Powered By Blogger

السبت، سبتمبر 29، 2012

إلي المرأة السودانية ... !

                                                  * معتقلات في سجون الديكتاتورية *

إليها وهي الجسورة في ثورتها ...!
---------------------------------
فليكن !
أنتظرناك طويلا
و" قرفنا " * !
خفنا بما يكفي لنذكر كل ما شاءوا لنا نسيانه !
نامي قليلا
نامي قليلا ثم سيري في إحتشادات الجنود
إلي زقاق فيه جثة خوفهم ...
خوفهم المرتب كي يقيم
وخوف العسكر الكاكي ،
لونا كئيبا يزحف في الطريق
يوزع الدم القاني
ويشرع في الحريق !
خوف عيني قاتل
من أن يحدق في إرتباكهما القتيل !
أنت جميلة الثوار في هذا " العجاج " *
بناره ودخانه
سيري ... فأنت ذاكرة البلاد
تمر بين عيونهم
ولك الطريق
لك الطريق
لك الشوارع كلها ،
علي امتداد مكانها
لك الحياة بطولها ،
بحلوها وبمرها !
فسيري ...
سيري مثلما بدأت ...
خذينا حيثما شاءت خطاك ،
و ... حيث شئت !
أغنية لأغنية
ونصرا لنصر ...
وأينما أعطت يداك إشارة
فهي النداء :
القيادة والدليل !
------------------------------------------------------------
* الكتابة لمناسبة أنتفاضات الشعب السوداني لأسقاط نظام المتأسلمين !
* " قرفنا " : منظمة لشباب الثورة والتغيير تعمل عبر " الفيس " وفي الشارع !
* " العجاج " هو أعصار الغبار ، وقد أطلقت في الناس وصفا ليوم بدء الأنتفاضات السودانية " الكتاحة " وهما لفظان لموصوف واحد : الإنتفاضة !
 

موت جيفارا : ثلاث لوحات ، و ... ووردة !


اللوحة الأولي :
السبت ، 12 يوليو 1997م ، عند العاشرة من صباح ذلك اليوم الشتائي البارد ، كانت بعثة علمية تنقب لأكثر من شهر في أدغال وأحراش بوليفيا تبحث عن مقبرة جماعية تضم رفات الزعيم الثوري والقائد الأممي الشيوعي " أرنستو تشي جيفارا " ورفاقه ! البعثة العلمية ضمت علماء آثار وتنقيب ، وعلماء في التاريخ السياسي والطبيعي ، أكاديميون متخصصون وعلماء حفريات ، ومؤرخو حقب معاصرة ، ومتطوعون يدفعهم توقهم الأنساني النبيل لمعرفة الحقيقة ، وكشفها للملأ ! في ذلك الصباح البارد المتلفع بالغيوم الدكناء ويخالطها البياض ، ، فجأة ، رن معول أحدهم فوق عظام أنسان فصاح في وجه الكون بفرح طاغ مجنون : " وجدته ... وجدته ، هنا يرقد رفات أسطورة القرن العشرين ! " بحرص وبطء كثير توسعوا في الحفر ، ومن وسط ركام التراب الرمادي الداكن المخلوط بالحشائش الخضر ، والنباتات البرية الشرسة ، من بين أكوام التراب المبتل الرطب ، أخرجت هياكل بشرية لستة آدميين ! ومن بينها جميعا كان رفات جيفارا ، واضحا كما الحقيقة و ... ساطعا كما التاريخ ، ومحدد كمقصلة : كان أطولهم ، أطرافه العظمية محددة جدا ومعلومة بسبب من شهرته العالمية وسماته المعروفة ... أطراف يديه ورجليه مقطعات ، ومسجيات بعشوائية فوق هيكله العظمي ! أصابع يديه ، ويديه نفسهما وساقاه ، كانت معروفة بتفاصيلها كلها لعلماء وخبراء البعثة عالية التخصص ! أما الجمجمة ، فقد كانت هي جمجمته بلا أدني شك ، فقد أجريت عليها في حياته أبحاث ودراسات كثيرة عظيمة ، كشأن جماجم العظماء في التاريخ البشري ! بدأت البعثة تعمل بنشاط كثير وحماس علمي كبير ، في ذلك الصقيع والبرد ، فأستخرجت ست هياكل كاملة لهؤلاء الأبطال ، الذين اغتيلوا جميعهم ، في ليلة واحدة ، وبآلة القتل نفسها ، وبالبشاعة ذاتها ، وبأصرار " دولي " غريب " خططت إليه وقادته ثم نفذته الولايات المتحدة الاميريكية ! عند ترتيب رفاتهم ، بدأوا كأبطال خرافيين كبار ، رجال عظماء بقامات باذخة ، يضيئون - كالشموع والرايات - في الجوهر من قلب التاريخ الأنساني للبشرية ! سبعة عشر عالما وقفوا ، دقيقة كاملة ، تحية وأجلالا للرجال الأسطوريين ! بعد ثلاثين عاما ، يظهر للدنيا كلها ، الرفات الذي يلخص الثورية والشجاعة والنبالة والجسارة ... فيعود جيفارا ورفاقه أحياءا في الدنيا وفي الضمير الأنساني علي أمتداد الحقب ، أبطالا يطالون العلا ويعيشون في ذاكرة الكون و ... يضيئون !
اللوحة الثانية :
في التاسع من أكتوبر العام 1967م ، في يوم غابت عنه الشمس و غادرته الغيوم ، وبعيدا عن ضمير العالم ، وسط الأحراش وأشجار الصنوبر العاليات والحشائش الطويلة الخشنة ، في يوم دبق كالصمغ ، مالح وغامض كما الملح والليمون ، حيث لاهواء ولا رياح ، في الهدوء الحزين والسكينة التي تبكي ، وعواء الذئاب يجلل المكان ، حيث كان الرعب حاضرا ، والحقارة والكراهية حاضران ، في ذلك الذرئ الكئيبة ، أغتالت مجموعة ضخمة من جيش بوليفيا ، بتخطيط وتدبير وتمويل من الأستخبارات الامريكية ، وتحت قيادة مجموعة متخصصة من الجنود الامريكيين ، أغتالت - بدم بارد مقزز شنيع - قلب المجموعة الثورية لامريكيا اللاتينية كلها : أرنستو تشي جيفارا ورفاقه المغاوير ! حاصرتهم ، تلك القوات الكثيرة ، لأكثر من ثلاثة أسابيع متصلة ، فصمدوا وقاوموا الجوع والعطش ، وأنعدام التموين والأتصال بالعالم ! وفي اليوم الرابع والعشرين هاجموهم بتلك القوات كثيرة العدد والمجهزة بالاسلحة والعتاد الفتاك ، ضربوهم بالقنابل والغاز والرصاص ! كانت مجزرة دامية ، قرح دام علي وجه الزمان ، وعارا كبيرا سيظل أبد الدهر يجلل وجه امريكيا ، ويدمغها بالبشاعة والنذالة ! أكثر من خمسمائة جندي بوليفي وأكثر من خمسون جنديا أمريكيا ، أصطفوا علي شكل حدوة الحصان ، ليواجهوا ستة رجال يتقدمهم جيفارا ، أعملوا فيهم القتل البشع ، وأبقوا علي جيفارا حيا ، مثخنا بالجراح وبالدم الكثير ! كانت المداهمة ليلا ،والقتل تم ليلا ، ليل بلا قمر ، ولا ريح ، ولا شاهد ! قيدوه ، فأوثقوا حول يديه ورجليه وعنقه ووسطه القيود الغلاظ ، ثم " قطعوا " أطراف يديه وأرجله ، فعلوا ذلك بحقد مجنون وبتشفي الوحوش المفترسات ، وهو يبتسم ، أنهالوا عليه ، علي جسده كله ووجهه ، بأعقاب البنادق والهراوات ، وهو يبتسم ، ويقول لهم من بين الألم والنزيف : " الثورة سوف تنتصر ... حتما ستنتصر يوما ما ! " ... ثم سددوا إلي رأسه رصاصات ست ، أستقرت علي جبينه وأعلي رأسه ، فمات البطل لتوه ! جروهم ودفنوهم في حفرة واحدة و ... ذهبوا ، مجللين بالعار والخزي الشنيع ! وبعد أقل من أسبوع عرف العالم بالجريمة المروعة ... ، وأصبح جيفار ا ، من يومذاك ، أغنية كاملة البهاء في النشيد الأممي وفي الضمير العالمي للأنسانية جمعاء ! وظل قبره مجهولا و ... رفاته مفقودا ولا أثر إليه ! اللوحة الثالثة :
يوم الأحد 13 يوليو 1997م حملت طائرة خاصة رفات جيفارا ورفاقه إلي كوبا العظيمة ... أستقبله بالمطار رفيق كفاحه فيدل كاسترو ، أستقبله ، كمشهد في ملحمة تراجيدية علي مسرح أغريقي باذخ ! وفي " سانتاكلارا " ، علي بعد ثلاثين ميلا غربي هافنا ، كان هنالك ضريحا قد شيد وسط اشجار السرو والأزاهير ، ليرقد فيه إلي الأبد ما تبقي من جثمان الثائر وأسطورة القرن العشرين أرنستو تشي جيفارا العظيم ورفاقه الأبطال !
الوردة :
يوم الجمعة 17 أكتوبر 1997م ، وفي أحتفال أسطوري مهيب ، حيث المكان كله قد أكتظ بالجماهير ، جاءت حشودا من كل أنحاء كوبا وبقيت في المكان ، تظللهم الأحلام والأمنيات والأناشيد ، كما الطيور ، كانت الرؤي الجليلة والنبيلة للأنسانية تجلل المكان ، وبحضور " كاسترو " أبن جيفار ، وحضور فيدل كاستروا نفسه وزعماء ثوريون ورؤوساء وشخصيات وطنية ، وكتاب وشعراء وفنانون ومفكرون من جميع أركان الدنيا ، في ذلك الأحتفال / الأحتشاد الرسمي والشعبي الكبير ، تم دفن أسطورة القرن العشرين : أرنستو تشي جيفارا العظيم ، ووضعت باقات ورود كثيرة علي قبره ، وردة واحدة كبيرة كانت بحجم العالم كله ، كبيرة بما يكفي لتكون ممثلة لكل شعوب العالم المحبة للحرية والديمقراطية والتقدم ، وضعت بحب مبجل كبير علي قبر الثائر العظيم !

أسئلة المطلقات ... !



أسئلة المطلقات للجسد ... !
* إلي الأستاذة الشاعرة : حكمة أحمد ، وكانت قد أرتني وجعا " أنيقا " ، لم تنشره ، بعد ، في الناس  ....


