Powered By Blogger

الأحد، أكتوبر 21، 2018

أكتوبر، يوميات الثورة في الشعر والأدب والفنون.



أكتوبر ، يوميات الثورة  في الشعر وفي الفنون *...
-------------------------------------------------

" لا حجر أثمن
  من الرغبة في الثأر للبرئ .

  لا سماء أسطع
  من صباح يسقط فيه الخونة .

  لا سلام علي الأرض
  إذا إغتفرنا للجلادين ! " .
                                - إيلوار -

في البدء ، كانت الثورة حلما في ضمير المناضلين ، غدت فيهم سعيا في العنفوان حين بذروا في قلوب الشعب بذارها . ثم غدت أغاني وأناشيدا ورؤيات ، صارت أشواقا في الناس ثم رأيات و أسلوب كفاح . بدأت – بفضل تخطيط الحلم وبذل طاقات النفوس والأجساد ونهوضها - تشكل وجهها بالذات ، وجه الثورة التي تنشد منازلة وقهر الديكتاتورية وقهرها وتحقيق الحرية والديمقراطية والسلام للوطن . لقد قالت الآداب والفنون بنبوءة الثورة ، بل هي هيأت المناخ الشعبي وجعلته في النضال ضد الديكتاتورية وفي طلب الحرية ، ثم غدت تعبيرا فنيا صادقا عما يجري في وجدان الشعب من رؤي جديدة في القيم والأفكار . أكتوبر لم تكن ، فقط ، مجرد أهداف وطنية وديمقراطية عامة ، وانما هي ثورة تمتد إلي أعماق حياتنا الاجتماعية بكل ما يضطرب فيها من قيم ومفاهيم وما تشتمل عليه من فئات وعلاقات اجتماعية ، ففي المدينة والريف والأسرة والمصنع والحقل والنقابة والجمعية والمدرسة تجارب اجتماعية جديدة ، وبين تلك الفئات الجتماعية المختلفة من عمال ومزارعين ومثقفين وموظفين وأصحاب أعمال وأصحاب مهن حرة وملاك ورأسماليين ، تجارب اجتماعية جديدة ، تجارب عاطفية وتجارب أخلاقية وتجارب معيشية وتجارب فكرية فيها الحب وفيها البطالة وفيها التحرر وفيها القيم الجديدة للعمل والسعادة ، وفيها المقاومة والنضال ، وفيها التطلع إلي فسفة جديدة للحياة ، وفيها الاشكال الجديدة للعلاقات الاجتماعية ، وفيها الصراع الحاد بين القديم والجديد ، بين المتخلف والمتقدم بين الجمود والحركة ، من هذه التجارب جميعها ، ومن جميع وجوهها تتخذ الثورة مظاهرها الاجتماعية ، وهذا بالضبط ما بلورته ، بشتي الوسائل والمظاهر ، ثورة أكتوبر المجيدة ، لقد بشرت وسعت لتحدث إنقلابا كاملا في بنية المجتمع ومنظومة القيم المصاجبة لها ، وهذا أيضا ، ما جعل القوي التقليدية ، وكل قوي اليمين قد أحتشدت لمناهضتها وإجهاض شعاراتها النبيلة ، هذا ما كانت عليه ملامح الثورة ، وهذا ما وجد تجلاياته البراقة في سمت الآداب والفنون جميعا . ومما يعد من إحقاق الحق لوجه التاريخ أن نقول إن الحزب الشيوعي السوداني هو أول من إبتدر ونادي بشعار الإضراب السياسي والعصيان المدني لإسقاط ديكتاتورية الجنرال عبود ، بل هو أول من شرع للنضال مبادئ وشعارات وللمقاومة أدواتها وأسلحتها المجربة ، كان النواة في رحم الحلم ، والشعار الذي الذي تسامي وتنامي وأشتد حتي قهر الديكتاتورية بتلك الثورة الفريدة في عالمنا . حين أتأمل وجه ومسار ثورة أكتوبر ينتابني إحساس عميق بأن الثورة قد بدأت – أول ما بدأت – وجها حالما في الشعر ، ومن الشعر طلعت الأغاني والأناشيد والموسيقي ونهوض المسرح و التشكيل ، كل ضروب الإبداع " الإكتوبري " تناسلت ونمت وازدهرت و تعالت من بؤرة الحلم ، من الشعر الذي كان يحدس بالثورة ويرهص بإنتصارها و ... يغني للغد الأجمل .

