Powered By Blogger

الأحد، أكتوبر 21، 2018

أكتوبر، يوميات الثورة في الشعر والأدب والفنون.



أكتوبر ، يوميات الثورة  في الشعر وفي الفنون *...
-------------------------------------------------

" لا حجر أثمن
  من الرغبة في الثأر للبرئ .

  لا سماء أسطع
  من صباح يسقط فيه الخونة .

  لا سلام علي الأرض
  إذا إغتفرنا للجلادين ! " .
                                - إيلوار -

في البدء ، كانت الثورة حلما في ضمير المناضلين ، غدت فيهم سعيا في العنفوان حين بذروا في قلوب الشعب بذارها . ثم غدت أغاني وأناشيدا ورؤيات ، صارت أشواقا في الناس ثم رأيات و أسلوب كفاح . بدأت – بفضل تخطيط الحلم وبذل طاقات النفوس والأجساد ونهوضها - تشكل وجهها بالذات ، وجه الثورة التي تنشد منازلة وقهر الديكتاتورية وقهرها وتحقيق الحرية والديمقراطية والسلام للوطن . لقد قالت الآداب والفنون بنبوءة الثورة ، بل هي هيأت المناخ الشعبي وجعلته في النضال ضد الديكتاتورية وفي طلب الحرية ، ثم غدت تعبيرا فنيا صادقا عما يجري في وجدان الشعب من رؤي جديدة في القيم والأفكار . أكتوبر لم تكن ، فقط ، مجرد أهداف وطنية وديمقراطية عامة ، وانما هي ثورة تمتد إلي أعماق حياتنا الاجتماعية بكل ما يضطرب فيها من قيم ومفاهيم وما تشتمل عليه من فئات وعلاقات اجتماعية ، ففي المدينة والريف والأسرة والمصنع والحقل والنقابة والجمعية والمدرسة تجارب اجتماعية جديدة ، وبين تلك الفئات الجتماعية المختلفة من عمال ومزارعين ومثقفين وموظفين وأصحاب أعمال وأصحاب مهن حرة وملاك ورأسماليين ، تجارب اجتماعية جديدة ، تجارب عاطفية وتجارب أخلاقية وتجارب معيشية وتجارب فكرية فيها الحب وفيها البطالة وفيها التحرر وفيها القيم الجديدة للعمل والسعادة ، وفيها المقاومة والنضال ، وفيها التطلع إلي فسفة جديدة للحياة ، وفيها الاشكال الجديدة للعلاقات الاجتماعية ، وفيها الصراع الحاد بين القديم والجديد ، بين المتخلف والمتقدم بين الجمود والحركة ، من هذه التجارب جميعها ، ومن جميع وجوهها تتخذ الثورة مظاهرها الاجتماعية ، وهذا بالضبط ما بلورته ، بشتي الوسائل والمظاهر ، ثورة أكتوبر المجيدة ، لقد بشرت وسعت لتحدث إنقلابا كاملا في بنية المجتمع ومنظومة القيم المصاجبة لها ، وهذا أيضا ، ما جعل القوي التقليدية ، وكل قوي اليمين قد أحتشدت لمناهضتها وإجهاض شعاراتها النبيلة ، هذا ما كانت عليه ملامح الثورة ، وهذا ما وجد تجلاياته البراقة في سمت الآداب والفنون جميعا . ومما يعد من إحقاق الحق لوجه التاريخ أن نقول إن الحزب الشيوعي السوداني هو أول من إبتدر ونادي بشعار الإضراب السياسي والعصيان المدني لإسقاط ديكتاتورية الجنرال عبود ، بل هو أول من شرع للنضال مبادئ وشعارات وللمقاومة أدواتها وأسلحتها المجربة ، كان النواة في رحم الحلم ، والشعار الذي الذي تسامي وتنامي وأشتد حتي قهر الديكتاتورية بتلك الثورة الفريدة في عالمنا . حين أتأمل وجه ومسار ثورة أكتوبر ينتابني إحساس عميق بأن الثورة قد بدأت – أول ما بدأت – وجها حالما في الشعر ، ومن الشعر طلعت الأغاني والأناشيد والموسيقي ونهوض المسرح و التشكيل ، كل ضروب الإبداع " الإكتوبري " تناسلت ونمت وازدهرت و تعالت من بؤرة الحلم ، من الشعر الذي كان يحدس بالثورة ويرهص بإنتصارها و ... يغني للغد الأجمل .

جامعتان كانتا في حلم الثورة ، في شعرية المعني :

هما جامعة الخرطوم ، المنارة التي إندلع منها بالذات لهيب الثورة ، ليلة تلك الندوة السياسية ذات العنفوان التي في معمعانها أستشهد القرشي أول وأنضر شهداء الثورة الباسلة ، ليكون ، من بعد ، طوفان الثورة الذي هدم صروح الديكتاتورية. ثم جامعة القاهرة فرع الخرطوم التي شكلت سندا وعضدا للثوار في نهوضهم الأول حتي تكرست للثورة الحشود الهادرة التي لم يوقف مسيرها إلا الإنتصار . كان الشعر حاضرا فيهما ، ملهما ومحرضا علي الثورة ، كان فيهم الشعار والساعد والرؤيا ، وكان الحلم فجرا يلوح بالخلاص ، لهذا نهضت الفنون كلها لتكون في صف الشعر ، في وجهة نهوض الحلم الذي سيصبح واقعا تجلي في ملاحم وملامح أيام الثورة كلها .  لقد بات من المعلوم إن الفنون جميعها التي نقلت ينابيع قدراتها إلي الأرض قد شهدت علي مر التاريخ الإنساني إنها يتوجب عليها أن تكون في صف الجماهير ، في وسطهم وتعمل لأجل سعادتهم وكرامتهم وحرياتهم و تغني ، معهم ، للغد الذي سيكون جميلا مثلما هو في شروق آمالهم وأشواقهم المزهرة . فقد لا يختلف الناس في أنه لا ينتقص من قيمة الجمال أن يخدم الحرية ، وأن يعمل علي تحسين حال الجموع البشرية ، وإن الشعب المتحرر ليس قافية رديئة ، فالجدوي الوطنية أو الثورية لا تنتزع شيئا من الشعر ، علي قول فيكتور هيجو . فالثوري ، الذي هو أيضا فنان وشاعر يؤمن أنه يوما بعد يوم يفسح الشقاء والبؤس مكانه للفجر . فلا يمكن للإنسان ، الذي هو القيمة الأعلي في الوجود أن ينكر قيمة عواطفه مهما بدأ من قلة جدواها في عمليات الإنتاج ، أو من مخالفتها أحيانا للروح الإجتماعية . لقد قام الشعر ، في نهوضه الجسور ، بصناعة رايات ثورة أكتوبر وصياغة ملاحمها الباسلة وعضد النضال ضد الديكتاتورية وقدم أدواته كلها لتكون في معية معاول التغيير ، لقد كان صانعا – من بين كل صناع الثورة – لملامح المستقبل في وجدان شعبنا . أقول بكل ذلك عن شعرية الثورة ، في المعني والدلالة ، ولا أغفل بالطبع تلك العوامل المشهودة في مسار الثورة من تحشيد منظم لقوي الثورة والديمقراطية في إصطفافها خلف رايات الثورة وشعاراتها وتكريس النضال جملة حتي غدا الجوهر من ديناميكية الثورة ومساراتها جميعها ، والدور البالغ الأهمية لقوي التغيير  الحضرية " التي كانت بحق وقود الثورة وشعلتها . ويبقي السؤال : ماذا بقي في ضمير شعبنا من تلك الثورة الرائدة ؟

دروس الثورة :

رغم الأخفاقات الموضوعية التي أعقبت إنتصار الثورة ، فقد غدت ، كما يقول د . محمد محمود ، " مرادفة في الوعي السياسي للسودانيين للتخلص من استبداد الأنظمة العسكرية وتحقيق الديمقراطية ، ورغم خيبة الأمل التي أعقبتها فإن قيمتها كأهم حدث ملهم بعد الإستقلال تبقي حية وملهمة " .
" و ... لسه بنقسم يا أكتوبر
  لما يطل في فجرنا ظالم " ...
من جملة دروس أكتوبر ، قد ظل تحريض الشعب علي الثورة ضد الطغيان درسها المهم والأساس ، مقدمة نضالية متوهجة في وجدان الشعب وقيمة عالية وملهمة في مسيرة شعبنا صوب التحرر والتقدم والديمقراطية والسلام . والقصيدة قد غدت سجلا حافلا بتلك القيم النبيلة للثورة . فلم يغفل ، إلا القليل الذي لا يأبه به ، ذكر مآثر الثورة والتغني بامجادها وقيمها التي ترسخت ، من بعد ، في ضمير شعبنا ، نبراسا ينير الدروب ويلهم الشعوب و ... يناديها صوب المستقبل . كانت ، إذن ، أكتوبر حاملة الآداب جميعها والفنون في تنوعها إلي وجهة المستقبل . وكم سعدت حين رأيت الأستاذة الشيوعية النابهة ثريا محمد سعيد تشرع في إعداد دراستها لنيل الماجستير عن " الإكتوبريات " ، وبشغف المحب الذي يأمل أن يري سجلا شعريا وفنيا وافرا لأكتوبر ، ظللت أتابع خطواتها وهي تعد تلك المآثرة غير المسبوقة في التوثيق ،بوجوه الشعر الأكتوبري عند محجوب شريف وحميد والقدال وكجراي ومحمد محي الدين  وغيرهم وغيرهم  وهي ، أيضا ، تلتقي بكمال الجزولي وبكمال عبد الكريم ميرغني وبمحمد المهدي بشري وهم من المعدودين في ذاكرة الثورة ولهم فيها مآثر مكتوبة، وليتها تكون في لقاء محمد المكي إبراهيم و صاحبي الجميل مبارك بشير ، ومبارك حسن خليفة ، وتستكمل سجلها الإبداعي فتلتقي أيضا هاشم صديق وفضل الله محمد والطاهر إبراهيم وفضل الله محمد وغيرهم ، وتتعرف علي الأشعار الأكتوبرية لدي عبد المجيد حاج الأمين والطاهر إبراهيم ومصطفي سند ومحجوب سراج ومحمد يوسف موسي وغيرهم ، ثم إلي حداة الثورة من المغنين ، محمد الأمين وأبو عركي الذي كتب بنفسه عن الثورة وتغني بها ، والكابلي وأم بلينه السنوسي ، وصلاح مصطفي وخليل إسماعيل ، فلم يتأخر عن ركب الثورة من الشعراء والفنانين إلا من تنكب طريق الثورة فغدا في العميان الذين لا يرون من الوطن والشعب إلا السهي و اللغو البعيد عن جادة الحياة . نعم ، كانت أغاني الثورة وأناشيدها تزحم الأفق بالألق المشع وبالحماسة وحب الوطن ، كان المسرح حاضرا ، التشكيل كان حاضرا ، الموسيقي والغناء حاضران ، وبجانب الشعر ، وهوفي تجليه العالي ، علينا أيضا أن نبحث عن وجوه وملامح أكتوبر في القصة والرواية ، فتلك الأعمال جميعها ، الأدبية والفنية ، منها ما كتب قبل الثورة ، فكانت إرهاصا ونبوءة إليها ، ومنها ما كتب إبان عنفوانها وتجلياتها وهي قيد الإنتصار ، ثم منها ما كتب بعد إنتصارها المجيد ، لأبد ، إذن ، لابد من السعي لإعداد درس وتقص ليكون " سجلا " حافلا لتجليات ثورة أكتوبر في حقول الآداب والفنون جميعها ، سجلا جليلا يكون حاضرا لأحد أهم الأحداث علي مر تاريخنا المعاصر . رائعة ود المكي و وردي الخالدة ، وجها وسجلا للثورة المجيدة تعد إلي جانب رصيفاتها من الأناشيد الملهمات ، من التاريخ الشعري للثورة جليلة القدر في إفصاحها عن يوميات الثورة :


" بإسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب
  إيمانا وبشري
  وعلي الغابة والصحراء يمتد وشاحا
  وبأيدينا توهجت ضياء وسلاحا
  فتسلحنا بأكتوبر ،
  لن نرجع شبرا
  سندق الصخر حتي يخرج الصخر لنا
  زرعا وخضرا
  ونرود المجد حتي يحفظ الدهر لنا
  إسما وذكري .

  بإسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني
  والحقول إشتعلت ...
  قمحا ووعدا وتمني
  والكنوز أنفتحت ...
  في باطن الأرض تنادي
  بإسمك الشعب إنتصر ...
  حائط السجن إنكسر
  والقيود إنسدلت جدلة عرس في الأيادي .

  كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل
  كان عبر الصمت والأحزان يحيا
  صامدا منتصرا
 حتي إذا الفجر أطل
 أشعل التاريخ نارا فإشتعل .

  كان أكتوبر في غضبتنا الأولي
  مع المك النمر
  كان أسياف العشر
  ومع الماظ البطل
  وبدم القرشي ...
  حين دعاه القرشي
  حتي إنتصر " ...

التحية و المجد لأكتوبر ، ولشعبنا " المعلم " في ذكري ثورته الخالدة الملهمة .
---------------------------------------------------------------------------
* ثورة أكتوبر السودانية 21/ أكتوبر/ 1964م، التي أطاحت بدكتاتورية الجنرال عبود.

السبت، أكتوبر 13، 2018

طيور إيمان شقاق، ورؤيتها للوحة الصلحي.






طيور إيمان شقاق، رؤية تشكيلية للوحة الصلحي!
-----------------------------------------------
1:
( الطيور مشردة في السموات،
  ليس لها أن تحط علي الأرض،
  ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح!
  ربما تتنزل...
  كي تستريح دقائق...
  فوق النخيل- النجيل- التماثيل-
  أعمدة الكهرباء
  حواف الشبابيك والمشربيات
  والأسطح الخرسانية.
  ( اهدأ، ليلتقط القلب تنهيدة،
    والفم العذب تغريدة،
    والقط الرزق.. )
  سرعان ما تتفزع..
          من نقلة الرجل،
          من نبلة الطفل،
          من ميلة الظل عبر الحوائط،
          من حصوات الصياح!
              ***   ***   ***
القصيدة، لربما لا يسعها، كلها، هذا الحيز الذي نكتب فيه الآن، لكن، ما تناوله أمل دنقل في قصيدته عن أحوال الطيور وأطوارها، يجعلنا، لمحض الفهم، أن نورد خاتمة قصيدته، برغم أهمية ( لوحات ) القصيدة بالغة الدلالة والمعني، يستطرد أمل فيقول:
( والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس،
  مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها..
  فانتخت،
  وبأعينها.. فارتخت،
  وارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح
  ما الذي يتبقي لها.. غير سكينة الذبح،
                          غير انتظار النهاية.
  إن اليد الآدمية.. واهبة القمح
  تعرف كيف تسن السلاح!
  ***   ***   ***
الطيور.. الطيور
تحتوي الأرض جثمانها.. في السقوط الأخير!
والطيور التي لا تطير..
طوت الريش، واستسلمت
هل تري علمت
أن عمر الجناح قصير.. قصير؟!

الجناح حياة
والجناح ردى.
والجناح نجاة.
والجناح.. سدى!
        - قصيدة: الطيور، أمل دنقل -

2:
( وللطيور في حنانها مسلك فريد.
  هي صورته في الفضاء، وشكله الذي ارتضاه حين
  يحن إلي التحليق.
  وللحنان في البشر عدد من المنازل،
  في الطير منزلة واحدة يولد العصفور عليها
  ويموت،
  اذ أن الطير حاذق وله من البصيرة ما للأنبياء،
  بل قل فوق ذلك. ولولا الخوف من الشرك
  والإلتباس
  لأطلق الفقهاء لفظة ( حنان ) علي كامل قبيلة
  الطير.
  والطيور في رحلة من الحنان لا تنقطع،
  حتي لقد شحب لونها ودقت ملامحها وصار
  صوتها إشارة.
  هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش.
  والأولي- أي الغربة – ما هي إلا البيت الذي
  استأجره الحنان في قلب الكائن الحي.
  ومن أراد رؤية الحنان لبرهة،
  انتظر حتي يقع عصفور في شرك، فأسرع
  ونظر عينيه.
  ***   ***   ***
  والحنان حين يشتد وتستعر أسبابه ودواعيه،
  يقف حائلا والإفصاح، عدوا لدودا والبيان
  لذلك، نحن لا نفهم لغة الطير.
               - عاطف خيري: الظنون :
3:
إضافة إلي ما لدي، حيث الجناح ردى، وهو نفسه سدى، والحنان الذي قاربه ليكون معني عميقا في الحياة، وفي مماته أيضا، وفيما رأه حميدا فيه، حيث يعيش معنا الحياة، في أطوارها جميعا، إضافة لهذا كله، فأن للطير لغة نعرفها ونفهمها، له أيضا مواضعه البصرية التي تراها العين ويستشعرها الوجدان الذكي، فتكون مرئية، نراها حين تكون حالاتها موسومة في العمل التشكيلي. هذه الرؤية التشكيلية، هي نفسها، الرؤية التي تشكلت في بصيرة ووعي الفنانة التشكيلية إيمان شقاق منذ زمن ليس بالقصير، حين إنتبهت أنا إلي تناولاتها العديدة لأحوال الطيور، وهي في فضاءات أطوارها جميعها وفي سمت التشكيل. وكيف، في ذلك الحال كله، رأيتهما معا، الفنانة وطيورها، وهما في تلك البرهة شديدة التوهج في عمق اللوحة، في اطلالتها أيضا. الطيور، عادة، لا تسأل، لكنها تعرف. ننتظرها حتي تكون في حال تحليقها أو لدي جلوسها، حين تجالس ملامح الوقت فتطفو نجوم السماء علي الشرفة، حين ترمي عينيها في طين الأرض أو في جسد الشجرة، فتزهر النباتات كزغب أطفال شقر يرتمون في اللون لئلا يتأخر ( الشكل ) عنها وعنا، ذلك في سمت اللوحة أيضا. تلك ظلالا وأضواء، مثلما أطياف تلتمع في عصبة اللون والخط والشكل. ترى، هل يبدأ سجال المفاهيم من هنا، من هنا بالذات؟! شيئا ما رايته هنا، يبرق مثلما حزمة ضوء، فيما بين الكتابة واللون في ارتعاشاته علي صفحة اللوحة. سألتها نفسي: هل الطيور تحيلنا، وهي في الجوهر من اللوحة، ولو بإشارة خفيفة وفي لطفها، إلي صاحب اللوحة، منشئها أعني؟! هذا صنيع الرسم بنا يا أبنة شقاق: فالنجوم تغدو، لدى الرسم، سلال لؤلؤ ( مسكوبة ) في ثنايا الجسد الرحيم للوحة، ومعلوما، للطيور ولنا، أن السماء زرقاء. هكذا، في كل مرة، كنت أراني، في تجوالي العديد، وتأملي في طيور إيمان، وجميعها، تلك اللوحات في حالات الطيور وجميعها بالأسود علي خلفيات بيضاء، ليلا يتقدم هنا أو هناك، لكنها طيورها السوداء والبيضاء، تضئ ليلها، تفعل ذلك وهي في تجليات أطوارها في ذات وقتها هي. تزيح عنها العتمة، ورويدا رويدا، تكون الطيور نفسها هي البؤرة الضوء، في برهتها هي. ويا أيتها التجربة، ماذا بمقدورك أن تفعلي للعين البصيرة، والأصابع القادرة، وهي من الخشية في الأبعدين!
لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تقول!

