Powered By Blogger

الأحد، مارس 23، 2014

في يوم الشعر العالمي ، السودان يحتفي بأبي ذكري ...


أبو ذكري ، هو لا يريد الموت ، رغما عنه !*
------------------------                   


(
 سيجيء الموت

وستكون له عيناكِ

هذا الموت الذي يرافقنا

من الصباح إلى المساء،

أرِقاً، أصمّ

كحسرةٍ عتيقة

أو رذيلة بلا جدوى.

ستكون عيناك حينئذ

كلمات قيلت سدىً،

صرخةَ مكتومة، صمتاً ستكونان،

مثلما تتراءيان لكِ كل صباح

حين تنحنين على ذاتك

في المرآة.

في ذلك اليوم يا أملاً غالياً، نحن أيضاً سوف نعرف

أن الحياة أنتِ وأنكِ العدم.

 

يرتدي الموت نظرةً

لكل منا:

سيجيء الموت

وستكون له عيناكِ

سيكون له طعم التخلي عن رذيلة،

سوف يشبه رؤية وجهٍ مضى

ينبثق من المرآة،

 كما الإنصات إلى شفة مضمومة سيكون.

آنذاك

سوف ننزل إلى الهاوية بسكون. ) ...*



عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم الذي عرف في الناس بأسمه الأدبي " أبو ذكري " وشهر به ، نحتفي به هذا المساء في الظلال الوريفة لليوم العالمي للشعر ، وللشعر في الناس عندنا بريق وولع معلوم ، لكننا في حسرتان كبيرتان إذ نتذكر أبو ذكري ، حسرات الغمام اللطيف وهو يرحل في البياض الذي راوده عن نفسه و ... توغل في رؤاه ، حسرتان إذن : رؤيا الشعر التي صاحبته في كمونها ، في حرزه الشخصي فيهدهدها لتهدأ فتكون في دواخله مسا خفيفا وشذرات تبزغ بخجل العذروات وخفرهن في غفلة منه ، أو هو – بالأحري – يفلتها بغتة من بين يديه ولا حيلة له في إنفلاتها وتحليقها في جموحها المجنون ، وهي الجموحة عاشقة العنفوان والطلوع ، لو لم يوقفها برحيله الذي أجراه بنفسه لكانت لا شك أحدي أميرات شعرنا الجميلات ! أما حسرتنا الثانية إليه ، فقد وضع حدا مؤلما لمسار أكاديمي نابه في الترجمة والكتابة الثقافية ، أوقف ، بيده أيضا ، تلك الشعلة التي أوقد نورها بيديه القادرتين وعقله الذكي فأنطفأ ضوءها برحيله الذي أختار له أن يكون لغزا غامضا ومحرقا في الناس ! من المعلوم عن أبو ذكري ولعه في طلب الحرية ، بل والنضال من أجلها ، يفعل ذلك في حدود وجوده الذاتي وأن كان قد سار أحيانا إلي خارجه . والحرية لا تتحق بالذات وحدها ، وانما يكون تحقيقها بالآخرين ، فأن لم يكونوا حضورا مساندا لأجلها تصبح حريتنا جدبا وفقدا ومأساة ! لست هنا في مقام أن أبرر أنتحاره ، ولا أن أشجبه ، لكنني أسعي لأفسره علي ضوء لحظات الشعر التي كانت دائما في رفقة ذلك القلب النابه الذكي .
أبو ذكري ولد العام 1943 بقرية تنقاسي السوق بمركز مروي في الشمالية ، لكنه بسبب من تنقل أسرته درس الأولية والوسطي في كوستي والثانوي بخور طقت ومنها التحق بكلية الأداب بجامعة الخرطوم ، لكنه تركها ليلتحق بجامعة الصداقة بموسكو أيام الاتحاد السوفيتي العظيم وتخرج فيها بماجستير في اللغة الروسية وآدابها وكان قد سبق ونال دبلوم الترجمة بين الروسية والعربية العام 1971. ثم ما لبث أن عاد ليعمل أستاذا غير متفرغ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ، وعمل – في ذات الوقت – سكرتيرا للتحرير