Powered By Blogger

الجمعة، سبتمبر 19، 2014

سكينة عالم ، شعاع الضوء في النفق ، و ... الراية في نساء الوطن !

                                                                                                      - سكينة عالم -
-------------------------------------------------------------------

كانت الريح ،
تماما كما رهط النساء ...
تدرك أن ل " سكينة " أطرافا وحواس
لها وعي في الناس ...
يا للحمامات حين ينزفن ماء العيون
وسلامهن ،
كفاحهن ورمزهن المحفوف بالهديل
لا يعاني الكمون .
بل ينهضن إلي صدر الوطن
ذلك المملوء  عزا ونضالا وشجون
لقد عرفنها ،
الوحيدة بين الوحيدات ...
لها حق التغزل علنا في وجه البلد :
في الشوارع / ساحات المدارس / في ترانيم النساء /
في التظاهرات / في دواوين الشعر وكتب المعرفة /
في الحدائق العامة و الندوات ...
فكيف لا تكون في بهاء النضال وجمال الشعر
أمام الملأ ؟
كيف يجرأوا فيرمونهن بالمروق ،
وقد جعلن أسمائهن عناوين
في ملامح من يبتغون الشروق !
كانت أما حين إلتقيتها :

سكينة محمد إبراهيم عالم ، التي شهرت في الناس بسكينة عالم ، في بيت أسرتها المتواضع بضاحية " بري المحس " كنت قد إلتقيتها أول مرة ، كان ذلك في أوائل سبعينيات القرن الماضي حيث أقمت أنا في " بري الدرايسة " ثم " بري إمتداد ناصر " ردحا من السنين . كان الوقت مزهرا ، موحيا وجميلا وكثير الأمل في الغد الآتي ، رغم الحذاء الغليظ لديكتاتورية النميري السوداء . كانت سكينة قد تجاوزت الخمسين أو تكاد وقتذاك ، لكنها ظلت اليانعة في النساء ، يحيط بها – دائما – رهط من السلالات النبيلة من النساء والرجال ، فقد غدت جراء وعيها ونضالها السيدة في من حولها ، يرافقونها ، بالرفقة والصحبة الرحيمة كل أوقاتها في حلها وترحالها ونضالها . وكانت " البراري " نفسها معقلا وقلعة نضالية مضيئة للقوي الإشتراكية بالبراري ، التي ذاع سيطها وعنفوانها السياسي فصارت محجة لكل أبناء وبنات شعبنا ، في المعارك السياسية والكفاح الإجتماعي لأجل الحريات والتقدم والوعي . عاشت سكينة ذلك العنفوان ، تستمد منه الوهج وتعطيه من ما لديها من معرفة وخبرات و ... حكمة كانت في قلب وعيها نفسه . إنتمت سكينة منذ بواكير صباها اليانع لصف اليسار والحزب الشيوعي السوداني ، ثم صوب حركة النساء الديمقراطيات ، فشرعت تؤسس لذلك الوعي المبكر في أوساط النساء ، حيث كن ينوء بهن رهق التراث عظيم الوطأة من تدني في وعي المرأة وسطوة وتجبر وإستغلال المجتمع الذكوري بتقاليده ونواهيه وتابوهاته التي تنال من نهوضهن النساء ، حيث ينظر إليهن بدونية وإستعلاء وإقصاء ، وكانت سكينة قد أدركت – منذ بواكير وعيها – إن تحرر وتقدم المجتمع لن يكون أبدا إلا بتحرر وتقدم المرأة في سعيهما المشترك ، جنبا لجنب ، النساء والرجال في الكفاح الطويل الطويل . بدأت مسيرتها ، إذن ، من ذلك الميدان بالذات ، ولم تكن النساء الرائدات وقتذاك سوي بضع قليل من ذوات الوعي والجسارة والبسالة و ... نبالة القلب وحب الوطن . سكينة كانت احداهن ، معهن في صدارة ذلك العمل البطولي للماجدات من نساء بلادنا . أكثر ما كان يأتي بي إليها كان الإستئناس بموداتها وبفكرها وسماحة قلبها . تحتضني – وكل من يفد إلي رحابها – بترحاب أبدا ما رأيت مثله عند إنسان من قبل ، فتجعلك لوهلتك تحس إنك لست في الموضع الغريب عنك ، بل في موضعا ترتاح نفسك وروحك إليه . تسكب إلينا الشاي ، في نفس الوقت الذي تنثر في قلوبنا وعقولنا بذور المعرفة التي أحاطت من بحرها الكثير المنير .

