Powered By Blogger

الثلاثاء، يناير 31، 2012

الفنان والحاكم "3": ريح وهبت ، نار وشبت !

- وردي -

(ها أنا الآن في حضرة الطيف والماء والخُضرة الباسقة!.

ولتسامح ضميري إذ

يُبايع موقفك السمهريّ النبيل!

ويُبايع فيكَ الوطن؛

من سهوبٍ وغابٍ،

وزرعٍ وضرعٍ،

وطينٍ وجرفٍ ونيل؛

ويُبايع فيكَ الفداء الجليل،

ويُبايع فيكَ الوفاء الذي

يملأ النهر بالماءِ

والغناء بالرؤية المُبدعة،

ويُبايع فيكَ جلال الصمودِ وهيبته الساطعة

ويُبايع فيكَ الحضور الذي يُخَصِّب الأرض بالبذرةِ النافعة!،

ويُبايع فيكَ الوطن بضراعاته وصراعاته المُبدعة!. (1)

كان يرى وطنه، يراه ويعيشه، بالقلبِ والرؤيا معاً. ويحدِّق في أرضه، فيراها أرض المناديل ذات اللون القرمزي، وذات اللون الفيروزي البراق؛ أرض الأواني والجِرَار والفاكهة المنفلقة تحت سِربٍ من الحشرات هنا وهناك، طائرةً أو زاحفةً، أرضٌ يُجلِّلها مطر الخريف الباذخ والفيضانات التي تأتي كيفما اتفق؛ فتتداعى من جرائها بيوت الفقراء فيصبحوا ـ بليلٍ ـ في العراء الفسيح. أرضٌ هي كحقل الصبار ذو مدادٍ أزرق فولاذي، وذو تاج من الأشواك الصفراء كما الدبابيس. وبخياله المُجنّح الشفيف يرى أنهاره ونيله العظيم وغاباته الكثيفة التي استعصت على الجفاف والتصحّر وعسف الحكومات، ويرى شعبه الذي أعطاه عمره الشخصي، وعمره الفني الخلاق، وهو يصارع صراع الضواري حتى يظفر بحق الحياة الشريفة المطمئنة؛ تلك الحياة التي ظلَّ يطلبها له في أناشيده وأغانيه كلها! يرى كل ذلك ويحس بأنه هائل، وأنه عريق، وأنه جدير بهذه المسيرة المضيئة بين الإبداعات الكثيرة العريقة في الوطن الكبير! لقد عاش تجربته عبر إطلالات متوهجة من عصافيرٍ ومن أساطير، معمورة حتى أطرافها كُلّها بصراع الإنسان السوداني في الزمن، في الراهن الذي يُشقّقه ويصدّعه الصراع ليخرج من حطامه الجديد والأفضل للإنسان وللوطن!.

كان يقول: إنه ليسرني ويصيبني بالغبطة والانشراح هذا التنوع والتعدد الشعبي المثير في وطني، وتطيب لي فاكهتة وأُناسه المتميزون في أصنافهم وطبقاتهم كلها؛ أنني لأعشق بلدي الحبيب، لهذا أسعى سعيي كُلّه لكيما أبيِّن خصائصه وأرفع من ميزاته حتى يتباهى بها شعبي أمام الدنيا قاطبةً! إنك لترى من خلال إرشاداته المضيئة، ومن خلال أخطائه الكبيرة، السلسلة نفسها من الكرم السخي جداً، من الحيوية، من الخصوبة المعطاءة الدائمة أبداً!.

 كان الوطن يرزح تحت وطأة الديكتاتورية وكابوسها المُرعب، و (الحكومة) تسوم الناس العسف والظلم والقمع والمسغبة! (لأن الحكومة بلا ماعون دستورى تصبح مُعرَّضة للانمساخ لمجرد عصابة من الأشخاص الذين يحتلون كراسي الحُكم لحماية مصالحهم الضيقة، ولو كلفهم ذلك تنظيم الفِتن العرقية بين أقوام السودان، وترحيل السكان وتدبير عمليات القتل الجماعي، إلى آخر المخازي التي صارت جزءاً من إسم السودان في الإعلام العالمي. لقد تعودنا في السودان على سعي الحكومات الإنقلابية لتغيير ماعون الدولة بما يتماشى مع مصالح القِلَّة القابضة على السلطة السياسية، ولو استمر تبديل البناء الهيكلي على هذا النهج الجائر، حسب نزوات المتردين على سدة الحُكم، فقد يجيء وقت (تنحلج) فيه آلة الدولة تماماً وتفقد معناها في خاطر المجتمع. إن من واجب الدولة السودانية تأمين حاجيات المواطنين كافةً بما فيهم المبدعين. بيد أن قيام الدولة بواجبها تجاه المواطنين، لو تم، لا ينبغي له أن يصرفنا عن الدولة، كون هذه المؤسسات الحُرَّة تُعبِّر عن الخصوصيات السياسية والثقافية والإقليمية المتنوعة التي ينطوي عليها واقع التعدد الثقافي والعِرقي والجغرافي للسودان، بل إن مؤسسات المجتمع المدني تبقى، في التحليل الأخير، أفضل ضمانة سياسية لتأمين الرقابة الشعبية على أخلاقية وعدل أداء المؤسسات المنبثقة من أجهزة الدولة.(2).

 كان الشاعر في الوطن، والفنان في المنفى، إنني أتحدث هنا عن أُسطورتان: محجوب شريف الذي أصبح يُمثِّل بطلاً شعبياً ضمن الميثولوجيا اليسارية؛ فمحجوب، على المستوى الأيقوني، يحتل صورة البطل الشعبي الثوري بكفاءةٍ نادرة، كونه بطل بسيط قريب للجميع، فضلاً عن كونه بطل ينتج أدباً فاعلاً ضد واقع القهر والاستبداد الذي يطال الجميع في السودان منذ عقود. فمحجوب يتحدث باسم المقهورين ويصنع لهم من الكَلِم ما يُيسِّر لهم أن ينطلقوا في لسانه ويسكنوا تجربته النضالية (والعاطفية) الطويلة. وهذه حظوة لم ينالها إلا قلة في تاريخ الميثولوجيا الشعبية السودانية!) (3)، لقد قدَّم محجوب، طوال مسيرته الحياتية والشعرية، أسطع تجربة شعرية عرفتها بلادنا على الإطلاق، ودفع مهراً عزيزاً من حياته الشخصية وصحته لكيما تترسخ هذه التجربة وتسطع وتُضيء! ووردي ـ أيضاً ـ عانى الأمرين حتى يمهر تجربته ومشروعه الفني الضخم بماء الحياة والخلود، نبراساً ورؤية عالية لشعبه ولوطنه! وكلاهما ـ الشاعر والفنان ـ عانا من عذاب المرض وسطوته؛ أُصيبا بالفشل الكلوي وتعب النضال الطويل، في السجن والمنفى، ومعاناة الحياة الخشنة في الوطن!.

لكن الجدير بالتقدير والإجلال إنهما ـ معاً ـ أبداً لم ينحنيا لجلادٍ أو طاغية ولم تهن عزيمتهما ولا ضعفت صلابتهما! هذا الثبات الصلب على المبادئ والقناعات هو الذي ـ ضمن عوامل وأسباب عديدة أخرى بالطبع ـ أكسبهما حب الشعب السوداني وتقديره الكبير! يحدث هذا الشموخ بينما (الصراع في السودان يستهلك الكثير من طاقة المُبدع والكاتب، ولاشك أن ظروفاً كثيرة قد تضافرت لخلق هذا الوضع، فقد وجد المثقف السوداني، مبدعاً أو غير مبدع، وجد نفسه في طليعة من شعبه وعليه أعباء النضال الوطني، ويبدو هذا الأمر واضحاً منذ فترة النهضة في الثلاثينيات من القرن السابق. وقد تصدَّى الكُتاب والمبدعون للمهام المُلقاة عليهم بهمة ومسئولية وكان هذا على حساب الإبداع والعبقرية، إلا أن الفشل المتكرر للنخب السودانية هو في حد ذاته فشل للمشروع الوطني أو الحداثي الذي انبرت هذه النُخب لتأسيسه!) (4).

