Powered By Blogger

الاثنين، يوليو 29، 2013

سلاام حلمي سالم ...

                                                                       - حلمي سالم -



حلمي  سالم ، في ذكراه الأولي ...
( 1951 – 2012 )
---------------------
في مثل هذا اليوم ، يوم السبت 28/7/2012 رحل عنا الشاعر المصري الكبير حلمي سالم ،
أحد أبرز وألمع شعراء السبعينيات في مصر والعالم العربي . غزير الأنتاج الشعري ، قصيدته
ذات جنوح وجموع وأختراق حاد للسائد والمألوف ، مغايرة حد التطرف والبريق ، نصه الشعري مسودات صارخة وعالقة – بتشبث حاد – بجسد فنيات قصيدته نفسها ، قصيدته التي لا تشبه غيرها ولا علي منوال معروف . منذ ديوانه الأول " الغربة والأنتظار " في مطلع سبعينيات القرن الماضي ، أبدع سالم أكثر من ثمانية عشر ديوانا ، جرب كثيرا فيها ،
ثم جعلها مسرحا بيرا بهيا لمشروعه الشعري ولرؤياه الفنية للقصيدة . عاش حياة مليئة بالتفرد والجراح والتمرد وتكسير القواعد الثابتة ومشاكسة حراس القديم ، ظل متصالحا مع رؤاه وفكره التقدمي المستنير ، مدافعا عنه بجسارة تحدي بها خصوم التقدم والثورة ...
كان فرحا بثورة 25 يناير التي طالما بشر بها وتغني بها . لربما – رغم مرضه الذي داهمه في القلب والرئة – لم يشأ أن يرحل دون أن يقدم " هديته " للشعب والثورة ، فصدر ديوانه البديع " أرفع رأسك عاليا أخي " .  وإبان مرضه ، كان قد أصدر : " مدائح لجلطة المخ "
و " معجزة التنفس " ، وفيهما يمتدح الموت والحياة معا ، الموت الذي في رفقة الحياة .
كان يكتب وتتسرب دفقات الوجع منه فتزهر وتزهو في قصيدته ، مثلما ورودا تتفتح وتنثر عطرها في بهاء الشعر :
( أتي عوادون من جلطة المخ
  ويأتي عازفو بيانو من عجز كليتي
  ويأتي لاعبو كمنجة من ارتفاع الضغط
   وفي أطراف الأصابع شارات الخسارة ،
   أما أنا فمهمتي كانت
   تجميع الآلات والرئات
   علي كاهل المصابين
   كل رئة ورئتها النازفة
   وأهتف :
   يعيش انسجام الكسيرين ! ) ...



ونحن في ذكراه ،  نقرأ معا قصيدته " أغنية الميدان " ، كانت فرحا بالثورة ، فرحا طلع من قلبه لأجل مصر الثورة ، لأجل الغد الآتي الجميل ويراه ، حلمي سالم : سلااااااام !



أغنية الميدان

ارفع رأسك عالية, أنت المصري
الضارب في جذر الماضي, والعصري
خالق أديان المعمورة, مكتشف الهندسة, ومبتكر الري
صاحب درس التحنيط, ومبتدئ الرقص,
وخلاط القدسية بالبشري
ارفع رأسك عالية, أنت المصري
الصامت صبرا لا إذعانا,
بل تطويل للحبل الشانق كل بغي
لا جرت على جار, لا لوثت مياه النيل, ولا أنكرت نبي
أنت موحد شطرين,
وواصل شطين
وجامع أشلاء فتاك على دلتا النهرين,
ونساج الظلمة بالضي
ارفع رأسك عالية, أنت المصري
المبدع أن الدين لرب الأديان,
وأن الوطن مشاع للناس سويا بسوي
المانع عن بابك أمواج غزاة
فرسا, هكسوسا, أتراكا,
وفرنجة أوروبا, والصهيوني
أنت الواحد في الكل,
وأنت الكل المتلخص في الواحد,
فرد جمعي أو جمع فردي
ارفع رأسك عالية, أنت المصري
زعموا أنك خناع, قناع
فكنست الزعم بمعجزة في الرفض الجذري
تمشي من عصر الشهداء الأقدم,
حتى عصر الشهداء الأحدث
كل شهيد قديس وولي
تعويذة أهل العرب,
وإلهام الشرق,
وقنديل الزمن الجي
ارفع رأسك عالية, أنت المصري
كريم العنصر مضفورا في العنصر,
فكنيس بالمسجد. كهان بشيوخ.
راهبة بالمقرئ, ونسيج وطني
علمت الدنيا أن العسكر ليسوا خصما للصبية,
بل قطع من لحم الصبيان الحي
أنت حكيم القرية, وبتول المدن, رسول حضارات,
شيخ وفتي
ارفع رأسك عالية, أنت المصري
أنت الذروة, وعلو, والعلياء,
وأنت العمق, القاع الغائص, والتحتي
أنت رقيق, راق, رقاق, ورقي
الضارب في جذر الماضي, والعصري
ارفع رأسك عالية, أنت المصري !

 

السبت، يوليو 27، 2013

الشاعرة في تشكيل الرؤي ونسج اللغة ...




* الصور : صورة مريم العطار ونماذج من شعرها ...


إلي مريم العطار في شغلها !
---------------------------

" لا تبتسم فينوس في منزل له دموع ! "
                                         - شكسبير -

الآن ،
بعد أن قرأتها / رأيتها
فعرفتها :
تنسجها خيوطا تجربها
تحاولها
تجمعها
لتصير صورتها الناطقة !
بفم يروعك تعبيره الأليم ...
مشقق بالظمأ ،
كأن لا ماء في الأرض
ولا شأن لها إلا شبقا إليه ،
أيض لأيض !
لهاث طويل يقتات من عمرها ،
لا من وجهها .
ركض خلف الغابة ،
وتهرب منها ...
كدح ناعم حزين
في الشعر
ولا تبوح أبدا بالسر !
فيها عديد الملامح ،
لكن الغواية أعلي
والحزن منها أعلي
والصور – وأن كانت حزينة – في البياض
وأعلي .
والدمع ،
وجع القصيدة ...
أعلي
كدح في زهرة العمر
ونجوي
تصاويرا من الدمع
والماء والتراب ...
لكن نبض القلب أحلي
كدح " صوفي " في الحب
في دغل معتم ،
موغل في الأشواق
أبحار مؤلم في كل دروب العشق
في سمت التوق
وأحلي
حتي تبلغ مرتبة الأشراق ،
الأيقاع الراقص في عمق الجب !
...   ...   ...
أمرأة ترعي الود كثيرا
وتموت كثيرا
لتحيا ثانية في الود
وفي رمضاء الوجد
والولع المجنون
بفتنة " التشخيص " الجواني
والحيرة لا تسفر وجها
للناظر في البعد البراني !
...   ...   ...
لا ... ،
ليست تنفر منك
لكن العشق يلائم ما لست تراه
وهو الصاحب ،
الكائن فيك / إليك !
لكأنها تريد ولا تريد
أن تفضي فتبوح السر
حتي لا تفضحها حين تعريها
زهرات العمر !
مثلما بنت الخياط في الحكاية * :
تجمع في ما بين الود
وألوان الخيط الشتي
فتحيك نسيجا حلوا
موشي بالورد !
...   ...   ...
تكتبها بالعين اليقظي ...
لكن مشرعة أبدا في القلب
تلك قصيدتها ،
غمام من أعلي سماوات الوجد
يمشي بعطر السوسن منها
في الهدب !
-----------------------------------------
* أشارة للحكاية التي كتبها مازن مصطفي في روايته البديعة : " عنقاء المديح المنمق " ، في الفصل الأول بعنوان : " مدائح التمساح ، خرائط البيادقة ، كما قصة العفريت وأبنة الخياط " . الرواية صادرة عن " دار شرقيات " الطبعة الأولي 2011 بالقاهرة حيث يقيم الكاتب الروائي والشاعر السوداني مازن مصطفي .