معدودة في الرائدات المؤسسات وفي بيتها ملتقي للإبداع :

يحفظ لنا التاريخ المكتوب إنها كانت من المؤسسات الفاعلات للإتحاد النسائي السوداني ، ونقلت ، هي وزميلاتها ، أول فرع له خارج أمدرمان فكان فرع الإتحاد النسائي في البراري ، الذي تفرعت عنه جمعيات محو الأمية للنساء ورياض الأطفال و جمعيات التطريز والتدريب المنزلي وشئون المرأة والطفل و الكفاح لأجل تحرر المرأة . هذه النشاطات النسوية التي صارت من عاديات مجتمعنا اليوم ، كانت سكينة وزميلاتها من وضعن لها الأساس ومكن لها في وعي المجتمع ، هن الرائدات ، وهي الجسورة بينهن . شاهدت في منزلها ، لأول مرة ، عبد الله علي إبراهيم ، رأيته مستلقيا – براحة وطمأنينة صاحب البيت – يحادثها في الشئون العامة أو في المعرفة في أحد جوانبها أو في الفكر السياسي أو الإجتماعي ، ثم يجول في مطبخها العامر بحب الناس و ... فاتح بابه علي الحزب والشارع ! رأيت عندها لأول مرة أيضا القاضي الشرعي التقدمي والمحامي فيما بعد الرشيد نايل . لم يخلو البيت ، إلا لماما ، من ضيوفها ورواد المعرفة والنضال ، يأتون إليها وإلي البيت الرحيب المضياف ، حتي ظن بعض الناس ، لفرط ذلك الرهط المجيد ، أن البيت هو دارا للحزب الشيوعي ، ومدرسة للنساء! آل عطية رجالا ونساء ، آل النقر رجالا ونساء ، آل نمر ، أحمد حبيب ، أحمد جمعة ، الإعلامي والمذيع اللامع عبد الحميد عبد الفتاح ، عبد الرحيم سيسي ، مصطفي الشيخ ، علي باب الله ، وريحان ، والبوداني ، ومحمد خلف الله ، عبد القادر سيد أحمد ، وأولاد أبو العزائم ضياء وماضي ، محمد فضل السيد وعصمت سيد بابكر وعباس أير ، وعباس ركس ، وأبو زيد موسي ، والفاطمتان : النقر والقدال ، وغيرهم وغيرهم مما لا أذكرهم الآن ! كان محفلها سندسيا ، براح من السماحة وضوء في مسيرة الحياة ، نبراسا وزادا لا ينضب للمعرفة وللثقافة والفكر و للوعي ، ذلك كان في صميم قناعاتها وفي رؤاها ، إن نهوض الأمم لا يكون إلا بالوعي . فسارت حياتها كلها علي هذا النهج لا تحيد عنه قيد أنملة . كنت أظن – لوهلتي الأولي – أن تلك الكتب المتناثرة في أرجاء البيت تخص أحد أبنائها خاصة ود البشري ذلك المولع بالقراءة والكتابة ، لكنني علمت بعد قليل إنها تخصها هي و ود البشري هو الذي يستفيد من ذلك الوجود الممتع للكتاب في بيتها . أذكر مرة إستعار مني ود البشري – هكذا كنا نحب نناديه وحتي يوم الناس هذا – مجلة " الآداب " البيروتيه ، لقراءة مقال جميل كتبه فيها الكاتب والناقد والمترجم مجاهد عبد المنعم مجاهد بعنوان " ماذا تبقي من طه حسين " . فكنت سألت ود البشري عنه إن قرأه فيعيدها إلي ، كعادته ، زاغ ود البشري عن سؤالي فدخل المطبخ يعد لنا قهوة ، هنا ضحكت سكينة ملء قلبها الدافئ بحب الناس فقالت : " قطع شك بكون قراهو وحفظو في قلبه و ... مكتبته " ، عاودت ضحكها فضحنا معها ، ولا تزال حتي اليوم المجلة في مكتبته علي ما أظن ، فليس هو من صنف الناس الذين يهملون الكتب فيضيعونها !   أبدا لم يكف بيتها عن إستقبال رواده الكثر ، ومحقون من ظنوه دارا للنشاط الحزبي والثقافي و لبرامج تحرر النساء ورفع الظلم عنهن . تذكرت محمد وردي للتو ، فهما وحدهما – سكينة ووردي – من جعلوا منازلهم براحات ومقامات لما ينفع الناس ويساهم في تطوير وعيهم والنهوض بالحس الإنساني لديهم .

وجهها الشعري :

وجهها الشعري ، هو وحده الذي لم أعلم به إلا بعد سنوات عديدات ، نعم ، كانت حافظة للشعر ومنشدة له بطلاقة في اللسان وببيان مفصح ، وكم سمعتها تتحدث عن هذا الشاعر أو ذاك ، عن حياته وشعره ومواقفه الفكرية ، وكم كانت تحتفي بالشعراء التقدميون ، أصحاب القضية الذين هم في صف الجماهير ويجعلوا من شعرهم معاضدا ومساندا لها لتكون في الحياة الكريمة التي تليق بإنسانيتهم ، كل ذلك علمته في حينه عنها ، لكنني لم أكن أعلم إنها تكتب الشعر ، لربما خالجني شعور بذلك لكنني لم أسمع عنها أو غيرها بشعرها ، حتي عثرت مؤخرا لبعض شعرها . نشرت جريدة " الأخبار " لها شعرا لمناسبة أحداث تمرد الجنوب عام1955 ، تقول سكينة :
 

" صبرا على القتلى
يانكبة السودان في ابنائه
فى حين حوجته الى الابناء
حملوا المشاعل للمجاهل قصدهم
تبديد ليل الجهل بالاضواء
يحدوهم الامل الكبير لرفعهم
وكسائهم وشفائهم من داء
يا ويح شعبي تلك نار اضرمت
لزوال صرح شامخ الارجاء
فصل الجنوب عن الشمال دسيسة
قد حاكها المطران بالايحاء" ...