تتناسل كما الأسماك في البركة الراكدة ،
السؤال يجترح الأسئلة
فرحا يوجع بالقلب ...
شوكة في خصرها
السنبلة !
ضجيج الجسد ،
للجميلات في الخاصرة !
رنات ورعشات ...
في الجسد المخضوض ،
الملعون ،
ببرد الأطراف والذاكرة !
لكنها الشعلة النازفة
في المياه اللامعة
معتمة ... داكنة !
تتناسل أيضا ،
ضربات صماء داوية .

...   ...   ...

أنا وأنا وأنا : المطلقة بثلاث :
أسئلة المطلقات - وهن الجسد -
في فضائهن الأثير
فهذا الوجع الخرافي المجيد ،
كثير ... كثير ... كثير !

ثلاث مرات ،
مثلهن المطلقات :
واحدة
أثنتان ،
ثلاث !

درويش ، في ذكراه الحاضرة فينا !

                                                     *درويش وأمه حورية *

حول مرض درويش ،
ولحظاته الأخيرة ... !
-----------------------
ناشدها الحياة :
" علي مهلك ،
  انتظريني إلي أن تجف الثمالة في قدحي !" .


لربما كان يتلفت حوله بين الحين والأخر ليري أن كان نجح في تضليل الموت ، وفي نفس الوقت وفي كل الأوقات كان درويش يواصل ، باصرار راسخ وتكثيف فذ ، ممارسة مهنته الوحيدة في الحياة : كتابة القصائد ! العام 2007 كان قد أجري مراجعات طبية عديدة في بيروت وباريس ، يومذاك ، أدرك بيقين كامل أنه أمام خيارات صعبة وأدرك أكثر حرج حالته الصحية ! كان قد سبق له أن أجري جراحة كبيرة للقلب في باريس بعد أن عاني إنتفاخا وتمددا في القسم الأسفل من الشريان الأبهر ( الأورطي ) ...
أجري الطبيب الفرنسي جان ميشيل كورمييه ، أكبر جراحي الشرايين في فرنسا وطاقمه بنجاح عملية كبيرة للشاعر لإزالة الجزء المصاب وإستبداله . ولكن بعد العملية ، وخلال فترة استيقاظه من التخدير ، حدثت مضاعفات تناثر خلالها الكولسترول الموجود بنسب عالية وغير عادية علي جدران شرايين الشاعر نحو الساقين ، محدثا عدة جلطات . فلجأ الأطباء إلي وقف عملية الإستيقاظ ، وإلي تنويمه إصطناعيا ، وجعلوا الرئة والكلي تعمل علي أجهزة لعدة أيام ، عملوا خلالها علي المراقبة والحد من تأثير الجلطات إلي أن أستعاد عافيته ! خلال المراجعات الطبية لحالته العام 2007 ، أكد له الطبيب الفرنسي حرج وضعه الصحي . كان هناك إنتفاخ وتمدد في القسم العلوي من الشريان الأبهر ، والأرقام والبيانات كانت مقلقة للغاية ، وتقترب من الخطوط الحمراء : خطوط الموت ! وبسبب من الصداقة والمودة الإنسانية التي نشأت وتعمقت بين الطبيب الفرنسي والشاعر ، فقد حذره بوضوح كثير بأنه يحمل في صدره لغما قد ينفجر في أي لحظة !
في مستشفي هيوستن بصحراء تكساس  ، يوم الثلاثاء أجريت للشاعر عملية قسطرة . كان في حالة اعياء علي سريره بعد العملية ، لكن الأخبار كانت مطمئنة : " لم يفرقع الكلوسترول ولم يتناثر "! هنالك شريانان رئيسيان مغلقان بنسبة كبيرة ، لكن هنالك شرايين أخري صغيرة أخذت تتفتح وتعوض عمل الشريانان ، الأمر مطمئن إذن ! ثم أصدر الطبيب قراره : أن القلب جاهز لاجراء العملية الكبيرة غدا !
عندما أبلغه أكرم هنيه أن الياس خوري أتصل من بيروت مبتهجا وسيذهب ليحتفل بنجاح القسطرة ، قال له الشاعر من بين اعيائه : " قل له أن يؤجل الأحتفال إلي ما بعد عملية الغد " ! في المساء كان الشاعر مسكونا بهواجس الخوف من العملية الكبيرة . كانوا يطمئنونه ، أنه أجتاز القسطرة بنجاح ولم ينفجر الكولسترول ، وأنه في أفضل مستشفي في العالم ، وفي رعاية أفضل أطباء العالم أيضا ... قال الشاعر لهم : " القسطرة كانت ذبابة في صحن طعامي ، أما عملية الغد فشئ آخر !" . وعندما قال له أكرم مطمئنا : " ستمر بسلام ، ويمكنك بعدها أن تكتب قصيدة جديدة بعنوان  ذبابة في صحراء تكساس " ، دوت ضحكته العميقة في أرجاء الغرفة ، كانت تلك ضحكته الأخيرة !
صباح الأربعاء، يوم العملية ، كان متعبا إذ لم ينم ليلته جيدا . خلع نظارته وساعته وناولهما لعلي حليلة ، وتحرك به موكب الأطباء والممرضين صوب غرفة العملية ، كان مرافقاه ، أكرم هنية وعلي حليلة يرافقانه ، في المنطقة المحظور دخولها لغير الكادر الطبي المرافق توقف الركب قليلا ، خاطب الشاعر صديقاه : " خلص ، بكفي لحد هون "  ، تلك كانت كلماته الأخيرة !
الأخبار الأولية للعملية ، كانت أيضا مطمئنة . فقد نفذت في وقت قصير نسبيا ، وعملية إزالة الجزء المصاب وإستبداله تمت في زمن قياسي لا يتجاوز 22 دقيقة فقط مما يقلل من احتمال تعرضه للخطر .
صباح الخميس كان محمود لا يحرك أطرافه ، وكان هنالك إحتمال أن يكون ذلك بسبب من التخدير . أمام الغرفة 24 /غرفته في قسم العناية المكثفة ، كانت جمهرة من الأطباء ، الشاعر يحرك أحد أطرافه . ولتحفيزه أدخلوا إليه أكرم وعلي ، نادياه : " محمود ... محمود " ، فتح عينيه وتطلع إليهما دون أن يحرك رأسه! كان يجب الإنتظار 24 ساعة لمعرفة مدي نجاح العملية وامكانية سلامة الشاعر ! في الظهيرة كانت هناك حاجة لأجراء عملية لإستئصال " القولون " بعد أن أصيب بزخات عديدة من الكولسترول ! بعد الظهر أعلن طبيب الأعصاب : لقد تناثرت زخات الكولسترول  وتسببت ببعض الجلطات في الدماغ ، وبعض مناطق أخري من جسم الشاعر ! يااااااه ، بداية العطب ! أستطرد الطبيب ، بعض خلايا الدماغ أصيبت ، وبقية أخري منها لا يزال يعمل وأن نسبة النجاح لا تتجاوز 10% !!!!!
يوم الجمعة كان طويلا طويلا علي الشاعر ، لكنه لم يكن ليشعر بالألم ، ولم يكن أيضا في حالة موت سريري ... لم يكن – علي الأرجح – يسمع لمن كانوا يحادثونه ، الوضع أصبح صعبا ، صعبا جدا ، والأطباء بذلوا ما فوق طاقتهم !  صباح السبت نقل محمود مرة أخري إلي غرفة العمليات . كانت أخبارا مخيفة تأتي : زخات الكولسترول المتناثرة قد ضربت معظم أجهزة الجسم ، ولم يكن هناك الكثير مما يمكن عمله إلا بعمليات إستئصال جديدة ليست بذات نفع ولا جدوي ... تم تشغيل الأجهزة لتقوم بعمل أجهزة الجسم التي تعطلت أو تكاد !
ثم أنتشر – قبل الوفاة – خبر موت الشاعر ، بثته في العالم " الجزيرة " التي تلهث صوب المال والمصالح والسبق الزائف ! كانت الوفاة مساء السبت عند الساعة 35 : 9 ، توقف قلب الشاعر ...
صعق العالم كله لموت الشاعر ، أكبر وأجمل شعراء العرب علي مر تاريخهم ، مات درويش !

الشياطين ... !


------------------

تذكرتهما ، معا ، هذا الصباح ، دمهما رأيته يلون بالأحمر غمام الخريف ،
قتلوهما شنقا المتأسلمين ، بدم بارد وقلب جبان ، ثم – من بعد – نكصوا عما كانوا يقولون به ، فيالنفاقهم وكذبهم ، الدم في وجوههم ، الدم في أياديهم ، وقلوبهم سوداء ... سوداء ، فيالبشاعة المتأسلمين !

----------------------------------

مجدي محجوب 1954- 1989م

مـجـدي مـحجـوب مـحـمد أحـمـد، وُلد في يوم 24 نوفمبر سنة 1954 بالخرطوم “2? لعائلة ثرية، ووالده المليونير المرحوم محجوب محمد أحمد، درس المرحلة الابتدائية والمتوسطة بمدارس الخرطوم. تلقى تعليمه الثانوي بمدارس كمبوني بالخرطوم. سافر لبريطانيا لإكمال تعليمه الجامعي وتحضير درجة الماجستير في هندسة الكمبيوتر، وقبل إكماله لدرجة الماجستير بمعهد “ساوث هامبتون” للدراسات العليا بلندن، عاد للسودان عام 1986 أثر علمه بنبأ وفاة والده،. تم اعتقاله في الإسبوع الثاني من شهر نوفمبر1989

 اتهم بالاتجار بالعملة بعد عثور قوات الأمن لأوراق مالية بالعملة الأجنبية خلفها والده في خزينته بالمنزل، وهي أموال ورثة (لم يتم توريثها ساعتئذٍ، لحين عودة جميع أبناء المرحوم من مهجرهم، وقد كان الشهيد مجدي هو الابن الوحيد للمرحوم من الذكور الموجودين بالسودان !.

 تمت محاكمته بتشكيل محكمة هزلية عسكرية في الجمعة الأخيرة من شهر نوفمبر 1989، وصدر الحكم ضده بالإعدام شنقاً حتى الموت ومصادرة جميع أموال الورثة الموجودة بالخزينة وتاتى المفارقة الماساوية … بعد ثلاثين شهرا من اعدام مجدى وجرجس واركانقو يصدر وزير المالية السودانى عبدالرحيم حمدى قرارا يقضى بالسماح بحيازة النقدالاجنبى !