جامعتان كانتا في حلم الثورة ، في شعرية المعني :

هما جامعة الخرطوم ، المنارة التي إندلع منها بالذات لهيب الثورة ، ليلة تلك الندوة السياسية ذات العنفوان التي في معمعانها أستشهد القرشي أول وأنضر شهداء الثورة الباسلة ، ليكون ، من بعد ، طوفان الثورة الذي هدم صروح الديكتاتورية. ثم جامعة القاهرة فرع الخرطوم التي شكلت سندا وعضدا للثوار في نهوضهم الأول حتي تكرست للثورة الحشود الهادرة التي لم يوقف مسيرها إلا الإنتصار . كان الشعر حاضرا فيهما ، ملهما ومحرضا علي الثورة ، كان فيهم الشعار والساعد والرؤيا ، وكان الحلم فجرا يلوح بالخلاص ، لهذا نهضت الفنون كلها لتكون في صف الشعر ، في وجهة نهوض الحلم الذي سيصبح واقعا تجلي في ملاحم وملامح أيام الثورة كلها .  لقد بات من المعلوم إن الفنون جميعها التي نقلت ينابيع قدراتها إلي الأرض قد شهدت علي مر التاريخ الإنساني إنها يتوجب عليها أن تكون في صف الجماهير ، في وسطهم وتعمل لأجل سعادتهم وكرامتهم وحرياتهم و تغني ، معهم ، للغد الذي سيكون جميلا مثلما هو في شروق آمالهم وأشواقهم المزهرة . فقد لا يختلف الناس في أنه لا ينتقص من قيمة الجمال أن يخدم الحرية ، وأن يعمل علي تحسين حال الجموع البشرية ، وإن الشعب المتحرر ليس قافية رديئة ، فالجدوي الوطنية أو الثورية لا تنتزع شيئا من الشعر ، علي قول فيكتور هيجو . فالثوري ، الذي هو أيضا فنان وشاعر يؤمن أنه يوما بعد يوم يفسح الشقاء والبؤس مكانه للفجر . فلا يمكن للإنسان ، الذي هو القيمة الأعلي في الوجود أن ينكر قيمة عواطفه مهما بدأ من قلة جدواها في عمليات الإنتاج ، أو من مخالفتها أحيانا للروح الإجتماعية . لقد قام الشعر ، في نهوضه الجسور ، بصناعة رايات ثورة أكتوبر وصياغة ملاحمها الباسلة وعضد النضال ضد الديكتاتورية وقدم أدواته كلها لتكون في معية معاول التغيير ، لقد كان صانعا – من بين كل صناع الثورة – لملامح المستقبل في وجدان شعبنا . أقول بكل ذلك عن شعرية الثورة ، في المعني والدلالة ، ولا أغفل بالطبع تلك العوامل المشهودة في مسار الثورة من تحشيد منظم لقوي الثورة والديمقراطية في إصطفافها خلف رايات الثورة وشعاراتها وتكريس النضال جملة حتي غدا الجوهر من ديناميكية الثورة ومساراتها جميعها ، والدور البالغ الأهمية لقوي التغيير  الحضرية " التي كانت بحق وقود الثورة وشعلتها . ويبقي السؤال : ماذا بقي في ضمير شعبنا من تلك الثورة الرائدة ؟

دروس الثورة :