الى ان تقول :-

" وغدا يردد باسم عيسى غاضبا
مستنكرا للفعلة الشنعاء
صبرا على القتلى فان دمائهم
ثمن لرفعتنا الى الجوزاء
قد سار موكب مجدهم فى عزة
ستظلهم فى جنة الشهداء ! " ...

المدرسات المتزوجات كن يواجهن بالعنت والتعسف وتوضع أمامهن العراقيل بسبب من أن المجتمع ، وقتذاك ، لا يحبذ عمل المرأة بعد الزواج ، فكتبت سكينة شعرا نشرته في مجلة " صوة المرأة " الناطقة بلسان الإتحاد النسائي السوداني :

" اكرم بها من ثورة
هي ثورة الجنس اللطيف
قد خامر الياس النفو س
وراعها الحكم المخيف
منشورك القاسي الاليم
وليد ارهاب وحيف
وهناك من تلقى المتاعب
من اب هرم ضعيف
اكلت سداه ولحمه
الايام خانته الظروف
امراقب التعليم فلتراف
وشجعهن للكسب الشريف
فلقد مضى عهد الضلال
وعهد ارهاق ضعيف " ! ...

ومن أطرف ما قرأته لها ، هو شعرا مغني تغنت به الفتيات والنساء في بيوت الأفراح ، هذه التي تقولها في فضل الزعيم الأزهري :

" جموع الشعب

نمنا ما بنساهر ياجموع الشعب
فاحت الازاهر
الجندي المغوار لى سلاحه شاهر
بــى حب الزعيم هــــاتفاً يظـاهر
حريـــــة البـلاد بـــيها كم نفاخـر
فرحت الطيــــور عنــت الازاهـر
حـقـق الجــلاء واخـرس المظاهر
حـارت العـقول بـى كفاحـه النادر
خــالد الزعيــم تـمـــم المفـاخر
هـو فى الـقلوب اولاً و اخـــــــر
قــوة المــراس فى رئيسـنا النـادر
دلــل الصعـاب فى الجنوب الغادر

حكمــة الالـــه بى رغـم المكـابر
بى قوله الحكيم هـز المنـابـــــــر
فوزك يــا الزعيم حـرك المشـاعـر
ايقظ الشعـــوب فى الصباح الباكر
حب الشعب ليك مثل البدر الظاهر
حتى الســــيدات خــرجت تظاهـــر! " ...

هكذا ، كانت سكينة ، رائدة ومناضلة ، معلمة وشاعرة ، ثم أم تحنو وتعيش الحياة لكأن الحياة أبد . إنسانية ووديعة جدا في علاقاتها بالآخر أيا ما كان ذلك الآخر ، مشاركة في كل نضالات شعبنا ، منذ تهجير النوبيون أوائل الستينات وحتي النضال في سبيل الديمقراطية والسلام ووحدة البلاد ، كانت سكينة ، بحق أمرأة سيدة ، و ... من طراز رفيع مشع حتي يومنا هذا .
رحلت سكينة عن عالمنا في 24 / 6 / 2005 .
سكينة عالم ، كوني خلودا مزهرا في ذاكرة وضمير شعبنا .



الأربعاء، أغسطس 27، 2014

في الليل أيضا ، في عشقها !



في هدوء الليل هذا ،
أخاصرها ...
وكنت فعلت قبل الغروب .
كانت تعب الهواء قليﻻ قليﻻ ،
مضمخا بماء الورد والياسمين 
تمد أصابعها إلي شفق في شفاهي 
تمشط ضفائرها المرسﻻت ،
( قصته ولونته ليبدو جميﻻ لي ) ...
وتلبس ﻷجلي ثوب العروس
وتفتح أزرار صدارها
تخطو ،
بقبلتين وعناق إلي ...
إلي شهوتي !
فماذا سأكتب اﻵن
والجسد قد خالطته أنثي في الرحيق
وكان ،
حتي أول الليل بيدر نور
وحديقة ورد
تجيئه الفراشات كي تستجم ...
و ... يسكنه العشق
والعاشقون !

الثلاثاء، أغسطس 26، 2014

أخيرا ، أخيرا يا وردي ، تحققت أمنيتك !