الصمود والغناء، ذلك ما كان يشتغل عليه وردي في أعماله الوطنية، حتى عندما ذهب إلى أحراش الجنوب، حيث مقاتلي الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ذهب لا ليرفِّه عن المقاتلين، أو يؤانسهم ويمتعهم بمنوعات الفن والعروض الغنائية الترفيهية، بل إن ما قدمه هناك من أعمال غنائية وأناشيد وطنية، كانت هي ذاتها جزءاً من العملية الحربية، باعتبارها حشداً معنوياً وشحناً وجدانياً وفكرياً جديداً، وإنعاشاً قتالياً لمقاتلين يدافعون عن وطنهم وعن أهلهم وعن حريتهم وحقهم في الحياة!.

(ها نحن مريم،

نرسم الطرقات في الليل المُلبَّد،

نرصد الطلقات تتبعنا

ونقفز مثل عصفورين بين قذيفة و قذيفة.

ها نحن، مريم، نهبط الدرجات نحو الملجأ الليلي،

نُحصي الطائرات مغيرة

ونقول: أمنا

ونمشي، خلسةً، للبحر

نجلس خلف أكياس التراب

ونرقب الأمواج تهدر، والشبابُ مقاتلين،

ثيابهم مخضرة كالصخر عند شواطئ المتوسط

إنتظري قليلاً، كي نقول لهم: سلاماً.

كي نُبارك بالدموعِ سلاحهم،

كي نمسح الخصلاتِ بالماءِ القليل،

ونمضغ الخبز المجفَّف صامتين!.

والعُشاق يمتشقون رشاشاتهم

والبحر يهدأ،

ينصت الأطفال للصوتِ المُباغت،

فى البعيد حرائق،

والطائرات تدور في أُفقٍ رصاصي.

لكِ العُشاق والطلقاتِ، مريم!) (5).

 لقد قاتل وردي كثيراً لأجل الثورة السودانية، ولأجل ازدهار وطنه ونهوض شعبه!.

إن الفنان يكون مشدوداً بين طرفي توتر لا بد أن يُفضي إلى فعلٍ ما، إلى أُغنيةٍ مكتملة التكوين والبهاء، أو إلى نشيد صاخب مدوٍّ يشدّ من أذر أُمته ويُحفّزها للنضال وللصراع، ولكنه لا يستقر أبداً على حالٍ ساكنة، ولا هو يركن للهدوء المخالف لنواميس الفن ووجدان الفنان، خائضاً في الساحة وهو جهير الصوت، مُبشِّراً بالغد الآتي، وساخطاً، السخط كله، ضد الحاكم وأجهزته وناسه وأدواته كلها، كأنما وهو إذ يفعل ذلك مثله مثل "بروفروك" في قصيدة تي. إس. أليوت الذي يتساءل في جسارة كيما يُحفِّز نفسه ذاتها للفعل والصراع: (أأجرأ على أن أُقْلِقَ الكون؟)، وأعرف أن وردي كثيراً جداً مايُناقش نفسه ويُحاسبها، يفعل ذلك في أغانٍ وأناشيد كثيرة، بل ويكتبها قصائد جميلات، كُلما أحس بأنه قد تقاعس قليلاً هنا أو هناك، أو حين ينتابه قلقٌ ما في لحظة ضعف إنسانية صغيرة، يحس بأنها سوف تقعده عن النضال والمُشاكسة، وسرعان ما يستعيد سخطه ونقمته في وجه الحاكم، وهكذا تسير أغانيه وأناشيده وقصائده مُتصاعدة زخماً، وعنفاً، ولظى؛ محوِّلاً تمرده الذاتي إلى تمرّدٍ عام، ويا للعجب، يكاد لا يلتفت إلى ما يُهم الفنانون عادةً من لذات الدنيا، وهو قد أعلن، منذ بواكيره، أنها لا تفتنه ولا يعيرها في حياته اهتماماً، إلا في ما يشبه الخلسة من نفسه! إن في تحديه للواقع المُزري، وللحاكم بكل جبروته وصولجانه الباطش، أشبه بمرايا الظلال الهائلة التي يُلقيها المستقبل على الحاضر كما يقول شلي! والحال كذلك فليس غريباً أبداً أن يكون هذا الغناء الغضوب، المتوعد، الدامي، يتلوه المثقفون ويتناقلونه ويشهرونه سلاحاً في وجه حُكام ظَلَمَة لا حيلة لهم به، إن فنه راح يُمازج تيار الحياة الفكرية والعاطفية لدى الناس، لا سيما الشباب من بينهم، كما تُمازج مياه النيل العظيم الوعي واللاوعي منهم، وهو يموج بصورٍ شتى لهذه المياه، في زهوها وحَردها، في هونها وفورانها، كما لا يموج أي غناءٍ آخر! ويبقى صوته هادراً في آذان الحاكم والمحكومين على السواء، يأتيهم ـ كالفجأة ـ من حيث يكون هو، داخل الوطن أو خارجه، سيان! إنه رافض ومتمرد وساخط وغاضب ومقلق، وأغانيه وأناشيده هي شواظه ولظاه، يلهب بها وجه الحاكم أينما حل وحيثما وُجد!.

(الإسْم الكَامِل، إنْسَان،

والشَّعْب الطَّيَّبْ وَالدَيَّ

الحِزْب حَبيبِي وُشِريَانِي

أدَّانِي بَطاقَة شَخْصَّية

مِنْ غِيرُو الدُّنْيا وقُبّالوُ

قدَّامِي جَزَايِرْ وَهْميَّة

لاََ لَونْ، لاَ طَعْم ولا رِيحَة

وَأيَّام مَطْفيَّة مَصَابِيَحا

زَي نَجْمَة بَعِيَدة وُمَنْسيَّة

المِهْنَة، بنَاضِل وُبتعلَّم

تِلميذ في مَدرسَة الشعْب

المَدَرسَة فَاتْحَة على الشَّارِع

و الشَّارِع فَاتِح في القَلْب

والقَلْبِ مَسَاكِنْ شعبيَّة

وَديني مِحِل مَا تودِيني

شرَّد أخواتي وأخَواني

فَتِّش أصْحَابي وجيَراني

خلِّيني في سِجْنَك واَنْسَانِي

في سِجنك جُوَّه زَنَازِين

أرِمينِى وُكتَّف إيدَيَّ

عَلَشانْ مُسْتْقبَل إنْسَانِي

مِنْ أجْلِ النَّاسْ الطَّيبين،

وُعشَان أَطْفَالنَا الجَّايين،

والطَّالِع مَاشِّي الورَديَّة

وحيَاة الشعبْ السُودَانِي

فِي وشْ المُدفَع تَلْقانِي

قِدَّام السُنِكي حَتَلْقَانِي

وأَنَا بْهتِف تِحت السَّكين؛

والثَّورَة طَرِيقي

وأيَّامِي،

وُتْحَيا الحُريَّة!) (6).

 أن الأُغنية عندما تخوض معركتها الحقيقية تنجز ما يفوق الخيال،، وإنها يمكن أن تنهض بدور فكرى ونضالى بارز، فتصبح – في معيتها وبسبب منها ـ الأفكار والأراء والمواقف والمعتقدات السياسية والفكرية ـ تهتز وتتحد لتتحول إلى ضوء وإلى إنجاز شعبي في واقع الحال، ولهذا نستطيع القول أنه عندما تبدأ تُقرع طبول الديكتاتورية، أية ديكتاتورية، يكون للثقافة والفن سيرة مختلفة، تُغيّر المفاهيم والموازين المعروفة، وتحول ساكن الحياة إلى حركة وصراع ونضال لا يفتر، ويبدأ أيضاً ـ وفي ذات الوقت ـ تطلع من صفوف الشعب سير مضيئة من البطولة والفداء، كأنها السحر المُداهم أو الصحوة المنتفضة تطلع من بين الركام والموات العقيم!.