رغم الأخفاقات الموضوعية التي أعقبت إنتصار الثورة ، فقد غدت ، كما يقول د . محمد محمود ، " مرادفة في الوعي السياسي للسودانيين للتخلص من استبداد الأنظمة العسكرية وتحقيق الديمقراطية ، ورغم خيبة الأمل التي أعقبتها فإن قيمتها كأهم حدث ملهم بعد الإستقلال تبقي حية وملهمة " .
" و ... لسه بنقسم يا أكتوبر
  لما يطل في فجرنا ظالم " ...
من جملة دروس أكتوبر ، قد ظل تحريض الشعب علي الثورة ضد الطغيان درسها المهم والأساس ، مقدمة نضالية متوهجة في وجدان الشعب وقيمة عالية وملهمة في مسيرة شعبنا صوب التحرر والتقدم والديمقراطية والسلام . والقصيدة قد غدت سجلا حافلا بتلك القيم النبيلة للثورة . فلم يغفل ، إلا القليل الذي لا يأبه به ، ذكر مآثر الثورة والتغني بامجادها وقيمها التي ترسخت ، من بعد ، في ضمير شعبنا ، نبراسا ينير الدروب ويلهم الشعوب و ... يناديها صوب المستقبل . كانت ، إذن ، أكتوبر حاملة الآداب جميعها والفنون في تنوعها إلي وجهة المستقبل . وكم سعدت حين رأيت الأستاذة الشيوعية النابهة ثريا محمد سعيد تشرع في إعداد دراستها لنيل الماجستير عن " الإكتوبريات " ، وبشغف المحب الذي يأمل أن يري سجلا شعريا وفنيا وافرا لأكتوبر ، ظللت أتابع خطواتها وهي تعد تلك المآثرة غير المسبوقة في التوثيق ،بوجوه الشعر الأكتوبري عند محجوب شريف وحميد والقدال وكجراي ومحمد محي الدين  وغيرهم وغيرهم  وهي ، أيضا ، تلتقي بكمال الجزولي وبكمال عبد الكريم ميرغني وبمحمد المهدي بشري وهم من المعدودين في ذاكرة الثورة ولهم فيها مآثر مكتوبة، وليتها تكون في لقاء محمد المكي إبراهيم و صاحبي الجميل مبارك بشير ، ومبارك حسن خليفة ، وتستكمل سجلها الإبداعي فتلتقي أيضا هاشم صديق وفضل الله محمد والطاهر إبراهيم وفضل الله محمد وغيرهم ، وتتعرف علي الأشعار الأكتوبرية لدي عبد المجيد حاج الأمين والطاهر إبراهيم ومصطفي سند ومحجوب سراج ومحمد يوسف موسي وغيرهم ، ثم إلي حداة الثورة من المغنين ، محمد الأمين وأبو عركي الذي كتب بنفسه عن الثورة وتغني بها ، والكابلي وأم بلينه السنوسي ، وصلاح مصطفي وخليل إسماعيل ، فلم يتأخر عن ركب الثورة من الشعراء والفنانين إلا من تنكب طريق الثورة فغدا في العميان الذين لا يرون من الوطن والشعب إلا السهي و اللغو البعيد عن جادة الحياة . نعم ، كانت أغاني الثورة وأناشيدها تزحم الأفق بالألق المشع وبالحماسة وحب الوطن ، كان المسرح حاضرا ، التشكيل كان حاضرا ، الموسيقي والغناء حاضران ، وبجانب الشعر ، وهوفي تجليه العالي ، علينا أيضا أن نبحث عن وجوه وملامح أكتوبر في القصة والرواية ، فتلك الأعمال جميعها ، الأدبية والفنية ، منها ما كتب قبل الثورة ، فكانت إرهاصا ونبوءة إليها ، ومنها ما كتب إبان عنفوانها وتجلياتها وهي قيد الإنتصار ، ثم منها ما كتب بعد إنتصارها المجيد ، لأبد ، إذن ، لابد من السعي لإعداد درس وتقص ليكون " سجلا " حافلا لتجليات ثورة أكتوبر في حقول الآداب والفنون جميعها ، سجلا جليلا يكون حاضرا لأحد أهم الأحداث علي مر تاريخنا المعاصر . رائعة ود المكي و وردي الخالدة ، وجها وسجلا للثورة المجيدة تعد إلي جانب رصيفاتها من الأناشيد الملهمات ، من التاريخ الشعري للثورة جليلة القدر في إفصاحها عن يوميات الثورة :


" بإسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب
  إيمانا وبشري
  وعلي الغابة والصحراء يمتد وشاحا
  وبأيدينا توهجت ضياء وسلاحا
  فتسلحنا بأكتوبر ،
  لن نرجع شبرا
  سندق الصخر حتي يخرج الصخر لنا
  زرعا وخضرا
  ونرود المجد حتي يحفظ الدهر لنا
  إسما وذكري .

  بإسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني
  والحقول إشتعلت ...
  قمحا ووعدا وتمني
  والكنوز أنفتحت ...
  في باطن الأرض تنادي
  بإسمك الشعب إنتصر ...
  حائط السجن إنكسر
  والقيود إنسدلت جدلة عرس في الأيادي .

  كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل
  كان عبر الصمت والأحزان يحيا
  صامدا منتصرا
 حتي إذا الفجر أطل
 أشعل التاريخ نارا فإشتعل .

  كان أكتوبر في غضبتنا الأولي
  مع المك النمر
  كان أسياف العشر
  ومع الماظ البطل
  وبدم القرشي ...
  حين دعاه القرشي
  حتي إنتصر " ...

التحية و المجد لأكتوبر ، ولشعبنا " المعلم " في ذكري ثورته الخالدة الملهمة .
---------------------------------------------------------------------------
* ثورة أكتوبر السودانية 21/ أكتوبر/ 1964م، التي أطاحت بدكتاتورية الجنرال عبود.

السبت، أكتوبر 13، 2018

طيور إيمان شقاق، ورؤيتها للوحة الصلحي.






طيور إيمان شقاق، رؤية تشكيلية للوحة الصلحي!
-----------------------------------------------
1:
( الطيور مشردة في السموات،
  ليس لها أن تحط علي الأرض،
  ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح!
  ربما تتنزل...
  كي تستريح دقائق...
  فوق النخيل- النجيل- التماثيل-
  أعمدة الكهرباء
  حواف الشبابيك والمشربيات
  والأسطح الخرسانية.
  ( اهدأ، ليلتقط القلب تنهيدة،
    والفم العذب تغريدة،
    والقط الرزق.. )
  سرعان ما تتفزع..
          من نقلة الرجل،
          من نبلة الطفل،
          من ميلة الظل عبر الحوائط،
          من حصوات الصياح!
              ***   ***   ***
القصيدة، لربما لا يسعها، كلها، هذا الحيز الذي نكتب فيه الآن، لكن، ما تناوله أمل دنقل في قصيدته عن أحوال الطيور وأطوارها، يجعلنا، لمحض الفهم، أن نورد خاتمة قصيدته، برغم أهمية ( لوحات ) القصيدة بالغة الدلالة والمعني، يستطرد أمل فيقول:
( والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس،
  مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها..
  فانتخت،
  وبأعينها.. فارتخت،
  وارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح
  ما الذي يتبقي لها.. غير سكينة الذبح،
                          غير انتظار النهاية.
  إن اليد الآدمية.. واهبة القمح
  تعرف كيف تسن السلاح!
  ***   ***   ***
الطيور.. الطيور
تحتوي الأرض جثمانها.. في السقوط الأخير!
والطيور التي لا تطير..
طوت الريش، واستسلمت
هل تري علمت
أن عمر الجناح قصير.. قصير؟!

الجناح حياة
والجناح ردى.
والجناح نجاة.
والجناح.. سدى!
        - قصيدة: الطيور، أمل دنقل -