 

الأمنـــــــــــــية !
-----------------

صدر حديثا كتابي " كلمة في تبجيل الفنان وردي " ، عن " دار المصورات للطباعة والنشر " في طبعة أنيقة تليق بسيرة ومسيرة هذا الفنان العظيم ، وهي المخطوطة التي كان قد تبني – لفرط اعجابه – أن يطبعها وينشرها في الناس لولا أن تدخلت " شركة دال السودانية " عبر " منتدي دال الثقافي " التابع لها أن تقوم بطباعتها وتوزيعها بالمجان في المهرجان الثقافي النوبي الأول – الشئ الذي لم يحدث – فحازت المخطوطة في قرص مدمج قبل أيام من رحيل الفنان و ... تجاهلتها ، الشئ الذي اعده تجاهلا غير حميد لوصية الفنان الكبير !
وأود ، وأنا أري أن بعضا من جميل وردي علي قد تحقق الآن ، أن أمنح عواطف الود والحب الكثير للأصدقاء الجميلون الذين وقفوا – بملء ما في قلوبهم من حب – وراء هذا الإنجاز الكبير الذي بهرني حد الزهو به و ... بهم : محمد الصادق الحاج ومحمد عمر ومأمون التلب ، و ...
" دار المصورات للطباعة والنشر " . وثمة أمر يستوجب توضيحه ، في خطتي للكتاب كنت قد أعددت صورا نادرة لوردي ، وعائلياته في أسرته ومجموعة من أعماله ، لم يسعفني الوقت لتضمينها المخطوطة فقد كنت عجولا أن يري الكتابة قبل رحيله المفاجئ ، لربما تضمن في طبعة ثانية لو أعطينا العمر .

الإهداء :
كلمات بمثابة إهداء، إليهما، وهم، في القلب والذاكرة:
محجوب شريف، أحمد طه محمد الحسن ومحمد عثمان حسن وردي.
إليكَ، يا عالي المقام، تكون هذه الكتابة:
في حَضْرَة جلالك يَطِيْب الجلوس
مُهَذَّب أمامك يكون الكلام
يا مُحَمَّد .
صَوتُكَ العملاق فوق الأرضِ
والنخلِ
وتحتَ التُّرْب معطاءً تمدًّد
فَتَوَجَّد ،
مِثِلما شِئتَ...
تَوَجَّد !
لكَ في قلبي وقلوبِ الناسِ مَهدٌ
فَتَوَجَّد .
كبساطِ المجدِ مبسوطاً على الريحِ
تَمَدَّد
وارفعِ الصوتَ ابتهاجاً
بشبابٍ يتجدَّد
تَمَدَّد
وتَمَدَّد
وتَمَدَّد
سطعَ الناسُ شموساً
في سماءِ القحطِ واليأسِ
وغنُّوا ،
يا صديقَ العمرِ
شوقاً، للبشارة؛
صوتُك العملاقُ يُزجِيها إشارة،
للذي ينتظرُ الإنسانَ في السودانِ
لما يُثمرُ البرقُ ثمارَه،
فتَوَجَّد
وتَمَدَّد
وتَجدَّد
وتَوَحَّد؛ بالذي يأتي مجيداً،
وجديداً.
عِم صباحاً، يا مُحَمَّد
عِم شتاءً
ثمَّ صيفاً
وخريفاً
وربيعاً يتَجدَّد؛
يا مُحَمَّد، يا مُحَمَّد، يا مُحَمَّد.


من المدخل :

