانه عن الناظرين
**
كوردة تغفو في كأسها الأخضر
يوقظها تنفس الريح الدافئ
حتى ليجعل ما تبذل من أريج
تلك اللصوص الثقال الأجنحة
تترنح سكرى بالجمال
**
من وقع غيث الربيع
على العشب المتلألئ
من زهور أيقظها المطر
من كل رخصٍ بهيج
موسيقاك أعذب وأحلى
**
علّمنا – طيراً كنت أم روحاً
أي عذب من الخواطر تملك
ما سمعتُ يوما مديحا للحب أو للراح
نابضا بفيضٍ من هكذا نشوةٍ قدسية
**
أغنياتُ العرس .. أناشيدُ الظفر
إزاءك ليست .. غير تبجحٍ فارغ
غير شيءٍ نحس فيه
بنقصانٍ خفي
**
أي شيءٍ ينابيع لحنك السعيد ؟
أية حقول ؟ أية أمواج ؟ أية جبال ؟
أية صورٍ للسموات أو للأرض ؟
أي عشقٍ من جنسك أنت ؟
أي جهلٍ بالألــم !؟
**
ليس من محل للتراخي
في فرحك العارم البريء
وظلال الانزعاج منك ما دنت
عاشق أنت ولكن
ما عانيتَ شبَع الحب
**
نائما كنتَ أم يقظانا
ترى في الموت أشياء أصدق وأعمق
منا معشر الفانين
وإلا فخبرني كيف لألحانك أن تسيل
في هكذا جدولٍ من بلّور ؟
**
ننظر في أمسنا والغد
ونتوق لما لن يكون
أصدق ضحكاتنا تعج
بشيء من ألم
وأعذب أغنياتنا تروي أمرّ الأحزان
**
ولو كان في يدنا
أن نزدري الحزن والخوف والتيه
لو كنا أشياء ولدت كي لا تذرف الدموع
ليت شعري كيف كنا سندنو من سرورك ؟
**
لَشعرُك الذي ترتجل
يا من تزدري الأرض
أحلى من كل لحن بهيج
وأثمن من كل كنزٍ
يرقد في أدراج الكتب !
**
ألا فلتعلمني نصف السعادة التي
لا بد يعرفها عقلك
لَيفيضن عندها من شفاهي
من نغمٍ مجنون
ما يرغم العالم على الإنصات .. كما أنصت الساعةَ إليك !


To a Skylark


by Percy Bysshe Shelley
(1803-1822)

Hail to thee, blithe spirit!
Bird thou never wert-
That from heaven or near it
Pourest thy full heart
In profuse strains of unpremeditated art.

Higher still and higher
From the earth thou springest,
Like a cloud of fire;
The blue deep thou wingest,
And singing still dost soar, and soaring ever singest.

In the golden light ning
Of the sunken sun,
O er which clouds are bright ning,
Thou dost float and run,
Like an unbodied joy whose race is just begun.

The pale purple even
Melts around thy flight;
Like a star of heaven,
In the broad daylight
Thou art unseen, but yet I hear thy shrill delight-

Keen as are the arrows
Of that silver sphere
Whose intense lamp narrows
In the white dawn clear,
Until we hardly see, we feel that it is there.

All the earth and air
With thy voice is loud,
As when night is bare,
From one lonely cloud
The moon rains out her beams, and heaven is overflow d.

What thou art we know not;
What is most like thee?
From rainbow clouds there flow not
Drops so bright to see,
As from thy presence showers a rain of melody:-

Like a poet hidden
In the light of thought,
Singing hymns unbidden,
Till the world is wrought
To sympathy with hopes and fears it heeded not:

Like a high-born maiden
In a palace tower,
Soothing her love-laden
Soul in secret hour
With music sweet as love, which overflows her bower:

Like a glow-worm golden
In a dell of dew,
Scattering unbeholden
Its aërial hue
Among the flowers and grass which screen it from the view:

Like a rose embower d
In its own green leaves,
By warm winds deflower d,
Till the scent it gives
Makes faint with too much sweet those heavy-wingèd thieves.

Sound of vernal showers
On the twinkling grass,
Rain-awaken d flowers-
All that ever was
Joyous and clear and fresh-thy music doth surpass.

Teach us, sprite or bird,
What sweet thoughts are thine:
I have never heard
Praise of love or wine
That panted forth a flood of rapture so divine.

Chorus hymeneal,
Or triumphal chant,
Match d with thine would be all
But an empty vaunt-
A thin wherein we feel there is some hidden want.

What objects are the fountains
Of thy happy strain?
What fields, or waves, or mountains?
What shapes of sky or plain?
What love of thine own kind? what ignorance of pain?

With thy clear keen joyance
Languor cannot be:
Shadow of annoyance
Never came near thee:
Thou lovest, but ne er knew love s sad satiety.

Waking or asleep,
Thou of death must deem
Things more true and deep
Than we mortals dream,
Or how could thy notes flow in such a crystal stream?

We look before and after,
And pine for what is not:
Our sincerest laughter
With some pain is fraught;
Our sweetest songs are those that tell of saddest thought.

Yet, if we could scorn
Hate and pride and fear,
If we were things born
Not to shed a tear,
I know not how thy joy we ever should come near.

Better than all measures
Of delightful sound,
Better than all treasures
That in books are found,
Thy skill to poet were, thou scorner of the ground!

Teach me half the gladness
That thy brain must know;
Such harmonious madness
From my lips would flow,
The world should listen then, as I am listening now.