ذلك انكشافٌ كبير يحدث للجواهر الكامنة في رحم الشعب الولود! ويحدث أيضاً ذلك الإمتحان "الرهيب" للمثقفين والفنانيين، إمتحان لانتماءاتهم الفكرية ولقناعاتهم العقلية في ارتباط الفكر بالموقف، وفي النضال ضد مظاهر القمع ووجوه الديكتاتورية المتعددة في ما بين الدولة وأدواتها جميعها، وفي الدفاع عن تقدم الشعب وحريته، وفي الدفاع عن تقدم الوطن. وهو أيضاً امتحانٌ شخصي، يتجسد في اختبار النذالة والنبل، شجاعة الروح وجبنها، التردي إلى الوحل والعطن، والسمو الإنساني الجميل. تلك قيم سامقة نبيلة خاض غمارها الشرفاء من أبناء وبنات شعبنا، وكان في طليعتهم، على جبهة الغناء، فناننا عظيم القامة باذخ الكبرياء والمجد، محمد وردي!

لقد جعل من الأُغنية، رغماً عن ظلال الديكتاتورية القاتمة، تلعبُ دور النشرة والمطبوعة أو الدورية والجريدة، والإذاعة والتلفزيون، نعم، قامت الأغاني بالأداء الإعلامي الذي غطى كل ساحات الفعل والمقاومة، مع الشعب في صبحه وفى لياليه الداميات، ذلك كله مافعلته الأغاني في وجدان الناس! وتبدأ تتسع دوائر الفعل والمقاومة وسط المثقفين، بالكلمات أو بالمقالات، بالقصائد أو بالغناء، بالرسم أو بالتحليل. إن نضال الشعب في سبيل حريته وتقدمه يكتسب وهجه ولمعانه من هذه المساهمات الجسورة للمثقفين والفنانين! إنني لأعرف أن هنالك شبان وشابات أقدموا ـ بجسارة وكبرياء عظيمين ـ وسط الأجواء الخافته للديكتاتورية، على تلحين وأداء لقصيدة توفيق زياد "أُناديكم" وسجلوها على أشرطة الكاسيت، فانتشرت في الناس ودخلت بيوتهم من نوافذها وأبوابها المشرعة للرياح:

(أُناديكم

أشُدُّ على أياديكم

أبوس الأرض تحت نعالكم

وأقول: أفديكم.

وأهديكم

ضياء عيني، ودفء القلب أعطيكم

فمأساتي التي أحيا

نصيبي من مآسيكم

أناديكم!).

لقد ظلت كثيراً من الأُغنيات والأناشيد ـ السابقة للديكتاتورية أو المعايشة لها ـ تكتسب حضوراً جديداً وسطوعاً ومغزى ينبت من حشا اللحظة الراهنة. ووردي، بإسهامه الكبير في مسار النضال لأجل الديمقراطية والحرية، وبأغانيه وأناشيده؛ جعل خطوط وألوان اللوحة القادمة تتضح أمام شعبه، تتجلى في وضوح هذا الفجر الذي نشهده الآن برفقة فنجان القهوة وكوب الشاي، وأُغنية ساحرة مناضلة تدفع حواسنا إلى التيقظ والحب ونشوة الشعور بأنكَ تُناضل وتُدافع عن أشرف وأعظم القيم الوطنية لشعبنا!.

إن تضخيم هذه التجربة العظيمة في الغناء، وجعلها خميرة في الخلق الفني العظيم لشعبنا تبدو، وهي مُحاطة بأكاليل المجد والفخار، بجمالها الأخَّاذ المحتدم، وهي تسير في دروب الآلام المليئة بالشوك الكثيف والتضحيات الجسام، وبالوعي الكامل بالواقع الحي للناس العاديين في حياتهم اليومية الخشنة، كُلها تبدو كشروطٍ لازمة وضرورية لكل نتاج روحي لجماهير شعبنا. تلك هي بعضاً يسيراً من ملامح التجربة الكبيرة، تجربة الفنان الكبير وهو يُقارع الحاكم وينازله، بالأغاني كُلّها والأناشيد كُلّها، ويكبر، يكبر في التجربة ذاتها ويزدهر فنه في كل صباح جديد، فقد كان كالمنارة، صامداً ومضيئاً أكثر من خمسون عاماً، أبداً لم يتصالح مع الحاكم، فظل وفياً للشعب والوطن:

 (لا تُصالح ولو منحوك الذهب

أترى

حين أفقأ عينيك ثم أُثبِّت جوهرتين في مكانهما،

هل ترى؟

هي أشياء لا تُشترى!.

لا تُصالح

ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ،

والرجال التي ملأتها الشروخ،

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم،

وسيوفهم "العربية" قد نسيت سنوات الشموخ!.

لا تُصالح

فليس سوى أن تريد

أنت فارس هذا الزمان الوحيد

وسواك، المسوخ! ). (7)

هــوامش:

1.علي عبد القيوم – الخيل والحواجز – ص (119).

2.حسن محمد موسى – محجوب شريف بين العمل العام وعمايل العوام – مجلة "الوسيلة" العدد الثاني مارس 2007م. ص (17/18).

3.المصدر السابق نفسه.

4.د. محمد المهدى بشرى – مخطوطة كتاب بعنوان: "المثقف والسلطة".

5. سعدي يوسف – عن حصار بيروت – " الثقافة تحت الحصار". حلمي سالم، دار شهدي للنشر ص (91).

6.محجوب شريف – الأطفال والعساكر.

7. أمل دنقل "لا تُصالح".

الشاعر، مُتصالحاً مع السلطة

بعيداً عـــن الناس!

الصديق العزيز / شنقر، نبدأ فنقول: مقالتك المثيرة "الشاعر في حالة كونه ظالماً! " مَسَّتْ مني الشغاف، وخفزتنى للكتابة، لما فيها من وهجٍ وإشراق! يا صديقي، لقد أخرجت الجمر من خلل الرماد، ووضعته أمام العيون، وهو ملتهب، حارق ومُحرق! إن المبدع يعني أن يكون في صف الجماهير وقضايا حياتها المتنوعة، وعندما تقف هذا الموقف بجلاء تستطيع أن تكتب وأن تبدع وبضمير مُطمئن! وذلك وحده هو مجد الشعر، شرفه وكبرياؤه! وحيث يكتب الشاعر، مُندداً بالظلم وفاضحاً له، فإنه، في ذات الوقت، يتداخل ويتحد صوته مع أصوات المظلومين وضد الظَلَمة، ثم أنه يجد أيضاً لغته الملائمة للكتابة الشعرية المُبدعة! أن يكتب الشاعر عن قضايا الجماهير، فذلك يعني بالضرورة أن يكتب ضد السلطة، ضد النظام المؤسس والمُدجج بالقمع والعسف، وذلك يعني أن يضع الشاعر عنقه تحت السكين! تلك ـ ياعزيزي ـ مراقٍ صعبة، ومجاهل وعرة، لأن الشاعر يحقق لنفسه ولشعره فيما يحققه للناس، لأن الجماهير هي التي تزود عنه، مثلما هو يزود عنها، يؤسس شعره لها، ويمضي معها إلى المستقبل الوضيء!.

يقول الصادق الرضي:

(الآن لن نبكي

ولكن مَنْ يُساوم بالغدِ الآتي

وماذا سوف نخسرُ؟!

لا تثق بالقلبِ: إن العشق يُؤذي،

بينما يُجدي التحّّّّرك في السكون!

وفي مساحات الأنا

وعي التكوّن

وابتكار الفرد مجموعاً

يوازي سُلطة الإطلاق، تحديد المواضع

بالإشارة نحوها بالإسم

تفتيت الهلام!

واختراق السرّ

فتح نوافذ الأشياء،

تكريس التفاصيل الدقيقةِ

قوةً تنسف الأحلام والذكرى

وأشباه الحبيبات – الدُمى، والأصدقاء!

لا تَثق بالقلبِ: كي يتصاعد الضوء

على كل المساحات

وحدِّق جيّداً

واختر مكانك واحترق حيث انتهيت!

وأنتَ الاشتعال – النارُ

مجمرة الغضب!).

الحلنقي وأزهري محمد علي، وأضيف إليهم كامل عبد الماجد، جميعهم يمتلكون "موهبة" الشعر الخصيبة، ولكنهم يفتقدون ناره المقدسة ولهيبه اللافح ولواعجه المُقلقة! شعراء عاطفيون أغنوا مسيرة الأُغنية السودانية، وجعلوا الحبيبة السودانية أكثر إشراقاً وبهاءً! ولكنهم ـ في ذات الوقت ـ ابتعدوا عن قضايا الجماهير المُلتهبة التي تكاد تحرق جلود الناس وتحوِّل حياتهم ومعيشتهم إلى سعيرٍ وإلى نيرٍ يُحكِم حلقاته حول أعناقهم الخُضر!.