(1)
الصَّوتُ والصَّدَى

من أقصى أطراف بلادنا إلى طرفها الآخر؛ وسط سهولها وجبالها وأنهارها وغاباتها، يصادفك هذا الصوت العذب، الفريد العميق، الغامض كالماس. إنك تتعرف عليه بسرعة، وبحاسة ذوقٍ ذات حساسيةٍ عالية، فهو يدخل إلى أعماق النفس، نفسكَ أنت بالذات، ويدخل إلى سويداء الفؤاد، كالشهوة والنزوة والرعشة.
إنه يدخل فيك ليمتِلكك!.
في إحدى المناسبات الغنائية قال الفنان الأندلسي العظيم (مانويل توريز) لأحد المغنين: "إنك تمتلك الصوت، وتمتلك الأسلوب، ولكنك لن تنجح أبداً لأنك لم تمتلك (الدويندَى)". ويعني بالدويندَى روح الغناء الذي يسري في الأغنية كالعافية! وقد امتلك وردي ذلك الصوت والأسلوب والدويندَى معاً؛ في عروقه تجري دماء الثقافة ونضارتها وحيويتها ودفئها. إن في موهبته أصوات متعدّدة برَّاقة، سحرية وغامضة، فيها حساسية الروح وشفافيتها ورشاقتها؛ إنه السرُّ الذي يسكن ويلتحم في أصواته جميعها، إن في صوته كما قال جوته: (قوةٌ غامضةٌ يحسها كل فردٍ لكن لم يشرحها أيّ فيلسوف)! إن تلك القوة الملازمة للفنان هي سلوك، نضالٌ مستمرٌّ دافق، وليست هي، على أية حال، مفهوماً محدداً؛ إنه شكلٌ حقيقيٌّ في الحياة، في الدم والثقافة والفعل الخلاَّق. لهذا تراه، عندما يبدأ يغني، يحتشد بالحياة وعنفوانها وحيويتها، تعتمل في فورانٍ كالدوامة في داخله، وتطلع من خلال حنجرته تلك الأصوات العجائبية الفذة. لا، لا، تلك القوة الموحية العميقة ليست في الحنجرة، لكنها تطلع من خلالها؛ من خلالها وعبرها. نعم، هي قوى غامضة لا شك في ذلك أبداً، لكنها تنتمي للأرض والتربة والماء. ولهذا كله، فإنني أرى أنه من هنا، بالضبط، تكمن تلك الصلة العميقة التي تشتدُّ وتمتدُّ بين الفنان والأرض والوطن؛ علاقة تبادلية، ولكن على مستوى روحي عميق. إن بعضاً من جذور حياته ومعاشه اليومي مرتبطٌ بأوثق رباط بهذه القوى الروحية الغامضة في داخله.
خاضَ وردي نضاله اليوميّ طوال مسيرته الفنية مع هذه القوة العميقة، متخطياً بها إشكاليات عديدة، مُعقدة وشديدة التنوع: مع الشعر والموسيقى والصور والألوان والألحان، وأخذ يخطو بها في رحلة الإبداع، في ائتلافها وسورة حركتها القلقة باتجاه ذروة اكتمالها في الغناء؛ فيدلقه، كالخمر، أو الماء الدافئ على أجسادنا بكليَّاتها، فتدخل تلك الأصوات إلى مسام الجسد، وإلى داخل الشرايين والأوردة، فتبلغ منا أطراف الجسد كلها؛ عضواً فعضواً، وتبلغ القلب لتبقى في داخله وتحتلُّ لها مكاناً مرموقاً في الذاكرة والمخيلة، مُضيفةً على الجسد كله، أيضاً، تلك الألوان المتداخلة المُشَجَّرة، الملونة البديعة، لتحفّها ببريق الروح ومذاقها الحلو.
مرةً كنت أشاهد حفلاً جميلاً في أم درمان. وعندما بدأ وردي يغني مستخدماً كل جسده، أقول كلَّ جسده، وأنا أعني، كل عضلة فيه وكل قطــــرة دم فيه. كان يُغني (الحنينة السُكَّرة)، تلك الأغنية الخفيفة القديمة، ولكنه غناها تلك الليلة بتوزيعٍ موسيقيٍّ جديد، وبأداء جديد فريد، فإذا الجميع قد تملكتهم تلك القوة الغامضة التي تسري كالرعشة في الأجساد فتوقظها، فتصحو، وتفجِّرُ فيها حيويةً وطاقةً وعنفواناً لاذعاً ملتهباً. كانت فتاة نضرةً كالشروق، بدأت ترقص بإيقاع ذو روحٍ ومعنى؛ ترقص وتُقَطِّعْ بأصابعها المجرّدة بعضاً من خصلات شعرها الليليّ الطويل؛ تقطعه اقتلاعاً من الجذور. ورأيت أيضاً، شبان كثيرون بدأوا يدقون الأرض بأقدامهم في إيقاعات متواترة، نافرة، متوثبة، يلمسون الأرض بأجسادهم ويفارقونها في ذات الوقت، ويغوصون في الهواء البارد لتلك الليلة الشتائية. كانت قد تملكتهم تلك الروح العجيبة التي تطلع من دواخل الفنان، حتى أصبحت تلك الجماعات كلها كتلة بشرية واحدة تتحرك بعنفوانٍ وانفعال عاطفيّ قد مَلك عليهم أجسادهم وعقولهم.