العفيف : هل يموت من كان يحيا كأن الحياة أبد ؟

                                                                  - العفيف الأخضر -



الآن ،
الآن فقط تأكد لي موته ! فقد كنت ، ما أن سمعت خبرا عن أنتحاره ، قد نشرت هنا ، مفجوعا ، أتسأل : " العفيف الأخضر ، هل حقا أنتحر ؟ " ، لم يجيبني أحد هنا ، وصمت " الحوار " ، سارعت فنشرته هناك أيضا ، ثم أرسلت تساؤلي نفسه لصديقي د . محمد محمود في باريس ، فجاءني رده لا يؤكد ولا ينفي ، وفكرت في مخاطبة أدارة " الحوار " لأعيد تساؤلي ، والعفيف من ألمع كتابها وذو قاعدة قراء هي الأوسع والأكثر وعيا ... وأنا في حيرتي جاءني نعي " الحوار " هذا الصباح ، و لأنه - عندي - الخبر الأكيد ، أعيد نشره هنا ، فقد مات إذن العفيف الحبيب :

لقد كان مفكرا جسورا ...
لكأن قلبه في عقله ،
ويقود خطاه !
ياله من رجل شجاع
حين كانوا يتلون عليه أحكام موته
لم يخف أبتسامته ،
وظل في التفكير وفي الكتابة ،
أبدا لم يخف !
هل في الكتابة خطيئة ؟
يقولون أنها ملحدة ...
فماذا يعني ذلك ،
هل يعني موته ؟
آآآه أيتها الأفاعي ...
ها هي ازهار تتفتح
لترافقك وأنت ميت !
لقد كنا خطاة أيضا ...
فقد أحترفنا الصمت ،
كنا أمواتا ،
وحدك كنت حيا حين نطقت !
العالم الآن يقترب منك :
الحجارة ، الماء ، الهواء ...
ونفهم أننا كنا عميان
أعف عنا ،
فسنري ...
فالصمت ثقيل ثقيل ،
ويكبر ...
مثل سقف من بنفسج !
حتي الحلم يغدو جميلا في غيابك ...
خطاة نحن يارفيقي ،
وملعونون .
لكننا أحببناك ،
مثخنون بجراح الحب ،
ولا تندمل ...
ويولد فينا من يموت متألما
نعرف أننا كنا عميان !

لن نتركك للموت
يا من كنت أقلنا ذنبا ،
وأوسعنا فكرة .
ستأتي كما القديس ،
من ماس وماء أسود
وعلي مقربة زهرة ناعمة ،
زهرة كتابتك اليانعة .
ولأنك نبيل ومتواضع ،
ولكي لا يراك أحد ...
ستأتي عند الفجر
في الفجر البارد
حين تلتمع علي السماء المظلمة
حقول الليمون
ويظهر الشفق في الأمواج
كمراكب من الحرير والزجاج
سترانا ...
ونراك !
لسنا الآن عميانا
حين نقول إليك :
وداعا أيها العفيف ...
وداعا يا حبيب !
-----------------------------------

وهذا نص نعي " الحوار " ، الذي أكد لي ، هذا الصباح ، واقعة موته !
 
ننعي المفكر الكبير العفيف الأخضر....هوت كوكبة ساطعة و لكن سماءنا لا تزال مليئة بالنجوم
ننعي المفكر الكبير العفيف الأخضر....
هوت كوكبة ساطعة و لكن سماءنا لا تزال مليئة بالنجوم

رحل المفكر والمناضل الكبير العفيف الأخضر احد ابرز واهم كتاب مؤسسة الحوار المتمدن. غادرنا المتمرد العفيف بعد أن القى كلامه و أشعل القناديل في مسيرتنا الكفاحية لمواجهة قوى الارتداد و الظلامية والرجعية، بغض النظر ان اختلفنا أو اتفقنا في هذا القضية أو تلك. العفيف الأخضر غادرنا بجسده، و بقي خالدا بأفكاره و تطلعاته الإنسانية والتحررية، و أحلامه في تحقيق غد الحرية والمساواة و الكرامة لمجتمعاتنا المبتلاة بكائنات الظلام و الشر و العدوان بكافة أشكالها.

سنبقى نسير على دربه لأنه دربنا .. درب المساواة و العدالة الاجتماعية والعلمانية و الحداثة و الحرية والحقوق والرفاه ..... درب التحرر و حرية المرأة و حرياتها و حقوقها . كل
كلمة نراها بصيص أمل و حافزا للعمل و النضال في هذه الطريق الصعبة و في هذا النفق المظلم.

رحل العفيف فهوت النجمة الأكثر لمعانا .. النجمة التي كانت تستحيل إلى نجمات و قناديل، و لإكرام فقيدنا الغالي لا بد لنا من أن لا ندع حراس بوابات كهوف الظلام و الجحيم أن يهنأوا برحيله لحظة و ذلك بالصمود والاستمرار في دربه المجيد، و مسيرة الكفاح بلا هوادة لتحقيق اليوم الموعود .. نعم هوت كوكبة متمردة ساطعة عنيدة ، ألا أن سماءنا مليئة بالنجوم.

الموقع الفرعي للراحل العفيف الاخضر في الحوار المتمدن:
http://www.ahewar.org/m.asp?i=37


( هيئة ادارة الحوار المتمدن )








الجمعة، يوليو 26، 2013

سقوط المثقف ، نهوض الجلاد !



الجلاد يكرم الضحية  ، حول مهزلة  " تكريم " إبراهيم أسحق ...

--------------------------------



" ليس الإنساني هو من يشفق فقط علي الضحية البائسة ، ويتحسر علي ان القتل يوجد علي الأرض ... ، وإنما الإنساني هو من يساعد علي إبعاد يد القاتل ، وإنتزاع إمكانية الإضرار من أرادته " !
- شولوخوف -

1 :
إبراهيم أسحق إبراهيم ، أحد أبرز الوجوه في القصة والرواية في السودان . ولد بقرية
" ودعة " في محلية " كلمندو " بولادة شمال دارفور العام 1946 . هو إذن من أهل دارفور في غرب السودان ، ذلك الأقليم التعيس الذي تقصفه الآن طائرات النظام الحاكم بصورة وحشية ومنتظمة فتشرد الآلاف منهم في الشتات والمسغبة ، نفس هذا النظام الديكتاتوري الدموي هو الذي قضي بانقلاب عسكري علي الديمقراطية العام 1989 ، ولايزال يسوم الشعب السوداني الفقر والجهل والمرض ويقهره بآلة القمع الرهيبة في سجونه وزنازين أمنه التي سماها الشعب " بيوت الأشباح حيث يمارس التعذيب فيها بأبشع الصور وأكثرها نذالة وخسة ، ورئيسه هو نفسه المطلوب للعدالة الدولية بتهمة أرتكاب جرائم حرب في ذات الأقليم ، تلك الجرائم المهولة التي شاهدها العالم كله ووثقتها تقارير دولية ومنظمات الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية !
نال القاص والروائي أسحق دبلوم المعلمين العالي العام 1980، والماجستير في الفلكولور العام 1984 من جامعة الخرطوم التي سبق وتخرج فيها . ثم أصبح لفترة محاضرا بالجامعة الأسلامية بأمدرمان ، ثم هاجر إلي السعودية ليقوم بالتدريس في الثانويات السودانية هناك ، وصار مسئول الأصدارات في مجلة " عالم الكتب " ، وعاد للسودان ليصبح رئيس اتحاد الكتاب السودانيين العام 2008 ، تلك المؤسسة التقدمية المحترمة ذات الدور الثقافي والفكري المشهود في المشهد الثقافي ، وكان الأتحاد – من ضمن اتحادات ونقابات ومنظمات وأحزاب عديدة – قد حلت ومنعت أنشطتها وطوردت وعاني أعضائها السجون والمعتقلات ، ومن بعد ،
أصبح أسحق عضوا ب " مجلس تطوير وترقية اللغات القومية " ، وهو ، في الواقع ، مجلسا لأقرار تصور الأسلاميين الغلاة في حياة وثقافات شعوب السودان ، ويتبع المجلس لرئاسة الجمهورية !
إبراهيم أسحق ، قاص وروائي مبدع ، وله مؤلفات مرموقة منها :