ومشرفا علي " مجلة الثقافة السودانية " 67 – 1978 ، وكانت " دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر " قد أصدرت له العام 1973 الطبعة الأولي لديوان شعره الوحيد " الرحيل في الليل " ، ومن بعد ، في عام 2001 قامت " دار عزة " بأصدار الطبعة الثانية للديوان . نال ، من بعد ، درجة الدكتوراه في فقه اللغة عام 1987 من أكاديمية العلوم بموسكو ، في 5 نوفمبر 1989 ألقي بنفسه من مبني الأكاديمة في موسكو ليلقي مصرعه متشظيا علي الرصيف ! الديوان يقع في 67 صفحة من القطع المتوسط ، ويحتوي علي 31 قصيدة كلها بلا استثناء كتبت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، خمس فقط من قصائد الديوان غير مؤرخة ، أما أحدثها كتابة ، بحسب الديوان في طبعته الثانية ، فقد كانت في العام 1973 ، والغريب في أمرها أمران : الأول أنه جعل لها عنوانا صادما " الرسو في كوكب الظلام " ، فمن غرائب أبو ذكري أن يجعل مرساه في كوكب ليس علي الأرض و ... أن يكون ذلك الكوكب كوكبا للظلام لا للشروق ولا للضوء ، أما الثانية فقد جعل القصيدة تفصح عن هواجسه ولما يراه من حوله ، تلك الرؤي التي تقلبت إليها شتي التأويلات في ما بين " فضائياته " التي قال بها بشري الفاضل وتلك التي تقصاها كمال الجزولي في كتابته البديعة عنه " نهاية العالم خلف النافذة " ، يقول كمال : ( ... لقد ظل أبو ذكري مشدودا دائما ، وبقوة روحية هائلة ، إلي الأعالي بكل ما فيها وما يحيط بها من مفردات ومعاني ، إلي السماوات والكواكب والفضاءات اللامحدودة التي كانت تشكل لديه المعادل الموضوعي للإنعتاق ، أو حلم الوجود المغاير الذي عاش يتحرق توقا إليه . ) *... وشيئا مثل ذلك قال به بشري وآخرون كثر مستندين في رؤياهم لتلك الإشارات اللوامع في ثنايا قصيدته ، فيما قالوه ، لا شك ، بعضا كثيرا من الحق ، لكنه ليس الحق كله في شأن مأساة رحيله و ... شعره ، وللحق فقد أعجبتني إشارة الجزولي في تقصيه حين ذكر : ( ... عاني باكرا سلسلة انهيارات عصبية وحالات إكتئاب وإرهاق وكانت صحته ضعيفة هشة . ) *، ليت كمالا سار خطوات في تقصيه حول حالته الذهنية والصحية ، لكنا قد حظينا بأسباب تتعلق بمزاجه الشخصي وذهنيته التي بدأت تختل عنه و تتفكك عراها رويدا رويدا . فقد تراي لي أن هنالك مرحلتان ، أو قل – أن شئت الدقة – حياتان تتجليان في مجموعة شعره التي بين أيدينا : الأولي في الستينيات والآخري في السبعينيات ، وبينهما ذلك التصاعد الحلزوني في تواتره الغريب وهو يأخذه من عنقه ، رويدا رويدا إلي مصيره الفاجع !
يقول ، مثلا ، في فترته الأولي في قصيدة " صباحية " * بتفاؤل وحب وأشراق :
( أضاء النور نافذتي صباح اليوم
  ودفق ماءه النوري والبلور تحت الباب
  فلم يلمح بأروقتي سوي تنهيدة الأشواق
  ويبصرني أحدق في الشبابيك التي تصحو
  لأسمع ثرثرات الناس حول موائد الأفطار ...
  هنيهتها أحس بلذة الدنيا ،
  تغلغل في ضلوعي ثرة حلوة
  ومن فرحي ...
  أكاد أعانق البصات والأسفلت
  وأسبح في أخضرار شجيرة تنمو
  أمام البيت ،
  وأغرق في ندي عيني
  فتاة حلوة العينين . ) ...