كانت النار والرياح والبرق والغيم والمطر جميعها حاضرةً تسري في الناس كالألق والضوء والهواء، وقد تلبستهم روح الفنان وغناؤه، وقد ارتدوا صوت الفنان وروحه معاً! ما رأيت قط، من بعد، فناناً له مثل هذا السحر الطاغي على المستمعين؛ إنها الطاقة الحيوية الدافقة للغناء الخصب الذي يمتلكه هذا الموهوب الفذ.
أن وردي هذا صنف فريد في خارطة الغناء، نسيج وحده، مجبول على فن الغناء بروح عميقة الإبداع؛ خالقٌ حقيقيٌّ للنغم واللحن والفن الجميل! تطلع منه الموسيقى وهي في ذروة اكتمالها، في أنقى جواهرها، ولكنه أيضاً، يجعل منها موسيقى تفقد الخواص العادية للموسيقى؛ أرديتها وفساتينها ومساحيقها، ينزع عنها رتابتها ومهاراتها الحِرَفِيَّة المعهودة بين الناس، يُفكِّك عنها إزارها كله، ويطرحها عاريةً، كما الحقيقة، أمام الملأ. تلتحم بتلك الأرواح البشرية من حوله، فتدخل فيها كالدم الملتهب. ويقف هو، وحيداً في مواجهة تلك الجموع، وحيداً، إلا من هذا السحر الغامض الذي يطلع من خلال تكوينات جسده كلها: من الأيدي والأرجل والأصابع والخصر والصدر والصُلب؛ من خلال عيناه وفمه وحنجرته وأذنيه وأنفه!! كنت أستطيع أن أرى، بوضوح، رئتاه تمتلئان بالهواء حتى ينتفخ صدره وتتضح عضلات عنقه ويقف شعر رأسه متماسكاً كأشواك القنافذ، وتندلق الأصوات المتعددة كرذاذ الدم وسط الموسيقى الدافئة، وهي تلتحم في عناقٍ متداخل مع الكلمات والأضواء والظلام وأنفاس الناس. أبداً ما رأيت غناءً مثل هذا.
منذ بدء مسيرته الفنية، واستناداً إلى موهبته الضخمة، وعبقريته الفنية الفذة؛ رَفَضَ أن يُقيم هياكله الفنية على أبنيةً قديمة، ما قَنِعَ قط، أن يعتمد على موروث الغناء كي يقلده في أغانيه! وبدأ يشرع في خلق الجديد؛ يسعى إليه بكل أدوات الخلق وإمكانيات الولادة، وعبر مخاضاتٍ عسيرةٍ ودروبٍ عميقةِ الشروخ مليئةً بجهد الدموع وتعب الذاكرة؛ كان يقتصُّ من ذاته نفسها، ومن أطرافها الأكثر حيوية وحياة، أدوات وأزاميل وأوتار ذوات شجي ودفء، ليجعلها كالمهد لأغانيه وموسيقاه، لهذا خرجت أغانيه وهي تعطي الناس، كل الناس بلا استثناء إحساساً بالطزاجة غير معهودٍ تماماً، له خاصية وردةٍ حديثة الخلق، خاصية معجزة. وينتج في النهاية فناً رائعاً وحماساً طاغياً للفن الجميل.
عندما يبدأ في الغناء وتندلق الموسيقى الباهرة في وجدان المستمعين؛ وفيهم الرجال والنساء، والشيوخ، الفتيات والصبايا الجميلات، والكهول أيضاً؛ يرددون بوَلَهٍ حقيقيّ "الله الله يا وردي" و"عظيم، عظيم، عظيم" و"الله يخليك يا وردي" و"عشت يا رائع". كلمات، ولكنها أنَّاتُ وَلَهٍ وتَوَجُّد، تصدر من القلوب، يقولونها بانجذابٍ روحيٍّ عميقٍ ما شَهِدت مثله إلا في حلقات الاستماع لتلاوة القرآن الكريم بأصواتٍ عظيمةٍ لعبد الصمد أو الحُصري أو صديق أحمد حمدون. لحظات فيها من الروح أكثر مما فيها من الواقع، يكاد المستمع أن يُفارق فيها دنيا الناس الأرضية هذه، ليصعد إلى ذرى سامقات في الكون الفسيح. أهو الوجد الصوفيّ إذن؟ على التأكيد أن فيه بعضاً من ذلك، وكثيراً من حقائق الروح، ولكنه أيضاً مغروساً بجذوره الحية، كاملة العافية، في تربة الواقع الراهن. إن مادته الإبداعية غنية، خصبة وموحية، جزء نادر من إبداع العالم وحيويته وتوهجه. إن تلك المواد، المقذوفة كالشظايا النارية، في وجدان الآخرين لحظة أداء الأغنية أمام الجمهور، تستدعي حضوراً بهياً تكاد تلمسه وتبصره أمامك لهذا الفن المتجسد كاللوحة شديدة البهاء أمام ناظريك! هي رؤية الفنان وإبداعه يطلع هكذا، كأعمدة الضياء، تقف كلٌّ منها وتنغرس كالدبابيس الحادة في وجدان الناس. وهو ـ أيضاً ـ تواصلٌ وحضورٌ متبادلٌ يجعل من الفن رديفاً للحياة، ولكن في جانبها المضيء الملتهب ذو العنفوان والصخب والإيقاع المستمر الذي يمسك بالكلمات من أعناقها الخُضر، فيُدخلها في عمق الصوت، ليلتحم بدفءٍ وعافية، في قلب الأغنية ذاتها.