4:
إيمان شقاق، ترى وتكتب ما تراه.
(النداء الآخير)، هي لوحة الفنان إبراهيم الصلحي. زارتها إيمان شقاق، فكتبت رؤيتها عنها بالأنجليزية وترجمتها للعربية عزة نور الدين*. اللوحة عرضت بمتحف الشارقة للفنون كجزء من معرض ( مسيرة قرن: إضاءات من مؤسسة بارجيل للفنون )، وعرضت، إضافة لمقتنيات وأعمال من مؤسسة بارجيل، أعمال كمالا إسحق، حسين شريف، وأحمد شبرين. تقول إيمان إنها شرعت تزور اللوحة كل يوم تقريبا، وتقول: ( ألوانها خافتة بجانب سكون إيقاعها وأشكالها الدقيقة الرقيقة. أري أنها لوحة مليئة بالسكينة، علي الرغم من أنها تعج بالحياة، يمكن سماعها ومشاهدتها. ( النداء الأخير ) تشبه لمسة لطيفة، كما وأنها تجذب الناظر لها بهدوء ليكون بقربها. أغلب الكتابات التي قرأتها في ما يتعلق بهذه اللوحة كانت تعتني ب (القناع الإفريقي) في مركز اللوحة، وهي نقطة محورية، لا أنفي ذلك، لكني أود أن أذكر بعض المفردات الأخري التي تظهر في اللوحة، وأرى أنها مؤثرة بنفس المقدار )*.
رأت فيها طيورا أربعة مخبأة في متن اللوحة، لأنها سديم مخبأ في عزلته، وسرعان ما يلتهب في مواضع العتمة في ذلك الخبأ كله، فيغدو مرئيا وإن بشكل خافت، أو قل أنه خجول. سديم يتصاعد في هيئة ملائكة صغار من اللون والضوء وبعض عتمة، لكن ثمة ومضات نزاعات للإشارات، لكنها في غموضها الخجل، وأيضا تؤمض، تؤمض فتراها إيمان، توسع حدقتيها بقوة الوعي أو اللاوعي أحيانا، ثم تمد أصابعها، أصابع الرؤية عندها، محاولة الإمساك بطير ما، ( مخبي )، بقصدية من الرسام لا شك، لكنها تراه، مرة محلقة بخفة، ومرة جالسة بهدوء الطبيبة، وكأن الريش منها يلامس الجسد، وبصيرة إيمان هنا، بالذات هنا، تنسحب، بغتة، كمن مست جمرة من الجحيم، لكنها، في يقين بصيرتها، تري الطيور الأربعة المخبأة في لوحة الصلحي. حتي ترينا ما رأت، قسمت اللوحة إلي أربع أقسام هي مواضع الطيور ونظرتها. ولكن، تري ما هو مقصد مبتدع اللوحة، خالقها هي، بألوانها وطيورها، وهي في إختلاطها الغريب، كيف له أن يخبئ عنا، نحن الناظرون إلي اللوحة، تلك الطيور التي إعترضت رؤية إيمان وهي تنظر للوحة في برهة إكتمالها، أو لنقل في هيئتها حيث تركها الصلحي، مقدمها، لنا حتي نراها، ثم لتراها، أيضا، الفنانة إيمان فجعلتها في هذا الخلق الجديد؟!
كانت طيورها هي الرؤية في شأن الطيور، حين ظلت تنشر رسوماتها للطيور قبل نظرها وتأملها إلي لوحة الصلحي، طيورها، إذن، كانت هي رؤيتها إلي الطيور، طيورها هي رؤياها، كما رأيتها، تشكلت طيورها في مخيلتها، تشكيلا ورؤيا، حاضرة في وعيها الجمالي، أفق شاسع من إشارات وتأملات ويقينيات.
ولكن، ما هذه المواجهة العادلة فيما بين المادة واللون؟! لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تؤشر.
5:
شقاق، نزولا علي رغبتها في أن تجعلنا في رؤية لوحة الصلحي قسمتها إلي أربعة، كل قسم به طير أو طيور، رأتها هي ورغبت أن ترينا لها، فكتبت:
أ:
( عصفور دوري منزلي، هذه العصافير الصغيرة معروفة في السودان بأسم " طيور الجنة "، الذكور منها لونها يميل للحمرة، وباللوحة يظهر هذا العصفور المائل للحمرة بجوار القناع الأسود الصغير في وسط اللوحة. في بعض أجزاء السودان يعتقد الناس أن الشخص الميت يرجع علي هيئة عصافير الجنة إذا كان طيب السيرة ).
ب:
 تمضي شقاق لتقول عن الطير الثاني في اللوحة فتقول: ( في وسط اللوحة، وإلي الجانب الأيسر من الدائرة مركز اللوحة نري أن الصلحي قام برسم مبسط لطائر غينيا " جداد الوادي/ الدجاج الحبشي"،
أحتفظ بالرسم بزخارف الطائر الجميلة وتفاصيلها المعقدة والمحبوبة في آن. يظهر الطائر وكأنه يخرج عن الدائرة في منتصف اللوحة متجها لليسار وكأنه يكمل قوس الدائرة من هذه الجهة ).
ج:
 الطائر الثالث في اللوحة:( تظهر فيه حمامة صغيرة راقصة علي الجزء العلوي الأيمن من اللوحة، ذكرتني طفولتي، وقد كان لكل جدة، علي أقل تقدير وحسب من زرتهن، عدد من الحمامات الراقصة في أسراب الحمام الخاصة بهن. للحمام الراقص ذيل كثيف وريشات تغطي الأقدام، وتقف الحمامات، في أغلب الأحوال، بصورة فيها إعتداد، وتظهر حمامة الصلحي بنفس الوصف).
د:
تكتب شقاق رؤيتها للطيور الأخري في اللوحة:
( حمائم الحداد، وكما نسميها في السودان " قمرية أو قمري. تظهر واحدة بلون أزرق فاتح، واثنتين بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بخطوط رفيعة، جميعها تحط علي الجزء العلوي من النص المكتوب علي الزاوية اليمني من اللوحة ).
6:
 هكذا، قد عرفناها، رؤية شقاق للطيور كما في تصاويرها التي شرعت في رسمها، بدأب وحب، قبل أن ترينا طيور الصلحي في لوحته ( النداء الأخير )، ولست أدري، بعد، لماذا هو الأخير! الآن، وقد رأينا رؤيتها لطيورها هي، ثم لطيور الصلحي. تلك الطيور، جعلها الصلحي في جفون اللوحة، لم يضفي عليها الكثير من الألوان، بل أراها وقد جعلها في العتمة، رياشها ظلالها، والظلال تنحو إلي نجاة اللون إذ يغدو بعض شروق وضوء، لكنه هنا نراه خفيفا وهينا، فعلها الصلحي حين جعل طيوره في خجلها وسكينتها، ولكن، من أطلقها تحلق تحليقها في الفضاءات الوسيعات، وماذا رأت في اللوحة؟ تقول شقاق:( أري أن اللوحة تظهر السودان بصورة حميمة، وتحتفي بالحياة في احتفالها بالطيور، وتظهر مدي ارتباطنا بها. فالطيور من أكثر الحيوانات المحببة، وتظهر هذه المحبة في الأغاني العاطفية والوطنية وفي القصائد، اللوحات، وفي أغاني وألعاب الأطفال، في الأحاجي والكتابات النوبية القديمة والزخارف والتطريز، لنا معها علاقة قوية تتجاوز الحياة إلي الموت وما بعده. أنظروا اللوحة ربما عثرتم علي طيور أخري لم أذكرها)*. شقاق تشبثت بحريتها، ثم أخذت وضع القراءة والتأويل. السديم يحتدم في سطح اللوحة، ويضج في أعماقها العديدة، جلست هي في إنعطاف الريح، لكأنها غدت في مستوي عينين شاخصتين في وجهة الألوان وإشاراتها، وفي الإشارات، دائما، غموض ودثار محرق، نائيا ومتخفيا في العتمة، لكنه يود أن يكون مرئيا. وليس كل إنطباع شهقة صريحة للبوح والمكابدات، وللفتنة هنا، وجه الفنانة وقلبها، هما معا، بصيرتها المليئة بألوان الغابة بلا حياد ولا مواربة، تتماهي، في عمق رؤياها، برياش الطير واجنحة الفراشات وجنيات البحر والرمل والقواقع، عالم من الألوان. أحذري إذن، يا بنت شقاق، بقدرك المستطاع، جنة التقديس:
أريتنا ما رأيت
قلت ما تحبين لمن يستحقون.
في الولادة والحياة والموت
ثمة ذاكرة بصرية.
ولدي الطيور رأيت التجربة/ ليس من غير دلالة/ تلك العتمة المتوارية في الضوء الشحيح/ أنكشفت أطوار الطيور الآن.
هي تحية إذن، للفنان وللوحة وإليك، وللألوان منها نصيب، كلها الآن في الضوء!
لآ، لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، أننا سنراها.
---------------------------------------------
* الإقتباسات والإشارات من مقال إيمان شقاق، بملف ( الممر ) بجريدة السوداني الجمعة 21/9/2018م.

الخميس، سبتمبر 27، 2018

عاطف خيري ومحسن خالد، لم يكونوا أبدا في مهارب المبدعين!







عاطف خيري ومحسن خالد، لم يكونوا أبدا في مهارب المبدعين!
* تعقيبا علي مقال سيد أحمد إبراهيم.
------------------------
( أعرف الآلهة
  تلك النصوص التي
  يصبونها في رؤانا
  كما الزئبق المستثار
  كأن النهار هو الليل،
  هل نحن فلك تائهة؟!)...
                      - قاسم حداد -


في الملف الثقافي لصحيفة ( الميدان )، الخميس 30 أغسطس 2018م بالعدد
( 3447 )، نشر الأستاذ سيد أحمد إبراهيم مقالا بعنوان (المبدع السوداني، بين الهروب والهروب المصادم)، تناول فيه، إستنادا، علي ما أظن، إلي بعضا مما أورده النور حمد في كتابه ( مهارب المبدعين، قراءة في السير والنصوص السودانية). النور قال قوله كله تقريبا في وجهة رأها عند بعض مبدعي الجزء الشمالي من سودان وادي النيل، تمظهرت لدي محمد سعيد العباسي ( 1880م-1963م )، والشاعر الناصر قريب الله( 1918م-1953م)، الذين رأي انهما قد توجه هروبهما صوب البادية، ثم محمد أحمد محجوب ( 1908م-1976م ) والشاعر محمد الواثق (1936م-2014م)، وقد رأي عندهما هروبا في وجهة
)الأنثي الأجنبيه)، علي حد ما قال به بشأنهما، ثم جعل من الشاعر محمد المهدي المجذوب ( 1918م-1982م ) هو ( الهارب الأعظم ) وفي وجهات عديدة رأها عنده! ثم تناول في الفصل الثاني من الكتاب، لكن بتركيز أقل، ظاهرة ( الهروب ) لدي التجاني يوسف بشير ( 1912م-1937م )، ولدي معاوية محمد نور(  1909م-1941م) وكذلك لدي إدريس جماع ( 1922م-1980م ) علي تفاوت فيما بينهما مما رأه عندهما، لكنه نظر إلي كل هؤلاء الذين قرأ لديهم ( هروبا )، بهذا القدر أو ذاك، من منظوره الخاص المحصور بنظره إلي الهروب وفقا لمعتقده بالفكر الجمهوري الذي جعل منه مسربا وحيدا لرؤياه تلك، التي أراها أنا، قراءة (ضيقة) ليست في الشمول ولآ في البراح الموضوعي الفسيح. ( الهروب )، أيا ما كانت وجهته، يعد من الأمور غير ( الحميدة ) في سلوكيات الناس ومواقفهم، حتي وأن كان، هذا الهروب، في وجهة ( النجاة ). فالنجاة، من بين بعض وجوهها، لربما قد تكون حياة، برغم إنها، دائما، لا تكون نجاة، ولكن، هل حقا، تكون حياة، وأي حياة!

عن المهارب والهاربين عند النور حمد:

أصدر د. النور حمد كتابه: ( مهارب المبدعين، قراءة في السير والنصوص السودانية ) عام 2010م ط. أولي في 380 صفحة من القطع المتوسط عن دار مدارك- القاهرة/الخرطوم. من المعلوم، والمقروء، في مسار الثقافة السودانية أن هنالك العديد من الكتابات التي تناولت اطروحاتها علاقة النخب السودانية بالواقع اليومي المعيش، و( فشل ) هذه النخب في المساهمة الجادة في إدارة وتشغيل عمليات التغيير في المجتمع وصولا به إلي الغد الديمقراطي الحر وإشاعة العدل والحريات والسلام والسيادة الوطنية. ثيمة كتاب النور جعلها تكمن، في جوهرها بالذات، في مصطلح ( الهروب من الواقع )، تلك سمة وملامح ونسق الكتابة كلها، وفشت فيها، من جميع وجوهها التي تناولها، روح الإنسحاب من مواجهة تحديات القضايا الجليلة لشعوب السودان وللوطن الكبير. وفقا لرؤياه تلك، تناول ما رأه في سيرة وأعمال بعضا من مبدعينا وقد نال منهم إعياء وإرهاق الحياة فجعلهم في تلك المهارب، يذهبون، جراءها، بعيدا عن قضايا وهموم شعوبهم، بل أنهم، إيغالا منهم في تلك المهارب، يلجأون إلي ذواتهم وإلي تلك المخابئ المعتمة لمنابع إبداعهم، يلتمسون منها أضواءا وشروقا يرافق إبداعهم ومواهبهم. ما تناوله النور في كتابه هو، في ظني، نظرات وتأملات، لكنها أيضا، في واقع أمرها الذي بدت عليه، ( إدانات )، بهذا القدر أو ذاك، أرتقت لتكون جراحات ذوات نزيف لأؤلئك اللذين جعلهم النور، وتلك رؤياه، في زمرة الهاربين. والهاربون هنا، كما قراءتهم في اطروحة النور، هم اللذين إبتعدوا وتخلوا، طواعية، عن النضال الواقعي، ثم إلتحقوا بمواكب السلطان وإن ( سكتوا ) عن سوءاته وجرائمه. وهنا أيضا، تلك، مما أراه ( مغالاة ) وشططا في حقهم. لكن، لربما لأجل ( التخفيف ) عن محمولات القول ومدلولاته، يقول النور:( ليس هذا الكتاب مجرد رصد لأحوال الهرب والهاربين، وإنما هو محاولة لمعرفة القوي التي تعوق الطاقات الخلاقة، وتخلق حالات الانسحاب وسط ذوي الطاقات العقلية والوجدانية الكبيرة. )*. ولكن أيضا، برغم ذلك كله نقول، أن النور، حاول واجتهد أن يكون في صف قلقهم الوجودي وحقيقة احاسيسهم الروحية والمادية، بل نقول أيضا، أنه قد تعاطف معهم، ومع مواقفهم وهي في تجليات إبداعهم، ولم ينحاز إلي أي ( إنحراف ) وجده عندهم، لربما لأجل تلك ( القراءة بمحبة )، التي قال بها الطيب صالح يوما! هذا ما عن لنا أن نوضحه في هذا الشأن، ولكن، ماذا عن ما جاء به سيد أحمد إبراهيم في مقاله الذي أشرنا إليه؟
عن غربة عاطف خيري ومحسن خالد:
هي غربة، أينما قلبتها علي جميع وجوهها، هي غربة، توهان في دوامات تكاد لا تستقر علي حال وهي في بلبال دورانها الذي لا ينتهي، دخول، غير واع، إلي حقول الميتافيزيقا التي تمسك بخناق من يكون فيها، تأخذه من عنقه فلا تفلته إلا لتسلمه إلي دوامة أخري، هكذا، بلا أي أمل أو رؤيا للخلاص، تلك مصائرها وصيرورة من تشاء أقداره أن يكون في محاورها ومحارقها! غربة عن الواقع، مفارقة لحقائق الحياة في تجلياتها المادية المحسوسة، وموضوعيتها التي غدت من وجوه العلم والمعرفة التي انتجتها البشرية علي مر تاريخها وسيرها صوب الحقيقة التي يدعمها العلم والتجربة والبرهان. لآ، ليست ( هروبا ) علي أية حال مثل الذي قال به النور أو أسقطه سيد أحمد إبراهيم علي حال عاطف خيري، وهو أيضا، ليس ( تقية ) ينحوا بها صوب السلامة للنفس، ولا هو ( هروب ) من مواجهة الجلاد وعسسه وأجهزة أمنه، ليس خشية من إعتقالات أو سجون أو تضييق علي الرزق، فعاطف عاش كل عمره الشعري مناضلا ومنافحا، بالشعر، لأجل قضايا شعبه كلها. الذي حدث، لعاطف ومحسن، هو جناية التفسير الخاطئ للقرآن، ودخولهما إليه دون أن تتوفر لديهما المعرفة والفكر الذي يعصمهما من هذا الإنزلاق الخطير إلي هوة ليس لها من قرار! نورد، فيما يأتي، تفصيلا لما أوردهما هذا المصير، وليتضح لنا، من واقع ما جري، أنهما، معا، ليسوا من زمرة الهاربين، وليس فعلهما ( إنسحابا ) إلي دواخلهما، كما تصوره سيد أحمد، فهما، بوعي متدن، نشدوا ( خلاصا )، لهما ولأمة المسلمين، فكان اللجوء إلي الدين، بشكله الذي رأيناه عند كل منهما. أما إلي متي؟ ذلك رهينا بمراكمة وإتساع المعرفة عندهما، ورهينا، لربما، بالزمن أيضا!