كتبها في يناير 1964 ، فتأملوا هذا الأشراق النوراني كيف أضاء إليه نافذته حين أندلق إليه بماءه النوري و ... البلور ، وكان هو في أشواق عظيمة تأخذه إلي حواف شبابيك بسطاء الناس وعتبات منازلهم ، وكيف أن لذائذ الدنيا تصبح في مواجده وأحاسيسه ، يحس لها فرحا وحلاوة حد يرغب في معانقة البصات والأسفلت ويسبح في أخضرار الشجيرات في نموها وحياتها المزهرة ، يسقط كامل لذته وفرحه أيضا في الندي الذي يراه في عيني فتاة حلوة ، قصيدة رشيقة فرحة تشي ببهجة الحياة ، لكأنه كان يطالع قواعد العشق التي قال بها الرومي جلال الدين . كان وقتذاك مقبلا علي الحياة ، غامرا عواطفه في مواجدها ، يحسها في قلبه وجسده ويعيشها رؤي مشرقة وبهيجة في الشعر ، بل نراه – تلك الفترة – يستزيدها ليجعلها وجها جميلا في قصيدته وفي حياته . وفي ظني أنه لم يعرف وقتذاك اضطرابا أو تشظي في رؤياه ولا في يوميات حياته المهنية ، كان مقبلا علي الحياة ، لم يعش ذلك الإحتدام العنيف الذي قال به أرك فروم موجبا للإنتحار ، الصراع بين الداخل والخارج وعدم الإلتفات للعوامل الحضارية الاجتماعية ، فقد كان أبو ذكري في تفاؤله من الحياة ورائيا نابها لتجلياتها وتداعياتها في إزدهارها ، وعينه علي المستقبل ، علي الغد الذي سيأتي بهيا جميلا إن كنا فيه عاملين عليه في نهوضه المأمول . دعونا نقرأ الآن ونتأملها " فتاة المطر " *، تلك الشذرة البديعة في تجليات رؤاه الشعرية ، كيف كان قلبه يفيض بعذوبة الحياة وفتنتها ، كتبها في الفترة البهيجة من حياته عام 1964 :
( لما تحولت إلي المكان
  توهجت فجأة منائر النيون
  وخارج المقهي توقف المطر
  توقف الحديث ...
  تجمد البراد في  منتصف الطريق للأكواب
  وفي السكون فرقعت زجاجة علي البلاط
  فإلتفت النادل ثم تسمرت عيونه ،
  صبية !
  الله لي ...
  الله يحفظ العيون المزهرة
  الله يحفظ الجدائل المنهمرة
  هذا الجمال والشباب ،
  بارك الذي خلق !
  وانحدرت في الليل هذه العيون
  تشقق السكون في المكان
  فاندفع الرواد تحت الخصل المسترسلة
  وإضجعوا علي عبير ثوبها المبتل بالمطر .
  ...   ...   ...
  ما هكذا ... ما هكذا !
  تكاد تجرح العيون رمشها المحتار
  وشعرها الذي أتي ليستريح
  من بكاء الريح والأمطار .
  فوجئ أن الريح ها هنا ...
  وها هنا الأمطار :
  الريح في المقهي تهب من كل اتجاه
  يحميك رافع السماء يا هذا السني التياه !
  الله لك !
  هذه العيون عن تحسس الدفء
  تكاد تذهلك !
  ...   ...   ...
  وانسحبت إلي المطر
  فانهمر السكون
  دقيقة ...
  والآن ،
  عاد للمقهي الضجيج والغبار
  فمسح النادل حبات من العرق ،
  وعاد يجمع الزجاجة المهشمة ...
  وإنتبه البراد من ذهوله ،
  فعاد يسكب الشايات
  في الأكواب
  وخارج المكان ،
إنهمر المطر ! ) ...