ظلَّ شعبنا، لما يقارب نصف القرن، ينجذب لغناء هذا الفنان وموسيقاه. وطوال هذه السنين الطوال، ومع مطلع كل صباحٍ جديد، ولدى كل أغنيةٍ جديدة يؤديها، فإنه يحيا، ويصحو، وتنبعثُ فيه تلك الروح العميقة الغامضة، فيبدأ هديل وجدانه يتواتر في صخب الحياة، وتمتلئ الشرايين بدماء الخلق الجديد والروح الجديدة للعمل الفني. إن ذائقة السمع لدى بنات وأبناء بلادنا، ظلت ـ طوال مسيرة الفنان ـ ترتبط برباطٍ وثيق، لكنه سريّ وغامض، كالملح والرمل وشذى العطر، إلى تلك الأغاني بالذات.
إن ارتباط أغانيه وأناشيده بالتربة والخصب وتراث الشعب ووجدانه الفني لا جدال فيها؛ فعندما يُغني ـ مثلاً ـ نشيد (وَطَنَّا)، ويبلغ قمة أداء الأغنية، ثم يأتي لمقطع قصيدة محجوب شريف الرائعة:
وَطَنَّا البِإِسمَك كَتَبْنَا وْرَطَّنا،
أَحِبَّك، مكَانَك صميمَ الفؤاد،
وفي حضرة جلالك يَطِيْب الجُلُوس،
مهذَّب أمامك يكون الكلام ([1])
يجلس متربِّعاً فوق تربة المكان أو فوق الخشبة، وقد شاهدته مرات عديدة وهو يُقبِّل تراب وطنه؛ ما فعلها من قبله أحد، هكذا أمام الجميع، وفي ظنِّي أن ولعه الأسطوري بالحرية، وطلبه المستمر الذي لا يفتر للديمقراطية لأبناء وطنه، وسر كراهيته العميقة للديكتاتورية، يصدران من بؤرة هذا الرباط الوثيق جداً، بين روح الفنان وموهبته العظيمة وتراب وطنه.
قلت مرةً لأحد الأصدقاء: "إن في دم الفنان بعضاً كثيراً من التراكيب الكيميائية للتراب السوداني!". نظر إليّ هذا الصديق وقال لي: "إن في قولك هذا بعضاً من الحقيقة". وقطعاً ليست صدفة، أن يختار وردي قصيدة علي عبد القيوم ويلحنها ويؤديها لحظة انتصار الشعب ونهوض الوطن:
أيُّ المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها!
أيُّ الأناشيد السماويات لم نشدد لأعراس الجديد
بشاشةً أوتارها.
وقد أصبحت منذ سنوات عديدة أنشودة الشعب السوداني قاطبة؛ رمزاً لسيادته وحريته واستقلاله! ولا زلت أذكر: أن المظاهرات السياسية لمعظم الأحزاب والنقابات والاتحادات الطلابية وندواتها السياسية والفكرية، كان هذا النشيد يصدح كما الطبول الأفريقية وتمتلئ به الأجساد السودانية السمراء في تجمعاتها تلك بحبٍّ ووَلَهٍ يتداخل ويتشابك مع روح الشعب ووجدانه. إنه يُوقظ روح الشعب الوثَّابة، يُضفي عليها أثواب العافية كلها، ويكسوها بالجلال ليضعها من بعد أمام مصائرها. صيرورةً متناميةً في دراما الحياة وحيويتها وخصوبتها.
فنان حقيقي بقامة هذا الزمان، إنه ملاكٌ من الرخام والنغم والشذى والسحر، يمتلك مقدرات فنية متفجرة ومتطورة، تسري فيه ـ كنيران البراكين ـ مُلتهبة ومضيئة ومتوقدة. حركته الفنية تمتد على ساحات رملية مُذَهَّبة، ومهد من الرؤى والمخيلة الجميلة المدهشة، سجادة من الفن مرصعة بالألوان جميعها في تداخلها واختلاطها البديع.
موسيقارٌ هو ولكن بقامة قديس. وملحنٌ خالقٌ للَّحن بمقدرات غير عادية وغير مألوفة. يقرأ الشعر العظيم ويتعامل مع مفرداته اللغوية وصوره وتراكيبه كأعظم النقاد، ويكتب الشعر بالنوبية والعربية التي يتقنها بشكل مُدهش. إنه، وبأغانيه، يرفع أغصان الحب والحرية فوق سماء وطنه، ويقضي في ذات الوقت، وبقوة الغناء الوردي، على البؤس والشقاء البشري لأبناء وطنه وبناته.
القصيدة تكون، عادةً، شعراً جميلاً فقط. ولكن عندما يغنيها فإنه يُدخِلُ فيها نَفَسَاً من السحر والوجد والعنفوان؛ إنه يُعَمِّدها بماء الحياة الوردي ليجعلها قصائد محبوبة بشكلٍ روحيٍّ عميق. إن صراعه عبر مسيرة حياته لأجل إحراز هذا الانتصار وإيصال أغانيه للذرى العالية استدعت منه أحياناً أن يأخذ شكل المقاتل العنيد، الصلب الجوهر، والواقف على شفير الجرح والنزيف؛ يلامس الموت ويحيا لدحره والقضاء على رؤياه الداكنة المظلمة في الحياة. إن أغانيه وأناشيده وموسيقاه تُوحِّد الحواس الخمس للإنسان مع جوهر الإبداع فيها، ويخلق منها أجساداً حية، عفيه، نابضة بالدم والشوق، وتختزن في دواخلها طاقةً عظيمة للحب لا تنفد، ولكنها لا تنفكُّ خارج إطار الزمن؛ إنها تطلع في الحياة لكي تضيء وتحيا وتكون.