مؤلفاته في الرواية:[
- حدْث في القرية، صدرت عن إدارة النشر الثقافي، وزارة الثقافة والإعلام، الخرطوم، عام 1969م.
- أعمالُ الليلِ والبلدة، عن دار جامعة الخرطوم للنشر، عام 1971م.
- مهرجانُ المدرَسَةِ القديمة، عن إدارة النشر الثقافي، وزارة الثقافة والإعلام، الخرطوم، 1976.
- أخبارُ البنت مياكايا، نشرت كاملة في مجلة الخرطوم عام 1980، قبل أن تصدر أخيراً (مايو 2001) عن مركز الدراسات السودانية – الخرطوم / القاهرة.
- وبال في كليمندو، نشرت في جريدة الخرطوم عام 1999، قبل أن تصدر أخيراً (أكتوبر 2001) عن مركز الدراسات السودانية – الخرطوم / القاهرة.

 

مؤلفاته في القصة القصيرة:
- ناس من كافا- مجموعة قصص- مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي- العام 2006م- الخرطوم.
- عرضحالات كباشية- مجموعة قصص- هيئة الخرطوم للصحافة والنشر - العام 2011- الخرطوم.
- حكايات من الحلالات.
هذا أضافة إلي العديد من الدراسات والكتابات النقدية ، أسحق ، إذن ، روائي وقاص ومثقف فاعل في الحياة الثقافية في بلاده . يقول عنه أديب السودان الكبير الراحل الطيب صالح :
" إبراهيم اسحق‏ كاتب كبير حقا‏,‏ رغم أنه لم يعرف بعد على نطاق واسع‏,‏ وقد اكتسب سمعته الأدبية بعدد قليل من الروايات الجميلة مثل روايته حدث في قرية ومهرجان المدرسة القديمة وحكاية البنت مايكايا وهي روايات قدمت لأول مرة في الأدب السوداني‏,‏ صورا فنية بديعة للبيئة في غرب السودان‏,‏ وهو عالم يكاد يكون مجهولا لأهل الوسط والشمال‏.‏صمت إبراهيم اسحاق زمنا طويلا واختفى عن الأنظار‏,‏ وقد لقيته منذ ثلاثة أعوام في الرياض في المملكة العربية السعودية‏,‏ حيث يعمل مدرسا وجدته إنسانا دمثا طيبا مثل كل من لقيت من أهل غرب السودان‏,‏ وواضح من روايته هذه وبال في كليمندو أنه لم يكن خاملا‏,‏ بل كان يفكر ويكتب طوال فترة صمته الممتدة‏.‏إنني لسوء الحظ‏,‏ لم أعرف غرب السودان كما يجب‏,‏ أبعد نقطة وصلت إليها كانت الأبيض عاصمة إقليم كردفان‏,‏ وزرت جبال النوبة منذ أمد بعيد‏.‏ لذلك حين أقرأ روايات إبراهيم اسحق‏,‏ وأيضا القصص القصيرة الجميلة للمرحوم زهاء طاهر‏,‏ أحس بالحسرة لأنني لم أتعرف أكثر علي ذلك العالم البعيد العجيب‏".
هذه شهادة كبيرة في حق أسحق ، لا شك يستحقها ، فهو قاص وروائي ممتاز علي أية حال !

2 :
قصدت بهذه المقدمة التعريف بالروائي والقاص لدي من يجهلون قدره الثقافي والمعرفي ، ولو كان ضئيل الشأن فيهما ما ألتفتنا إليه ! وبعد ، فماذا جري من هذا المثقف والمبدع الكبير؟ سأحكي ما أحزنني ، وكان مصدر " بلبلة " وتساؤلات شتي في الوسط الثقافي في السودان :
يوم 32/7/2013 تم بالعاصمة السودانية الخرطوم تكريم إبراهيم أسحق بواسطة رئاسة الجمهورية في أطار مشروع " تواصل " الذي أبتدرته السلطة الديكتاتورية لإستمالة المثقفين وتأطيرهم في نهجها الأقصائي العنصري وفق رؤياها للثقافة والمثقفين المشروع تحت رعاية النائب الأول علي عثمان محمد طه أحد أبشع وجوه المتأسلمين في النظام ، ويشرف عليه
د . المختار حسن حسين وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء . أما وجهاء النظام من الحضور ، فقد كان منهم : التجاني السيسي رئيس السلطة الأنتقالية لأقليم دارفور ،
د . عبد الرحمن الخضر والي الخرطوم ، د . أمين حسن عمر وزير الدولة برئاسة الجمهورية، محمد بشارة دوسة وزير العدل ، د . محي الدين تيتاوي رئيس أتحاد الصحفيين السودانيين ، والممثل علي مهدي . أما من تحدثوا في المنصة فهم : شاعرة النظام بإمتياز
روضة الحاج ، والخادم الصحفي محمد محمد خير الذي كأفاه النظام بأن جعله ملحقا ثقافيا بأحدي سفارات السودان ، والكاتب المسرحي عبد الله حمدنا الله ، والمهندس آدم عبد الرحمن ممثلا لأسرة أسحق ! كل هؤلاء هم من الوجوه القميئة للنظام ، مشهود لهم بالخدمة
" الممتازة " للنظام في الحقل الذي يدعون أنهم منه ، حقل الثقافة والإبداع ، وهم يحملون إليه نصالا مسمومة يطعنون بها جسد الثقافة ، ويشوهون واقعها وجديدها الذي هو في النضال ضد الديكتاتورية وتشويهها عقول الشعب بادعائها التدين الكاذب ، هم نفس أخوان مصر الذين رفضهم الشعب المصرعة وأعلن الثورة ضدهم ، وهم نفسهم الذي يناضل الشعب السوداني لأكثر من عقدين ضد نظامهم وسلطتهم الدموية الفاسدة !
أعرب ، في ذلك التكريم ، أسحق عن : " تقديره لما تقوم به الحكومة من تكريم للمبدعين
والإبداع ، ومشيرا أن وزارة الثقافة كانت قد نشرت له ثلاث كتب ، مشيرا للمساندة الكبيرة التي وجدها من الشخصيات والمؤسسات في هذا الصدد ، مضيفا إلي أن الإبداع هو صناعة علم موازي للواقع ويعبر عن وجدان الشعب " ! *

3 :
تري ، ما الذي يجعل مثقفا ، قاصا وروائيا في السابعة والستين من عمره ، بعد هذه الرحلة الطويلة في الكتابة والإبداع ، أن يضع يده مصافحا الجلاد ، بيديه الملطختين بالدم والحقارة والأجرام ، ما الذي يجعله يكون وسط هؤلاء الأوغاد فيتلقي منهم التكريم ؟ لست أدري ما منحوه له ، لكن هذه اللوحة التي يظهر في الصورة يتلقاها من رئيس النظام ، هي وحدها لتصور كيف كرموه ، ولم كرموه ! هي التي جعلتني في الحزن علي موقف مثقف كبير يشأ أخيرا أن يضع يده في يد الجلاد ، يتلقي تكريما منه ، وتجعلهما الكاميرا المحايدة معا ، ومن ذم يمتدح نظام الديكتاتورية الذي " يكرم المبدعين والإبداع " ، والمعروف لكل شعب السودان ، وللعالم أيضا ، أنه ما مر ، علي طول تاريخ السودان ، نظاما أجحف في حق الثقافة والمثقفين وأدوات الثقافة والإبداع بأكثر مما فعل هذا النظام ! نطرح السؤال هنا إلي الملأ ، ولا نقول في أسحق إلا ما شهاده الجميع وعرفه ، وأحتار منه !