قصدت من وراء إيرادي للقصيدة كاملة أن نري ما فيها من ملامح سوية جميلة في جسدها ، وتلك القلائد التي علقت بلطف رقيق علي جيدها فبدت صبية عفية تفيض عذوبة وفتنة ، ضفائرها مفكوكة ومشرعة للريح والمطر وهي تطل علي المقهي ، وكيف قد غدا بهيا في حضرتها ، وهنا بالذات نستطيع أن نري كيف كان " مؤمنا " بخشوع وتبتل عميق وهو يبتهل لله أن يحمي ويصون ذلك " السني التياه " وهو في إنسراحه البهي علي الناس والأشياء والمكان ، نشوة تفيض فتجلل رؤياه بجمالها . ولاحظوا ذلك الحوار اللطيف بين الريح والمطر وخصلات شعرها ، بينها ودفء العيون التي " تكاد تذهلك " ، بينه والسكون إذ يغدو ضجيجا حبيبا بالحياة وهي تتجلي في الناس ، بينه والبراد والأكواب ، ولفرط إنبهارها تتراقص حد تسقط وتتهشم جراء فيوضات مواجدها مثلما الفراشات تتحرق في اللهيب توجدا ، وكيف سرعان ما عاد البراد من ذهوله " يسكب الشايات في الأكواب " ، و ... المطر في إنهماره يضفي للمشهد كله نداه وحيويته ويبلله ، لحظة عشق مزهرة ولوحة ملونة راقصة تشي بعشق للحياة وجمالياتها ، للناس وللمكان و .. للحبيبة ، تلك بعضا من ملامح شعره في ذلك الزمان الجميل من حياته الخصبة القصيرة . أرغب جدا ، وأظنني أقول بضرورة أن نري أبو ذكري إبان حياته ، علي ضوء شعره الجميل الذي كتب لأجل الحياة وفرحها ، لا في تلك العتمات التي شرعت تكسب شعره تهويمات سوداء تنفلت من بين أيدي الحياة ومهادها إلي حيث لا نبلغه ولا نطاله إلا بالموت ! اللغة عنده حرة ، منطلقة لكنها مطهمة ، سهلة القياد ، سهلة في سعيها وسهلة في مآلاتها ، أعني إنها بسيطة بعيدة عن التركيب والتعقيد والغموض الذي كان سائدا في قصيدة ذلك الزمان ، فرغما عن قدرته اللغوية والشعورية فقد إبتعد بقصيدته عن تلك المزالق ، فظلت رشيقة وراقصة . العام 1966 كانت قد بدأت تطل علي الأفق نذر ذلك الذي سيأتي فيذهب بالديمقراطية التي لم تدم إلا أربعة أعوام ، ستصبح ست حين يغتالها الإنقلاب العسكري للسفاح نميري وزمرته ... كانت الضوضاء قد شرعت في صليلها و في طنينها علي قول محجوب شريف " صه يا طنين البلبلة " *، أبو ذكري لم يفته سماع ذلك الطنين ، وكان يري مقدار البلبلة ، فكتب مطولته " بكائية في الضوضاء " *، لكنه لم يكن بكاء كما يشي به العنوان المخادع ، بل هو نداء وراية ونشيد جميل للنهوض وللمسير ، يقول في بعضها :

( لم تعرفي يوما سوي الحالم والبهيج
  فشاهدي وجهي يستقر في العجز وفي الشجن .
  ولو جلست للراحة فوق صدرك المريح ،
  إذن تحركين بالأصابع الحلوة قاع رغبتي
  وتفتحين في كل طريق هوتين
  وتطفئين أينما نظرت شعلتين
  عندئذ تحملني الرغبة فوق البحر والخليج
  أبقي هناك عاشقا أدخن الحب ...
  وألعن الزمن ،
  وتغلقين عينيك فلا يبلغني الضجيج ! ) ...

هكذا، بهذا القدر العالي من الوعي ، ومن أعماق الحب الذي يداخله ، نجده يكون في ذات ذلك " الحالم والبهيج " الذي تحبه هي ويكون فيه هو أيضا ، ولفرط غبطته يدعوها لتراه كيف أستقر وجهه منها في الخصر و ... في الشجن الذي غمره ، ثم يرتاح علي صدرها ، ثم راح يصور – بلغة العاشق ومواجده  -  كيف تتحرك أعماق رغائبه جراء ملامسة أصابعها ، تفتح إليه فوهات وثغرات في طريقهما ثم تغلقها وتطفئ ما أشتعل ، فلعله يكون الحريق هنا فتطفئه ليسري إلي حيث البحر ، حيث الماء مطهرا في الزمن الردئ وتكف عنه بعينيها الضجيج فلا يبلغه ! أكاد أراه هنا ، في هذه البرهة من حياته ، منغمسا وخائضا في بلبال قضايا الوطن ، وفي قضايا الحب والنضال ، ففي القصيدة تأمل عميق في أحوال الفقراء ، في معاشهم الفقير ومصائرهم البائسة ، وتحسرات محرقات لحالهم ، حد " جلد الذات " وسب الخانعون القاعدون عن نصرتهم ، تماما مثلما فعل الجواهري حين أستل سياطه يلهب ظهورهم بها ووجوههم ، أبو ذكري كان وقتذاك في قلب ذلك الوهج والعنفوان ، يمضي فيقول في ذات القصيدة :