بداية الوهم/ التوهان، وإعلانه في الملأ:

في يوم الجمعة 23/1/2015م، نشر عاطف خيري علي مدونته في النت بيانا بعنوان:( سيناريو البحث عن الشعر )*، بإشارة إلي عنوان ديوانه المشهور(سيناريو اليابسة ). في ذلك البيان أبدي خيري ندمه وأسفه، بل وأعلن (خيبته) فيما يتعلق بأشعاره في دواوينه التي نشرها في السابق:( سيناريو اليابسة 1995م )، ( الظنون 1998م )، ( تشجيع القرويات 2006م ). يعتذر خيري عن تناول شعره للمقدس ( الديني ) كما جاء به القرآن والحديث، تلك الإشارات الشعرية اللطيفة التي أعلت، من ضمن سياقات أخري بالغة القيمة، من مقام شعره وموهبته العالية. فقال:( عشرون عاماً منذ الكتاب الأول: سار بين الناس وأبلى في صداقتهم، ومن باب تجويد الصحبة القول بأنني ما عدتُ أطرب لرؤية مراكب سيناريو اليابسة ترفع الكلفة بينها وبين سفينة سيدنا نوح عليه السلام، وأرى في تلك الحيلة شعرا قليلا، ولعل ما ظللنا نبحر به لم يكن سوى مراكب الخوف، ذلك رمزها، ولها أن تتوهم، بعيدا عن تلك المباشرة، شبهاً بينها وبين السفينة الأم. وأرى النأي عن ما تفعله أيامُـنا هذه بالدين ورموزه المقدسة بلاغة العارفين.)*!
 
كان خائفا إذ يفعل ذلك، بل كان، علي حد قوله، يتوهم شبها بين تلك الرموز المقدسة وبين إشاراته الشعرية إليها، وعد ذلك مما لا يجوز أن يكون في الشعر، فنأي، بنفسه، وجر معه، شعره أيضا، إلي حيث يكون شعره، الذي سيأتي، إن أتي، متصالحا مع هذه الرموز فيجعلها في النأي عن تلك الرؤي تزري بالدين ورموزه! هكذا، بمحض إرادته، أدخل نفسه وشعره ورؤاه، إلي تلك المفازة بما يكتنفها من تهويمات و ( هلوسات ) و رؤي مفارقة تماما للواقع الماثل في تجلياته المادية التي يسندها ويبرهن علي مقولاتها العلم الذي كرسته البشرية دربا ومسارا لمستقبل العالم وهو يخطو صوب التقدم والإزدهار. يقول خيري:( ولعلها جاهلية واعدة في سيناريو اليابسة كما في الظنون، وما زالا، بعد التنقيح والعناية بالأغصان الزائدة، يرويان طرفا من تلك القيلولة والله المستعان. أعلم عن كرم الشعر أنه يجود بالمهالك، وأعجب لمن يرجو منه خيرا، وأعجب لمن يبالي، عند الطمأنينة، بالتخلي عنه، وأرثى لحالي.
 ........
 لماذا بذلتُ الحذر أثناء استدعاء ما هو مقدس ؟ راقني هذا التقشف، بعد كدح فاتن، جاهلا وغاضبا وباحثا عن ذات: حذفت الذي حذفت غير مشفق على مقصد أو قصيدة.
 ذلك عزم قديم: طموحه الذهاب بسيناريو اليابسة ليأكل ناره بعيدا عن الغابة المأهولة، ولن يبتعد قيد أنملة، ذلك قدره، لكنه يظل يقدح في جدوى الشعر، شعره، يدنو من المقدسات أكثر مما يجب، فإن رأيتني أفعل فلا تتبع من أنفق ما يربو على الأربعين سنة سالكا البعيد والمقفر إلى البديهة.)*! يقول قوله هذا، وهو يقوم بمحو أجزاء واسعة من شعره، ويستبدل مفرداته بتلك التي لها ظلالا دينية وميتافيزيقية، ثم يستغفر الله عما فعله بشعره!
وأما محسن خالد، فقد قذف بإبداعه كله، دفعة واحدة، إلي جب النسيان، نسيانه هو، وهلوساته هو، بعد أن أسرع بالدخول إلي ذات متاهة خيري، لكنه صار في دوامات الطلاسم التي لا يفهمها أحدا غيره. يكتب محسن مثلا:( العاشر من صفر، الموافق 22 ديسمبر، عيد الشهيد نبي السلام، هابيل)*؛ وهي الكتابة التي اعلن فيها رؤية ابوكاليبتكية للعالم (
apocalyptic) تنبأ فيها بنهايات له تبدأ من كنيسة "اللد" في انجلترا. ولم يلبث ان اعلن فيها نبوته وانه النبي الطائر والمهدي المنتظر:(إنّني هِبَة البارئ، المهدي المنتظر، المهدي أي التائب إلى ربّه، والنبي الطائر، المؤيَّد بنار اليشب وبمذراة الحياة والطاقة، وريث السيّد المسيح عليه السلام، المأذون بإحياء الموتى والطيران وفعل الخوارق، من سيؤمُّ المسلمين في المسجد الأقصى. ومَن أسماه السيِّد المسيح بـ(المُدَلَّل عند ربّه) المعجّنو ربّو)*! ثم، من بعد يعلن نفسه يحيي بن زكريا ويعمد نفسه النبي والمهدي المنتظر، فيكتب:
( يحيى بن زكريا هو المهدي المنتظر، جدول قيام الساعة.
احَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏( 2‏)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏( 182‏)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏( 65‏)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏( 46‏)
ما هو القلم؟
هو مقام الرحمن .
مقام ربنا وحبيبنا الرحمن اﻷعلى ‏( 40+1+100+40‏)
أربعة درجات + أربعة درجات، سبع درجات، ست درجات، ست درجات
وفيم تجلَّى مقام الرحمن وهو مقام اﻷعلى، تجلّى في أسماء الرحمن الحسنى
وعددها 54 اسماً، لهذا السبب ارتبطت وراثة اﻷرض والقيامة والساعة بسورة
القمر التي رقمها 54، وما كان لسورة القمر ولكل سور الخلق أن تكون لوﻻ
هذا التجلي لمقام الرحمن في أسمائه الحسنى. التي تجلت بدورها في الرحمة.
فما هو القلم إذن؟
هو شركات اﻻتصاﻻت العالمية التي يديرها حزب الشيطان في أرضنا ‏( ص‏) هذه
كلها، من البلد اﻷمين " ما سموه بالسودان ."
واﻻتصاﻻت في العالمين كلهم 68 أرض تُدار بمقام الرحمن، من اﻷرض ‏( ص‏)
حيث البيت المعمور الذي حكم منه يحيى العالمين.
هذا ما يعرف بمقسم السودان، راجعه في اﻻنترنت وستكتشف أن كل العالم عبدٌ
لمقام الرحمن، الرقم ‏( 40‏) . فبقية اﻷرقام في بقية اﻷراضي، وتتوزع بحسب
أسماء الرحمة التي سأعود لتبيانها إن شاء الرحمن.
سأعود لتبيان اﻷمر، ﻷنهم حينما انقلبوا على الحكام بأمر الرحمن آل عمران
بدؤوا بالإستيلاء على القلم، مثلما كل الإنقلابات تبدأ بالسيطرة على اﻹذاعة
والتلفزيون، وﻷن إعلان النبأ العظيم لن يكون من سودانيز أون ﻻين وإنما للعالم
كله، باسترجاع الرحمن لحُكمه إلى من أوكلهم به، وﻷن حرب الفتح قد بدأت
فعلا، هم يعلمون وطائراتهم "طائف الشيطان" تحلق فوق القلم، البيت الذي
يدَّعون أنه ﻷخي، وهو مركز القلم، لن يعمل من دون سيد اﻻسم - يحيى .
واسترجاع القلم يتلخص في السيطرة على شركتي اﻻتصاﻻت
سوداني -الذكر - يحيى‏( 05‏)، والتي اسمها في كتاب الرحمن يحيى .
وشركة زين -اﻷنثى‏( 09‏) - واسمها في كتاب الرحمن زينب.)*!!

 هكذا، بهذه ( الخطرفات ) التي هي، في ظني، محض هلوسات ورؤي ( مريضة )
تعبث بمخيلته وتشوش عليه وعيه كله فتدخله إلي هذا المقام الذرئ لتجعل من حياته ( عبثا ) لا يستقيم مع واقع حال وطنه وشعبه وأحلامهما في الغد المزهر الذي ينشدانه، فيكون منهما في ( الغربة ) الأسيفة التي لا حياة فيها ولآ أمل!
فمن هو ذا، الذي بمستطاعه الآن، أن يخرجه من هذا الكابوس المريع يا كمال الجزولي ويا فضيلي جماع؟! هذا أمر جلل، وفادحة عظيمة الخطر بحق هذا الإنسان وبحق موهبته وإبداعه الذي كان!
ونمسك، هنا، قصدا،عن الخوض في شأن روايته:( تموليلت المغربية السحاقية )، والأخري:( احداثيات الإنسان – الرجل الكلوروفيل )، التي صدرها بقوله:( أبلغ الأرض حين ينطقها معول، وأبلغ المرأة حين ينطقها عضو الرجل )!، ولا عن مقالته:( أمثالنا السرية ومفاتيح ثانية ) التي حزفتها إدارة موقع سودان فور أوول جراء كلماتها وتعابيرها ( الفاحشة ) وما أحدثته من ردات فعل واسعة مستهجنة ورافضة لمقالته، مناشدة إدارة الموقع بحزفها، وقد فعلت! محسن ترك كل ذلك خلفه وهرول مدخلا نفسه ورؤاه إلي ذلك النفق المظلم متدثرا بأسوأ ما جعلته التفاسير الشائهة من هلوسات حول الإسلام!
ولنا أن نسأل، ما الذي حدث لهما، وما الدافع لكل هذا الإغتراب؟!