4 :

ليست هنالك وقتا كافيا لنضيعه
المعذرة يا إبراهيم
ليكن الرب معك
وأنا أرجو أن يكون كذلك
عسي أن يكون
أنها ليلة مغلقة بسوادها ،
دبقا كالصمغ ...
ليس فيها قمر
والأشجار تجعل ظلالها سوداء
والسبت أسود
والثقافة في ضمير بعض الناس
سوداء
وذاك المنبر- في حفل التكريم -
أسود
والديكتاتور أسود
و ... يده سوداء ... سوداء !
إبراهيم أسحق إبراهيم :
وداعا !
---------------------------------------------------------
* حديث إبراهيم نشرته : وكالة السودان للأنباء / سونا ، الحكومية يوم 
  الأربعاء الموافق 24/7/2013 في نشرتها وفي موقعها بالنت .

 

الفتنة برسائلها ...



في آخر رسائلها كتبت إلي :
" صباح الورد الجوري ،
  صباح النرجس " ...
تحبها : الورود والزهور ،
ندي الصباح والقبلات ...

كتبت إليها :
وأنت تتأهبين للنهوض ،
صدرك في اشتعال شهوته
ونهداك في صحو الحلمات
يراقصن رؤاك ...
وفي رقصهن الفراشات .
تقرأين الآن الحليب ، يمتحن
فستانك
ما أنزل النسيج به من كتمان
جالسة علي أرتعاشات السرير
تحتسي لون المخدات ، والهواء
يطعم من رحيقك صغاره في قلبي ...
والمقاعد فتنة منك
كأنما قاب قبلتين ، أو
جلسنا حيث لا ينبغي لأحد أن يرانا
و ... تتعرقين
فأنا من رآك
وتذوقت بريق العيون ، حين تشعل
شموع أشتهائي ،
فتصير محض حب
بعد العناق ...
و ... أحبك ،
شفاهي تقول : أحبك !




ثلاث آهات في الألم ...


* هن ثلاث ، ليتهن لا يكن في التكاثر ...



1 :

الآلهات أوقفن العزف
فتوقفت الموسيقي والأغنية ...
الضحكات في براءة الذئب ،
توقفت أيضا .
أصبحت الحديقة صدي
والهواء صدي
والقصيدة صدي !
الألم وحده السيد
بحجم الحياة ،
أكبر من قلب المحب
...   ...   ...
علي العاشق أن يسكنه قلبه !

2 :

مرة أخري
يباغت الوجع الجسد
وفي المواضع الحية
يطفو ،
يطفو كالزبد !
من شذي زنبقة سوداء أتي
يثقب أجنحة الحلم ،
فيغدو ذاهلا ...
ومرغما علي الرقص في الألم
مثلما الوجوه الحاضرة ،
داخلها هو نفسه خارجها .
من تراه يدوزنها موسيقي الراقصات ؟
من يراقصهن الجميلات ؟
من المذهول
الغارق أصلا في المأمول ؟

3 :

الماء في البئر
رعشات في جسد الحبيبة
نبيذا في فمها
وفي الشفتين شبقها
والعاشق يشتهي النبع .
كل هذا الألم قد مضي
ومضي الدمع !
وثمة كلمة يجب أن تقال إليك ...
والبئر حاضرة
وشاهدة :

القلب
قد حلم بعينيك !

الاثنين، يوليو 15، 2013

أمرأة ترسم أوجاع جسدها ...

                                                                     - فريدا بريشتها -

جسديات ...
-----------

* فريدا كاهلو ، تحدث عن جسدها بالرسم !
 

" ما الذي أعرفه عن جسدي ؟
كل ما تعلمته أنني يجب أن أتجاهله دائماَ،
إذا التوت قدمي في الطريق
علىّ أن أنتظر قليلاً قبل أن أكمل طريقي رغم الألم،
إذا اشتعلت الموسيقى فجأة واستبدت بي رغبةٌ عنيفة بالرقص في الشارع
علىَّ أن أبتسم وأمضي،
هكذا تعودتُ أن أسكن هذا الجسد دون أن أعرفه بعمق.
أبحث عن اللوحات التي تشبهني أو تشبه ما أعرفه عن جسدي " ...
                                                   
                                                             - فريدا -


فريدا كاهلو ( 1907 – 1954 ) الرسامة المكسيكية ، التي جعلت ألم حياتها القاسية كله في حوزة جسدها ، ثم قامت بتعريته في الملأ عبر لوحاتها ، رسمته بكل قبحه وآلامه وعذاباته ، بمواضع جماله أيضا ، تلك التي كانت تراها هي وخلصاؤها ، فتريها للناس في لوحات .
في جل أعمالها أعتمدت براح الجسد لكي تعبر عبره عن سيرة وجعها وبؤر الألم والقسوة في ذات الجسد ، وعبر تصويره ، صورت ذاتها القلقة جراء جراحات جسدها ، الجسد المسكون بالألم الممض والجراح المروعة ... لكنها ، في ذات الوقت ، صورت روحها الشيوعية في شروقها وتحليقها العالي . أمرأة ، خلقت من جمال روحها وعواطفها الإنسانية النبيلة عوالما رشيقة وآمالا تشرئب للغد الجميل ، فخلدت أسمها وأعمالها في الجميلات النساء ، في عالمنا الجميل البهيج .
فماذا تقول لوحتها المنشورة هنا ؟
تطالعُنا امرأة متخشبة قليلاً،
نصفها الأعلى عارٍ تماماً ومسنود بدُعاماتٍ حديدية كما لو كان آيلاً للسقوط،
يبدو جسدها فخارياً بشقوقٍ خفيفة
وتبدو تنورتها السفلى كأنها مصنوعة من الجبس،
يظهر ذلك في طريقة تلوينها وفي التضاد الشديد بين الفاتح والداكن
في شبه غياب للهاف تون(درجة اللون الوسطى بين الداكن والفاتح ).
المسامير الصغيرة تؤكد هذا التصلب عندما تتناثرعلى سنونها الحادة
بخلاف المسامير في الواقع التي تسقط بكامل كتلتها.
الوجه هنا هو حامل التعبير
وناقل حالة الألم المكتومة التي اتضحت من خلال الشفاه المغلقة بحزم
والالتقاء الحاد للحاجبين المرسومين بقوة.

الدموع تظهر داخل العينين وخارجها وكأنها مجرد آثار جانبية محتملة،
مع ذلك ندين بقوة التعبير للعينين المرسومتين بخطوطٍ بسيطة ومحددة،
الشروخ تتناثر في الوجه، أما الشعرالذي يعبرُعن المشاعر فهو أكثر الكتل انسيابية في اللوحة.
تبدو الخلفية منتمية تماماً لطبيعة اللوحة ،
ضربات الفرشاة الحادة تصنع السماء والسحب
بينما الأرض تظهر في الجزء الأكبر من الخلفية مُخدَّدة وكأن زلزالاً ضربها للتو.