2:
( وللطيور في حنانها مسلك فريد.
  هي صورته في الفضاء، وشكله الذي ارتضاه حين
  يحن إلي التحليق.
  وللحنان في البشر عدد من المنازل،
  في الطير منزلة واحدة يولد العصفور عليها
  ويموت،
  اذ أن الطير حاذق وله من البصيرة ما للأنبياء،
  بل قل فوق ذلك. ولولا الخوف من الشرك
  والإلتباس
  لأطلق الفقهاء لفظة ( حنان ) علي كامل قبيلة
  الطير.
  والطيور في رحلة من الحنان لا تنقطع،
  حتي لقد شحب لونها ودقت ملامحها وصار
  صوتها إشارة.
  هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش.
  والأولي- أي الغربة – ما هي إلا البيت الذي
  استأجره الحنان في قلب الكائن الحي.
  ومن أراد رؤية الحنان لبرهة،
  انتظر حتي يقع عصفور في شرك، فأسرع
  ونظر عينيه.
  ***   ***   ***
  والحنان حين يشتد وتستعر أسبابه ودواعيه،
  يقف حائلا والإفصاح، عدوا لدودا والبيان
  لذلك، نحن لا نفهم لغة الطير.
               - عاطف خيري: الظنون :
3:
إضافة إلي ما لدي، حيث الجناح ردى، وهو نفسه سدى، والحنان الذي قاربه ليكون معني عميقا في الحياة، وفي مماته أيضا، وفيما رأه حميدا فيه، حيث يعيش معنا الحياة، في أطوارها جميعا، إضافة لهذا كله، فأن للطير لغة نعرفها ونفهمها، له أيضا مواضعه البصرية التي تراها العين ويستشعرها الوجدان الذكي، فتكون مرئية، نراها حين تكون حالاتها موسومة في العمل التشكيلي. هذه الرؤية التشكيلية، هي نفسها، الرؤية التي تشكلت في بصيرة ووعي الفنانة التشكيلية إيمان شقاق منذ زمن ليس بالقصير، حين إنتبهت أنا إلي تناولاتها العديدة لأحوال الطيور، وهي في فضاءات أطوارها جميعها وفي سمت التشكيل. وكيف، في ذلك الحال كله، رأيتهما معا، الفنانة وطيورها، وهما في تلك البرهة شديدة التوهج في عمق اللوحة، في اطلالتها أيضا. الطيور، عادة، لا تسأل، لكنها تعرف. ننتظرها حتي تكون في حال تحليقها أو لدي جلوسها، حين تجالس ملامح الوقت فتطفو نجوم السماء علي الشرفة، حين ترمي عينيها في طين الأرض أو في جسد الشجرة، فتزهر النباتات كزغب أطفال شقر يرتمون في اللون لئلا يتأخر ( الشكل ) عنها وعنا، ذلك في سمت اللوحة أيضا. تلك ظلالا وأضواء، مثلما أطياف تلتمع في عصبة اللون والخط والشكل. ترى، هل يبدأ سجال المفاهيم من هنا، من هنا بالذات؟! شيئا ما رايته هنا، يبرق مثلما حزمة ضوء، فيما بين الكتابة واللون في ارتعاشاته علي صفحة اللوحة. سألتها نفسي: هل الطيور تحيلنا، وهي في الجوهر من اللوحة، ولو بإشارة خفيفة وفي لطفها، إلي صاحب اللوحة، منشئها أعني؟! هذا صنيع الرسم بنا يا أبنة شقاق: فالنجوم تغدو، لدى الرسم، سلال لؤلؤ ( مسكوبة ) في ثنايا الجسد الرحيم للوحة، ومعلوما، للطيور ولنا، أن السماء زرقاء. هكذا، في كل مرة، كنت أراني، في تجوالي العديد، وتأملي في طيور إيمان، وجميعها، تلك اللوحات في حالات الطيور وجميعها بالأسود علي خلفيات بيضاء، ليلا يتقدم هنا أو هناك، لكنها طيورها السوداء والبيضاء، تضئ ليلها، تفعل ذلك وهي في تجليات أطوارها في ذات وقتها هي. تزيح عنها العتمة، ورويدا رويدا، تكون الطيور نفسها هي البؤرة الضوء، في برهتها هي. ويا أيتها التجربة، ماذا بمقدورك أن تفعلي للعين البصيرة، والأصابع القادرة، وهي من الخشية في الأبعدين!
لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تقول!