( ... في حين يذوي الفقراء
  وتشهر الفاقة غداراتها السوداء
  تسقي الشحم والراحة
  من دماء ... ودماء
  في حين في أرواحنا تزدهر المهانة
  عندئذ ، فلا ...
  سوي البكاء البكاء
  ولو ضحكنا ...
  فهنا الخيانة ! ) ...

لكأن مقولة أرك فروم قد تجلت هنا ، فنراه في صف الفقراء ، في " صف الجوع الكافر / فالجوع أبو الكفار " علي قول مظفر ! ظل إبان تلك الفترة قريبا ، بفكره وبعواطفه ، لنبض أمته وقضايا وطنه ، لم هائما في الأعالي ولم تتلبسه أي تهويمات بعيدا عن القيم التي ظلت في ضميره ، لهذا ظل شعره تلك الفترة يلامس ويعايش قضايا الناس البسطاء الذين يحبهم ويدخلهم إلي حديقة شعره فينادمهم ويسامرهم ، يقول في قصيدة " حب الفقراء " *:

( يا أنت !
  إذا يوما جئت إذن لمضيت
  ففرشت الساحة ،
  فرقت البشري
  ورششت الديوان
  ووقفت أطل من الشباك
  تؤرقني عينان
  عينان أحس خلالهما فرح الزراع
إذا طاب الموسم ...
وندي الأشجار وفقفقة الأنهار
  لونهما الزيتوني يذكرني بالبيت ،
  وأوقات الشاي ...
  بصباح العيد
  بشتلات " الزونيا " ،
  وخلاوي القرآن .
  ...   ...   ...
و أفراحي ،
لو كانت هذي الدنيا ملك ذراعي
  لو أن جنود سليمان المردة ما زالوا أحياء
  لأمرت كريمة أن تترصدني بتلال القنديلة الرطب
  لجلبت العاج وأخشاب الزان
  وأمرت الكنداكات أن تأتي بأساطير العهد المروي
  وفجرت عيون الماء ليغسلنا تيار الماء
  فأصوغ قلادة شوق ...
أنظمها شعرا في الوجه القمري . ) ...