والأغاني ـ كما الناس ـ تشيخ وتهرم وتذوى وتموت! وفي ساحة الغناء توجد أغانٍ لا حصر لها ميتة، أو هي تعيش دورات احتضارها المحتوم! ولكن وحدها أغانيه لها خاصية الحياة، تستعصى على النسيان وتبقى في وجدان الأمة وذاكرتها الجماعية؛ تلامس حافات الوجود كالضوء يعيش الحياة في أشد اللحظات التاريخية إظلاماً وكآبة، وحزناً! إنها إذ تبقى ضوءً فهي أيضاً تَهِبُ الحب والفرح وإرادة الحياة نفسها للإنسان السوداني.
كم من الأغاني أعطاها تلك الطاقة الروحية العظيمة: ألبسها أردية الحلم، وأكسبها الرؤية المضيئة بالمستقبل، خلع عنها مقدرات الدم الحار العفى وإرهاصات العافية والنمو، جعل منها عرائس ملونة تمتلئ بالخصب الولود وبالوعد والبشارة، جعل منها ألف ألف وجه للحب والشوق العظيم للعشق والحياة والنبالة.
أبداً ما جَرَحَ أيَّاً من تلك الكلمات التي غناها بلحنٍ نشاز، أو تَوتَّرٍ في علاقاتها اللغوية أو اتساقها النغمي؛ ما جعل قط لأيٍّ منها تنافراً مع مهدها الموسيقي وألحانها التي وضعها لها! وردي خالق نغمٍ ومبتدع رؤيا وطاقة حلمٍ في تلازم الكلمات، ولدى اختياره لها، يضع لها شوقاً وحباً وشذى؛ يكسوها بقيم الفنّ العظيم فتخرج للناس وكأنها قد وُلِدَت من جديدٍ على يديه وعبر رؤياه ومخيّلته المبدعة.
الكثير من شعراء بلادنا تمنوا لو يغني وردي قصائدهم! وإني أعرف بعضهم ظلَّ ينتظر عمره الشعري كله لكي يشهد ميلاداً حقيقياً لأحدى قصائده، من هذا الرحم الخصب للفن العظيم!، ولم يظفر بتلك الأمنية العزيزة، العميقة المعنى والدلالة، رغم قربه الشخصي من الفنان الموهوب! فقد كانت الكلمات والكتابات المبدعة تمسُّ أوتاراً مشدودةً في دواخله، وتبدأ ضجيجها وصخبها في أعماق الفنان، فيظل يعاني آلام الخلق وعذاباتها المحرقة حتى يخرجها من دواخله طفلاً للحياة يولد بين الناس ويعيش الحياة:
نحن إتنِين بنتقَاسَم هُمُوم الناس،
عَشَان الناس بَعِزَّك يا أعزَّ الناس
أنه يُلامس المشهد الثقافي للشعب على اتساعه وتنوعه وامتداداته، ولكنه يُعايشه بوَلَعٍ عميق، ويصادق الحساسية الفنية العظيمة لشعبه؛ يكتشف فيها الغضب النبيل والشجن العميق؛ لواعج الحزن ومكامنه المحرقة ذات اللهيب، يخلق من تلك القيم جميعها حساسية جديدة ولكن من خلال دراما الأغاني والأناشيد، يجعل منها أشكالاً حية. ويقضي على تلك الخطوات المُهينة للهروب من الحياة ومن الصراع، من الواقع المعاش الذي يعيشه لحظةً بلحظة، مع أمته ووطنه، في أشكاله اليومية العادية وغير العادية.
لقد أدخل وردي في تراثنا الغنائي ووجدان أمتنا أضواءً جديدة: أعطى دهشةً جديدةً ومعانٍ للحب مبتكرة. مرةً قال لي أحد مواطني البسطاء وكنا نستمع لأحدى أغنياته: "إن وردي أعطانا خبزاً دافئاً، أكثر من أية حكومة وطنية" وفهمت! فقد كان يعني خبز الحياة الطازج الدافئ كدماء العافية في البدن العفي. أعطى لوطنه سماءً جديدة ورياحاً وأرضاً خضراء؛ أعطى الوطن خريطةً جديدةً ملونةً وبديعةً للحب والعشق؛ أعطى أبناء وبنات السودان، وهم في سني أعمارهم الغضة كالورود الحية، رحيق الحب وتوهجه ولمعانه ومعناه النبيل! أعطى الفتيان مناديلاً ملونة، والفتيات ضفائرهنَّ وعطورهنَّ الفواحة ذات العبوق.
أن الصوت الفذّ أعطى صداه كاملاً، أعطى نبرات وأصوات وموسيقى جديدة، أعطى لشعبه كلّه عناوين جديدة للحب والشوق والعشق النبيل، وأعطى للإنسان في وطنه دماء العافية وإرادة الحياة؛ وهبنا ـ جميعاً ـ معمدانية النار والحب التي يتقدَّسُ خلالها الغناء والعشق السوداني في أطوار حياته المجيدة.


([1]) محجوب شريف: "وَطنّا".