 

 أما الواثق صباح الخير ، فقد قال عنه صاحب " الأخوات " محمد الصادق الحاج :

"بوُسْعِ الظِّلّ (كنتُ مَرَّةً لحظةَ ملامسةِ القلمِ للورقة، واْختبرتُ بغايةِ الألمِ عناءَ أنْ تنتهضَ صيرورةٌ بخدمة النَّفخِ على الكلماتِ لتشتعل. أردتُ عند بداية هذه الفقرة أن أكتبَ «في مستطاع الظِّلّ» غير أنَّ المنكرَ الذي لا يستجيبُ، لا يمكنُ، لا أستطيعُ، لايستطيعُ. الموَسِّعُ. اْستبدلَ مرادي بهُوَّةٍ كبيرةٍ في طبيعةِ الأداء الخبريِّ واْنصرَف!) أن يستعيدَ، بِأَسَىً مسحوبٍ من أكمامِهِ الطَّويلةِ بقاطرةِ الخشبِ المتَّجهةِ من كوشَ إلى الخرطومِ، أحدوثةَ «الواثق صباح الخير»، وأنْ يبصقَ صِفَةً، مِن ثَمَّ، على كُلِّ مَن أصبح ضاحكاً غِبَّ ذاك !".
هكذا يقتلون الناس بدعاوي أسلامية زائفة ، يكفرونهم ليقتلونهم ، ثم يتراجعون عما قالوا ، يتراجعوا عن الأسلام نفسه الذي به يتشدقون ، ويكونوا – بعد الدم والقتل – في حياتهم وادعون ، يكنزون المال والطعام المترف و ... النساء ، ثم يزايدون بأسم الله والأسلام من جديد ... عليهم اللعنات الطغاة الشياطين ... !

 

السبت، سبتمبر 22، 2012

الخونــــــــــــة ... !

                                                                      - الثورة -

الخونــــــــــــــــــــــــة ... !
حكاية مدام لافارج :
------------------

أيقتلك البرد؟
أنا يقتلني نصف الدفء.. ونصف الموقف أكثر
سيدتي.. نحن بغايا مثلك
يزني القهر بنا.. والدين الكاذب.. والفكر الكاذب..
والخبز الكاذب..
والأشعار.. ولون الدم يزور حتى في التأبين رماديا
ويوافق كل الشعب.. او الشعب
وليس الحاكم أعور
سيدتي.. كيف يكون الإنسان شريفاً
وجهاز الأمن يمد يديه بكل مكان
والقادم أخطر !
                              - مظفر النواب -
في الشارع ، حيث التظاهرات الجسورة قد أندلع لهيبها الحارق يحرق وجه الطغيان ، وفي الزنازين وأقبية الأمن في بيوت الأشباح وفي مكاتبهم ودوائرهم ، في العلن أحيانا وفي السر أحيانا كثيرة ، يقوم كلاب الأمن بتعذيب قاس جبان للمعتقلين السياسيين ، بهدف كسر شوكة نضالهم وصلابتهم ، يمارسون إذلالا بشعا لآدميتهم بقصد تشويه قيمهم ومبادئهم العالية النبيلة في حب الوطن والشعب ! يفعلون هذا الأرهاب البشع والنذالة القميئة بدم بارد دون أن يطرف منهم جفن أو يرتعش إليهم ضمير . أنهم مغيبون، وقد أسكرتهم الدولة الباغية بصولجانها وأمتيازاتها وعطاياها التي يتنعمون ويعيشون حياتهم من ثديها المر . بل لقد تمادوا في غيهم وبغيهم فأعتدوا علي النساء وطلاب الثانويات والجامعات ، ثم بلغت بهم الخسة أن نالت أيديهم الملطخة بالدماء رجالا ونساء شرفاء وعلماء وهم في حرمة دور العلم والمعرفة ... كثيرا جدا سألت نفسي : هل فعلا هؤلاء من صلب وأحضان هذا الشعب الأصيل السمح المعلم ، هل هم فعلا سودانيون مثلك ومثلي ؟  أنني لا أتصور أن يوجد مجتمع ما تحدث فيه مثل هذه النذالة ثم لا تثور فيه رعشات الغضب ، وهو غضب لو تعلمون عظيم !
   مدام لافارج ، أمرأة فرنسية في الخامسة والسبعون من عمرها حين إندلعت الثورة والمقاومة الفرنسية ضد الأحتلال النازي . لديها أبنها الوحيد " شار " في العشرين عندما أنضم للثوار في المقاومة ، ناشطا بحيوية ووعي كثير ، كان يأتيها ليلا تحت عباءة الظلام فيزودها بأخبار وأحوال الثورة والثوار ، يحضر إليها الطعام ونشرات المقاومة . كان الشيوعيون والديمقراطيون وفصائل اليسار في طليعة المقاومة وهم المنظمون لها ووقودها ... كان " أراغون " يتولي أمر كتيبة المثقفين وجبهة الشعر في عمل المقاومة، فأصدروا " منشورات نصف الليل " فأنتشرت في طول البلاد وعرضها ، تسعي بين الناس وتستنهضهم للمقاومة ودحر الأحتلال ! كانت مدام " لافارج " تقرأ النشرة بنهم وحرص شديد ، ولما رأتهم يتحدثون عن الخونة من الفرنسيين الذين تعاونوا مع الأحتلال فأرشدوه إلي مواقع المقاومة الحصينة وإلي الثوار أنفسهم ، لتعدمهم سلطات النازي بالرصاص في الميادين العامة والساحات بغية كسر شوكة المقاومة وأرهاب الثوار ، ولقد مارسوا – وياللمفارقة – نفس الأساليب وأدوات التعذيب التي يستعملونها الآن عندنا ضد المعارضين ، فيبدوا أن الحقد والغدر والنذالة واحدة عندما تسكن القلب البشري ، إذ يغدوا الإنسان متحولا إلي شيئا كالذئاب والضواري ! فأجأتهم ، إذن ، مدام " لافارج " ذات ليلة بفكرة باسلة سرعان ما وافقوا عليها ونفذوها علي أكمل وجه ! قالت لهم : " أريد أن أكون في الثورة مثلكم وذات نفع إليها ، لأحس أنني في المقاومة مثلكم . هاتوا لي الأقمشة والخيوط ولدي الأبر والأنوال ، وزودوني بأسماء ومواقع الخونة وأتركوا لي الأمر حتي أنجز هديتي للثورة في يوم أنتصارها " ! في الليلة التالية كانت مدام لافارج تعكف علي خياطة القماش الأحمر وتحيك عليه بالخيوط البيضاء أسماء الخونة ، والثوار أخذوا – عبر واحدا بعينه منهم – يأتونها بكشوفات الخونة وما تحتاجه من القماش والخيوط ، عكفت السيدة المناضلة علي عملها بحماس كثير وبسالة هزمت سنوات عمرها وشيخوختها فغدت يانعة في سيماء الثورة وملامح الثوار ، وليلة أثر ليلة يزداد القماش المستطيل الأحمر طولا وتتلألأ الحروف البيضاء مشعة كقطع الفضة و ... يزداد في قماشها ودفاترها أعداد الخونة ! كانت المقاومة – بفضل تلك الفكرة الباسلة – قد أتقنت عمل آلية لرصد وحصر وتسجيل الخونة ، فيذهب " الأرشيف الخائن " ليلة من بعد ليلة إلي مدام لافارج ، إلي صدرها المحب لوطنها ولشعبها ، ولبغضها الذي يتنامي لخونة بلادها وهي تحت الأحتلال والنير النازي !
عند أنتصار الثورة ودحر النازية وأحتلالها البغيض ، والشعب في أهازيج وأناشيد النصر وأغانيه ، علقت المقاومة الوشاح الأحمر أعلي برج " إيفل " وتدلي يسطع في أفق الثورة والبلاد ، راية حمراء تطلع من ضمير الشعب وتجاريب نضاله الجسور ... خمسمائة مترا من الخونة تدلت من أعلي البرج حتي كادت تلامس ثري الوطن و ... عند أسفل البرج ، تحت الوشاح مباشرة يشرئب تمثالا صقيلا شامخا لمدام لافارج ! أخذت الثورة تقتص من الخونة واحدا واحدا حسب ترتيب أسمائهم علي الوشاح ، فعلت ذلك بتصميم ثوري شجاع حتي أتت عليهم جميعا ! تذكرت ذلك كله وأنا أري الخونة من سدنة النظام وزبانيته ومن أفراد أمن النظام وهم يطاردون الثوار ويعتقلونهم ثم يعذبونهم وينكلون بهم ! ونحن لن نكون باعة للتسامح المريض ، فللثورة أيضا قوانينها ... فيتوجب علي قوي المعارضة ومجموعات الناشطين فيها أن يقوموا بمثل هذا الرصد لمن ينال من الثورة والثوار وليس هنالك من الخونة من سيكون بمنأي عن غضبة الشعب ، وأنني أعرف أن خطوات للرصد والحصر والتسجيل قد بدأت ، لكنها تحتاج التنظيم والأعداد الجيد و ... ليكن " الأرشيف الخائن " واحدا موحدا في موقع حصين أمين أشبه بمركز معلومات حقيقي وسجلا للخونة في بلادنا ، ثم عظة وعبرة – أن وعوها – لمثل هؤلاء الصنف في البشر !

الاثنين، سبتمبر 17، 2012

مسامرة مع حنا مينه ... !