ما حدث للصحفيين والكُتَّاب والعاملين بصحيفة "الأضواء" لهو مأساة كبيرة يُحيط بها الصمت الكثيف! لم يكتبوا مقالاً أو قصيدة أو بيان تضامني مع تلك الحيوات الشريفة وأُسرهم التي ظلت تُعاني الظُلم والمسغبة شهوراً طويلة!! أبداً ماسمعت صوتاً يُدين ما جرى، ولو عبر التناول الرمزي الشفيف للقصيدة الحديثة! ماهذا الصمت يُسمَّى بالله عليكم؟.

يتحدث الناس، هنا أو هناك، أن الأرباب إدريس هو صاحب المال ورب العمل للصحيفة، ثم أنه هو الذي أتى بهم "للأضواء" كما أتى بكثير من الكُتاب والفنانين والشعراء ومحبي الرياضة وفاعليها إلى دائرته الشخصية والمالية! ولكن أيكون ذلك هو ثمن السكوت؟! هل ذلك ماجعل "الشاعر في حالة كونه ظالماً؟!" ثم كيف للشاعر أن يكون مُطمئناً إلى رؤاه، وإلى إبداعه وإلى مشروعه الشعري، ومتى القلب في الخفقان اطمئن كما يقول أمل دنقل؟!.

إن الاقتراب من السلطة الظالمة يُباعد بين الشاعر وجماهير الشعب وقضاياها المركزية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن أوجب تلك الواجبات أن تُصان حقوق العاملين، وأن تبتعد عنهم وأُسرهم مظالم التشريد ومظاهره العديدة في حياتنا! يجب أن تكف يد السلطة عن هذا الفعل الجائَر! نقول "السلطة" ونعني بها ـ أيضاً ـ كل تجلياتها؛ سواءً أكانت مؤسسات تتبع لها أوأشخاص ذوي سلطان مالي نافذ يُموِّلون ويُوْقِعُون ذلك الظلم ويكرِّسونه واقعاً بين الناس تحت مظلة السلطة، يفعلون ذلك، وهي ترى، وهي تسمع، ثم بالصمت واللامبالاة تُشارك في تلك الجرائم والمظالم! ولكن، أين هو صوت الشاعر الذي هو صوت الأُمة وضميرها وحادي ركبها؟! إن غياب صوته في مثل هذه الحالات من شأنه أن يقتل الشعر والإبداع، بل إنه يُصيب الشاعر نفسه بالعطب والإنزواء، فيبدأ شعره في الذبول، أو في أفضل الفروض يذهب عنه وهجه ولمعانه، ويكف عن أن يصبح خالداً في ضمير الناس! وربما، يوماً ما، يتوفر لنا أو لغيرنا الوقت لبحث ودراسة هذه (الظاهرة الثقافية) التي تجعل من الشاعر، ساكناً صامتاً، السكون كله والصمت كله إزاء قضايا أمته الحيوية، وفي ذات الوقت نجده جهير الصوت عالي النبرة بشأن القضايا العاطفية في وجوهها الرقيقة وملامحها التي تأتي بسمات الرومانسية من مكامنها القديمة؛ فتسوقها وتضفيها على الواقع المزري الخشن لجماهير الشعب السوداني! لو فعلنا ذلك فإننا، بلاشك، سوف نظفر بدرسٍ عظيم يُفيد لحظتنا الراهنة ـ اجتماعياً وتاريخياً وثقافياً ـ حينما نضع يدنا على تحليل عميق يبرز أصول وتجسيدات هذه (الظاهرة) التي تجعل من الشاعر ـ كرخويات القواقع ـ يعيش في أعماق البحر ولكنه لا يدرك كنهه، بعيد عن صخبه وتياراته ودواماته!.

إن للشاعر دوراً هاماً يجب أن يقوم به تجاه شعبه وشعره على حدٍّ سواء؛ أن يناضل دفاعاً عن المظلومين، ومنتمياً لشعبه ولقضيته العادلة في الحرية والعدالة والتقدم!.

 ولكن: كل العزاء يا صديقى شنقر، إن هنالك في بلادنا الكثير من الشعراء الذين لهم رؤاهم وقناعاتهم الرافضة لمثل هذه المظالم، العصية على التدجين والإنضواء، المليئة بالسخط الطامح وبالصدق الجسور! ونحن حقاً لا نبكي تلك المواقف، ولكننا ننظر بإشفاقٍ لتلك (السقطات) تحدث من بعض شعراؤنا فتحدث من حولنا دوياً صامتاً!.

 ألم يقف أكبر شعراء أميريكا، ت. س. أليوت عزرا باوند، مع الديكتاتور موسليني، وراح يدعو عبر راديو (إيطاليا الحُرة) يُمجد الفاشية ويدعوا لسيادتها على العالم إبان الحرب العالمية الثانية؟  تلك ـ إذن ـ هي التجليات الهشة للشاعر والشعر في الحياة! وطوبى للصحفيين والعاملين بالأضواء وأُسرهم، هي الدنيا، هي الدنيا.!
---------------------------------------------------------------------
* مجتزأ من مخطوطة كتابي : " جملة في تبجيل الفنان وردي " ...

كنت الضوء إليها !

كنت أغني الحب إليها
في هدوء الليل                                                     - الضوء منسكبا إليها -
وحين أصغي إلي إذ أقول :
... " قلبها حليب
فيالسعدي ...
أن لي منها نصيب " !
أغني إليها ،
و ... أضيئ !
تتساقط في أرجاء خذائنها
أضوائي
ضوءا ضوءا
ضوء واحد
نور واحد
بقلب واحد
و ... يضيئ !
المعلمة التي تعرفني بالحياة
كانت تقول :
" لا تخف ...
أن أختلافنا رحمة " !
ثم تروح تتعقب أضوائي
وتفتش بأصابعها الريانة
أشيائي !
والضوء يسيل عليها ،
حتي يغدوا هالة
وعلي الخد شامة
وفي الوجه ... ،
وعلي ضفائرها أكليل !

الأحد، يناير 29، 2012

وجع الحبيبة في الليل !

في الهزيع الأخير من الليل
عندما أسعي - بعد رهق كثير - أن
أفئ إلي غابة نومي ...
مع نظارات الجوي علي العينين المتعبتين
مازجا - بلوعة الكفيف إلي البصر - جراحا
... قد أنكأها الغياب ،
بصمت الحجر !
سائرا أتعثر صوب ينابيع الدمع ،
مقتفيا أشارة النداء
وضوء الأثر !
يرافقني الأنين بقلبي
ووخز الأبر !
فلا يشد من أزري ،
لا رزم الليل ولا الشجر
ثمر ... ثمر ... ثمر !
لا ضوء ولا بشارة ،
ولا أغان تبدد مني الكدر !
يااااااه ،
غابت الألوان من فرط الغياب المر ،
فأين المفر ؟
ألا يعرف الليل - بعد - بأني
أحبك ... أحبك ؟
لكن الليلة يراودني ،
يراوغني ضوء القمر !
يجمد هذا الغياب الكثير بقلبي
يمنحه هذا الفضاء الأغر
فيصرخ قلبي :
أينك ؟
عند الغسق ينزف العاشق
متقلبا علي وجهه في الأتون الأمر !
ثم جاءت الأخوات البيض
يصفقن لامتداد البحر ...
يذرفن من عيونهن
دم ودم ودم !
أيكون هو المخاض
يلد في فضائي ليال أخر
فيدمي العيون بنار الفراق
وطول السهر ؟
فأصرخ وحدي بقلبي
وليلي :
ياللغياب ...
وياللقدر !

الجمعة، يناير 27، 2012

لكني أحبك !