الجسد هنا لا يشير إلى الحياة ولا يحتفى بالبهجة،
الجسد المتكسر المتكىء على أعمدة خرسانية يعبِّرُ عن وجع مكشوف تماماً
مثلما يبدو جسد هذه المرأة مكشوفاً.
ليس المقصود هنا إبراز الجمال والتناغمات في جسد المرأة
كما كان فنانو عصر النهضة مثلاً يرسمون العاريات،
ولكنه يكشف عن التشوهات العميقة للروح ،
لقد تحول الجسد من أداة للوصول إلى أداه تعذيبٍ حية .


السبت، يوليو 13، 2013

كيف قتل ألتوسير زوجته هيلين ... ؟

                                                   - أتوسير وغلاف " رسائل إلي هيلين -


كيف قتل ألتوسير زوجته هيلين ؟
-------------------------------

في يوم الأحد 1980 ، قرع الفيلسوف الماركسي الفرنسي الكبير ، باب جاره في المسكن طبيب مدرسة المعلمين العليا في باريس ، ، قرعه قرعا عاليا صاخبا ، وهو يصرخ : " لقد قتلت زوجتي ! " . ذهل الطبيب ، وبالطبع لم يصدق ما كان يصيح به ألتوسير ، لا هو ولا من بدأوا يتوافدون إلي المشهد المرعب من ساكني العمارة في شارع أولم في العاصمة الفرنسية بالريس ،
جراء القرع العنيف علي باب الشقة والصياح الهستيري لألتوسير . كثيرون – وقتذاك – عزو ذلك للإضطرابات والتخيلات والأوهام التي كانت تعتريه من حين لآخر ، فقد سبق وعاني الهول في أسره وسجنه إبان الحرب العالمية الثانية والأحتلال النازي لفرنسا ، كانت ثلاث سنوات مريرة وقاسية ، علي قلبه ومخيلته وجسده أيضا ، وكان هو من أبرز وجوه المقاومة والنضال ضد الأحتلال النازي ومن أكبر مفكريها . لكن سرعان ما تبين الجميع الحقيقة الفاجعة :  لقد قتل ألتوسير بالفعل زوجته وحبيبته هيلين ...... ، زميلته في التدريس الجامعي وفي الحزب الشيوعي الفرنسي ، خنقها بيديه ، فلم تبد أي مقاومة ، حتي فاضت روحها . فسارعوا بنقله – وهو تحت تأثير نوبات هذيان وأضطرابات متواترة – إلي مستشفي سانت آن  للأمراض العصبية في باريس ، نقلوه إليها قبل أن تأتي الشرطة وتتعامل مع الحادثة المروعة . هزت الحادثة المجتمع الفرنسي بأكمله وأصيب الوسط الثقافي في باريس بالذهول أزاء ما جري ، كانت الحادثة مهولة ، مرعبة وصادمة ! فقامت ، علي الفور ، صحف اليمين ومنابره ، بأستغلال الحادثة للهجوم علي الماركسية واليسار ، يستبشعون الحادثة ويذمونهم بأن لا قيم ولا أخلاق ولا رأفة لديهم كما يزعمون ، الكل وجد فرصته فأستغلها لمصلحته ... وألتوسير قابع في المصحة العقلية في ذهوله الرحيم مما حدث ، يقول بأنه لا يدري ولا يذكر شيئا ، ولا كيف حدث ما حدث ، كل ما يذكره ، يقول ، أنه كان يمسد لها عنقها ، بحنان ورقة وحب ! هكذا ماتت هيلين ريتمان  ، أستاذة علم الأجتماع المرموقة ، والشيوعية البارزة في الحزب الشيوعي الفرنسي ، بيد حبيبها وزوجها !

2 :
لويس ألتوسير ، الفيلسوف الماركسي ، الأستاذ الجامعي والمفكر المناضل في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي ، ولد في دار مراد بالجزائر في .... 1918 وتوفي أثر نوبة قلبية في 22 أكتوبر 1990 . كتابان هامان أصدرهما : " رسائل إلي هيلين " نشرت منها أجزاء صغيرة منها في آخريات حياته ونشر الجزء الأكبر منها بعد وفاته بسنوات ، تغطي الرسائل الفترة 1940 / 1980 ، مليئة بالشاعرية وفيها حنان ورقة ، عاطفية وفكرية وسياسية و" جامعية " ، كان في الثانية والسبعين حين توفي . كان قد قضي ثلاث سنوات في المصحة ، فغادرها العام 1983 جراء سقوط الدعوة ضده بإنعدام المحاكمة خيث شمله قرار عفو رئاسي . 
خرج وهو يقول : " لقد قمت بخنق زوجتي ، التي جسدت بالنسبة إلي كل العالم إبان أزمة عصبية طارئة ، زوجتي التي أحبتني إلي درجة تحاذي الموت " !  الكتاب الثاني كان :
" المستقبل يدوم طويلا " ، حوي الكتاب سيرته كاملة ، حياته حين كانت تأتيه نوبات الأضطراب العقلي ويروي حتي لحظات الحادثة ، وكيف أنه أكتشف ، فجأة ، أنه قد قتل هيلين ... أوراق من سيرة فريدة ، لكائن من لحم ودم ، وعقل كبير ذو ذكاء حاد ، لكنه يتأرجح بين الجنون والعقل والعبقرية ، الفكر حين يكون في بلبال أطواره حياته الفكرية الخصبة ، فيمتطي جنونه ، فيصير إلي إستيهامات تقوده – رغما عنه – إلي رغائبه الذاتية في جموحها وشططها وجنونها ، إلي الهرب برفقة حياته الخاصة جدا إلي مصير الموت وما بعده ! هي مذكرات ، لكنها بنت عزلته الطويلة التي جعل نفسه فيها بعد خروجه من المصحة فلجأ إلي شقة صغيرة متواضعة في شمال باريس يكاد لا يزوره أحد إلا القلة ، ولا يخرج هو إلي الناس والحياة ، لعله كان ينفض عنه ظلال الحادثة المأساوية والمعارك التي أثارتها ضده بأسلحة كثيرة ومتنوعة ، لكن ذلك كله لم يمنع العالم من أن يعده واحدا من أميز وألمع معلمي الفكر المعاصرين في القرن العشرين وحتي يوم الناس هذا !

3 :

كان ، من بين كل الفلاسفة والمفكرين ، الأكثر أستيعابا للفكر الماركسي ولخطابه في راهنه وقتذاك ، والباحث الأكاديمي عالي المقام ، الذي بدأ دائما علي حق ، المعلم الذي أنتصر لماركس الأقتصادي ، ولماركس الفيلسوف ، ثم أنه الناقد ، بامتياز وبأنتباهة كبيرة ، لماركس البيان الشيوعي ، ولماركس الأيديولوجي  فيما بعد ... ويعد – أيضا وأيضا – من القلائل الذين ذهبوا إلي ما بعد الأفكار النظرية وما بعد الأيديولوجيات .  وتفرد ، من بين جميع معاصريه تقريبا ، بأنه من صك فكره في أرض الواقع ، مناضلا في الشارع ومنافحا عما يعتقد ، فقد كان من أوائل المناضلين في صفوف المطالبين بأستقلال الجزائر ، ودخل السجن بسبب من ذلك ليصبح ، في المجتمع الفرنسي وفي العالم ، مناضلا يساريا يحظي بالأحترام والتبجيل . ظل محتفظا حتي الرمق الأخير بعضويته في الحزب الشيوعي الفرنسي ، لكنه " تمرد " عليه ، بتعبير ما قال به الحزب في بعض أطروحاته السياسية . وأطروحاته ، لا تزال حتي اليوم تحظي بالدرس الكثير والتأمل العميق ، لعلها – الآن – تكتسب ألقها ودقتها حين النظر إلي المتغيرات الفكرية والتقنية الهائلة التي وسمت ، ولا تزال ، ملامح الألفية الثالثة !