غياب الوعي، هاوية للسقوط:
إنها مرحلة كاملة ماتزال مستمرة، من القلقلة والتأزم والتردي والتفكك والإنهيار، تكاد تكون علي مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمفاهيمية والذوقية والأخلاقية وحتي القيمية، وفي مثل هذه الحالة، أخذت تسود فيها حالات اليأس والإحباط والإغتراب وفقدان الإتجاه السياسي والفكري والقومي، حد أن حوصرت إرادات المقاومة والتجاوز والتخطي، وفعلت نفس الشئ لبعض الإتجاهات العقلانية/ العلمية والديمقراطية والتقدمية. في مثل هذا الحال، وفي مثل عصرنا الراهن، الذي أخذت تسود فيه الفوضي والهيمنة الرأسمالية بتجلياتها العديدة في مجالات السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، وتسعي، السعي كله للإمتداد إلي المجال الثقافي بهدف تنميطه وتطويعه لخدمة أهدافها ومصالحها، تستشري الاتجاهات اللاعقلانية المتزمتة والمتعصبة لرؤاها وتصوراتها المعادية للديمقراطية وللتفتح والإزدهار الإنساني، ثم،:( فإننا حين نضع المعرفة الدينية في مقابل المعرفة العقلية، فإن كل ما نفعله هو أننا نضع العقل أمام نفسه. لكن المؤسف هو أن الشطر الأعظم من التعامل مع التعبيرات الدينية في تاريخ الناس إنما جري صرفه لجهة كونه شيئا لا علاقة له البتة بالعقل. وتاريخ تعامل السودانيين مع التعبيرات الدينية والتفاسير التي تهمهم ليس استثناء من ذلك )*. يصبح للشعر، إذن، في حال خيري، وللرواية في حال محسن، بطبيعتهما الزمنية التاريخية الإنسانية، إلي جانب الاشكال والتعابير الأدبية والفنية والثقافية الأخري، دور تاريخي كبير في التوعية والتنوير والمقاومة. بالطبع، لا يتأتي ذلك إلا لمن يمتلك الوعي المعرفي الكافي للدخول في شرف هذه التجارب الإبداعية والمساهمة، بجسارة، في تطويرها لأجل الإرتقاء بالوعي الجمالي والفكري للشعب علي جميع مستوياته. الوعي، إذن، هو( الفقد ) الفادح، بالغ القسوة، الذي قاد كليهما، خيري ومحسن، لكيما يكونا في تلك المتاهة التي، آآمل ملء قلبي، أن يغادراها بأعجل ما يكون، إلي ضفاف الحرية والإبداع، عوضا عن ذلك الملجأ، الذي غدا سجنا ونفقا مظلما، بعيدا عن الحرية والسلام النفسي والرؤيا الإبداعية الخلاقة!
-----------------------------
هوامش:
* ( مهارب المبدعين... )، النور حمد- ص ( 343 ).
* ( سيناريو البحث عن الشعر )، عاطف خيري – مدونته علي النت:
atifkairy.blogspot.com/2015/01/blog-post_23.html  
* المصدر نفسه.
* المصدر نفسه.
* محسن خالد، كتاباته علي هذا الموقع في النت:
sudaneseonline.com/board/85.html
* المصدر نفسه.
* المصدر نفسه.
* د. فتح الرحمن التوم الحسن: مجلة الحداثة، العدد(10) يونيو2018م،
  ص ( 51 ).



( الميدان )*: تحية لأربعة وستين عاما من الحياة.


*الميدان: تحيَّةٌ لأربعةٍ وستين عاماً من الحياة*
جابر حسين
^^^^^^^
باقةُ الإنسانية هذه
غير المسبوقة قط،
الضرورية بالكامل:
(الميدان):
حبرٌ وعرقٌ و... دَم
مزدانةٌ بالبهاء!
مسيرةٌ هادرةٌ صوبَ البحر
تحتَ رايات الشعوب،
صِدقاً ونبلاً وانتماء!
فيا للصحيفة...
تجمع بين التعقيد الحدَاثيّ في السطح،
والوضوح البسيط/ الذكيّ
في الشعار!
في دوزنة أناشيد الراهن،
وتشييد معمارٍ بديعٍ للشعوب
يُدرِجُ المحسوسَ بالمجرَّد الفلسفيّ
بالعاميّ والفصيح،
والرمزيّ بالتصويري...
جسدٌ من الحيوات يُدهِشُ العالم
ويضيءُ القلوب!
أناسٌ يُوقِدُونَ الشموع
يُهرولونَ في الغَسَق،
ميمِّمِينَ صوبَ الصحيفة،
في الدروب العصيّة خلفَ الحقيقة،
وعصر الانتماء...
قالتها،
وكتبتها (الميدان):
بوسعِ الكلمات أن تسقي ظمأ الأرض،
بوسعِهَا أن تَتَأمَّل حَقلَهَا الذي تحبّ،
فيُسَارِعُ سَهلُهَا
إلي إخفاء نقائصنا.
و ...نقائضنا!
حتى تعثُرُ كلُّ الحناجر على البهجة،
في كلِّ ما خَلَّفه الحزب الخالد!
الآن،
في المؤسسة المضاءةِ بالشموع،
وبالسطوع،
بعد 64 عاما على قيامها بتحريرنا،
من الزمن الرديء وعَبَثِهِ!
فما تَرعَاهُ اليوم هو وَجهُنا
الذي أَشرَقَ بضياءِ هذه الشامخة،
المهرة الفتية الجامحة!
تحثُّ الخطى صوبَ خبايا المستقبل،
وتضيء الدروب،
لغدٍ أبهى وأجمل!
والآن ....،
إذ تتبادل الأنخاب مع أوطانها،
نحتفظُ لها بمجد السنوات،
على مدى حُلمِنَا،
على الفقر والعسف،
وزهو الممكنات!
ويتردد صوتها:
نبعاً ونافورةً!
شكراً لكم،
منحتمونا الفرح في الرعويات الحزينة،
والبهجة في محاكاة صوتٍ عظيم،
وفتنة أثيرة!
شكراً لكم،
بعد حينٍ يكونُ الطقسُ في اختيار الولادة،
والحجارة ذات النشيد الممتد،
والأصوات الواعدة،
والرؤية الأكثر أشراقاً،
والنظرة النابهة!
الآن يتسلُّلُ النثر والشعر العظيم إلى ملامحنا،
والنحل الذي شَرِبَ ضوء الشمس،
أمتصَّ الرحيق.
فيا للبريق!
يميطُ الظلام فنسمع ونرى،
نبرات الهتاف،
في البلاد الوسيمة،
ونبصر الضوء في رحاب
تجاربنا الحديثة؛
و...(كأسك) يا وطن،
وآخر نخبٍ إليها،
إليكم
للحزب،
وللبلاد الكبيرة!
------------------------------
* ( الميدان ): صحيفة الحزب الشيوعي السوداني الناطقة بإسمه.

الأحد، سبتمبر 02، 2018

في رحيل حسين عبد الرازق وأمين مكي مدني!



حياتهما كلها نضالا لأجل الإنسان، هناك بالصحافة، وهنا بالقانون.
هما معا في الخلود: حسين عبد الرازق وأمين مكي مدني!
-------------------------------------------------------


يكفيهم،
يكفيهم جدا
أنهم كانوا و يكونوا.
ذلك أبعد وأعمق من الكلمات،
لآ نخاف الظلمات والظلم،
في العتمات
وفي الضوء نراهم
تحت ظلال الرايات.
نسألهم،
اليوم وغدا...
يجيبوننا بالأناشيد السماويات!

يومان حزينان، الخميس الماضي والجمعة، هناك في المستشفي العسكري بالمعادي بالقاهرة، رحل عن عالمنا مساء الخميس 30/8/2018م، الشيوعي الكاتب والصحافي والسياسي حسين عبد الرازق، وفي الغد من يوم الجمعة، 31/8/2018م،بينما كان يواري جثمانه بمقبرة مسجد عمر مكرم، هنا، في الخرطوم، في ذلك النهار الهادي الدبق، رحل أيضا بمستشفي فضيل بالخرطوم عالم الحقوق وداعم حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية د. أمين مكي مدني! كلاهما، بوعي وإصرار ومثابرة، كرسا حياتهما لأجل قضايا الإنسان الجليلة في تحقيق الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، في صف الفقراء والكادحين وضد الديكتاتوريات قاهرة الشعوب. حسين جعل نضاله الجسور عبر الصحافة والسياسة، الصحافة التي غدا معدودا من أعمدتها الشاهقة. وأمين، أختار لنضاله أن يكون عبر القانون والحقوق، وقد صار منارة علمية وقانونية ضخمة في النضال ضد الديكتاتورية في وطنه السودان وفي العالم، أبدا لم ينحني لجلاد أو ينكسر حتي وهو يعاني قسوة الأنظمة وقمعها وسجونها، حتي صار في العالمين إشارة وعلامة عالية، علي المستوي المحلي والأقليمي والعالمي. هكذا، في برهة، مالحة وجارحة، في ليلتين متتاليتين، رحلا عنا إلي حيث البياض، فياللمفارقة ذات الدلالة والمعني الكبير!