كان الوقت عتابا
وكان علي أن أندس                                               - أخترتها لترمز للحبيبة -
في قلب الظلام
كي أضيئ إليك دربك !
وأجعل التفاح في خلل الكلام
... ليحن قلبك !
أكان هو الصواب ،
أم عري الغرام
أنساك وجدك ؟

الخميس، يناير 26، 2012

الفنان والحاكم ! " 1 "

(الآيدلوجيا مهنة البوليس                                      - وردي -
في الدّول القوية.
من نظام الرِقّ في روما،
وحتى محنة الأحزابِ في "ليبيا" الشقيقة!).
(محمود درويش)
على امتداد الأُفق الثقافيّ الفسيح في بلادنا، نجد أن لكل إنسان رؤيته (الثقافية) التي تتجسد في تصوراته وفي سلوكه العلمي ومواقفه الاجتماعية، وهذه الرؤية الثقافية، رغم طابعها الشخصي الذاتي، إلا أن الإنسان لم يَصنعها لنفسه بنفسه، مهما كانت عبقريتة الفردية، أو مهما كانت مشاركته الإبداعية في إغنائها، بل أتته هذه الثقافة، وهذه الرؤية المتفردة، من الحقل المعرفي الاجتماعي الذي يَعِيشه، ونتيجةً لمواقفه الاجتماعية، وممارساته، وجِمَاع خبراته الحياتية في مجتمعه الخاص وعصره نفسه!.
إن وردي هو جزءٌ حيٌّ من بنيةٍ ثقافيةٍ تُعبِّرُ عن آيديولوجية معينة، لم يصنعها هو وإنما "امْتَصَّهَا" وتَمَثَّلها اجتماعياً وفنياً! إن الناس يتحركون رغم الطابع الحُرّ، بل الإبداعي أحياناً، لتحرّكهم كأفراد؛ يتحركون في إطار حقلٍ ثقافيٍّ معيّن يَشرُطُ حَرَكَتهم سَلْباً أو إيجابياً! والحال كذلك، فإننا نرى أن الثقافة لا تقتصر ـ كما يظن الكثيرون ـ على التعابير والمنجزات والمفاهيم والقيم الأدبية والفنية والفكرية والعلمية فحسب؛ وأنما تشمل ـ أيضاً ـ كلّ المضامين الفكرية والوجدانية والتذوقية في مختلف مجالات السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهي، بهذا المعنى، جزء من البنية الآيديولوجية الاجتماعية العامة التي هي، على التأكيد، أكثر شمولاً وتجريداً. ولهذا نستطيع أن نقول أن الثقافة، كبنيةٍ آيديولوجية، تتغلغل، كقوةٍ فاعلةٍ، في مختلف أنسجة المجتمع وهياكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والتنظيمية عامةً، على أنها، في ذات الوقت، نتيجةٌ لهذه الأنسجة والهياكل وإفرازٌ طالعٌ منها!.
يقول محمود أمين العالم أن: (لكل سلطة آيديولوجيتها ومثقفيها، فهناك، كذلك، آيديولوجيون للسلطة المضادة التي يرهص بها الصراع الطبقي المحتدم. معنى هذا أن الثقافة ليست عملية محايدة، حتى وإِن بدت كذلك في الظاهر. إنها معركة صِرَاعِيَّةٌ حادة، وإن تكُن خافتة، في قلب العملية الاجتماعية؛ معركةٌ صراعيةٌ بين رؤيتين ثقافيتين. فهنالك ثقافة "الملاط" (الأسمنت) التي تسعى لتوحيد وتنميط المفاهيم والتصورات والقيم تجميداً وتكريساً للأوضاع السائدة المُعبِّرة عن مصالح الطبقة، أو التحالف الطبقي الحاكم، إنها ثقافة اصطياد الإنسان، التي تتخذ أحياناً شكلاً جهيراً صارخاً شرساً؛ في الرقابة على الصحف والكتب والتعابير الفنية ومصادرتها، وفصل المثقفين من أعمالهم واعتقالهم وسجنهم، بل تصفيتهم جسدياً، وهناك ثقافة التوعية العقلانية والتغيير والتجديد والتثوير التي تسعى لتأسيس رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، هي وعي مناضل مُتطلع إلى واقع إنساني جديد أكثر حرية وعدالة وإِبداعاً وانتاجاً وسعادة)(1). هذا هو الطريق الذي اختاره وردي منذ بواكيره الأولى لاحترافه ولاكتشافه في نفسه تلك الموهبة الفذة لحنجرته ولصوته ولقدراته اللحنية الضخمة!.
هذا هو الطريق إذن. ليس الطريق ـ التضليل، ليس الطريق الدوران حول أصنام الحجارة والكلمات والذكريات، ليست الطريق الخالية من الجذور والغابات، ليست الطريق المراوحة في المكان، ليس الطريق الضياع، ليس الطريق التكرار والاستنساخ والجمود، ليس "الطريق – العودة" الملفقة إلى البدايات المُطلقة، ليس الطريق الكلمة بلا فِعل، أو الفعل بلا كلمة، بلا عقلٍ أو إبداع، وإنما الطريق: البناء والتنمية والتفتح والتجدد والتوهج والتجاوز إلى غير حد، بالإنسان وللإنسان، حتى الوصول إلى الضفاف الرحيبة للإبداع الكبير في الغناء الجميل،، الذى يتخلل الروح مثل هبَّه أريج عطر، أريج دفاق لا يخطئه إنسان قط، مزيج من الياسمين والعَرَقْ والزيت اللطيف، مثل شذى الليل، ذلك الصوت الإنسانى الساحر، صوت يتِّحد والعنبر، يلتف في توريقات رسوم بديعة ويسقط على المسامع والوجدان بكل ثقله الشفاف كما لو أن فوّارة من ماء لمست السماء كى تندلق لتوها فتنهار بين أزهار الياسمين!
أطمئن قلبه ووجدانه إذن لقناعاته الفكرية، لرؤياه، وللدروب التى ستسلكها أغانيه وأناشيده، وأنخرط – كما فرسان الأساطير – يخوض معركته مع الحاكم. كانت حرباً سجالاً بين البحر وطبيعة الجبال المراوغة، بيد أن الفنان في دواخله قد ربح الجولات كُلها، فتصالحت القمم والأمواج، وتعاونت الرابية والشاطئ على ذلك التكوين البديع للأغانى والأناشيد، خلقها الفنان وألبسها زيها " الوردى " في تنوع الربيع، في تلوّن ألوانه، في تشكيل رسومه، في تناغم ألحانه، في نشاطه وفى حركته،، لقد كانت – ولا تزال – بلاده ونيلها العظيم يستحقان تلك الأغانى والأناشيد ذوات البيارق والرايات الملونة!
كان فرحاً بالحياة التى يعيشها، معتداً بمواقفة المشرقة ذات الصلابة والكبرياء، وذلك كُله ماجعل " الحاكم " يرتجف، يرتعد، ويهتز عرشه الواطى كحبل الغسيل، يُطارد الفنان أينما ذهب، وحيثما إتَجهت به مقادير حياته ومصائرها! طارده حتى أدخله السجن مرات ومرات، وأوقف أغانيه وأناشيده الرائعات عن أجهزة الإعلام كُلها حتى لا تصل إلى الناس، فكان أن تداولها الشعب و، حفظوها عن ظهر قلب!! وهو صامد، شامخ، كالجبال الراسيات التى تختزن في جوفها المعادن النفيسة ذات الإشراق، مطمئناً ومتصالحاً مع نفسه وشعبه، و.. فرحاً:
(فَرِحاً بشيءٍ ما، خفيٍّ،
كُنْتُ أَحتضن الصباح بقُوَّة الإنشاد،
أَمشي واثقاً،
بخطايَ، أَمشي، واثقاً برؤاي. وَحْيٌ ما
يُناديني: تعال!
فَرِحَاً بشيءٍِ ما خَفيّ، كان يحملني
على آلاته الوتريّةِ الإنشادُ. يَصْقُلني
يَصْقُلني كماسِ أَميرةٍ شَرْقِيَّةٍ
ما لم يُغَنِّ الآن
في هذا الصباح
فلن يُغَنِّي