4 :

لكن ، " رسائل إلي هيلين " ، هيلين التي كان قد تعرف عليها أيام كانا طالبين في الجامعة ثم عاشا فترة حب عاصف جميل سرعان ما توجاه بالزواج ، هذه الرسائل تقول أشياء كثيرة وتتقاطع مع تأملات المفكر والفيلسوف ، بسبب من ذاتيتها الحنونة وأشاراتها اللطيفة ، لكأنها تكمل فصولا ناعمة شجية من سيرة حياة المفكر الكبير . تجدها بريئة وهي تصافح وعي الذات ، في جوهر المشاعر والعواطف الإنسانية في غير ما تحفظ أو تورية من أي نوع ، في نبرات إنسانية وشعرية عالية ، وبتمثلاتها العاطفية والشخصية ، و هيلين تحتل منها الموقع الأثير في نضارة وحنان وحب ، باقات ورود ملونات تضوع عطورها الفواحة وسط ذلك الخضم الهائل ومن الصراعات والمتناقضات في ضجيجها العالي كما عرفتها الحياة الفرنسية وقتذاك في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي ... حين كان الضجيج بأعلي ما يكون في ما بين الماركسية والوجودية والبنبوية . الرسائل ، أيضا ، تحدد بلطف وبإيماءات وأشارات وبالأدراك الحسي الذي يذهب به الموت إلي البياض ، تتناول الرسائل كل تلك القضايا باسلوب هادئ ومتواضع وحنون ، بلغة سهلة تلبس لبوس الحب وفساتينه الملونات ، لقاء حميم حد العشق في تناولها ، في ما بينه  وهيلين ، وفي ما بينهما ومجموعات الأفكار في تجلياتها وشروقها .  ظل يكتبها وهو يترسم خطي صرخته ذات الدلالات العميقة : " ليست الأيديولوجيا شذوذا ، علينا أن لا نخدع ! " ، فظلت هي أطارا لكتابته . رسائل حب حقيقية ، محملة بجماليات العواطف الإنسانية والأعجاب حد اللهفة والولع لهيلين ، الأستاذة الجامعية والمناضلة الشيوعية البارزة و المنافحة الجسورة في المقاومة الفرنسية ضد النازي .
العام 1967 كتب إليها وهي في الأعتقال : " ... لقد بدأت أحلم أن بمقدوري الآن أن أستعيد تواصلي مع الحياة الواقعية " ، حقا ، لقد تواصل مع الحياة ، فكتب الحياة ، حياتهما معا ، وكتبها إليها ، إلي هيلين ، تلك الجميلة التي قتلها !

5 :
ننشر ، إذن هنا ، بعضا من رسائله إلي هيلين ...



1949:
عندي رغبة كبيرة بأن أضمك إلى صدري رغبة عميقة بأن أقول أشيائي وما أريده، وبأن أقول هذا، رغبة بأن أقول إن هذا يحصل وبأن أراك هكذا بلمحة بصر وبضربة قلب واحدة، لا يهم أين، في أي مكان أو شارع أو في الطبيعة، كنا نضحك معاً ونغرق في الضحك أو يستمر صمتنا طويلاً، ولكي لا يكون هناك أي شيء غير هذا الصمت المشبع باليقين والسماء والشمس والهواء، سعيدين معاً بالحياة من دون أن نأخذ بالاعتبار حتى الله، من مثل أن أضمك بين ساعدي وأطحن عظمك ولحمك وأشدهما قوياً واتنفسك بسرعة مقطوعة قليلاً حتى تبتسمين من جديد وأرى الضحكات في عينك، أراها عن قرب في عينك وقريباً من شفتيك واتحسسهما من دون أن تتوقفي عن الابتسام والضحك (...) ومن مثل أن أراك في ذلك الصمت، عارية تماماً مثل الصمت، عيونك تغلق على صمت داخلي مثل حياة عميقة سحيقة أطوقهما بذراعي حتى لا تهربين مطلقاً، كل الحياة هناك، في الداخل، ليس المهم أن تكون اليدان نظيفتين، المهم أن تكون العينين تريان جيداً، وكلتاها ممسكة بتلك الحياة النابضة مثل النار المشتعلة في الريف، وهذه هي أيدينا وأجسادنا تندفع في ذلك البحث الوجودي عن الجسد المجهول الذي يصير عالماً حسياً، عالماً مادياً تتحسسه، نراه، نشمه، نشاهده، حتى الأعمى يشاهده، سأتوقف هنا يا صغيرتي، ذلك أن للصمت معنى خاصاً..".
1952:
"لأننا معاً في ذلك الصمت الكوني، حلمت تلك الليلة بفيشنسكي (
ViShinsky) حين دعانا إلى المدرسة وتهيأ لي وبضربة عاطفية واحدة بأن أغرق في الدموع... أمس تمكنت من الخروج من نقاش يكاد لا ينتهي مع عالم النفس النمساوي. تذكرت مداخلاتي في السجالات الشعبية التي تظهر شيئاً فشيئاً عتيقة وصاخبة.. أنت تعرفين جيداً أنه في يوم من الأيام البروليتاري سيكون الرجل النموذجي، لن نحتاج إلى محللين نفسيين حيث التحضير للمدنية، على النقيض من ذلك الحاجة إلى المحللين النفسيين تشغل حيزاً مهماً في الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ليس فرضياً في عالم العسكر كما في البحث عن حلول للأزمات الاجتماعية.. أحياناً أكون مضطرباً، واتكلم بعنف، وهذا يخيفني كثيراً..
أتذكرين كيف عدنا سوياً مطبوخين مثل الكاتو.. المجتمع أحياناً ليس بذي فائدة، تأكل وتنام، والفكرة المهمة هنا أن أكون قريباً كفاية منك يا صديقتي، ولصيقاً بحياتك من همومك ويومياتك، ومشاغلك ومن أفكارك وما تتقدمين به..
أريد أن أغمرك يا حبيبتي الرقيقة من كل قلبي وبكل قواي اللينة.

1955:
هيلين
تتفهمين جيداً لماذا أكتب اليك غالباً، وتفهمين لماذا نترك أحياناً جانباً الشيء العاطفي، وأتوجه إليك بصفة الصديق(...)، أتكلم معك من إنسان إلى إنسان وأتمنى صادقاً مثلما ترغبين أن أراك كما أنت، هذا ما أحبه فيك، أن أحبك دائماً كما أول مرة، مثل أول قبلة، ومنذ أول سهرة أمام نار الموقدة لا أعرف حقيقة إذا كنت تتخيلين صدى الجائرة التي تمنح لشاب في السابعة والعشرين من عمره يكبر في حقل من الممنوعات والواجبات والمعسكرات والذي يطلب شيئاً بالمقابل وفي طريق العودة، لا فكرة الواجب الكامل، ولا الاكتفاء الداخلي للذات، ولا أي حركة أو حركة مفتعلة ولا حتى السخرية ولا التهكم ولا الغضب نفسه لا في القلب، ولا في العقل.. لدي قلق من هذا العالم، خوف عميق، هذا العالم الذي أرغب فيه من كل قلبي، الخوف الذي يجعل قدمي واصابعي تتكمش بأول عتبة في الحرية، مثل الشغف الأولي حين يتعلق بالأشياء وتنفس الحرية العميق وأنت دفعت هذا الثمن من دون شك. الحرية أقوى منا جميعاً أقوى مني، تربح دائماً، تخسر أرضاً أحياناً ولكن تربح شيئاً فشيئاً حق الحياة في هذا العالم المجهول.(..)
1958:
أظن أنك عايشت ظروفاً ما وأحسست بذلك التراكم لبقايا الأشياء، هوامش الأشياء والأحاسيس والجروح والكسور التي لا تخص شخصاً بعينه، ولكن يتطلع إليها بنفس الدقة وبنفس الفاعلية باللقاء مع شخص ما وبمغامرة عميقة.
ما أريد أن أقوله إن الأمر يبدو أعمق من أن تحسي به، ولست أنت السبب بذلك في الحقيقة، ولكن هذا لا يمنعني من القول إني مسحور بك وبذلك الشعور من اللاعدالة حقيقة والذي أفهمه أنه بمقدورنا التمرد على الذات وضد الحياة نفسها...
أريد أن أعرب لك عن اعتقادي بأني لن أكون ذلك الإنسان اللاوعي نفسه، أنا الآن قوي وحيد.. إنها أمي من دون أدنى شك هناك في الأعلى (...)
1967:
أنام دائماً تعيساً، مثل حياة المشردين والناس الهامشيين، أنهض من هذا جيد ولكن بوهن جسدي، يجب أن تكون كائناً على علاقة مع تواريخك اللاوعية وهي لا تتركني نهائياً لوحدي بسلام وتحيل حياتي استحالة، شريط واحد مضيء وضيق عنوانه "الهرب"، كلمة غير واضحة تماماً مثل التي تقولها هكذا العقل العاطفي..