هل رأيتم كيف كان أبو ذكري إبان تلك المرحلة الزمنية من حياته وشعره محتشدا بالحياة في تجلياتها التي تسعي بين الناس ، وكيف كان هو نفسه محتشدا بحياة الناس البسطاء من حوله ، يحملهم – بكل تناقضات وصراعاتهم الضارية مع قسوة الحياة – إلي ضفاف قصيدته ؟ ذلك المنحي ذو الجدوي النبيلة هو ما جعلني – لأجل أبرازه في وجهه بالذات – كثير الالحاح في عرض نماذج من قصائد تلك الفترة الهامة من حياته ، فهي – في ظني – لم تنال أهتماما نقديا جادا بها بعد ، فقد رأيتم جل الكتابات ظلت تهطل تراوح في تلك الدائرة السوداء التي أخذت به إلي الفاجعة ، بل أنني أظن لو أنتبه إليه الناس في بدء مرحلته الثانية ، أي منذ بدايات السبعينيات لربما كان بمقدورهم أن يبعدوه عن ذلك المصير الفاجع ... تماما مثلما حدث لبهنس ، فقد نهضت إليه المراثي والحسرات والندب والبكاء بعد رحيله المؤلم بينما كانوا لا يبالون إليه وهو يسير حثيثا صوب مصيره الفاجع ، تري ، هل الفواجع وحدها هي التي تستوجب البكاء والحسرات وجلد الذات ؟ عند النظر إلي قصيدته وإلي الشعر ، لست أجدني من أولئك الذين يطبقون نهجا بعينه علي جميع النصوص الشعرية ويجعلون لذلك أسما يروجونه ... لكنني أري أن النصوص في ذاتها أغني وأعمق بكثير من المناهج أيا ما كانت وجهتها . فالمنهج " الجديد " ، في ظني ، لا يولد ولا يوجد أصلا إلا بسبب من ذلك النص الشعري الجديد نفسه ويحضنا إليه ، إلي نفسه هو بالذات ... فكل قصيدة ، وفق هذا المنظور ، تحتاج منهجا خاصا بها وحدها دون سائر النصوص ، منهجها هي بالذات لا سواها !
هكذا نظرت إلي قصائد الستينيات لدي أبو ذكري ، وبذات العين إلي مرحلته الثانية " السوداء " ، ولكل منهما وجهها وسماتها وملامحها التي تخصها هي دون سائر شعره ، وأكاد أري نقيضا بينهما لاتخطئه تلك العين ، أبدا لا يتشابهان ، لا في اللغة ، ولا في الصور ، ولا في دلالة المعني . 15 قصيدة هي جملة أشعاره المزهرة طوال فترة الستينيات ، وفي السوداء التي طوال السبعينيات 11 قصيدة . أما قصائده غير المؤرخة فهي خمس فقط كما ذكرنا وهي تشي بأنها تحسب في الفترة المزهرة . استنادا إلي هذا الفهم يمكننا القول  باطمئنان كثير  أن عوالم أبو ذكري الشعرية هي عوالم المثقف الذي لديه انتماء فكري لصالح الديمقراطية والتقدم والحرية ، لكننا  - للأسف العميق – نراه أحيانا كثيرة مترددا في المشاركة النضالية بكامل قدراته الذهنية والجسدية والشعريه ، فنراه وعلي ما عليه من تلك الحال يكثر من التساؤل ... يحلم ويهجس ، يحلم ويرتعب ويتأسي فيحزن وتعتم منه الرؤي ، وسرعان ما يعيش الواقع في صورة كوابيس مفزعات ، تلك حالته في مرحلته السوداء . بعضنا قد يقول بحق ، أن الواقع نفسه يغدو كابوسي الطبيعة ... ولكن المثقف المنعزل عن المشاركة النضالية لا يتبين في كثير من الأحيان الحدود الفاصلة بين الكابوس والحلم ، بين الاختلاط الايديولوجي الزائف ، والتمايز الطبقي الحاسم ، بين التقاعس والمهادنة والمسايرة وبين النضال الحقيقي ، بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون ، بين القيمة المثالية والواقع الحي المعقد الذي الذي يخالط حياة الناس ، بين المثال والضرورة ، بين الفكرة وممارسة تحقيقها ...  قد يحدث أحيانا أن يتمكن في لحظات خاطفة أن يعبر عن وعيه بهذه الحدود ، ولكن تعبيره يأتي عاطفيا ، هشا ويفتقد حيوية وتوهج البريق ، بريق ضوء المستقبل ، فلا يتيح له أن يعبر بحسم هذه الحدود ... لهذا نراه مترددا ، محلقا – محلقا عاليا أحيانا – بينهما، فيكون التأرجح عوضا عن الثبات ! فراح يلمنا ، في حزمات حزينة ، إلي سواده ، حتي الأصدقاء رأهم في سواده ذاك *:

( الأصدقاء القدماء
  يدفعوننا للإنتحار ...
  وأصبحوا لا يلهموننا الرغبة
  والصمود
  وعبثا نخدعهم بالإبتسام
  وبالعيون الضيقات ملؤها
  الشرود ...
  صاروا مساكين
  مضيعين دونما أسرار
  نضغط زرا فإذا الضحكة نفسها ...
  القصة نفسها
  النظرة نفسها ...
والإنكسار ! ) ...