                                                                  - حنا مينه -

-----------------------
 * " سأل الطفل أمه : " لماذا يا أمي تبكي نساء البحارة ؟ " ، قالت الأم : " لأن في عيونهن ماء مالحا يابني ! " . أما أنا فقد ولدت وفي فمي هذا الماء المالح ، لكنه ، هذه المرة ، كان ملح الشقاء ، وملح التجارب ، وملح العذاب ، جسديا وروحيا ، في سبيل العدالة الاجتماعية ، صبوة البشرية إلي الخلاص " .
 لذلك كان بدهيا أن أطرح ، منذ وعيي الوجود ، أسئلتي علي هذا الوجود ، وأن أتعمد ، في البحر بماء العاصفة ، وأن أعاين الموت كفاحا ، في البر والبحر معا ، وما الحياة – قولة الطروسي ، بطل " الشراع والعاصفة " – إلا " كفاح في البحر وفي البر " معا ، وبغير انقطاع ، لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة ، أمنا جميعا ! " .
 - هذا عن الطفولة الباكرة ، تلك هي أحلام الطفولة وقد تعمدت بماء البحر منذ البواكير اليانعات ، وتلك هي البيئة من حولك في تلك الأيام البيضاء والزرقاء والحمراء ، ليس من صارخ في براريها إلا الكفاح في البر والبحر كما قال " الطروسي " ، كيف وقفت علي قدميك وكيف كان المسير الخشن ؟
 * كنت قد بدأت في الثانية عشرة بعجن الصخرة الملعونة ، لكي أصنع منها كسرة خبزي . وكلمت الورقة ، وصرت من بعد ، كاتب رسائل الحي ، لأنني الولد الوحيد ، في حي المستنقع ، الذي تعلم فك الحرففي مدينة إسكندرونة ، في اللواء العربي السليب ، ومن عجب أن كل تلك الرسائل كانت مبللة بالدمع ، سواء التي أكتبها للناس ، أو التي أقرأها لهم ، فالشكوي من الفقر والمرض ، والموت ، تآبين مفجعة في السطور . وكان الذي أكتب له رسالة ، رجلا أو أمرأة ، يملي علي ديباجة تبدأ ، عادة ، بمثل هذا التفجع : " آخ ! علي آخ ! " . هذا ما أنبت في نفسي ، في تلك الطفولة المبكرة ، الشقية ، حبا لا ينتهي للعدالة ، للسعادة ، للفرح ، وزوال الشقاء من الدنيا . وبعد شهادتي الإبتدائية ، وهي الوحيدة التي حصلت عليها ، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات . كان هذا المعلم ، ويدعي عفيف الطويل ، مشبوها ، فقد ضبط ، في أول مايو ، يعلق بيارق صغيرة حمراء علي أعمدة الهاتف ، وفي بيته ، حيث يعيش مع أخته الخياطة ، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع ، الذي كان موضة تلك الأيام . كان معلمي أسمر ، طويلا ، فيه طيبة ، وفيه ملاحة ، لكنه بسيط ، لا يخطر لك ، وأنت تراه ، أنه في حلقة ما ، تعقد اجتماعاتها في المغائر ، علي ضوء الشموع . ولأن معلمي أمي ، فقد كان يأخذني ، مساء ، لأقرأ له بعض النشرات . وفيها ، لأول مرة ، قرأت كلمة فلسفة .
 - صف لي ، يا حنا ، مادار بينك ومعلمك الأول ، ذلك الإنسان الأمي ، التقدمي و يري العالم جيدا !
 * كنت قد سألته مرة حين قرأت منشوراته تلك ولفتت بصيرتي كلمة " فلسفة " :
 قلت أسأله : ما معني فلسفة يامعلمي ؟
 قال : معرفة القوانين ...
 0 أي قوانين ... ؟
 0 القوانين الغربية التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ ، والفقر ، والغني ...
 0 وأين يبيعونها ... ؟
 0 في بلاد " بره " .
 0 ولماذا لا يبيعونها عندنا ؟
 0 لأنها ممنوعة ... وهي مكتوبة بالفرنجي ...
 0 وكيف عرفت بها أنت ؟ !
 0 هذا سر ... أنت صغير بعد ... لا تسألني عن الأسرار !
 أضاف :
 0 الفلسفة كالبحر ... شئ واسع ، عجيب ، لا يفهمه إلا المتعلمون جدا .
 0 ومن الذي صنعها ... ؟
 0 رجل نسيت أسمه .
 خ إجتمعت به ؟
 0 هذا رجل ألماني له لحية كبيرة ... أنا رأيت صورته فقط .
 0 وكيف فهمت كلامه ... ؟
 0 أنا لم أفهم كلامه ... الفلسفة يابني علم صعب . والفيلسوف رجل عالم ، قرأ كل ما كتب عن العالم ، ويعرف كل شئ ، رأسه يتسع للمعرفة ، كما يتسع البحر للماء !
 بعد هذا الحوار مع معلمي ، رحت أتخيل رأس هذا الفيلسوف كبيرا كالجبل ، وجسمه عملاقا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها ، وأنه يحفظ في هذا الرأس ، كل ما كتب ، وأنه عظيم ، لا شبيه له بين الرجال الذين أعرفهم .
 - ذلك أول تعرفك علي كلمة " فلسفة " وحوارك الحائر ، الملئ بدهشة الأسئلة ، وما من أجابات ، لكأنك رأيت ملامحا " غمامية " لوجه لم تتبين تفاصيله ... فكيف كان مدخلك الحقيقي لهذه العوالم الفسيحة الفاتنة ، التي غدت ، في ما بعد ، أيقونات وثيمات وأضواء في كل أعمالك تقريبا : الفلسفة والبحر ، كيف وطأت أول العتبات ؟
 * ذلك كان عبده حسني ، وقد قتل في الحرب الأهلية اللبنانية ... وا أسفاه ! وهو نفسه العامل خليل في روايتي " الثلج يأتي من النافذة " . قرب صورة الفيلسوف إلي ذهني حين قال لي : الفيلسوف يشبه أبن عبده يني . كان هذا صاحب المطبعة الوحيدة في أسكندرونة ، وله أبن يقرأ كثيرا ، ويمشي في الشوارع وحيدا ، شارد النظرات ، صموتا . مفكرا . وقد سمعته يخطب لأول مرة ، حين زار سياسي كبير أسكندرونة عام 1936 ، وخطب في سينما روكسي . مزقت معطفي اليتيم وأنا أزاحم الناس للدخول وسماع ما سوف يقال في ذلك الاجتماع . منذ ذلك اليوم صار للفيلسوف احترام كبير في نفسي ، وأرتسمت له صورة أقرب إلي النحول ، والشعر المنفوش ، والنظرات الشاردة ، والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب " ألف ليلة وليلة " . ورحت أحلم علي طريقتي الصبيانية ، أن أصير فيلسوفا ، إذا ما قرأت كثيرا ، علي ضوء فانوس الكاز ، بعد أن أغلق دكان الدراجات علي نفسي ، عقب انصراف معلمي عفيف الطويل . ولإضفاء المظهر الفلسفي علي نفسي ، طفقت أنفش شعري ، وأسير وحيدا ، وأحمل كتاب " المدارج " في يدي ، وأتعمد قلة الكلام ، وأقول لأترابي متباهيا : أنا أعرف رجالا لاتعرفونهم ، رجالا يحبون الفقراء ويكرهون الفرنسيين والحكومة التي صنعوها لنا ! وحين سجن معلمي عفيف ، ونقل مع بعض رفاقه إلي حلب ، ليحاكم أمام المحكمة الفرنسية المختلطة ، أغلقت الدكان وعملت في الميناء ، وأختلطت بالعمال ، وصرت أنزل البحر في مواعين الشحن . وهناك أرسم علي الأكياس ، بحبر الكوبيا ، بعض الأرقام والماركات ، وأصغي ، من طرف خفي ، إلي ما يقوله العمال عن " السنديكا "، يعنوا بها النقابة .
 - العمال ، النقابة ، الميناء ، السفن ، البحر ، المشورات والسجن ، ما علاقة كل ذلك بالفلسفة ، ما وجدت عندهم حتي أوصلوك لصف الفلسفة و ... هذا البحر الهائل ، الشاسع و المعرفة ؟
 * أتذكر الآن ، ذات يوم ، عند الظهر علي ما أذكر ، كنا قد أفرغنا حمولة الماعون ، وتأخر الزورق الذي يأتي من الميناء ليقطرها ، فجلسنا ، العامل فاضل وأنا ، في قاع الماعون ، نتبادل الحديث ، ، عن المدرسة والشهادة الإبتدائية ، وعما أقرأ من كتب ، وما أن أنس فاضل إلي ، وعرف أنني أحب المطالعة ، وكنت أعمل أجيرا عند عفيف الطويل ، حتي أخرج من تكة سرواله ورقة صغيرة مطوية بعناية ، هي المنشور الأول الذي وقع في يدي . كان فيه ذكر للفلسفة ، فدهشت لأن عاملا مثله يحمل منشورا ولا يخاف ، وأنه من جماعة عفيف الطويل ، وعبده حسني ، وإن لم يذكر هو هذين الأسمين ! قرأت المنشور ولم أفهم ما فيه إلا قليلا ، كان فاضل في الأربعين تقريبا ، فقلت له : يا عم فاضل ، أنا أقرأ " المدارج " فأفهمه ، وأقرأ الإنجيل وكدت أحفظه في المدرسة الإبتدائية ، لكنني في هذين الكتابين ، لم أقرأ أسم فيلسوف ولا كلمة فيلسوف ! قال العم فاضل : في هذه الكتب لا يذكرون ، هذا خطر ، ولا يشرحون كلمة فلسفة ، لأنها صعبة . أنا نفسي لا أعرف ما هي ، لكنني ، نتيجة التجربة ، صرت فيلسوفا علي طريقتي ... أعني تعلمت أن الفلسفة ليست " أكلة مجدرة " ، بل هي عمل ... أن تعمل ، كما نعمل نخن ، تصير فيلسوفا ولو بغير كتب . تأليف نقابة مثلا ، هذا ما تقول به الفلسفة ، أن تحتفل بأول أيار ( مايو ) ، عيد العمال ، ، هذا فلسفة ، أن تتظاهر ضد الفرنسيين ، هذا فلسفة ، أن تثق أن الفقراء لن يبقوا فقراء ، وأن أغنياءنا لن يظلوا يمتصون دمهم ، هذا فلسفة ، أن تعرف أن في بلاد " المسكوب " قامت دولة العمال والفلاحين ، وأنها معنا ، هذا فلسفة ... وأخيرا ، أن تؤمن أن العدالة ستنتصر في كل مكان ، هذا فلسفة !