1974:
والآن، انظري إليّ في عزلة خانقة في تلك الغرفة وحيداً، معزولاً عن الرغبات إلا الرغبة في النوم، وحيث يكون جيداً جداً أن أشعر بميل ما ولو قليلاً بالقراءة حتى أنسى أن الحياة باقية.
أنا إنسان ممزق من رسالتك الأخيرة ومن كلماتك الأخيرة، واتساءل ماذا أفعل وماذا سيحصل لي، أسند ظهري إلى الحائط، أفكر وأتأمل ببعض الأشياء وبأحد ما. ماذا لو كان بمقدورك مساعدتي مثلما أريد، أن أضمك عزيزتي، مثلما أحبك وبكل جوارحي (...) رسائل لا نستطيع أن نقرأها بتلك البراءة..


 
 
 



تلك بعضا من الرسائل إلي هيلين ، وفي الكتاب الكثير الكثير مما يجدر بنا أن نتفكره ونتأمله ونحن في تذكر ذلك الفيلسوف الكبير ، وفي تذكر مأساته المروعة التي أودت بحياة من أحبها وعاشا معا الحياة بكل عنفوانها وخصوبتها ، ثم أودت به هو إلي الجنون ، وإلي الذهول ، لكنه أبدا لم يكف عن الحياة ، عن كتابة الحياة ، حتي رحيله بنوبة قلبية في 22 أكتوبر 1990 !

الجمعة، يوليو 05، 2013

عودة الرسام إلي حبيبته ...

                                                                       - كنديو -


* إلي صديقي الفنان التشكيلي الكبير : بابكر كنديو .*

عاد .
يا إرم التي في العباد
ولست أعرف – بعد – كيف عاد
ولا من أين عاد !
لكنه عاد ،
رأيته بأم قلبي
ينظر مليا في الوطن
في ملامحنا
المراوغة الحزينة والمحن
وفي عيون الناس ،
في لحم الوجوه ...
رأي الأسية والشجن !

حين عاد ،
جلس إلي صخرة عالية في مواجهة النهر
جهز أدوات الرسم
ريثما يخلط الألوان
ويتمتم : قد آن الآوان
آوان الخلق في هذا المكان !
بيدة المريدة
أخذ ريشته الأثيرة
دسها في اللون ...
كمارد في الجن
وعلي صفحة ماء النهر
رسم " بورتريها " كبيرا أنيقا
لوجه حبيبته ...
لكنه فجأة ،
وكمن ملأ جيوبه بالحجارة
وهو في تذكر " فرجينيا " ،
رمي بالريشة إلي رمل الساحل
ثم ألقي بنفسه في الماء
سابحا في وجه حبيبته ...
ورويدا رويدا
يتلاشي وجهها في الماء
ويسكن – ذلك المجنون – وجهها
في الماء !
--------------------------
|* بابكر كنديو ، فنان تشكيلي سوداني كبير ، من كسلا في شرق السودان ، وأحد مؤسسي
    ( رابطة أولوس الأدبية ) بكسلا ، كان في المنفي بسبب من قمع نظام المتأسلمين ، مكث
    خارج وطنه ، لكنه عاد الآن ، للوطن والحبيبة معا !
.

الأربعاء، يوليو 03، 2013

العفيف الأخضر ، هل حقا أنتحر ... ؟

                                                                          - العفيف -
الأسبوع الماضي كنت قد نوهت هنا بكتابه المهم : " من محمد الإيمان إلي محمد التاريخ ... القرأن بما هو وثيقة طبية واعترافات محمدية " ، وقلت أن كتابه هذا وكتاب السوداني الأكاديمي محمد محمود : " نبوءة محمد " ، يعدان أخطر وأهم كتابان صدرا في التاريخ حتي الآن في موضوعهما ، حول سيرة نبي الأسلام ، وأوردت – في ذات التنويه – ما كتبه العفيف في مقدمة كتابه حول دور المستشرقين وأهمية ما قاموا به من كشوفات معرفية مهمة في تاريخ الأسلام وعقائده وتشريعاته وعباداته . بالطبع لم يكن يدور بخلدي أن العفيف يمكن يوما ما أن يقدم علي الأنتحار ، فتاريخه النضالي والفكري الطويل وأنحيازه بكلياته لقضايا التحرر والتقدم والأشتراكية ، مدافعا حياته كلها ، عن قضايا الكادين والمقهورين في عالمنا ، تقف كلها ضد أي ميول أنتحارية يمكن أن تعترية أو كآبة تسكنه فتسود إليه حياته فيغشاه الظلام وتظلله العتمة فيكون في بيئة وأحتمالات الأنتحار ! حتي فوجئت هذا الصباح بمقال طويل كتبه صقر أبو فكر في مجلة " السفير " ونشره بها أمس السبت 29/6/2013 ، ونقلته عنها مجلة " أصوات " الصادرة اليوم الأحد 30/6/2013 ، والمقال – علي طريقة الصحفيين – ينعي العفيف بتعديد مسيرة حياته ومآثره ، ويقول بأنتحاره يوم الخميس الماضي 27/6/2013 في شقته في باريس حيث يقيم لاجئا إليها منذ سنوات !
العفيفى يبلغ  من العمر97 عاما ، فقد ولد في 1934 ، ويعاني من المرض الكثير جراء تقدمه في السن و سنوات المطاردة والسجن والنفي والترحال والنضال ، لكنه حاضر الذهن ، متقد الذكاء ، يفكر ويكتب بنشاط وهمة عالية ، يكتب المقالات في القضايا المهمة ويؤلف الكتب . نعم ، قال هو بأن كتابه عن نبي الأسلام يعده بمثابة وصية أخيرة منه للعرب والمسلمين وللعالم ، وظل في حمي الكتابة ! لكن ، أن يضع العفيف نهاية لحياته بمحض يديه ، وينتحر ، فذلك ما لا أحتمل تصديقه ، بخاصة أن الخبر لم أجده في أي موقع آخر أو صحيفة أو مجلة أو فضائية ، فرجحت أن خبر أنتحاره مختلق ومنسوج علي خلفية مرضه ، لكنني لا أستبعد حدوثه إذا حدثت له حالات إكتئاب أو أضطرابات نفسية من ذلك النوع الذي يقود المرء لوضع حد لحياته بنفسه ...  فلقد كتب خلال الأسابيع الماضية مقالاته الرصينة الراصدة عن مايحدث في موطنه تونس ، وعن ما يجري في مصر وأستعدادات حركة " تمرد " والمعارضون لحكم المرشد ومرسي لهذا اليوم 30/6/2013 للتظاهر ورفض حكم الأخوان في ملحمة شعبية تاريخية في مسيرة تاريخ مصر ، أحسسته في شوق عظيم أن يشهد ذلك اليوم ، ويتمني لو يستطيع المشاركة بشخصه فيه ، فكيف ينتحر قبل ثلاثة أيام من أطلالة ما تمناه وأنتظره ! لا شك أن الخبر مختلق ، ولا صحة له ، لكنني – وأنا أنتظر جلاء الحقيقة – أعيد هنا نشر مقال صقر أبو فكر بكامله ، فهو – في ظني – مفيد بعض الشئ ، من أشاراته حول مسيرة وحياة العفيف !
ومنذ قليل ، قرأت أن العفيف تعرض " لنكسة صحية " حسب ما أوردته " مؤسسة الحوار المتمدن " وثيقة الصلة بالعفيف ، هذا يعني أنه يصارع المرض لا يزال ولم ينتحر ، فيما يلي ما أوردته " الحوار " منذ لحظات :
(
منذ أيام تعرض المفكر والمناضل الكبير العفيف الأخضر واحد ابرز واهم كتاب مؤسسة الحوار المتمدن إلى نكسة صحية كبيرة، ويرقد الآن تحت العناية المركزة في احد مستشفيات باريس، واليوم تحسنت صحته نحو الأفضل وبدأ يستجيب إلى العلاج.