حسين عبد الرازق.
حسين عبد الرازق عبد الجليل أحمد، ولد في 4/11/1936م لأسرة متوسطة الحال بمحافة أسوان. تعلم في كتاب القرية وحفظ القرآن كاملا، ومنها أنتقل إلي التعليم المدني حتي حصل علي شهادة البكالوريوس في العلوم التجارية ( المحاسبة والإدارة والاقتصاد )عام 1984م من جامعة الزقازيق فرع بنها.
حسين شارك في تأسيس حزب التجمع عام 1976م، وكان أول أمين للقاهرة في الحزب وعضواً بالأمانة العامة، وساهم بدور كبير في ٱنتفاضة الخبز في يناير 1977، واعتقل مع العشرات من القيادات العمالية والطلابية والنقابية والسياسية، وكان كتابه عن تلك الانتفاضة أهم ما كتب عنها لما تضمنه من وثائق ووقائع وأحداث، بما فيها الوثيقة التاريخية لحكم البراءة الذي أصدره القضاء المصري بحق كل المتهمين في القضية، كما اعتقل مرة أخرى في 29 مارس 1981م في قضية الحزب الشيوعي المصري، وصدر له العديد من الكتب المهمة أبرزها كتبه حول تجربة جريدة الأهالي، وحول (الأحزاب المصرية - حزب التجمع نموذجاً) وحول دور اليسار في مقاومة التطبيع.
تولى حسين رئاسة تحرير جريدة الأهالي في فترتها الذهبية من 1982م حتى 1987م، وخاضت الجريدة في عهده معارك صحفية متواصلة ضد الفساد والاستبداد والاستغلال والاحتكار، ودفاعاً عن مصالح العمال والفلاحين وكل الكادحين وحقوقهم في الحياة الإنسانية الكريمة، وعن الحريات السياسية والنقابية والثقافة الوطنية، وشارك في تلك المعارك نخبة من ألمع الكتاب الصحفيين ومجموعة مقاتلة من الصحفيين الشباب، وكان عموده الثابت في الجريدة الذي استمر يكتبه حتى وفاته بعنوان ( لليسار در ) نموذجا للمواقف المبدئية والاستقامة الفكرية والسياسية، وفي عام 1987م أسس مجلة اليسار ورأس تحريرها لتكون لسان حال الماركسيين داخل التجمع وخارجه، لتخوض أيضاً نفس معارك الوطن والشعب.
لعب دوراً بارزاً في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية، التي لعبت دوراً كبيراً في حشد الشعب المصري ضد التطبيع بعد اتفاقية كامب ديفيد، وفي تأسيس لجنة الدفاع عن الحريات بحزب التجمع، والتي كان لها دور رئيسي في دعم المعتقلين وأسرهم في فترة السبعينات وأوائل الثمانينيات وتنظيم هيئة الدفاع عنهم من كوكبة من المحامين البارزين من داخل وخارج التجمع. كما لعب دوراً رئيسياً في تأسيس لجنة الدفاع عن الديمقراطية مطلع الألفية الثالثة، والتي ضمت الأحزاب الوطنية الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالحريات.
( ظل حسين عبد الرازق حتى اللحظات الأخيرة مشاركاً في كل الفعاليات الفكرية والسياسية لليسار المصري، واستضاف الكثير منها في مؤسسة خالد محيي الدين الثقافية التي كان يرأسها، كما حرص على المتابعة والمشاركة في كل معارك الصحفيين دفاعاً عن حرية التعبير وحقوق الصحفيين واستقلال وقوة ووحدة نقابتهم.
سلاماً لروحك يا رفيق.. وستظل حياً في قلوبنا وعقولنا بما قدمته لوطنك وشعبك من نضالات وتضحيات وإسهامات فكرية وسياسية.
وخالص العزاء لزوجتك ورفيقة عمرك ونضالك الرفيقة والكاتبة الصحفية فريدة النقاش، ولابنيك العزيزين رشا وجاسر، ولقيادات وأعضاء حزب التجمع، ولكل رفاق دربك وأحلامك، وكل زملائك وأصدقائك ومحبيك في مصر والعالم العربي)، كما جاء في نعي الحزب الشيوعي المصري له 30/ أغسطس / 2018م. كتب حسين مؤلفه التوثيقي الهام ( الأهالي، صحيفة تحت الحصار) 1994م، وثق فيه تجربة الصحيفة اليسارية 1978م/1988م، ثم كتابه ( الأحزاب والطريق إلي الديمقراطية )، و حسين كان، في خصيصته أديبا يلامس شعرية السرد حين يكتبها رؤاه، فلديه مجموعة قصصية ( اعترافات زوج مخدوع )، فأما آخر كتاباته فكان بالانجليزية عن جمال مبارك( Gamal Mubarak the Most influential Politician in Egypt ) ، جمال مبارك أكثر السياسيين نفوذا في مصر، لم أحظي بقراءته، برغم أن عنوانه أصابني بالحيرة في فهمه، وانتظر حتي أراه!

د. أمين مكي مدني.
ولد أمين في ود مدني في 1939م،وتخرج من جامعة الخرطوم وحاز علي شهادات علمية من جامعات عريقة مثل جامعة ادنبره وجامعة لندن وجامعة لوكسمبورج. وفي العام 1991م حصل على جائزة هيومن رايتس ووتش لمراقبة حقوق الإنسان. وفي ذات العام حصل على جائزة نقابة المحامين الأمريكية لحقوق الإنسان، نيابة عن نقابة المحامين في السودان.
كان أمين يري أن أوضاع حقوق الإنسان في السودان متدهورة، وأن الإنتهاكات واسعة، وكم مرة صرح وقالها في الملأ أن وثيقة الحقوق والدستور الإنتقالي التي يقولها ويروج لها النظام ما هي إلا حبرا علي ورق. بل وظل يشدد، في حواراته ولقاءاته أنه لا يوجد، أصلا، خيارا بالتراجع عن خيار الإنتفاضة. كان واقعيا في رؤاه، موضوعيا في أحكامه وما يصدر عنه، فيقول: صحيح أمامنا تحديات عديدة، لكننا قادرون علي تجاوزها، فلم يكن، أبدا، في رؤاه التراجع، ولو قيد أنملة، عن خيار الإنتفاضة الشعبية. أمين رأي، بحق، أن الدستور الإنتقاليلسنة 2005م يحتوي علي نصوص جيدة وبه وثيقة حقوق جيدة، بل يتبني المواثيق الدولية التي تحترم حقوق الإنسان، خاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وكل الحريات المتعلقة بالرأي والتجمع والتظاهر ومعترفا بها، لكنه، كان يراها، في الواقع المعاش، توجد إنتهاكات ( علي قفا من يشيل )، الحريات معدومة والصحف تصادر والأحزاب تمنع
من مارسة حرية التعبير والمنظمات يتم اغلاقها! بل كان يصدح بقناعته بعدم التراجع عن خيار الانتفاضة حال عدم استجابة النظام لسداد استحقاقات الحوار المنتج الخاصة بتهيئة المناخ ووقف ماثلاُ ، وأن خيار الانتفاضة وارد جداً للقضاء على هذا النظام!
عمل مكي، من واقع تخصصه العالي،  خبيرا في مجال حقوق الإنسان، محامي، ومحلل سياسي، ناشط ومدير إداري، متخصص في التعاون التنموي، قاضي ومحاضر في القانون،وأستاذ للقانون،وظل مكي مدافعا عن حقوق الانسان وناشط في العمل الوطني والنقابي ،ووزير في حكومة الانتفاضة (1985-1986)، ولعب دورا أساسيا في صياغة ميثاقها، حقبة تاريخية كاملة من الخبرة الأكاديمية والقضائية والحكومية وغير الحكومية على المستويات الإقليمية والدولية خبرة مهنية وإدارية في مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، والبنك الدولي والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا، كما عمل عضوا بالمجلس التنفيذي لست منظمات غير حكومية لحقوق الإنسان وجمعيات مهنية قانونية. وعضو خبير في بعثات التقييم الدولي في (كمبوديا) من قبل كل من المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومن خبراته الادارية فقد خدم في مناصب إدارية في عدد من المنظمات الحكومية وغير الحكومية والدولية،ومحلل للسياسات، بناء علي خبراته المهنية مع المؤسسات الأكاديمية ومنظمات حقوق الإنسان والمناصب الحكومية، يتحدث امين اللغتين العربية والإنجليزية ، ومعرفة بالفرنسية والسواحلية، فهو الي جانب ذلك محام دولي، ومستشار قانوني، وأستاذ قانون، وقاض بالخرطوم، كما عمل بمكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، بيروت، لبنان، وممثل المكتب الإقليمي للمفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في المنطقة العربية، بيروت، فبراير 2002، أكتوبر 2004م وبعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة في أفغانستان ، المستشار القانوني للممثل الخاص للأمين العام في أفغانستان (يوناما) في إصلاح القانون في أفغانستان، في العام 2002م المستشار القانوني للممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، 2003م ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، زغرب، كرواتيا،ورئيس البعثة مارس 2001م الي فبراير 2002م ثم عمل بمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في الضفة الغربية ومكتبه في غزة، المستشار الفني الرئيسي ورئيس المكتب من العام 1997الي مارس 2001م وعمل أمين مكي بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، الكويت، مستشار قانوني(1995م الي 1997) الحكومة الانتقالية الديمقراطية في السودان، الخرطوم، مجلس الوزراء وزير الأشغال والإسكان(1985 الي 1986) المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا، الخرطوم، المستشار العام، 1976-1978م مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، جنيف وتنزانيا، المستشار القانوني ونائب الممثل في تنزانيا 1971-1975م.
وأمين، بجانب ذلك كله، هوكاتب تقرير الخلفية للجنة الدولية للحقوقيين عن حالة حقوق الإنسان في السودان، الاتصال والتعاون والدعم لمختلف بعثات حقوق الإنسان وأنشطة منظمة العفو الدولية، لجنة الحقوقيين الدولية. هيومن رايتس ووتش، لجنة المحامين لحقوق الإنسان، والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، صندوق من أجل السلام، المنحة الوطنية للديمقراطية، منظمة المادة 19، وغيرها. رئيس مجلس أمناء مركز الدراسات القانونية، السودان.
ولامين مكي مساهمات علمية وحقوقية حيث كتب العديد من المقالات حول حقوق الإنسان والقانون الإنساني منها: *جرائم انتهاكات القانون الإنساني الدولي في السودان، القاهرة2001م* انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة* المحكمة الجنائية الدولية* عالمية حقوق الإنسان* دور المحامين في تعزيز حقوق الإنسان.وساهم مكي في كتابة العديد من التقارير مثل تقرير الخبراء في اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن القانون الإنساني في السودان. كاتب تقرير مفوضية حقوق الإنسان، جنيف، عن حالة حقوق الإنسان في القاهرة، ومن بين المقالات المنشورة في الدوريات والمجلات العربية منها علي سبيل المثال : حالة الطوارئ في العالم العربي- مراجعة العربي لحقوق الإنسان-مبادئ استقلال المهنة - المسؤولية الشخصية والمحكمة الجنائية الدولية-- القضية الفلسطينية التحديات الإقليمية والدولية- المرحلة الانتقالية في السودان- المشاكل التي تواجه السودان فضلا عن تقديمه للعديد من ورش العمل. وله كتابات قانونية عظيمة القيمة حول العدالة الإنتقالية والتحول الديمقراطي، وعقب اختيار الجنوبيين للتصويت لانشاء دولة وليدة لهم في العام 2011م كتب امين مكي مقال بعنوان (ما هكذا تصنع الدساتير) قال من خلاله ان تاريخنا السياسي، منذ الاستقلال، لم يأخذ قضية الدستور مأخذ الجد، كوثيقة (عقد اجتماعي) لا يضعها الحزب الحاكم وحده، فالدستور هو القانون الأسمى الذي يحدد شكل الحكم، رئاسياً أم برلمانياً، وأوضاع السلطة التشريعية، وكيفية انتخابها بحرية ونزاهة، وبعيدا عن القضايا القانونية والتشريعية.

أمين هو أحد المؤسسين للمنظمة العربية لحقوق الإنسان وأبرز رواد الديمقراطية والحريات في السودان والمنطقة العربية، كان أحد أعضاء حكومة الائتلاف الديمقراطي في بلاده ١٩٨٦ عقب الثورة الشعبية ضد حكم الرئيس السابق “جعفر نميري”، وهي الحكومة التي أطاح لها الانقلاب العسكري في العام ١٩٨٩.
كان محاميا من طراز رفيع وقياديا نقابيا ذو قدرات عالية، حد أن انتخب عضوا بالمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب لدورات عديدة مع رفيق حياته ومسيرته في الفكر والحياة فاروق أبو عيسي. شارك بجهد كبير في تطوير مسيرة المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي شارك في انطلاقها، وانتخب عضوا بمجلس أمناء المنظمة وحظي بثقة سبعة من الجمعيات العمومية للمنظمة لعضوية مجلس الأمناء منذ العام ١٩٩٠م، واللجنة التنفيذية منذ ١٩٩٧م، وتولى موقع رئيس مجلس الأمناء في الفترتين ٢٠٠٤م – ٢٠١١م.
كان لدوره البارز في حركة حقوق الإنسان اثره في اختياره لتولي مواقع بارزة في الأمم المتحدة في المراحل الحرجة، حيث كان المؤسس لمكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في العام ١٩٩٤، ثم مديرا للمكتب الإقليمي للمفوضية في المنطقة العربية، ومديرا لقسم حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق ٢٠٠٣م، ومديرا لقسم حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو.
أمين كان وطنا كاملا يعيش الحياة لتكون عدالة تضئ حياة الإنسان، تحقق له الكرامة والسعادة والبقاء، وليكون العالم أجمل ويستحق الحياة، فأي إنسان هذا الذي رحل عنا، لكنه، بكل عطاياه النبيلة تلك، جعلنا في معيته، في حياتنا التي جعلها في رفقته حتي الأبد، ويااا كمال الجزولي، بالله عليك لآ تحزن، أو أحزن قليلا، وأجعلنا نكون في رؤياك إليه، و ... إلينا، في الحياة التي هي يهبها الموت لنا!
( الميدان )، تقدم تعازيها، للحزب الشيوعي المصري، ولقوي اليسار والديمقراطية في مصر، وللرفيقة فريدة النقاش والأبناء والأسرة علي هذا الفقد الكبير. وفي السودان للسيدة نعمات عبد السلام وأبناء الراحل مكي مدني: مكي ووليد ومعتز وبنتيه سماح وسارة، وإلي آل مدني وآل خليفة المهدي، الراحلون هم، لكنهم يعيشونها معنا أيامنا.