4:
إيمان شقاق، ترى وتكتب ما تراه.
(النداء الآخير)، هي لوحة الفنان إبراهيم الصلحي. زارتها إيمان شقاق، فكتبت رؤيتها عنها بالأنجليزية وترجمتها للعربية عزة نور الدين*. اللوحة عرضت بمتحف الشارقة للفنون كجزء من معرض ( مسيرة قرن: إضاءات من مؤسسة بارجيل للفنون )، وعرضت، إضافة لمقتنيات وأعمال من مؤسسة بارجيل، أعمال كمالا إسحق، حسين شريف، وأحمد شبرين. تقول إيمان إنها شرعت تزور اللوحة كل يوم تقريبا، وتقول: ( ألوانها خافتة بجانب سكون إيقاعها وأشكالها الدقيقة الرقيقة. أري أنها لوحة مليئة بالسكينة، علي الرغم من أنها تعج بالحياة، يمكن سماعها ومشاهدتها. ( النداء الأخير ) تشبه لمسة لطيفة، كما وأنها تجذب الناظر لها بهدوء ليكون بقربها. أغلب الكتابات التي قرأتها في ما يتعلق بهذه اللوحة كانت تعتني ب (القناع الإفريقي) في مركز اللوحة، وهي نقطة محورية، لا أنفي ذلك، لكني أود أن أذكر بعض المفردات الأخري التي تظهر في اللوحة، وأرى أنها مؤثرة بنفس المقدار )*.
رأت فيها طيورا أربعة مخبأة في متن اللوحة، لأنها سديم مخبأ في عزلته، وسرعان ما يلتهب في مواضع العتمة في ذلك الخبأ كله، فيغدو مرئيا وإن بشكل خافت، أو قل أنه خجول. سديم يتصاعد في هيئة ملائكة صغار من اللون والضوء وبعض عتمة، لكن ثمة ومضات نزاعات للإشارات، لكنها في غموضها الخجل، وأيضا تؤمض، تؤمض فتراها إيمان، توسع حدقتيها بقوة الوعي أو اللاوعي أحيانا، ثم تمد أصابعها، أصابع الرؤية عندها، محاولة الإمساك بطير ما، ( مخبي )، بقصدية من الرسام لا شك، لكنها تراه، مرة محلقة بخفة، ومرة جالسة بهدوء الطبيبة، وكأن الريش منها يلامس الجسد، وبصيرة إيمان هنا، بالذات هنا، تنسحب، بغتة، كمن مست جمرة من الجحيم، لكنها، في يقين بصيرتها، تري الطيور الأربعة المخبأة في لوحة الصلحي. حتي ترينا ما رأت، قسمت اللوحة إلي أربع أقسام هي مواضع الطيور ونظرتها. ولكن، تري ما هو مقصد مبتدع اللوحة، خالقها هي، بألوانها وطيورها، وهي في إختلاطها الغريب، كيف له أن يخبئ عنا، نحن الناظرون إلي اللوحة، تلك الطيور التي إعترضت رؤية إيمان وهي تنظر للوحة في برهة إكتمالها، أو لنقل في هيئتها حيث تركها الصلحي، مقدمها، لنا حتي نراها، ثم لتراها، أيضا، الفنانة إيمان فجعلتها في هذا الخلق الجديد؟!
كانت طيورها هي الرؤية في شأن الطيور، حين ظلت تنشر رسوماتها للطيور قبل نظرها وتأملها إلي لوحة الصلحي، طيورها، إذن، كانت هي رؤيتها إلي الطيور، طيورها هي رؤياها، كما رأيتها، تشكلت طيورها في مخيلتها، تشكيلا ورؤيا، حاضرة في وعيها الجمالي، أفق شاسع من إشارات وتأملات ويقينيات.
ولكن، ما هذه المواجهة العادلة فيما بين المادة واللون؟! لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تؤشر.
5:
شقاق، نزولا علي رغبتها في أن تجعلنا في رؤية لوحة الصلحي قسمتها إلي أربعة، كل قسم به طير أو طيور، رأتها هي ورغبت أن ترينا لها، فكتبت:
أ:
( عصفور دوري منزلي، هذه العصافير الصغيرة معروفة في السودان بأسم " طيور الجنة "، الذكور منها لونها يميل للحمرة، وباللوحة يظهر هذا العصفور المائل للحمرة بجوار القناع الأسود الصغير في وسط اللوحة. في بعض أجزاء السودان يعتقد الناس أن الشخص الميت يرجع علي هيئة عصافير الجنة إذا كان طيب السيرة ).
ب:
 تمضي شقاق لتقول عن الطير الثاني في اللوحة فتقول: ( في وسط اللوحة، وإلي الجانب الأيسر من الدائرة مركز اللوحة نري أن الصلحي قام برسم مبسط لطائر غينيا " جداد الوادي/ الدجاج الحبشي"،