 - إذن ، تعرفت علي الفلسفة ، أول ما تعلمته منها ، من العمال ، من السياسة في واقع الحياة وراهنا إن جاز لي أن أصفها هكذا ، لا من النظريات المثوثة في الكتب ؟
 * نعم ، وأعترف الآن ، إن هذا العامل البسيط علمني أبجدية الفلسفة ، جعلها مفهومة في نظري . وقد سعيت ، في ركضي وراء الرغيف ، إلي تطبيق نظريته ، وهي – كما تري – ترجمة عملية لمضمون الفلسفة التي قرأتها في المظاهرات ضد فرنسا ، وفي رشق رجال البوليس والدرك بالحجارة . ويوم زار زعيم عربي أسكندرونة قادما من أنطاكية ، وأعتقلته السلطة الفرنسية ، تجمهرت مع الناس أمام السراي ، مطالبين بالإفراج عنه ، ورشقنا السراي بالحجارة ، فكسرنا زجاج نوافذها ، فكان أن أطلقوا النار علينا ، وقتل زميل لي علي مبعدة أمتار مني !
 - مهلا ياحنا ، كنت أظنك في اللاذقية مقيما ، وأنت الآن في أسكندرونة ، و... البحر ، البحر ياحنا ؟
 * صبرك ، شوي صبرك ياصديقي ، سأريك وأوصلك إلي حيث رأيتني . دارت بنا الأيام دورانها ، دخلت تركيا لواء الإسكندرونة ، فهاجرنا – مضطرين – إلي اللأذقية . عملت هناك في قطاف الزيتون ، قمت بتوزيع الصحف ، تعلمت مهنة الحلاقة ، فتحت دكانة صغيرة قريبا من الثكنة . وكنت أقفل دكاني كلما سمعت بإضراب ، أو خرجت مظاهرة . ثم حضرت اجتماعا لعصبة العمل القومي ، تكلم فيه رجل يلبس الفيصلية ، وبيده عصا ، وعلي الجدار خريطة للبلاد العربية . وكل ما وعيته من كلامه ، أن علينا أن نناضل لتوحيد كل هذه البلاد ، وبذلك نصنع دولة كبيرة تقاوم الفرنسيين والإنجليز وتستعيد اللواء وفلسطين ، ومنذئذ صارت الوحدة العربية حلما جميلا ، ثوريا ، في ذاتي !
 - وأين هي القراءة ، إذن ، وأنت في خضم هذا البلبال الثوري المضطرم ، كيف تلمست الخطوة إلي القراءات ، التي ، لا شك ، هي من قادتك - من بعد – إلي بساتين الكتابة ورهقها الجميل ؟
 * في دكان الحلاقة قرأت كثيرا . كان يجتمع عندي بعض طلاب المدارس ، وحتي بعض الذين انتسبوا إلي الجامعة في دمشق ، عند عودتهم إلي اللأذقية ، ويناقشونني في بعض المسائل ، وقد أفدت من هذه المناقشات ، ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرا . وفي أحدي الليالي زارني رجل حلبي بطربوش ، وقدم إلي نفسه بأسم عبد الجليل سيرس ، وقال إنه سمع بي ، وإنه يزور اللأذقية في " مهمة " خاصة ، هدفها إنشاء النقابات وأشياء أخري . وسألني عما أقرأ ، وأوصاني بمطالعة بعض الكتب ، وأعطاني كراسات صغيرة ، من بينها كراس مترجم ، مؤلفه " سيجال " علي ما أذكر ، ومنه تعلمت المبادي الأولي للفلسفة ، وأصبحت ، شيئا فشيئا ، مثقفا في نظر نفسي ، وازددت حماسة للنضال ، ودخلت السجن مرات عديدة ، وضربني رقيب في الدرك يدعي أبو حمد ، أشتهر بالقسوة وقوة العضل وعدم الخوف ، لأنني نشرت رسالة ضد فظائعه في جريدة سورية تصدر في دمشق ، ضربني حتي إمتلأ رأسي بالكدمات ، وإزرق وجهي ، وتجمع الدم في عيني . وكتب ، يومها ، المرحوم وصفي البني مقالا استهله ببيت من الشعر يقول : " وظلم ذوي القربي أشد مضاضة " ، علي اعتبار أن هذه الأعمال المنافية للديمقراطية ، يقوم بها رجال الدرك السوريون ، وقد تعلموها من الفرنسيين ، وبزوهم فيها !
 - كان هذا أول التعذيب من الدرك السوري ينال منك ، أول جراحات الذي بدأ يري نفسه في آهاب الفيلسوف ، مناضلا لأجل الكاحين والحياة الأفضل ، كيف رأيتها أول نهشات الذئاب للفرايس ؟
 * يااااااه ، بدأت أكتب وجعي ، بدافع من هذا التعذيب ، كتبت مسرحية أنا بطلها ، وحوادثها تغير العالم ، أو تصنع عالما جديدا في ستة أيام ... وأرسلت مقالة إلي جريدة " الأحرار " في بيروت ، أستحلف فيها صاحبها ، علي طريقة جبران خليل جبران ، بالمرأة التي هي أكسير روحه ، أن ينشر المقالة ، لكنه لم يفعل ، وإن كان قد بعث لي برسالة صغيرة ، يقول فيها إن مقالتي غير صالحة لأسباب عدة ، أهمها أن فيها أفكارا لاتنسجم وخطة الجريدة !
 - وهل توقفت جراء هذا " الرد " المحبط ، الذي قذفه صاحب الجريدة في وجهك المشرئب إلي رؤي الفيلسوف وحمي الكتابة والنضال ؟
 * لا ... ما توقفت أبدا . كانت الصحف ، آنذاك ، والحرب العالمية الثانية مشتعلة ، بأربع صفحات ، فلم أيأس ، فكتبت مقالة لجريدة أخري لم تنشرها ، لكنها أشارت إليها بأربعة أسطر ... غمرتني السعادة ، لأنني رأيت أسمي مكتوبا في صحيفة لأول مرة ،كتبت قطعة صغيرة بعنوان " طفلة للبيع " نشرتها أحدي المجلات ، فعمدت نفسي كاتبا ، لا بواسطة القديس يوحنا ، ولا في نهر الأردن ، بل في بحر الأذقية ، وشكلت قلما في سيالة سترتي !
 - ذلك كان حالك ، حين " عمدت " نفسك كاتبا ، وبدأ نجمك يصعد ، ويتألق و يتعملق الكاتب فيك ، وتلك اللاذقية التي أحببتها و ... بحرها وخلدتهما في أعمالك الكبيرة ، لكن كيف غادرتها ، وكيف دخلتها ، دمشق المدينة أشرعت ، منذ زمان ، نوافذها للشعراء والكتاب والفنانون من سوريا ومن خارجها ، هل كانت رحيمة بك كما اعتادت مع الآخرين ، هل أحتضنتك ياحنا ؟
 * يااااااه ، كم كنت قاسيا علي قلبي حين هاجرت من اللاذقية العام 1947 ... كانت دكانة الحلاقة قد غدت مشبوهة ، ولم يعد أحد يحلق عندي ، فقصدت بيروت أول أمري ، ولم أتوفق في الحصول علي عمل بها فتركتها إلي دمشق . وفيها عملت مجانا في الصحافة لمدة ثلاثة أشهر ، وكان معلمي ، أي سكرتير التحرير ، المرحوم أحمد علوش ، الذي صار صاحب مجلة " الصرخة " فيما بعد . في دمشق اتصلت بالمثقفين ، وأشتركت في تأسيس " رابطة الكتاب السوريين " ، ثم رابطة " الكتاب العرب " . وقرأت
 " رأس المال " ، فصارت معرفتي بالفلسفة أوثق. لكن ماقاله لي العامل " العم فاضل " في قاع سفينة الشحن , ظل اساسا عمليا لنشاطي الحياتي ، ودخل باشكال مختلفة ، في كتاباتي الادبية .. ولم يخرج !
 - الفلسفة ، إذن ، مرة أخري ، بأفق سياسي وثقافي عال ، هذه المرة ، أتت هي إليك أم استدعيتها لساحتك وقد أصبحت دمشقيا في بعض وجوهك ؟
 * يمكنك ، الآن ، أن تراها ، تلك هي ، بسطور ، حكايتي مع الفيلسوف " الذي رأسه بحجم الجبل ، وجسمه عملاق كرجل أسطوري " ، وكلما رأيت صورته الآن ، بلحيته البيضاء ، وجبينه العريض الوضاء ، وشعره المسترسل ، ونظرته النجمية ، ابتسم لطفولتي التي بعد بها العهد ، بمقدار ما أقترب هذا الفيلسوف من قلبي ونفسي ، لأنه ، بفكره العظيم ، أعطاني مفهوما عن العالم ، منحني الرؤية التي فتحت عيني ، وأضفي علي مهنتي الأدبية ، لا الوعي وحده ، ولا المعرفة وحدها ، بل الجمالية أيضا ! يخطئ من يظن أن إنسانا قادر علي فهم العالم دون أن يقرأ الفلسفة ، علي هذا الفيلسوف أو غيره ، ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر علي الكتابة دون الاطلاع علي الفلسفة ، ليس بصفتها " وصفة " ، بل كمرشد عمل في السياسة والأدب علي السواء .
 الآن ، من الذي بقي ، في بلادنا وفي الدنيا ، يجهل الفلسفة والفلاسفة ، إذا كان مثقفا ؟ ومن لم يستفد ، كثيرا أو قليلا ، من حقائق الفلسفة التي صارت منارة للمبحرين في المحيطات ، والسائرين في الصحاري ، والبائسين في المدن والأرياف ، والعاملين في الجامعات والمكاتب والمصانع والحقول ؟
 أتذكر ، سئل غوركي مرة : كيف تعلمت الأقتصاد ؟ كان عندئذ يعمل حمالا علي نهر الفولغا ، فقال : "
 " أنظروا إنه منقوش علي ظهري ! " . تسألونني ، كيف تعرفت إلي الفلسفة ؟ ، أقول لكم : في قاع سفينة شحن ، ومنذ ذلك اليوم الحزين ، أصبحت مفاهيمها منقوشة علي قلبي ، راشحة ، مع عرق التعب ، من مسام جلدي !
 - لكن ، عليك أن تخبرني عنه ، من هو ذلك الفيلسوف ياحنا ، شوقتني ، أيضا ، إليه ؟
 * ومن غيره ياصديقي ، ماركس ، كارل ماركس ، هو الذي جعلني كيف أراهما : العالم والحياة !