.














الأربعاء، أغسطس 22، 2018

في رحيل حنا مينه!





حنا مينه،
نزولا علي وصيتك، لا نبكي رحيلك، فدعنا نسامرك إذن!
اليوم الثلاثاء، أول أيام عيد الأضحي الموافق 21/8/2018م، أعلنت وكالة (سانا)
السورية الرسمية خبر رحيل الروائي اليساري الكبير حنا مينه. وكان حنا قد ولد بمدينة اللاذقية الساحلية عام 1924م. كتب حنا، بخط يده، بتاريخ 17/8/2008م أغرب ( وصية ) عرفها التاريخ الشخصي للأدباء والمفكرين علي الإطلاق. فقد كتب يقول:

(عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدّد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي، في أية وسيلة إعلامية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطا في مماتي).
وشدد في وصيته التي أثارت تعاطف المثقفين والقراء إلى الحد الأقصى، لما تضمنته من إشارات حزينة عن نفسه، على أنه كرّس أدبه في صالح (نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض).
وبعد أن يتقدم بالاعتذار، إلى جميع أقربائه وأصدقائه، يطلب منهم أن لا يحمَل نعشه، إلا بوساطة (أربعة مأجورين) من دائرة دفن الموتى أو من الكنيسة التي سيتم تأبينه فيها، إلى إهالة التراب عليه، في (أي قبر متاح) ثم ينفضون التراب عن أيديهم، كما شدد في الوصية، ويعودون إلى بيوتهم: (فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة).
وأكد الروائي الراحل، في الوصية، على أنه لا يريد أي حزن وأي بكاء وأي تعاز، من أي نوع، كما قال، وشدد على أنه لا يريد حفلة تأبين له. موضحاً في الوصية بعض تفاصيل ملكيته التي ترك بعضها لزوجته، وبعضها الآخر لـ(من يدّعون) أنهم أهله، كما رسم في خطّه منذ 10 سنوات وأربعة أيام، بالضبط.

هكذا، ونزولا علي وصيته، لن نرثيه، لكننا نسامره الآن!

مسامرة مع حنا مينه.