لا شك أنه شرع هنا يدخل إلي حيث السواد والعتمات ، لا شك أنه يخطو منذ الآن صوب مصيره الفاجع ! أن الذين نخسرهم جراء رحيلهم هو خسران لنا ، وأن يكون الرحيل عن دنيانا إنتحارا فالخسارة هنا أكبر وأعدها إثما ، أهدارا ما كان له أن يكون للحياة ، ولكم كان أفضل لو بقي المنتحر علي قيد الحياة ، فالقضية ، أي قضية ، لا تستحق إهدار الحياة من أجلها ، وأسطع مظاهر الإهدار الآثم عندنا تتجلي في الإنتحار الجسور لأبو ذكري ، لأن الإنتحار هو عدوان تجاه الدواخل كما يقول فرويد ،  فالشعراء خاصة هم كائنات حساسة علي درجة عالية جدا منها ، تأخذهم رؤياهم المحرقة في جنونها أحيانا إلي فقدانهم الحياة لأنفسهم ، بمحض أرادتهم ، أو لنقل بمحض جنونهم ... ولكن السؤال الذي ظل يؤرقني هو ، لماذا لم ينتصر الأكاديمي علي الشاعر في حالة أبو ذكري ، وقد كان أقوي و أسطع وأكثر ذكائا ونبوغا ؟! وربرغم ذلك كله فسوف تظل قصيدة أبو ذكري تتبوأ مكانا مرموقا في شعرنا ، وستظل أيضا معني جميلا وإن بدأ حزينا للمعاناة من أجل الفن والحرية في ذاكرتنا الشعرية وفي حياتنا الثقافية ، وستظل ضميرا حيا يلهب أحساسنا بالمسئولية كلما واجهنا شعرا جديد ، وما أكثره هذه الأيام ، حتي لا تتكرر المأساة ، مأساة الموهبة التي يقتلها الجهل أو التنكر أو تخلخل الذهن وتشتته حد الضياع ، فيبدو لي أن أبو ذكري قد قرع الأبواب ، قرعها بشدة تلك الأبواب التي لا تفضي إلي شئ علي قول مارسيل بروست .
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
هوامش :
* العنوان من قصيدة لدرويش حول خليل حاوي الذي انتحر بالرصاص في6 / يونيو / 1982:
  ( الشاعر افتضحت قصيدته تماما
    هو لا يريد الموت ،
    لا ... ، هو لا يريد الموت
    رغما عنه ،
    وثلاثة خانوه :
    تموز
    وإيقاع
    وأمرأة
    فناما ...
    هو لا يريد الموت ،
    لا ... لا يريد الموت
    فناما
    الشاعر افتضحت قصيدته تماما ... ) .
* الشاعر الايطالي تشيزاري بافيزي ( 1905 – 1950 ) ترجمتها جمتنة حداد عن الايطالية واختارت عنوانها للأنطولوجيا حول
  الشعراء المنحرقين في القرن العشرين .
* " أبو ذكري ، نهاية العالم خلف النافذة " كمال الجزولي ، دار تراث ودار العلوم بالقاهرة 2005 .
* " الرحيل في الليل × عبد الرحيم أبو ذكري ، دار عزة للنشر والتوزيع السودان ط أولي 2001 .
* " السنبلاية " محجوب شريف ، دار عزة للطباعة والنشر الخرطوم 1998 .
** ملحق توضيحي :
- قصائد فترة الستينات المزهرة : ( صباحية / فتاة في المطر / الطريق / موت الغريب علي الخليج ، في رثاء السياب / المساكين /
 الحصار / السياج / الهزيمة / حانة علي الطريق / بكائية في الضوضاء / مكة في الليل / سهرة في الشارع / أكتوبر 1964 / غربة / حب الفقراء . ) .
- قصائد فترة السبعينيات السوداء : ( دفء هذا المساء / القناع / البوابة والدم / الرحيل في الليل / الحزن حزنان / الرسو في كوكب الظلام / الحكماء الثلاثة ، صياغة لحكمة صينية / أشياء لا تقال / في الفاجعة / قسوة / دعاء بعد اليقظة من المنام . ) .
- قصائد غير مؤرخة يرجح إنها تنتمي لفترة الستينيات المزهرة : ( ليس عن الحب / ليلة شتائية / هدهدة / هدية / كن قبيحا . ) .
* هذه الكتابة قدمت في احتفالية يوم الشعر العالمي مساء الجمعة 21 مارس 2014 بدار اتحاد الكتاب السودانيين بالخرطوم وهي الفعالية التي نظمها الاتحاد بالتعاون مع منتدي مشافهة النص الشعري ومركز علي الزين الثقافي وجماعة عمل الثقافية واشتملت علي فقرات متنوعة في الغناء والموسيقي وقراءات شعرية أضافة لهذه الورقة ، وانعقدت الإحتفالية احتفاء بذكري الشاعر الراحل عبد الرحيم أبو ذكري .