 - كنت قد حذرته ، أثناء حديثك ، فعرفته ، لكنني أحببتك تنطق بأسمه ، وها قد فعلت !
 تلك حكاية الفلسفة معك ، ماذا عن البحر ، عشقك الأخر ، الكبير وعوالمه المثيرة ، حتي قلنا أنك روائي البحر في أدبنا العربي كله ، ولا أحدا ينازعك عشقه ولا الكتابة عنه ؟
 * صدقت ، هو فعلا عشقي الكبير ، لا شك في ذلك عندي ، ولي معه قصة أخري طريفة ... كنت في الثامنة من عمري ، يوم أخذني الإخوان قلفاط ، من زملاء المدرسة بالصف الأول ، إلي البحر في الإسكندرونة ... وقد زعم أصغرهما ، نقولا ، أن الجرأة وحدها ، هي التي تعلم الإنسان السباحة ..
 سألته :
 - كيف ؟
 قال :
 - أن تذهب إلي رأس " الصقالة " وترمي نفسك في البحر .
 - وإذا غرقت !؟ .
 قال الأخ الأكبر دميان :
 - يكون هذا أفضل !
 قلت خائفا :
 - كيف يكون هذا أفضل ؟ الغرق يعني الموت !
 فكر دميان ، وكانت له عينان ، جفونهما حمراء ومقلوبة ، نظر إلي بإستخفاف وقال :
 - من لا يعرف أن يسبح ، من الأفضل له أن يموت !
 أنا ، الآن ، أري هذا القول حكمة ! دميان كان حكيما علي طريقته . فمن لا يعرف أن يسبح ، فمن الأفضل له أن يموت . وقد قال أبو القاسم الشابي ، مترجما هذه الحكمة النثرية إلي شعر :
 " ومن يتهيب صعود الجبال
 يعش أبد الدهر بين الحفر " !.
 إلا أنني ، في تلك السن من طفولة مبكرة وعليلة ، ما كنت أعرف الحكمة ولا الشابي ولا صعود الجبال أو المغامرة في البحر ، لذلك قلت :
 - ألا يمكن أن أتعلم السباحة علي الشط ؟
 قال نقولا :
 - يمكن ؟
 رد دميان ، أكبرنا سنا ، وقائد طفولتنا :
 - أنا أقول لا يمكن ، يعني لا يمكن !
 سكت . تلبستني حيرة ، تقلدتني مخاوف ... سرت وراء دميان وأنا أرتجف من الخوف والبرد ، لأننا كنا في الخريف ، وكنت ألبس سروالا داخليا من الشيت الأزرق ، ومشينا علي الصقالة ، إلي أن صرنا في البحر ، علي عمق أمتار ، فألقي دميان بنفسه في الماء ، غط وطلع . فعل أخوه نقولا مثله ، بقيت وحيدا ، أري وأتحسر علي نفسي ، إلي أن قررت أن أعود إلي الشاطئ الرملي ، حيث أنزل الماء ، كما يفعل الأطفال الذين في مثل سني ، وفجأة صاح بي دميان :
 - إلي أين ؟
 - إلي الشاطئ !
 - يعني إلي الرمل !؟
 - كل الأطفال يسبحون هناك!
 - أنت يجب أن تسبح هنا !
 - لماذا ؟ !
 - هكذا ... أنا لا أحب الخوافين !
 - أنا أخاف لأنني لا أعرف العوم !
 - علي الرمل لا يعوم أحد ، ولا يتعلم أحد ... فهمت ؟
 - ...
 - تعال تفرج إذن كيف نسبح نحن ... راقب فقط حركاتنا ، الأيدي والأرجل مثلا ... ألا تعرف الضفدعة ؟
 - هذه أعرفها .
 - أفعل مثلها .
 - أين ؟ في " بركة " المدرسة ؟
 - " بركة " البحر !
 - الضفادع لا تعيش في البحر .
 - بلي ! تعيش ... تعال وأنظر إليها !
 سرت إلي رأس الصقالة ، كنت راغبا حقا برؤية ضفادع البحر . وقفت ، حملقت ، انتقلت من طرف إلي آخر ... لم أجد شيئا ، لم أر سمكة واحدة ! كانت هناك فلائك ، مواعين ، وكان عمال وبحارة ، وفي البعيد كانت سفينة ترسو ، وكان سباحون فتيان يتسابقون نحوها . وكان الإخوان قلفاط ، نقولا ودميان ، قد حدثاني أن هناك ، علي طرف السفينة سلما يصعدون عليه بسهولة ، حيث يحظون ، من القبطان ، بالشيكولا والبسكويت ، ويتفرجون علي غرائب السفينة ، مثل السطح ، والقمرات ، والعنابر ، وحتي غرفة القبطان ، وكذلك – وهذا هو الأهم – يرون النساء بثياب البحر ، شبه عاريات تقريبا !
 وفجأة دفعت إلي البحر ، عند رأس الصقالة !غطست وأنا أصرخ ، أرتفعت إلي فوق ، هبطت إلي تحت ، شربت الماء المالح ، تابعت الصراخ ، وعندئذ ألقي دميان نفسه ورائي ، أمسكني من يدي قائلا :
 - لا تخف !
 هتفت من حلاوة الروح ، وأنا أبكي :
 - أنا أغرق يا دميان ... أنقذني !
 قال دميان :
 حرك يديك ورجليك فقط ... أفعل مثل الضفدعة ... هيا ، سأتركك !
 تركني ! ومن جديد رحت أتخبط في البحر ، وأنا أحرك أطرافي ، إلي أن عمت ، فعاد يمسكني من كتفي قائلا :
 - برافو ... تابع ياضفدعة برية !
 تابعت إلي أن تعبت ، شربت كثيرا من ماء البحر ، لم أعد أحتمل . تعلق دميان بقائمة الصقالة الحديدية ..
 سحبني نحوه وقال :
 - تعلق أنت أيضا ، أفعل مثلي ... أسترح ..
 أسترحت ، قال دميان :
 - مرة أخري إلي البحر ...
 أرغمني علي العودة إلي الماء ، عدت دون صراخ ، تخبطت من جديد ، عمت من جديد ، وقف علي مقربة وقال :
 - تعال إلي ...
 حاولت ! حاولت ! وصلت إليه ، أسترحت وأنا أتمسك بكتفه ، دفعني كي أعوم ، عمت ... ابتعد وقال :
 - تعال إلي ...
 ذهبت بصعوبة بالغة نحوه ... وعندئذ قال :
 - يكفي اليوم ... تعلق بالصقالة ، هيا نصعد .
 عندما صرنا فوق الصقالة الخشبية ، أستلقيت تعبا ، لم أعد خائفا ، إلا أنني تقيأت ماء البحر . ودميان ينظر إلي ويضحك ، ثم جاء واستلقي إلي جانبي قائلا :
 - الضفدع وحده يسبح في " البركة " ، أما الإنسان فإنه يسبح في البحر ... وفي البحر العميق جدا يكسر ، مرة واحدة ، خوفه من الغرق ... يصير دلفينا !
 نظرت إليه بكره ، لم أتكلم ، ما كنت قادرا علي الكلام ، عيناي فقط ، راتا السماء الزرقاء ، عالية جدا ، وطيور النورس البيضاء تحوم قريبا مني في الفضاء ، والريح رخية ، والسحب البيض ، بتشكيلات بديعة ، تندفع نحو الأفق ، وتأخذني معها . وبعد ذلك ، عندما بلغت السادسة عشرة من عمري وعملت في الميناء وعلي المراكب ، قلت للريس الطنحر ، بعد أن رويت له قصتي :
 - هل صحيح أن الفرق الوحيد ، بين الإنسان والضفدع ، هو " البركة " والبحر ، كما يقول دميان ؟
 رازني وقال :
 - صحيح ... دميان هذا كان " فلسفونا " بحريا !
 - فيلسوفا ياريس !
 - نعم ! كما تقول ... لو سبحت علي الرمل ، ما كنت اليوم معي علي المركب .
 وبعد أن تنهد قال :
 - البحر للإنسان و " البركة " للضفدع ، هذه هي القصة كلها ! أين صار دميان هذا ؟
 - لا أدري ... أفترقنا منذ تركنا المدرسة ، سمعت أنه هاجر إلي بيروت ...
 قاطعني :
 - يعني إلي البحر ؟
 أضاف :
 نعم ! نعم إلي البحر ... وإلا فكيف !؟ أسمع ! النسر له الجبل ، والبحار له البحر ، تعرف لماذا ؟
 - لأنه إنسان !
 - تماما ، ولكنه إنسان نسر ... نسر بحري ، الطير يصعد إلي فوق ، ونحن ننزل إلي تحت ، إلي الأعماق ... الجبال والأعماق ، والموت ، هناك وهنا ، بكرامة ... إذا مت ، وكلنا سنموت ، فلا تخش القاع ... إذا مت ! في البحر ، فإنك تموت بشكل لائق ، وهذه حال النسر والجبل ... موت النسر يكون في الأعالي !
 قلت :
 - ولكن الإنسان أقوي من النسر ياريس !
 - لا ، هما أخوان ! هما رجلان ، وكل منهما له ساحته ... المسألة ، كلها ، تتوقف علي جواب هذا السؤال : هل أنت رجل أم ضفدع ؟
 قلت :
 - رجل !
 ربت علي كتفي وقال :
 - قل هذا غدا ، ودون كلام ، للعاصفة حين تهب !
 قلت : سأفعل !
 وفعلت ... !
 كان هذا درسا بحريا ، لم أنسه أبدا ، حياتي كلها !
 - هكذا ، إذن ، ركبت البحر ، فأصبح عالما إليك وياله من عالم ، به عوالم لا حد لها ... ورأيت في حكايتك عن البحر " حكاية " بديعة جدا ، وبها حكم ، وفلسفة ، ومغامرة بحرية وأحلام ...
 لن أكون في سؤالك ثانية ، أكتفيت ، منك الليلة ، بحكاية الفلسفة والبحر ، لم تدع لنا الحكاية صقالة نقف عليها في مواجهة البحر ، لأسألك عن الكتابة ، عن القصة والرواية ، كيف تكتبهما بهذه السلاسة ؟
 * ههههههههه ، دعنا الليلة ، فقد أكتفيت كما قلت ، وتعبت أنا ، أريد أن أسترح عن الأسئلة برؤية البحر والميناء والنوارس ، والريح والعاصفة ، والسفينة حين تداعبها الأمواج ، كفاية بقي !
 لملمت أوراقي ، ورحت ذاهبا عنه ، بعد أن ودعته ، هذا القبطان البحري ، الكائن البحري الذي يجد بحرا في الكتابة أيضا !
 -----------------------------------------------------------------------------------------------
 * الحوار متخيل ، لكن الأجابات ، هي نفسها أحاديثه ، مستخلصة من كتاباته أيضا ...
 قصدت ، أسامره ، هذا الكائن البحري المدهش ، رائد روايات البحر في أدبنا ، بإمتياز ، وتحية إليه !