فرحاً بشيءٍ ما خفيّ، كنتُ أَمشي
حَالماً بقصيدةٍ زرقاء من سطرين،
من سطرين،
عن فرحٍ خفيفِ الوزن،
مرئيٍّ وسرّيٍّ معاً،
مَنْ لا يُحِبُّ الآن،
في هذا الصباح،
فلَن يُحب!) (2).
أعرف شعراء كثيرون، لم يدركوا، أبداً، في تلك الفترات العصيبة التي كان وردي فيها يُغني من خلف أسوار السجون، أن هنالك شِعْرَاً جديداً لابد أن يُكتَبَ بمعانٍ جديدة، وبمحتوىً جديد، لأن الزمن نفسه قد تَغَيَّر!! فظلَّت الظلال الكابيات تُلَوِّنْ قصائدهم الفقيرة إلى العنفوان والتطلع؛ مُتسربلةً بالحزنِ وبالجوع، وتئن رؤاها بالألم والقهر والحسرة! بينما كان وردي يبحث وينقب ليلتقي بطلائع الشعراء العظام الذين رهنوا حياتهم بقضايا الشعب والوطن، وصارت مصائرهم نفسها تقف بصلابةٍ أمام جبروت الديكتاتوريات التي ابتُلِيَت بها بلادنا!. وعندما جاءت الانتفاضة في مارس/أبريل 1985م كان وردي أوَّل من اعتلى منابر الشعب كَلّها مُنشداً ومُغنيِّاً للانتصار الكبير للثورة! غنَّى كما لم يُغنِّ من قبل أناشيده الشامخات الخالدات!.
(يا شعباً تسامى،
يا هذا الهُمَام
تَفِجَّ الدنيا ياما
تَطْلَع من زحامها،
زي بدر التمام
تدِّي النخله طولها
والغابات طبولها
والأيام فصولها
والبذرة الغمام.
* * * * * * *
قدرك عالي قدرك
يا سامي المَقَام،
يا ملهم
رِمَاحَك سَنَّاهَا الصِّدام
أُم دُر والطَوابي
في صَدْرِك وسام
ملامح كم تَسَامِح
تَغْضَب لا تُلام) (3).
بعد الانتفاضة ظلَّ وردي يتلألأ ويلتمع بالإشراق، أعطته الثورة فرح الحياة وشذاها النبيل، فظلَّت أغانيه وأناشيده، إبان تلك السنوات الضوئية القصيرة، تُبَشِّر بالجديد الديمقراطي الذي أَتَى، وبالمعاني الجليلة التي تُمجِّد الإنسان السوداني والقِيَم السامية للحياة!. كم رأينا الشاعر والفنان، في تلك الأُمسيات الرائعات البديعات، يقفان بفتوةٍ وفرحٍ طاغٍ أثيرٍ أمام التجمعات الشعبية، المتطلعة إلى الحرية، والفرحة، هي الأُخرى، بالانتصار الكبير وهما ينشدان:
(ونَطْلَع للحياة أَنْدَاد
ذي سِيْفِيْن مِسَاهِر فِيْهم الحداد!
ونطلع من بذور الأرض،
زرعاً يا ضُحَى الميلاد.
ويا وطناً بدون أسياد،
ويا إنشاد عصافيراً
ببالِن ما خَطَر
صَيَّاد!) (4)
لقد أصبح الفنان لدى الشعب السوداني، قاطبة، عدوَّاً عنيداً للديكتاتورية؛ شخصية سياسية تَسْحَرُ أبناء وطنه بحبه العميق للديمقراطية ولشعبه ووطنه، ونصّبوه بطلاً شعبياً وفناناً عظيماً! كان هذا هو قمة الفوز والبهاء المطير يحفُّ بالفنان، ويحميه ـ كأيقونةٍ عتيدة ـ الحبّ الخرافي الذي يسبغه شعبه عليه، ويمطره به، وهو به حفيَّاً وفرحاً؛ فيروح يشتغل بموهبته وإبداعه المثير، لكيما يُعطي شعبه رحيقَ فنِّه العظيم!. كانت تلك أشدّ فترات حياته إضاءةً وبريقاً، فالفنان يزدهر ويبدع ويخلق في أجواء الديمقراطية العفية، كما لو أن إشعاعاً خارقاً قد اقتحم عليه نوافذه كُلّها، وبدأ يُضيء مصيره الشخصي وإبداعه الكبير، والأنوار ـ أنوار الفن الشفيفة ـ تنبعث من دواخله، وتتمدَّدُ في حيويةٍ بالغةِ العذوبة إلى محيطه؛ إلى الناس الذين حوله، وإلى شعبه!. إن أرض بلادنا لتحفظ له صوته السماويّ في أحشائها النقية، في رحاب الأرياف، وفي ردهات الحدائق حيث تترقرق المياه العذبة وتتلألأ كالبلور، بين ذرات ترابها، وفي ذرات رمالها الذهبية، احتضنته في حرزها المكين مع جواهرها ومضامينها الماسية، جعلته مع بريقها المُدَّخر لديها عبر القرون. لقد أعطته بلاده سرها ومعانها؛ أعطت أغانيه وأناشيده شكلها، صوتها، نغمها، رشاقتها، احتدامها وعنفوانها الجسور، فتحولت الأناشيد البطولية الحماسية إلى نهرٍ من الألماس المصقول المثقّف المرصّع بالنبالة والمجد!.
وبينما الفنان مشغولٌ بحرفته وجيشانه البهيج، وهو يؤدي ـ بإخلاص وحبٍّ عظيمين ـ واجبه المعاصر بأن يمحو الحدود بين الثقافة وإقرار الغناء والشعر والحقيقة والحرية والسِلم والفرح، باعتبار أن هذه القيم جميعها هِبات لا تقبل القسمة والتقسيم ولا التنازل عنها قيد أنملة، بينما هو ـ هكذا يعمل في ضمير أُمته وعقلها ـ فجأةً، يطلع عليهما ـ على الفنان والشعب والوطن ـ كابوس أسود مُرعب: إنقلاب (30 / يونيو / 1989م )!!.
وجلَّل السواد وجه الوطن! طحالب الكراهية تلطَّخت بها جدرانه، ولافتات تقطر سفاهةً وكذباً نهضت على سيقانها الشائهِةَ في وجه الوطن والأُغنيات، لافتات سفَّاحَة، سَفَالَةٌ تُنذر بمذابح ومجازر ودم كثير!. بدأت الحروب في كل اتجاه، حربٌ دينيةٌ ضَرُوس من تهديدٍ وذعرٍ ورعب، انتشارٌ واسعٌ لأسلحة الكراهية كُلّها ضد المستقبل، وبدأت حروب الإذاعات والتلفزه!.
كان الفنان قد نافح ـ بالغناء وبقدراته الإنسانية ـ ثلاثة ديكتاتوريات طوال! أما الآن، فما كان قادراً أن يفسِّر لنفسه كيف يُمكن أن يُوجد سودانيون يهينون، بهذه الأساليب البشعة، الروح الوثابة لشعبنا العظيم!. واجه ثلاثة ديكتاتوريات سوداء، وعاش المنفى مرتان! نُصِبَت أعواد المشانق للأُغنيات، اهتز وجدان الفنان وزلزلت الفجيعة كيانه كُلَّه، وبدأت تطارده الكلاب وتحكم عليه الحصار:
(مُعلقٌ أنا على مشانق الصباح
وجبهتى ـ بالموت ـ محنية
لأنني لم أُحنِهَا، حَيَّة!
فالإنحناء مُرٌّ
والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى!) (5).
ولأنه،
كان يمضي
في ثبات الخالدين
وارفَ الظلّ، كنبت الياسمين
لم يطأطئ رأسه، يوماً
ولم يحن الجبين.
كان سوَّاحاً
يجوب الأُفق، لا يُلْقِي عصاه
سابحاً في الكون
مشغوفاً، بأن يرقى مداه!.
لم يكن مادحاً، يبيع الأُغنيات
للتيجان، للعرش المُذهَّب للطُغاةِ
لا، ولا امتدت يداه؛
عزةً غشيته من أصلابه
يتبع الإنسان في الدنيا أباه)!.
وهكذا كان عليه أن يبدأ رحلة المنفى الثانية!
هوامش:
(1) محمود أمين العالم – مفاهيم وقضايا إشكالية – دار الثقافة الجديدة – الطبعة الأولى 1989م – ص (17).
(2) محمود درويش – كزهر اللوز أو أبعد – دار رياض للكتب والنشر – الطبعه الأولى سبتمبر 2005م ص (63).
(3) محجوب شريف – السنبلاية – ص (82).
(4) المصدر السابق.
(5) أمل دنقل.
-------------------------------------------------------------
* الكتابة مجتزأ من مخطوطة كتابي : " كلمة في تبجيل الفنان وردي " !