أحتفظ بالرسم بزخارف الطائر الجميلة وتفاصيلها المعقدة والمحبوبة في آن. يظهر الطائر وكأنه يخرج عن الدائرة في منتصف اللوحة متجها لليسار وكأنه يكمل قوس الدائرة من هذه الجهة ).
ج:
 الطائر الثالث في اللوحة:( تظهر فيه حمامة صغيرة راقصة علي الجزء العلوي الأيمن من اللوحة، ذكرتني طفولتي، وقد كان لكل جدة، علي أقل تقدير وحسب من زرتهن، عدد من الحمامات الراقصة في أسراب الحمام الخاصة بهن. للحمام الراقص ذيل كثيف وريشات تغطي الأقدام، وتقف الحمامات، في أغلب الأحوال، بصورة فيها إعتداد، وتظهر حمامة الصلحي بنفس الوصف).
د:
تكتب شقاق رؤيتها للطيور الأخري في اللوحة:
( حمائم الحداد، وكما نسميها في السودان " قمرية أو قمري. تظهر واحدة بلون أزرق فاتح، واثنتين بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بخطوط رفيعة، جميعها تحط علي الجزء العلوي من النص المكتوب علي الزاوية اليمني من اللوحة ).
6:
 هكذا، قد عرفناها، رؤية شقاق للطيور كما في تصاويرها التي شرعت في رسمها، بدأب وحب، قبل أن ترينا طيور الصلحي في لوحته ( النداء الأخير )، ولست أدري، بعد، لماذا هو الأخير! الآن، وقد رأينا رؤيتها لطيورها هي، ثم لطيور الصلحي. تلك الطيور، جعلها الصلحي في جفون اللوحة، لم يضفي عليها الكثير من الألوان، بل أراها وقد جعلها في العتمة، رياشها ظلالها، والظلال تنحو إلي نجاة اللون إذ يغدو بعض شروق وضوء، لكنه هنا نراه خفيفا وهينا، فعلها الصلحي حين جعل طيوره في خجلها وسكينتها، ولكن، من أطلقها تحلق تحليقها في الفضاءات الوسيعات، وماذا رأت في اللوحة؟ تقول شقاق:( أري أن اللوحة تظهر السودان بصورة حميمة، وتحتفي بالحياة في احتفالها بالطيور، وتظهر مدي ارتباطنا بها. فالطيور من أكثر الحيوانات المحببة، وتظهر هذه المحبة في الأغاني العاطفية والوطنية وفي القصائد، اللوحات، وفي أغاني وألعاب الأطفال، في الأحاجي والكتابات النوبية القديمة والزخارف والتطريز، لنا معها علاقة قوية تتجاوز الحياة إلي الموت وما بعده. أنظروا اللوحة ربما عثرتم علي طيور أخري لم أذكرها)*. شقاق تشبثت بحريتها، ثم أخذت وضع القراءة والتأويل. السديم يحتدم في سطح اللوحة، ويضج في أعماقها العديدة، جلست هي في إنعطاف الريح، لكأنها غدت في مستوي عينين شاخصتين في وجهة الألوان وإشاراتها، وفي الإشارات، دائما، غموض ودثار محرق، نائيا ومتخفيا في العتمة، لكنه يود أن يكون مرئيا. وليس كل إنطباع شهقة صريحة للبوح والمكابدات، وللفتنة هنا، وجه الفنانة وقلبها، هما معا، بصيرتها المليئة بألوان الغابة بلا حياد ولا مواربة، تتماهي، في عمق رؤياها، برياش الطير واجنحة الفراشات وجنيات البحر والرمل والقواقع، عالم من الألوان. أحذري إذن، يا بنت شقاق، بقدرك المستطاع، جنة التقديس:
أريتنا ما رأيت
قلت ما تحبين لمن يستحقون.
في الولادة والحياة والموت
ثمة ذاكرة بصرية.
ولدي الطيور رأيت التجربة/ ليس من غير دلالة/ تلك العتمة المتوارية في الضوء الشحيح/ أنكشفت أطوار الطيور الآن.
هي تحية إذن، للفنان وللوحة وإليك، وللألوان منها نصيب، كلها الآن في الضوء!
لآ، لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، أننا سنراها.
---------------------------------------------
* الإقتباسات والإشارات من مقال إيمان شقاق، بملف ( الممر ) بجريدة السوداني الجمعة 21/9/2018م.