الثلاثاء، سبتمبر 04، 2012

لوركا يكتب عن " الدويندي " ... !



" ذات مناسبة ، كانت مغنية  الفلامنكو الاندلسية " باستور يافون " ، الفتاة ذات الأمشاط ، العبقرية الداكنة ، ذات الخيال الذي يباري خيال جويا أو رافائيل أو حاللو ، كانت تغني في حانة صغيرة في قادش ، غنت بصوت الشبح ، وبصوت المعدن السائل ، وبصوتها الذي يغطيه الطحلب ، وبصوتها المشتبك في شعرها الطويل ! كانت تغمس صوتها في العواطف ، أو تفقده في الخمائل النائية الداكنة ، إلا إنها فشلت تماما ، وكان ذلك كله بلا طائل ! فقد ظل الجمهور ساكنا ! ومن بين الجمهور كان أجناثيو اسبيليتا الأنيق كسلحفاة رومانية ، الذي سئل مرة : " كيف لا تعمل أبدا ؟ " وبأبتسامة جديرة باجناثيو أجاب : " لماذا يجب أن اعمل إذا كنت من قادش ؟ " ! كذلك كان بين الحاضرين " الويزا " عاهرة أشبيلية الأرستقراطية النارية ، السليلة المباشرة لسوليداد فارجاس ، التي رفضت سنة 1930م، أن تتزوج أحد أفراد عائلة روتشيلد لانه لم يكن كفؤا لها في الدم ! وكان هناك أيضا آل فلوريد اس الذين يعتقد الكثيرون أنهم جزارون ، بينما هم في الواقع كهنة قدماء ما زالوا يضحون بالثيران للآله جريون ! وفي ركن جلس مربي الثيران المهيب دون بابلو موروبي ، شبيها بقناع كريتي ! وأنهت " باستورا بافون " غناءها وسط الصمت ! رجل ضئيل فقط ، أحد أولئك الراقصين الخصيان ، الذين يندفعون فجأة من خلف زجاجات الخمر البيضاء ، قال بسخرية ، في صوت بالغ الخفوت : " تحيا باريس ! " كما لو كان يقول : " هنا لا تهمنا المقدرة أو التكتيك أو الأجادة ، هنا يهمنا شئ آخر ! في تلك اللحظة ، نهضت الفتاة ذات الأمشاط كأمرأة تملكتها الشياطين ، كسيرة ، كندابة من العصور الوسطي ... وشربت دون توقف كأسا كبيرة من الكاثللا ، البراندي الناري ، وجلست تغني بلا صوت ، لاهثة بلا سمو ، حنجرتها تحترق ، لكن ، ... " بدويندي " .. نجحت في التخلص من أربطة الأغنية ، في أفساح الطريق أمام " دويندي " ناري غاضب ، رفيق الرياح المحملة بالرمال ... جعل المنصتين يمزقون ثيابهم بإيقاع منتظم كزنوج الكاريبي المتحلقين حول صورة القديسة باربارا ! كان علي الفتاة ذات الأمشاط أن تمزق صوتها ، لأنها كانت تعرف أن مستمعينها كانوا نخبة لا تطلب أشكالا ، بل نخاع الأشكال . تطلب موسيقي تسمو حتي تصبح أنقي جوهر .. كان عليها أن تفقد مهاراتها وحرفيتها ، أعني ، كان عليها أن تزيح ربة شعرها وتبقي وحيدة حتي يأتي " الدويندي " ويشتبك في قتال ملتحم ... ويالروعة ما غنت ، الآن كانت جادة ، كان صوتها دفقة دم ، يثير الأعجاب لألمه وإخلاصه ... وكان ينفتح كيد ذات عشرة أصابع في القدم المسمرة ، لكن العاصفة لمسيح من صنع خوان دي خوني ! كل ما نعرفه عن " الدويندي " هو أنه يشعل الدم كالزجاج المسحوق ، أنه يرهق ، أنه ينذ كل الهندسة الحلوة التي تعلمها المرء ، أنه يتخاصم مع كل الأساليب ، أنه يضطر جويا ، أستاذ الألوان الرمادية ، والفضية والقرمزية التي تجدها في أفضل اللوحات الأنجليزية ، أن يرسم بركبتيه وقبضتيه الوانا مرعبة سوداء بلون القار ... أو أنه يترك موسن ثينتو فيرد اجبر عاريا في هواء جبال البرانس البارد ، أو أنه يأخذ خورجه ماتريكه لينتظر الموت في برية اوكانيا ، أو أنه يكسو جسد ريمبو الرقيق ببزة مهرج خضراء ، أو أنه يضع عيون سمكة ميتة في وجه الكونت لوتريامون في الطريق ، في الصباح الباكر ! أن " الدويندي " في الروح  ، في الروح الفنانة بلا شك !


درويش ...





علي شرف ذكراه أيضا :
درويش ، كيف يرأه حب المرأة ،
كيف عاشه ؟
-----------------------------


* الحب الأول من أسخف المصطلحات التي اخترعها البشر . عندما يتذكر الإنسان حبه الأول يضحك في نفسه ، وعندما تتذكر المرأة حبها الأول تضحك في نفسها أيضا . لانريد أن الخيبة علي عاتق الرجل فقط
* أما عن مكانة المرأة : أعترف بعدم وجود قصة حب كبيرة في حياتي ، يعني عندي حب كثير ، وعندي أول حب كبير ، ولكن ليست عندي قصة حب كبيرة أتحدث عنها ، وأرجو أن نكف عن الكلام في هذا الموضوع !
* ربما لدي حكايات . ولكن ليس لدي مرجعية عاطفية . أراغون كتب عن إلسا ، وليس لدي ليلي قيس . أعتقد تلك أساطير اخترعها قيس . الحرمان يعني عدم تحقق الحب في علاقة جديدة . لو تم ذلك لتغير الشعر العذري أصلا . المرأة التي تترك أعظم الأثر هي المرأة غير المتحققة ، نبحث عنها وإذا عثرنا عليها ، سرعان ما تختفي . يبدو لي أن عدم تحقيق الرغبة ، وبلغة أبسط ، الحرمان ، أو الظمأ هو حافز أكبر للكتابة الشعرية عن الحب . وكل كلامنا عن الشعر الآن ، وكل مبرر كلامنا عن الحب هو الشعر !
* ... أما عندما يتحقق الحب ، ويعيش في مؤسسة – ولا توجد لدي تجربة كاملة في هذا الموضوع ، عندي تجارب ناقصة – فقد يتخذ أشكالا أخري : بناء الأسرة . والحب ينتقل من شبق وحنين جارف إلي صداقة ومشاركة في بناء أسرة ، وينتقل إلي الأطفال . الحب يتحول ولكنه لا يختفي . لم أصل إلي مرحلة أري فيها حبي وقد تحول علي أسرة وأطفال !
* ستجد حالات حب كثيرة في شعري ، كما ستري نساء عاديات في ثنايا القصائد ... هذا التباس فظيع ، كأن الإنسان يعانق شجرة . جميل أن نقبل شجرة ، ولكن ليس بهذا الشبق. المشكلة أن كل أمرأة تظهر في القصائد تسقط عليها كلمات خارج كينونتها النسائية ، وتحول إلي معادل للوطن !
-----------------------------------------------------------------------------
-  المادة مستخلصة من مقابلة متلفزة خاصة أجراها في رام الله السياسي والأعلامي الفلسطيني نبيل عمرو مع الشاعر أواخر العام 2003 ، شارك في المقابلة إلياس خوري ومرسيل خليفة من بيروت وممدوح عدوان من دمشق وغسان زقطان وحسن خضر من رام الله .

 

طه حسين ، قصة أعجبتني ...!



طه حسين ...
* قصة قصيرة : محمد البساطي *
--------------------------------
   أراه من بعيد ولا أقترب منه . كان هناك يخوض معركته وحده . منحنيا وذراعاه حول رأسه ، أشبه بطائر يطوي جناحيه . قطع الحجارة تنهال عليه ، لحظة وأخري ويندفع الأولاد مختفين بالحواري ، يقف بعدها مشدودا متلفتا حوله ، ويتخذ طريقه عائدا إلي بيته .
البيت من طين علي الترعة ، حجرتان وحوش . يعيش مع أمه العجوز ، تربي الدواجن وتبيعها في السوق . أتبعه ، يسير وسط ظلال الأشجار علي شط الترعة ، وألمح العجوز أمام البيت تظلل عينيها بيدها في مواجهة الشمس لتراه عائدا .
عادة أجدني ألتفت إليه حين أراه ، لا أدري سببا لذلك ، لم يكن بعد لفت الأنظار إليه . ربما شروده وأستغراقه مع نفسه ، وربما محاولته أن يبدو في هيئة نظيفة ، الجلباب الأبيض المكوي ، الحذاء اللامع ، والمنديل المطوي يمسح به شفتيه من حين لآخر . وما كان يقال من شجاره مع أمه حين تعجز عن توفير طلباته ، وربما أيضا ما يعلنه من شغف شديد بطه حسين ، وكان قرأ كل مؤلفاته وحفظ الكثير منها ، يتلو مقاطع طويلة حين يتصادف وجوده مع زملاء له ، وكانوا يقاطعونه صائحين :
- الله ... الله ... أعد .
   لأينتبه لانسحابهم من جواره ، يظل من مشيته المتهادية مستقبلاً الخلاء علي الطريق الزراعي وصوته يعلو متهدجاً .

   ويوماً ما ناداه أحدهم من قبيل المزاح "ياشيخ طه" ، والتفت . جأت التفاتته طبيعية وكأنها إسمه ، حتي أن من ناداه أصابته الدهشة ، وبمرور الوقت أصبح الجميع ينادونه بالأسم الجديد ، وربما وجدوا فيه مايرضيهم من غمز .

   كنا في المدرسة الثانوية نفسها ، هو في السنة النهائية ، يكبرني بعامين ، يقف في الحوش وقت الفسحة في ظل شجرة ، وقوراً هادئاً ، ينتظر علي مايبدو أن يسعي إليه البعض من زملائه ، غير أنهم كانوا دائماً منصرفين عنه ، يبحثون عن مكان منزو يدخنون فيه السجائر .

   ولبس النظارة القاتمة ، ظهر بها أول ماظهر بالمدرسة ، نفس وقفته في ظل الشجرة ويده في جيب السترة ، يمد رأسه ويميل بها خفياً كأنما يرهف السمع لصوت لأيراه . ربما كان ذلك بداية التحرش به

 صاحوا به :

_عميت ياشيخ طه ؟

قال أن الضوء يؤلم عينيه .

_أمبارح كانت سليمة ياشيخ طه ؟

_يكون الأستاذ جاءك في المنام ؟

_وقال لك أتبعني يابسيوني .

_طب سمعنا موا من مواويله .