الاثنين، يناير 23، 2012

علي عبد القيوم ، أسامره الليلة !

- علي عبد القيوم -
( إشتهاءك الموت، ومذاق فمه ،
الحُزن العميق في مرحك البطولى.
سيمُرْ زمن طويل قبل أن يُولد
- إِن وُلد –
من هو نبيل مثلك
غنىُ بالمغامرةِ مثلك
نُغنى لجمال وجهك
بكلماتٍ كألأنين
ونتذكرك، نسيماً جميلاً
تسرى بيننا ).
- لوركا -

يبدو أن الشعراء هم أكثر الناس الذين يحصلون على الهبات المكتشفة كُلها، وفى ذات الوقت، يكتشفون دون نسيان – كما فعل " بودلير " – رقياتهم المؤذية كلها، يفعلون ذلك وهم يعيشون الحياة بكل عنفوانها ويعيشون الشعر! تمر السنون. المرء يُستهللك، يزدهر، يُعانى دوامات الصراع والجدوى، بإشراقٍ شفيف وحساسية تخالطها فيوضات خشنة لواقع الحياة وتجلياتها! والسنون تجلب للمرء الحياة، وأحياناً كثيرة تأخذ منه هذه الحياة نفسها، فتصير " التوديعات " ألِيفة لأنها لصيقة بحياتنا ومعاشنا، يدخل الأصدقاء السجون أو يخرجون منها، يذهبون إلى المنافى البعيدات أو هم يعيشون الغربة الأليمة في الوطن،، أو هم ببساطة يموتون! وهم بعيدون أو قريبون منا، يبدو لنا أنهم يموتون أقل، ونقول أنهم يستمرون يحيون في دواخلنا كما كانوا! ولكننا – بسببٍ غامض – نمسك عن الكتابة عنهم، ربما خوفاً من رتوب وتراكم الألم الإنسانى تجاه الموت! إِذ أن المرء عادةً – لا يحب أن يصبح فهرساً للمتوفين، وهم الذين كانوا أكثر الناس قُرباً وحُباً إلى قلوبنا!
بهذه الروح الأسيانة، ووخزات الرحيل تؤلم القلب وتعصر الفؤاد نكتب عن الصديق الحبيب، الإنسان الرائع الجميل، الشاعر الكبير على عبد القيوم. وفى كل عام، عندما تحل ذكراه المجيدة، نردد مع محجوب شريف:
، (هَادئاً كان أوَانْ المَوْتِ
وَعَادِيّاً تَمامَاً
وَتَمامَاً كالذِّى يَمْشِى بِخَطوٍ مُطْمَئِنٍ
كِى يَنَامَا
وَكَشَمْسٍ عَبَرتهَا لَحْظةٌ كفُ غَمَامَةْ
قَالَ: "مَعَ السَّلاَمَةْ "
وَلَوَّحَ بِإبْتِسامَةْ
غَارقَاً في دًمِهْ
وًاسْمُنَا في فَمِه
واَرْتَمىَ ثُمِّ تَسَامى وَتَسَامى وَتَسَامى
مَالئاً كُلَّ زَمَانٍ وَمَكانٍ في بٍلاَدِى
نَاهٍضاً في كُلَّ عَيْنٍ وفُؤَادْ
والأسَى حْزمَةُ كبرْيتٍ رًمًاهَا
فى مَلايِيِنِ الأيَادِى
وَغدَا الجَّلاَّدُ وَالموتُ أسيَرينِ
كََسِيريْنِِ، حَقيَريْنِ
ضَرِيرينِ أَمَامَه
وسَيبْقى رَغَمَ سِجْنِ المَوت يَبَقى
غَيْرَ محْدُودِ الإقَامةَ! ).
على عبد القيوم كان مُقِلاً في كتابة الشعر، تمتلئ نفسه بالرؤيا الحارقة للشعر، لكنه قليلاً ما يرتاح عنها على الورق. هو نفسه كان يدرك ذلك، قال في مفتتح ديوانه الوحيد الذى نشره في حياته بالقاهرة: " الخيل والحواجز "، تحت عنوان: " تَعِلةْ المُقِلْ ":