إدارة الحوار المتمدن في تواصل مستمر مع أصدقاء العزيز العفيف الأخضر لمتابعة وضعه الصحي، نتمنى له الشفاء العاجل والعودة إلى الحياة الطبيعية بأسرع ما يمكن.)


هيئة إدارة الحوار المتمدن

-------------------------------------------------------------------
العفيف الأخضر ... موت صاخب لحياة مفعمة بالأمل !
--------------------------------------------------
لم يترك له الزمن إلا الجنون أو الانتحار، فراح يقاومهما بقوة هائلة. وفي خضم هذا الألم العاصف سقط في شراك المرض المستعصي. وعندما فقد الأمل نهائياً، أطلق آخر صرخة، ووضع حداً لحياته بيده؛ وكان موته الصاخب هو النداء الأخير لحياته المفعمة بالأمل قبل أن ينغمر في هلع النهاية.
في طفولته القاسية فكّر في الموت مرّة للخلاص من المهانة الاجتماعية والفقر. وعندما وقع انقلاب هواري بومدين في سنة 1965 ضد صديقه أحمد بن بلة واضطر إلى اللجوء إلى المنفى الألماني، فكّر ثانية في الانتحار، لكن فيتنام أنقذته من أفكاره وجعلته ينعطف مباشرة إلى العمل الثوري، ليلتحق في ما بعد بالثورة الفلسطينية في الأردن. وفي سبعينيات القرن المنصرم كان يردد أمامنا في بيروت انه سينتحر خلال عشر سنوات إذا لم تنتصر الاشتراكية في العالم العربي... لم تنتصر الاشتراكية ولم ينتحر العفيف الأخضر. والاثنان، أي الاشتراكية والانتحار، هُزما موقتاً.ولد العفيف الأخضر في قرية «مكثر» التونسية في سنة 1934 لعائلة من الفلاحين الفقراء جداً. وتمكن من الالتحاق بالمدرسة مصادفة؛ فقد كان يرافق ابن صاحب الأرض التي يعمل بها والده إلى المدرسة وينتظره في الصقيع ليعيده إلى البيت بعد نهاية الدروس. وأشفق عليه ناظر المدرسة وأدخله أحد الصفوف، فإذا به يحفظ الدروس بسرعة. لكن والده سرعان ما توفي في سنة 1947، فأصيب بصدمة مروِّعة وبجروح لم يشفَ منها إلا بعد سنوات طويلة. ولعله امتلك من تفصيلات طفولته القاسية هذه دافعاً قوياً للرفض والتمرد وللتفتيش عن شفاء من جرحه النرجسي المؤلم المتجسد بفقره وبوفاة والده. وفي يفاعته كان يميل إلى جميع الكتابات التي تتمرد على الشائع والمألوف وتحض على الثورة. وثمة دافع خفي ربما جعله يختار طريقه إلى دراسة القانون والعمل في المحاماة هو الدفاع عن المظلومين أمثال صالح النجار الذي حُكم بالإعدام بتهمة محاولة اغتيال بورقيبة، وفشل العفيف الأخضر في إنقاذه. وقد تركت هذه الحادثة جرحاً إضافياً في نفسه التي ازدادت قتامة بعد فرض الإقامة الجبرية عليه في سنة 1958. لكنه تمكن في سنة 1961 من الفرار إلى باريس بمساعدة مجموعة ثورية جزائرية. ومن باريس سافر إلى الجزائر فور استقلالها، وهناك بدأ تجربة جديدة مع الماركسية والتسيير الذاتي وبن بلة وجريدة «الثورة والعمل»، واشتُهر بمشاكساته وسجالاته الحادية وراديكاليته، وشاعت في تلك الفترة عبارة «الثالوث المخيف: طاهران وعفيف». أما الطاهران فهما الطاهر وطار والطاهر بن عيشة. أما العفيف فهو العفيف الأخضر. والثلاثة كانوا أطهاراً وعفيفين في مبادئهم، لكن الطهارة والعفة بالمعنى الديني لم يقتربوا منهما على الاطلاق.في الجزائر تعرف إلى خليل الوزير (أبي جهاد) في سنة 1963، وكان يترجم له المقالات من الصحف الفرنسية. وفي مكتب حركة فتح التقى ياسر عرفات في سنة 1964، وجمع أبا جهاد وتشي غيفارا حين زار بطل الثورة الكوبية الجزائر في سنة 1965. وعندما وقع انقلاب بومدين على أحمد بن بلة فر العفيف الأخضر إلى ألمانيا الشرقية. وهناك اكتشف أهوال الستالينية وجهاً إلى وجه. وبعد معركة الكرامة في 21/3/1968 قرر الالتحاق بالثورة الفلسطينية، فاتصل بأبي جهاد الذي أرسل إليه بطاقة سفر إلى بيروت، ومن بيروت إلى دمشق بالسيارة حيث كان أبو جهاد في انتظاره، ليسافر بعد ذلك إلى الأردن. وفي الأردن بدأت رحلة جديدة مع الكفاح الفلسطيني المسلح، وفيها راح يبتدع شعارات مثل «كل السلطة للمقاومة» و«كل السلطة للمجالس» و«لا سلطة فوق سلطة المقاومة». لكن أمله خاب تماماً من المقاومة الفلسطينية بعد الخروج من عمان، وشرع في نقدها في الصحافة اللبنانية، وكان يوقع أحياناً باسم «حمدان القرمطي». وفي سنة 1975، مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية غادرت بيروت بعدما أنجز ترجمة «البيان الشيوعي» وأقام في باريس حيث خضع لتحولات فكرية زحلقته نحو الليبرالية، إلى أن دهمه مرض نادر عطّل أصابعه ومنعه من الكتابة. وافترى عليه راشد الغنوشي حين اتهمه كذباً بأنه المؤلف الحقيقي لكتاب «المجهول في سيرة الرسول» الذي صدر بتوقيع مستعار هو «الدكتور المقريزي». ومنذ سنة 2003 والعفيف الأخضر يعاني آلام اليدين والعزلة وتفرق الأصدقاء وافتراءات الكَذَبَة، إلى أن تحركت شفتاه بآخر عبارة هي: «بيدي لا بيد عمرو»، فانتحر في منزله بباريس في 27/6/2013 بعد حياة مليئة بالألم الكثير والفرح القليل والأحلام الضائعة والآمال التي تناثرت هباء كغبار الطلع.

صقر أبو فخر
عن السفير