يضحكون حوله في صخب ، يبتسم خفيفاً كأنما يغفر لهم . في وقفته بظل الشجرة كان هدفاً لضربات الكرة ، تصيبه  في غفله ، وحين تستهدف وجهه ينحني في اللحظه الأخيرة بعيداً عن مسارها ، وأعقاب السجائر المشتعلة يدسونها في جيب سترته ، وحين يرتفع منها الدخان تظهر فجأة كيزان المياه يدلقونها فوقه . ويوماً اشتبك معهم ، جذبني الصياح ، كان بينهم نحيلاً هزيلاً ، يتشاجر كالبنات ، يداه ممدودتان تصدانهم ، يحاولون نزع النظارة عن عينه ، وأراد إثنان كانا يقفان بجانبه أن يسحباه بعيداً ، لم يستجب لمحاولتهما ، تهدلت سترته وتمزق جيبها العلوي ، أرتفع صوته رداً  علي همس بجواره :

_ بص لهم . رضو بجهلهم ورضي جهلهم عنهم .

قال مدرس كان مقبلاً علي الصياح :

لم أقرأئها أو أسمع  بها من قبل يابسيوني أهو الأستاذ؟

   أنفض الأولاد بعيداً ، كان يلهث مسوياً سترته :

_هو قالها رداًعلي سفالة نكرة من الكتاب .

كان التحرش به محصوراً في المدرسة ، ثم أمتد الي الخارج حين رأي ان يكلم الناس بالفصحى ، وأخبرني فيما بعد أن العامية أشبه بمجري ماء عكر يحمل كل مايقابله من طحالب وقاذورات ، الفصحى رائقة مصفأة .رنينها عذب .

   وقال : لأتظنه كلام الأستاذ ، هذا كلامي .

كان يحرص في حديثه معي علي أن يفصل كلام الأستاذ وكلامه . ومع الوقت كان يسهو ، وأجدني لأفرق بينما .

   يخرج من البيت بعد العصر ، مشواره اليومي ، يسير علي مهل متجهاً إلي الطريق الزراعي ، ربما ليخلو إلي نفسه أو مبتعداً  عن زحام شوارع البلدة ، بيده عصا يتحسس بها الطريق ، والنظارة القاتمة علي عينيه ، يتعثر أحياناً بحجر ويكاد بنكفئ ، وأشعر لحظتها بأنه لا يبصر ، ويبتعد في الخلاء ، أتوقف وقد أخذ ضوء الغروب يغمر أطراف الزرع علي جانبي الطريق ، البلدة لا تستريح لمن يخرج علي إيقاعها . كانو يتناقلون أخبار مشاحناته مع الباعة في السوق ، ومايقوله من كلام لأيفهمه أحد ، وشتائم لم يسمعوا بها ، والشراسة التي ظهر بها فجأة  "طول عمره وهو في حاله" ويضربون كفأ بكف "عقله شطح واللي كان كان"

   وقف أمام محل الجزار ، لم أراه في مثل هذه الهيئة من قبل . وجهه شاحب مكفهر . جلبابه الذي كان نظيفاً دائماً ملطخ بالطين الجاف ، أزراره مهشمة ، ماتبقي منها لم يثبت داخل العروات ، كشفت الياقة المفتوحة عن عظام صدره الناتئة ، صوته عميق النبرة ، ليس الصوت الذي أعرفه ، يشير بعصاه علي اللحم المعلق بالخطاف  :

_ ياقصاب . أعطني نصف كيلو دون عظم .

الجزار علي مايبدو قد سمع به أو رأه من قبل .

   أخرج مبسم الشيشه من فمه وغمغم :

_قصاب ؟ قصاب يابن زينب . أمش من هنا

_لغة منحطة . أنا لأ أتسول أعطني ماطلبته .

_ يافتاح ياعليم . ساعة صبح يابن الـ ...

_ حسئت . سباب من فم ملوث .

أندفع الجزار مزمجرأ ، وربما ظن أن بسيوني سيطلق ساقيه للريح أمام هيجانه ، فوجئ به في وقفته ساكناً  ، هدأ الجزار في لحظه .

_ إستغفر الله العظيم . ياإبني إلهي يسترك ، بلاش لحمة في اليوم القطران داه . أتكل علي الله .

   التفت بسيوني ، بدا أنه تذكرني كزميل في المدرسة . خاطبني .

_ أرأيت الي هيكلهم المتهالك ، وأصنامهم الغبراء . وإستدار ومضي .

هم أيضل لا يتركونه في حاله ، يناديه البعض من المقاهي والمحلات مستخدمين كلمات بالفصحي :
_ ياشيخ طه ، إلي أين ؟
_ أنتظر لعنة الله عليك .
   يمشي وخلفه جمهرة من الأولاد ، يتوقفون حين يتوقف ليكلم أحدا . يستمعون إلي ما يقول ويتبادلون النظرات . ويوما تبعوه حتي خرج من شوارع البلدة وراحوا يناوشونه بقطع الحجارة ، يقذفونها بتراخ ، تسقط غير بعيدة عنه أو عند قدميه ، كان لا يلتفت إليهم . عادة يتوقف علي الكبري قبل أن ينطلق إلي الطريق الزراعي ، منحنيا علي السياج ينظر إلي المياه . ما إن يستدر حتي يعودوا إلي قذفه بالحجارة التي تنال من ساقيه وظهره ، ويصيح ولد منهم :
_ خسئت يا أبن زينب .
   ويوما أصاب حجر رأسه ، لوث الدم أصابع يده وصدر جلبابه . سرت به إلي بيته ، كان طوال الطريق صامتا ، ورعشة تسري فجأة في جسده فيتوقف لاهثا ثم يواصل السير . استقبلتنا أمه بصرخة :
_ يا أبني !
أرقدته علي الكنبة في الحجرة :
_ دثريني يا أمي !
غمغمت بصوتها الباكي :
_ أزاي يا أبني ؟
   غسلت له الجرح ، ووضعت عليه قليلا من البن . أسترخي متنهدا :
_ أنت في الفصل الثاني .
الحجرة ضيقة ، طبلية مائلة علي الحائط ، مصباح زجاجته نظيفة ، حصير قديم ، الكتب بإمتداد جدارين ، متراصة فوق بعضها علي ألواح من الخشب تعزلها عن الأرض الطينية . الأم قعدت علي عتبة الحجرة وظهرها لنا ، تبكي دون صوت . تعلقت عيناي ببعض الكتب كانت دون غيرها مغلفة بورق شفاف ، قال :
_ آه كتبه . قرأت له ؟
قلت : لم أقرأ .
_ إن أردت ، خذ منها ما تشأ ، كلها هنا .
صمت قليلا ثم قال :
_ أبدأ بالأيام ، سيرته . ستري كيف ينشأ ويتكون المفكر الكبير ، باية وعيه ، الإصرار ، العناد ، الهدف ، نزع القشرة الزائفة ، كتابه في الشعر الجاهلي ، أو مستقبل الثقافة في مصر ، بحث عميق ، ليس مجرد معلومة جديدة ، لكنه دعوة لإعادة التفكير في الميراث القديم ، هو الأعمي كان يبصر أكثر من غيره !
   صوته منفعل ، وعيناه شبه مغمضتين ، سكت فجأة ...
   كانت تلك بداية علاقتنا ، يسير وأسير بجواره . هو علي ما يبدو اتخذني تلميذا له . الأولاد حين رأونا معا كفوا عن قذف الحجارة . ظهروا يوما وآخر ، وساروا خلفنا ، ثم أختفوا بعد ذلك . يحدثني عن مواقف الأستاذ ومعاركه :
_ أنظر في آخر كتابه في الشعر الجاهلي ، هذه نسخة نادرة ، ستجد وقائع محاكمته ، ققصتها من مجلة وألصقتها به . كان لابد أن يحاكموه ، أزعجهم ، أفسد طمأنينتهم البلهاء !
   لم أكن برفقته يوم حدثت واقعة عم " أحمد " الاسكافي . الرجل منكفئ داخل دكانه الصغير المظلم ، يحسس جوانب فردة حذاء ، متأهبا لدق مسمار ، فوجئ بمن يسد فتحة الدكان ويحجب الضوء ، فمه مطبق علي مسامير صغيرة يستخدمها منعته من الزمجرة ، جاءه صوت بسيوني :
_ يانعال ، أصلح هذا الحذاء إن سمحت .
ورأي عم احمد الحذاء يوضع بجواره ، لم تشفع كلمة " إن سمحت " قذف بالحذاء في عنف ، إلي الشارع فسقط في ماء غسيل كان متجمعا أمام الدكان . كاد ينحني مرة أخري علي فردة الحذاء ، ثم بصق المسامير من فمه وقفز خارجا . أمسك بسيوني الذي وقف ذاهلا أمام ثورته وألصقه بالجدار ، زمجر :
_ نعال يا أبن الجزمة ، أنا يتقال لي نعل ؟
الجسد هزيل طيع بين يديه ، أفلته مغمغما :
_ أنت أبن زينب ؟ طيب . والمسامير اللي ضاعت . هات الجزمة .
غير أن بسيوني التقط حذاءه ومضي .
كان هناك من حذر أبي من رفقتنا ، قال أبي :
_ أبعد عنه . اللي زيه ما يجيش من وراه غير المشاكل .
كنت أتسلل عبر الغيطان لملاقاته علي الطريق الزراعي . أخبرني أن الأولاد حين رأوه وحده عادوا لمناوشته بالحجارة ، وقال :
_ لا أظن أن هناك من يدفعهم . ربما حين رأوا الكبار .
وأخبرني في لقاء آخر أنهم من يومين تبعوه بعد أن غادر الكوبري ، وما أن وصل للطريق الزراعي حتي تكاتفوا عليه ودفعوا به إلي قناة ممتلئة ثم اختفوا . ملابسه المبتلة ، والوحل الذي يغطيه ، أضطر للإختفاء في حوض زرع حتي جاء الليل ، فعاد إلي البيت . أنتظرته يوما ولم يأت . كان ذلك عقب حصوله علي الشهادة الثانوية . ذهبت إليه .أمه أمام البيت تنثر الطعام للفراخ والبط ، لم تلتفت نحوي ، كان مسترخيا علي الكنبة ، جلست علي طرفها .
قال أنه فكر طويلا وقرر أن يذهب .
_ أين ؟
_ أبحث عن عمل في العاصمة ، كما تري ، الظروف لا تسمح بإلتحاقي بالجامعة ، ربما فيما بعد ، الكتب هنا ، وقلت لأمي ، إن أحتجت إليها ، ماذا تقرأ الآن ؟
_ كتاب الأستاذ " مستقبل الثقافة في مصر " .
_ تحدثنا عنه ؟
آه تحدثنا .
سافر بعد أيام ، كنت برفقته علي المحطة ، لم اسمع عنه بعدها !
------------------------------------------------------------
* محمد البساطي ، قاص من مصر .