، (قد كنت دوماً ضنيناً
بالشعرٍِ
دوماً مُقِلاً
أفوقُ صحبِى هياماً
وأعتليهم تِعلة
ياتاجَ رأسى سلاماً
يأتيك فوق التجلة
من الجنوب بروقاً
من الشمال أهلهْ
يَاتاج رأسى سلاماً
يأتيك فوق التجلة! ).
بضع وأربعون قصيدة هى جملة ما بين أيدينا من شعره المنشور، وهو كمُ جد محدود بالنسبة لشاعر كبير في قامة على عبد القيوم! وشعره، هذا القليل، قد ذاع في الناس وأشهره شاعراً كبيراً يُعد من شعراؤنا المُجيدون، لقد تمتع شعره بالجودة والصناعة في صوره ورؤياه ومعانيه ذات الدلالات والإحالات التى تستمد بريقها وتوهجها من الحياة الصاخبة من حوله. ولكن، أيكون هذا هو كل شعره أم أن هنالك أشعاراً أُخرى مُبعثرة تنتظر اليد التى تمتد إليها فتجمعها وتعدها للنشر؟! نحن نرجح أن هنالك بعضاً كثيراً من القصائد لدى بعض الأصدقاء وأُسرته، فقد عرفت أنه قد كتب في أُخريات سنينه شعراً وقصائد تنتظر هى الأُخرى تلك السانحة التى تُقيِض لها النشر والزيوع!
حُب جارف عنيد، ولكنه رائع وشفيف في ذات الوقت، تمتزج فيه المرأة مع الأرض والإنسان، ذلك هو ماطبع شعر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى،، الحُب، أصبح – وقتذاك – جزءً من صلابة التحدى والصمود! ذلك كان أحد أهم سمات المرحلة وتوهجها النبيل، وكان أن جعل في قصائده التوليد المستمر للصور والرموز الضاجة بأصواتها وإِنفعالاتها وإصدائها، جعل من شعره مرايا ملونه للحياة، في أشكالها البديعة وتجلياتها الناضجة. كان يدرك، ببصيرته النفاذة ووعيه المُتقد، أنه ينتمى إلى أُمةٍ تعتز بأن مخيلتها، ماتزال تقدم الدليل تلو الدليل على أن الشعر من أهم ميزاتها الإبداعيه، ولهذا نجده قد حافظ – بحرصٍ وإصرارٍ أكيد –على ذلك الإنتماء في تجلياته المتنوعه في الحياة. وشعره كله تجده يتصف بالتصاعد، تصاعد في قوته ونفسََِهََِْ ورؤياه، تصاعد جرأة وتفرع من داخله أساليب في كتابة القصيدة، ولكنها هى أساليبه هو بالذات! أن شعره نحسه بين أيدينا، في الساحات وفى الشوارع، ويملأ علينا كل النوافذ، أنه شعر يُدخلنا بهزاتٍ وتواتر عنيف إلى حيث الأُتون، أتون الأخيلة والصور، يُدخلنا إلى حيث المساحة ذات اللهيب، إلى حيث جحيم التجربة وجنة الخلق:
، (هذا المساء لو يُباع
تنهشه الخرطوم من عيونكم
حتى تبل ريقها
ويستجم السادة الكبار
تحت أذرعه
وتستحم في ندائه الشوارع المُرصعه
لكنه يِقرْ في براءة الرمال
يستفزه توهج الأسفلت والحديد،
، لا يُباعْ!
وهذه الخرطوم – بنت دار الصبح –
لصة الذراعْ
تسرقكم نداوة الرذاذ
كى تَقِرْ في بيوت السادة الكبار
بعد الخريف، ذهباً وجُلنار
ومركباتٍ حافلاتٍ بالعويّن والخدم
وأنتم هنا،
لا شئ غير رنة الجِرداق
غناؤكم ألم
خريفكم ألم
ربيعكم ألم
لكنما ربيعنا، ربيعكم
لو تبغضونه، يجيئكم
مزدهر الكفين، راقص الهشاب
بعد الخريف الواعد السحاب! ).
دائماً في شعره يُمكنك أن تُلاحظ ذلك الإلتماع الثمين للمعانى والصور، يُرصع القصيدة كُلها فيجعلها مزهوةً وفاتنه كما العروس في ليلة عُرسها! أنه يستغل طاقته الشعرية المبذولة بأفياضٍ غزيرة في مخيلته ويسيطر عليها بإرادة وقوة، فيجمع نثار اللأعقلانى – أحياناً – في قصيدته بوعىٍ ملحوظ، وعلى أساس ذلك ينتقى الألفاظ، يفعل ذلك في قصيدته، ولكنه في ذات الوقت يرفض كل ماهو رخو أو مُتهدل منها. فالألفاظ لديه تخدم صورها خدمةً بارعة، أنه يجعل من قصيدته وحدة متراصة ومتماسكة كجوهرة منفصلة عن غيرها،، " فالقصيدة الفذة هى في النهاية كناية واحدة مُطوله، قائمة بنفسها " كما يقول جبرا.
أن في الجوهر من القصائد ظلال واضحة لعشقٍ أشبه بتجربة موتٍ عنيف، يتفجر شموساً وكواكباً، حمماً وينابيع، جراحات وخوارق:
، (صدرها، ياصدرها، ياصدرها
موسم اللذة أيام الخريف ،
الندى والشهد والظل الوريف ،
ردفها، يا ردفها، يا ردفها
وهج النوار تحت الشمسِ، في بطن المراعى
وإنسياب الماء،،
فى البلور،
من سطحٍ لقاعِ
أى شلال من الشهوة يرتج ويغرى، ثملا!
أى نهدين إستجارا بشبابى ثم لم يتحملا
ألم الهصرِ وأوجاعَ الرضاعِ!
أنفضى أيتها الأمطار عن ليلاتنا العار الغبارا
أفصدى تُربتنا ينزلق الستر وتنحل
التلافيف
إزاراً فإِزارا!
وأنثرى فوق جراح الزمن الماضى البهارا!
ثرثرى،
ينهشم الصمت وتصطك الصحارى،
تحت برد الرعشة الكبرى
تُناغيك، تُغنى:
أزرعى الغابات ظلاً ودثاراً
وأرفعى ألوية العشق الهلامى شعارا! ).
لا، ليس الشاعر وحده هو الذى نضج وتغيَّر، بل المدينة أيضاً قد نضجت وتغيَّرت، وأصبحت الحياة فيها " فولاذية " صلدة، مزدحمة بالحيوات والأشياء والصراعات والمتناقضات،، ولكنها تعتمل فيها قوىٍ جديدة ورموز جديدة. والحُب يُهدده ويُطارده الشبق، والشبق عابر، لا يستهدف شخصاً معيناً بقدر ما يستهدف الجسد دونما تعيين! ولهذا نراه يخرج من قصيدته " شبق " ليدخل إلى رحاب المرأة، التى تتداخل في أُفقه الشعرى وتجاريب حياته نفسها مع الوطن والحياة، حياته التى يعيشها كما يعيش رؤيا الشعر وتصوراته، يجدهما إمرأتان أمامه، الأولى: " أُنثى منافقة ":
، (كانت ولم تزل منافقة
يختال مثلها الطاؤوس
لكنها تختال بين الرفضِ والموافقة!
لذا هجرتها،
هجرتها كما عشقتها، إلى الأبد
ياقُدرتى على الصمود
ياتماسكى
مدد، مدد، مدد!
أما الأُخرى، فهى التى يتفيأ ظلالها ويلتجى إليها، ليجد عندها الحضن والمهد الرحيم،
هى أذن " أُنثى ظليلة ":
، (غيمة أنتِ؟
لا.
ولست أنا شاعراً
يطمس الواقع بالمفرداتِ النبيلة
ربما تحت وهج الظهيرة
ظللتنى رؤاكِ
ولكن،
لم تكونى غمامة
كُنتِ أُنثى ظليلة! ).
أحيانا كثيرة – ونحن نتحدث عن تلك المرحلة بالذات تجد أن الأرصفة، ونعن أرصفة الشعر وقتذاك، كانت مكتظة بحقائب كثيرة، لرجال ونساء لانعرف منهم إلا أنهم مسافرون في إثر شهوة يُراد لها أن تكتمل وتبلغ ذراها وتخومها في تلاحم الجسد بالجسد واللذة باللذة في تلازمهم في الحميم! ولكن عبدالقيوم يبحث – وهو يُعانى من جراء دواماتها وإرتعاشاتها وتوتراتها عن (النبالة) والعشق النبيل أبداً ما عرفت شاعراً يقترب – هكذا – من المرأة وهى في تجليات (الشهوة) و(الجسد) ثم يبتعد ليطلب فيها ذاتها وجوه النبالة والقيم الجديدة الفاضلة التى يطلبها ويلح في طلبها – عادة – طلائع الثوار وحداة المجتمع! وتلك رؤية مغايرة تماماً لتوجهات الشعر في تلك المرحلة ، ثم أن علياً يعُتبر – أيضاً – من شعراء بلادنا القلائل الذين كتبوا شعراً جميلاً في الحواس وعندما كتب عنها، تناولها بإعتبارها من فعاليات الجسد الإنسانى والإدراك الحسى، وبقدرة شعرية مبصرة، وظفها لخدمة الشعر والحياة ... يقول في (قصائد الحواس ):
1-اللسان:
ياويحه
يلجمه الصمت
فهل ألومه وقد قُطع؟!!
ينبؤنى لساني
بأن ما أقوله
ليس هو المعانى ،
وإنما الأصوات
وأن ما إعتراني
من أرق الليل
ومن تعثُر البيان
هو الذى – إذا صبرت
قد يعصمنى
من ذلة اللسان!
(وربما أسلمنى للصمت والموات )!
* * *
يا أنت يا لسانى
يلجمك الصمت
فما جدواك؟؟
ومن يُكرس إحتجاجاتي وغصبي سواك؟؟
* * *
يأيها الطويل ما أقصرك!!
2-البصر:
قمر أحمر
يتلألأ فوق رمال حمراء
فوق الرمل الأحمر
أزهار فاقعة الحُمر
بين الأزهار الحمراء
شاهد قبرٍ منقوش
بالكلمات الحمراء
****
سَطَع البرق الأحمر
لهب النيران الحمراء
يتوهج ملء عيون البنت السمراء
ذات الفستان الأسود
والأحلام الحمراء!!
3-قصيدة السمع
أنى أسمع في ملكوت البُعد تحاياكم
أستنشق دفء وصاياكم
أسمع إيقاع خُطاكم
إيقاع خُطاكم
إيقاع خُطاكم
نحو الشمس الحمراء! )
هكذا: اللسان والبصـــــــر والسمع، الحواس التى بها يحيا بها الإنسان ويعيش، وعن طريقهما تتحد المصائر، وبقاءً نبيلاً وجســـوراً في الحياة، او زوال، اواضمحلال وتلاش! حقاً، ياعزيزى على، ان اللسان الصامت يستحق ان يُقطع، والبصر الذى لايعاين العسف والجـــــــــــــور والدماء، عليه ان يُكف ان يرى، لانه حقاً لايرى ، لان البنت، التى هى الحبيبة والوطن ترى البرق الاحمر والنيران الحمراء ، هى ذات فستان اسود جميل ولكن أحلامها حمراء حمراء، فهى مبصرة، ترى ما يحدث حولها، ترى الدماء والجراح النازفة وسوف (تسمع) نداءات الثورة القادمة! فأنظر كيف في (قصيدة السمع) يسمع الشاعر تحايا الشعوب ويستنشق دفْ الوصايا ، يسمع إيقاع الخُطى فيملاً عليه سمعه ونفسه كلها وسوف تقترن في مسيرها نحو الشمس الحمراء بجماهير الشعب التى كانت في ضمير عبدالقيوم قلادة وجوهرة، الله، الله يا على:
( ياعلًَى المُعلى
يارحاب المودة
ياطفل عصير الفضاء الرحيب
وياتاجنا قد تججلى
ياعلًى المُعلى ).
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* علي عبد القيوم ، الشاعر اليساري السوداني الراحل ... له ديوان طبع قبل وفاته مباشرة " الخيل والحواجز " صدر العام 1994م عن " دار قضايا فكرية للنشر والتوزيع " بالقاهرة ، وله أشعار وطنية وثورية أنشدها في الناس الفنان السوداني الكبير محمد وردي !