* " سأل الطفل أمه : " لماذا يا أمي تبكي نساء البحارة ؟ " ، قالت الأم : " لأن في عيونهن ماء مالحا يابني ! " . أما أنا فقد ولدت وفي فمي هذا الماء المالح ، لكنه ، هذه المرة ، كان ملح الشقاء ، وملح التجارب ، وملح العذاب ، جسديا وروحيا ، في سبيل العدالة الاجتماعية ، صبوة البشرية إلي الخلاص " .
لذلك كان بدهيا أن أطرح ، منذ وعيي الوجود ، أسئلتي علي هذا الوجود ، وأن أتعمد ، في البحر بماء العاصفة ، وأن أعاين الموت كفاحا ، في البر والبحر معا ، وما الحياة – قولة الطروسي ، بطل " الشراع والعاصفة " – إلا " كفاح في البحر وفي البر " معا ، وبغير انقطاع ، لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة ، أمنا جميعا ! " .
- هذا عن الطفولة الباكرة ، تلك هي أحلام الطفولة وقد تعمدت بماء البحر منذ البواكير اليانعات ، وتلك هي البيئة من حولك في تلك الأيام البيضاء والزرقاء والحمراء ، ليس من صارخ في براريها إلا الكفاح في البر والبحر كما قال " الطروسي " ، كيف وقفت علي قدميك وكيف كان المسير الخشن ؟
* كنت قد بدأت في الثانية عشرة بعجن الصخرة الملعونة ، لكي أصنع منها كسرة خبزي . وكلمت الورقة ، وصرت من بعد ، كاتب رسائل الحي ، لأنني الولد الوحيد ، في حي المستنقع ، الذي تعلم فك الحرففي مدينة إسكندرونة ، في اللواء العربي السليب ، ومن عجب أن كل تلك الرسائل كانت مبللة بالدمع ، سواء التي أكتبها للناس ، أو التي أقرأها لهم ، فالشكوي من الفقر والمرض ، والموت ، تآبين مفجعة في السطور . وكان الذي أكتب له رسالة ، رجلا أو أمرأة ، يملي علي ديباجة تبدأ ، عادة ، بمثل هذا التفجع : " آخ ! علي آخ ! " . هذا ما أنبت في نفسي ، في تلك الطفولة المبكرة ، الشقية ، حبا لا ينتهي للعدالة ، للسعادة ، للفرح ، وزوال الشقاء من الدنيا . وبعد شهادتي الإبتدائية ، وهي الوحيدة التي حصلت عليها ، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات . كان هذا المعلم ، ويدعي عفيف الطويل ، مشبوها ، فقد ضبط ، في أول مايو ، يعلق بيارق صغيرة حمراء علي أعمدة الهاتف ، وفي بيته ، حيث يعيش مع أخته الخياطة ، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع ، الذي كان موضة تلك الأيام . كان معلمي أسمر ، طويلا ، فيه طيبة ، وفيه ملاحة ، لكنه بسيط ، لا يخطر لك ، وأنت تراه ، أنه في حلقة ما ، تعقد اجتماعاتها في المغائر ، علي ضوء الشموع . ولأن معلمي أمي ، فقد كان يأخذني ، مساء ، لأقرأ له بعض النشرات . وفيها ، لأول مرة ، قرأت كلمة فلسفة .
- صف لي ، يا حنا ، مادار بينك ومعلمك الأول ، ذلك الإنسان الأمي ، التقدمي و يري العالم جيدا !
* كنت قد سألته مرة حين قرأت منشوراته تلك ولفتت بصيرتي كلمة " فلسفة " :
قلت أسأله : ما معني فلسفة يامعلمي ؟
قال : معرفة القوانين ...
0 أي قوانين ... ؟
0 القوانين الغربية التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ ، والفقر ، والغني ...
0 وأين يبيعونها ... ؟
0 في بلاد " بره " .
0 ولماذا لا يبيعونها عندنا ؟
0 لأنها ممنوعة ... وهي مكتوبة بالفرنجي ...
0 وكيف عرفت بها أنت ؟ !
0 هذا سر ... أنت صغير بعد ... لا تسألني عن الأسرار !
أضاف :
0 الفلسفة كالبحر ... شئ واسع ، عجيب ، لا يفهمه إلا المتعلمون جدا .
0 ومن الذي صنعها ... ؟
0 رجل نسيت أسمه .
خ إجتمعت به ؟
0 هذا رجل ألماني له لحية كبيرة ... أنا رأيت صورته فقط .
0 وكيف فهمت كلامه ... ؟
0 أنا لم أفهم كلامه ... الفلسفة يابني علم صعب . والفيلسوف رجل عالم ، قرأ كل ما كتب عن العالم ، ويعرف كل شئ ، رأسه يتسع للمعرفة ، كما يتسع البحر للماء !
بعد هذا الحوار مع معلمي ، رحت أتخيل رأس هذا الفيلسوف كبيرا كالجبل ، وجسمه عملاقا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها ، وأنه يحفظ في هذا الرأس ، كل ما كتب ، وأنه عظيم ، لا شبيه له بين الرجال الذين أعرفهم .
- ذلك أول تعرفك علي كلمة " فلسفة " وحوارك الحائر ، الملئ بدهشة الأسئلة ، وما من أجابات ، لكأنك رأيت ملامحا " غمامية " لوجه لم تتبين تفاصيله ... فكيف كان مدخلك الحقيقي لهذه العوالم الفسيحة الفاتنة ، التي غدت ، في ما بعد ، أيقونات وثيمات وأضواء في كل أعمالك تقريبا : الفلسفة والبحر ، كيف وطأت أول العتبات ؟
* ذلك كان عبده حسني ، وقد قتل في الحرب الأهلية اللبنانية ... وا أسفاه ! وهو نفسه العامل خليل في روايتي " الثلج يأتي من النافذة " . قرب صورة الفيلسوف إلي ذهني حين قال لي : الفيلسوف يشبه أبن عبده يني . كان هذا صاحب المطبعة الوحيدة في أسكندرونة ، وله أبن يقرأ كثيرا ، ويمشي في الشوارع وحيدا ، شارد النظرات ، صموتا . مفكرا . وقد سمعته يخطب لأول مرة ، حين زار سياسي كبير أسكندرونة عام 1936 ، وخطب في سينما روكسي . مزقت معطفي اليتيم وأنا أزاحم الناس للدخول وسماع ما سوف يقال في ذلك الاجتماع . منذ ذلك اليوم صار للفيلسوف احترام كبير في نفسي ، وأرتسمت له صورة أقرب إلي النحول ، والشعر المنفوش ، والنظرات الشاردة ، والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب " ألف ليلة وليلة " . ورحت أحلم علي طريقتي الصبيانية ، أن أصير فيلسوفا ، إذا ما قرأت كثيرا ، علي ضوء فانوس الكاز ، بعد أن أغلق دكان الدراجات علي نفسي ، عقب انصراف معلمي عفيف الطويل . ولإضفاء المظهر الفلسفي علي نفسي ، طفقت أنفش شعري ، وأسير وحيدا ، وأحمل كتاب " المدارج " في يدي ، وأتعمد قلة الكلام ، وأقول لأترابي متباهيا : أنا أعرف رجالا لاتعرفونهم ، رجالا يحبون الفقراء ويكرهون الفرنسيين والحكومة التي صنعوها لنا ! وحين سجن معلمي عفيف ، ونقل مع بعض رفاقه إلي حلب ، ليحاكم أمام المحكمة الفرنسية المختلطة ، أغلقت الدكان وعملت في الميناء ، وأختلطت بالعمال ، وصرت أنزل البحر في مواعين الشحن . وهناك أرسم علي الأكياس ، بحبر الكوبيا ، بعض الأرقام والماركات ، وأصغي ، من طرف خفي ، إلي ما يقوله العمال عن " السنديكا "، يعنوا بها النقابة .
- العمال ، النقابة ، الميناء ، السفن ، البحر ، المشورات والسجن ، ما علاقة كل ذلك بالفلسفة ، ما وجدت عندهم حتي أوصلوك لصف الفلسفة و ... هذا البحر الهائل ، الشاسع و المعرفة ؟
* أتذكر الآن ، ذات يوم ، عند الظهر علي ما أذكر ، كنا قد أفرغنا حمولة الماعون ، وتأخر الزورق الذي يأتي من الميناء ليقطرها ، فجلسنا ، العامل فاضل وأنا ، في قاع الماعون ، نتبادل الحديث ، ، عن المدرسة والشهادة الإبتدائية ، وعما أقرأ من كتب ، وما أن أنس فاضل إلي ، وعرف أنني أحب المطالعة ، وكنت أعمل أجيرا عند عفيف الطويل ، حتي أخرج من تكة سرواله ورقة صغيرة مطوية بعناية ، هي المنشور الأول الذي وقع في يدي . كان فيه ذكر للفلسفة ، فدهشت لأن عاملا مثله يحمل منشورا ولا يخاف ، وأنه من جماعة عفيف الطويل ، وعبده حسني ، وإن لم يذكر هو هذين الأسمين ! قرأت المنشور ولم أفهم ما فيه إلا قليلا ، كان فاضل في الأربعين تقريبا ، فقلت له : يا عم فاضل ، أنا أقرأ " المدارج " فأفهمه ، وأقرأ الإنجيل وكدت أحفظه في المدرسة الإبتدائية ، لكنني في هذين الكتابين ، لم أقرأ أسم فيلسوف ولا كلمة فيلسوف ! قال العم فاضل : في هذه الكتب لا يذكرون ، هذا خطر ، ولا يشرحون كلمة فلسفة ، لأنها صعبة . أنا نفسي لا أعرف ما هي ، لكنني ، نتيجة التجربة ، صرت فيلسوفا علي طريقتي ... أعني تعلمت أن الفلسفة ليست " أكلة مجدرة " ، بل هي عمل ... أن تعمل ، كما نعمل نخن ، تصير فيلسوفا ولو بغير كتب . تأليف نقابة مثلا ، هذا ما تقول به الفلسفة ، أن تحتفل بأول أيار ( مايو ) ، عيد العمال ، ، هذا فلسفة ، أن تتظاهر ضد الفرنسيين ، هذا فلسفة ، أن تثق أن الفقراء لن يبقوا فقراء ، وأن أغنياءنا لن يظلوا يمتصون دمهم ، هذا فلسفة ، أن تعرف أن في بلاد " المسكوب " قامت دولة العمال والفلاحين ، وأنها معنا ، هذا فلسفة ... وأخيرا ، أن تؤمن أن العدالة ستنتصر في كل مكان ، هذا فلسفة !
- إذن ، تعرفت علي الفلسفة ، أول ما تعلمته منها ، من العمال ، من السياسة في واقع الحياة وراهنا إن جاز لي أن أصفها هكذا ، لا من النظريات المثوثة في الكتب ؟
* نعم ، وأعترف الآن ، إن هذا العامل البسيط علمني أبجدية الفلسفة ، جعلها مفهومة في نظري . وقد سعيت ، في ركضي وراء الرغيف ، إلي تطبيق نظريته ، وهي – كما تري – ترجمة عملية لمضمون الفلسفة التي قرأتها في المظاهرات ضد فرنسا ، وفي رشق رجال البوليس والدرك بالحجارة . ويوم زار زعيم عربي أسكندرونة قادما من أنطاكية ، وأعتقلته السلطة الفرنسية ، تجمهرت مع الناس أمام السراي ، مطالبين بالإفراج عنه ، ورشقنا السراي بالحجارة ، فكسرنا زجاج نوافذها ، فكان أن أطلقوا النار علينا ، وقتل زميل لي علي مبعدة أمتار مني !
- مهلا ياحنا ، كنت أظنك في اللاذقية مقيما ، وأنت الآن في أسكندرونة ، و... البحر ، البحر ياحنا ؟
* صبرك ، شوي صبرك ياصديقي ، سأريك وأوصلك إلي حيث رأيتني . دارت بنا الأيام دورانها ، دخلت تركيا لواء الإسكندرونة ، فهاجرنا – مضطرين – إلي اللأذقية . عملت هناك في قطاف الزيتون ، قمت بتوزيع الصحف ، تعلمت مهنة الحلاقة ، فتحت دكانة صغيرة قريبا من الثكنة . وكنت أقفل دكاني كلما سمعت بإضراب ، أو خرجت مظاهرة . ثم حضرت اجتماعا لعصبة العمل القومي ، تكلم فيه رجل يلبس الفيصلية ، وبيده عصا ، وعلي الجدار خريطة للبلاد العربية . وكل ما وعيته من كلامه ، أن علينا أن نناضل لتوحيد كل هذه البلاد ، وبذلك نصنع دولة كبيرة تقاوم الفرنسيين والإنجليز وتستعيد اللواء وفلسطين ، ومنذئذ صارت الوحدة العربية حلما جميلا ، ثوريا ، في ذاتي !
- وأين هي القراءة ، إذن ، وأنت في خضم هذا البلبال الثوري المضطرم ، كيف تلمست الخطوة إلي القراءات ، التي ، لا شك ، هي من قادتك - من بعد – إلي بساتين الكتابة ورهقها الجميل ؟
* في دكان الحلاقة قرأت كثيرا . كان يجتمع عندي بعض طلاب المدارس ، وحتي بعض الذين انتسبوا إلي الجامعة في دمشق ، عند عودتهم إلي اللأذقية ، ويناقشونني في بعض المسائل ، وقد أفدت من هذه المناقشات ، ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرا . وفي أحدي الليالي زارني رجل حلبي بطربوش ، وقدم إلي نفسه بأسم عبد الجليل سيرس ، وقال إنه سمع بي ، وإنه يزور اللأذقية في " مهمة " خاصة ، هدفها إنشاء النقابات وأشياء أخري . وسألني عما أقرأ ، وأوصاني بمطالعة بعض الكتب ، وأعطاني كراسات صغيرة ، من بينها كراس مترجم ، مؤلفه " سيجال " علي ما أذكر ، ومنه تعلمت المبادي الأولي للفلسفة ، وأصبحت ، شيئا فشيئا ، مثقفا في نظر نفسي ، وازددت حماسة للنضال ، ودخلت السجن مرات عديدة ، وضربني رقيب في الدرك يدعي أبو حمد ، أشتهر بالقسوة وقوة العضل وعدم الخوف ، لأنني نشرت رسالة ضد فظائعه في جريدة سورية تصدر في دمشق ، ضربني حتي إمتلأ رأسي بالكدمات ، وإزرق وجهي ، وتجمع الدم في عيني . وكتب ، يومها ، المرحوم وصفي البني مقالا استهله ببيت من الشعر يقول : " وظلم ذوي القربي أشد مضاضة " ، علي اعتبار أن هذه الأعمال المنافية للديمقراطية ، يقوم بها رجال الدرك السوريون ، وقد تعلموها من الفرنسيين ، وبزوهم فيها !
- كان هذا أول التعذيب من الدرك السوري ينال منك ، أول جراحات الذي بدأ يري نفسه في آهاب الفيلسوف ، مناضلا لأجل الكاحين والحياة الأفضل ، كيف رأيتها أول نهشات الذئاب للفرايس ؟
* يااااااه ، بدأت أكتب وجعي ، بدافع من هذا التعذيب ، كتبت مسرحية أنا بطلها ، وحوادثها تغير العالم ، أو تصنع عالما جديدا في ستة أيام ... وأرسلت مقالة إلي جريدة " الأحرار " في بيروت ، أستحلف فيها صاحبها ، علي طريقة جبران خليل جبران ، بالمرأة التي هي أكسير روحه ، أن ينشر المقالة ، لكنه لم يفعل ، وإن كان قد بعث لي برسالة صغيرة ، يقول فيها إن مقالتي غير صالحة لأسباب عدة ، أهمها أن فيها أفكارا لاتنسجم وخطة الجريدة !
- وهل توقفت جراء هذا " الرد " المحبط ، الذي قذفه صاحب الجريدة في وجهك المشرئب إلي رؤي الفيلسوف وحمي الكتابة والنضال ؟
* لا ... ما توقفت أبدا . كانت الصحف ، آنذاك ، والحرب العالمية الثانية مشتعلة ، بأربع صفحات ، فلم أيأس ، فكتبت مقالة لجريدة أخري لم تنشرها ، لكنها أشارت إليها بأربعة أسطر ... غمرتني السعادة ، لأنني رأيت أسمي مكتوبا في صحيفة لأول مرة ،كتبت قطعة صغيرة بعنوان " طفلة للبيع " نشرتها أحدي المجلات ، فعمدت نفسي كاتبا ، لا بواسطة القديس يوحنا ، ولا في نهر الأردن ، بل في بحر الأذقية ، وشكلت قلما في سيالة سترتي !
- ذلك كان حالك ، حين " عمدت " نفسك كاتبا ، وبدأ نجمك يصعد ، ويتألق و يتعملق الكاتب فيك ، وتلك اللاذقية التي أحببتها و ... بحرها وخلدتهما في أعمالك الكبيرة ، لكن كيف غادرتها ، وكيف دخلتها ، دمشق المدينة أشرعت ، منذ زمان ، نوافذها للشعراء والكتاب والفنانون من سوريا ومن خارجها ، هل كانت رحيمة بك كما اعتادت مع الآخرين ، هل أحتضنتك ياحنا ؟
* يااااااه ، كم كنت قاسيا علي قلبي حين هاجرت من اللاذقية العام 1947 ... كانت دكانة الحلاقة قد غدت مشبوهة ، ولم يعد أحد يحلق عندي ، فقصدت بيروت أول أمري ، ولم أتوفق في الحصول علي عمل بها فتركتها إلي دمشق . وفيها عملت مجانا في الصحافة لمدة ثلاثة أشهر ، وكان معلمي ، أي سكرتير التحرير ، المرحوم أحمد علوش ، الذي صار صاحب مجلة " الصرخة " فيما بعد . في دمشق اتصلت بالمثقفين ، وأشتركت في تأسيس " رابطة الكتاب السوريين " ، ثم رابطة " الكتاب العرب " . وقرأت
" رأس المال " ، فصارت معرفتي بالفلسفة أوثق. لكن ماقاله لي العامل " العم فاضل " في قاع سفينة الشحن , ظل اساسا عمليا لنشاطي الحياتي ، ودخل باشكال مختلفة ، في كتاباتي الادبية .. ولم يخرج !
- الفلسفة ، إذن ، مرة أخري ، بأفق سياسي وثقافي عال ، هذه المرة ، أتت هي إليك أم استدعيتها لساحتك وقد أصبحت دمشقيا في بعض وجوهك ؟
* يمكنك ، الآن ، أن تراها ، تلك هي ، بسطور ، حكايتي مع الفيلسوف " الذي رأسه بحجم الجبل ، وجسمه عملاق كرجل أسطوري " ، وكلما رأيت صورته الآن ، بلحيته البيضاء ، وجبينه العريض الوضاء ، وشعره المسترسل ، ونظرته النجمية ، ابتسم لطفولتي التي بعد بها العهد ، بمقدار ما أقترب هذا الفيلسوف من قلبي ونفسي ، لأنه ، بفكره العظيم ، أعطاني مفهوما عن العالم ، منحني الرؤية التي فتحت عيني ، وأضفي علي مهنتي الأدبية ، لا الوعي وحده ، ولا المعرفة وحدها ، بل الجمالية أيضا ! يخطئ من يظن أن إنسانا قادر علي فهم العالم دون أن يقرأ الفلسفة ، علي هذا الفيلسوف أو غيره ، ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر علي الكتابة دون الاطلاع علي الفلسفة ، ليس بصفتها " وصفة " ، بل كمرشد عمل في السياسة والأدب علي السواء .
الآن ، من الذي بقي ، في بلادنا وفي الدنيا ، يجهل الفلسفة والفلاسفة ، إذا كان مثقفا ؟ ومن لم يستفد ، كثيرا أو قليلا ، من حقائق الفلسفة التي صارت منارة للمبحرين في المحيطات ، والسائرين في الصحاري ، والبائسين في المدن والأرياف ، والعاملين في الجامعات والمكاتب والمصانع والحقول ؟
أتذكر ، سئل غوركي مرة : كيف تعلمت الأقتصاد ؟ كان عندئذ يعمل حمالا علي نهر الفولغا ، فقال : "
" أنظروا إنه منقوش علي ظهري ! " . تسألونني ، كيف تعرفت إلي الفلسفة ؟ ، أقول لكم : في قاع سفينة شحن ، ومنذ ذلك اليوم الحزين ، أصبحت مفاهيمها منقوشة علي قلبي ، راشحة ، مع عرق التعب ، من مسام جلدي !
- لكن ، عليك أن تخبرني عنه ، من هو ذلك الفيلسوف ياحنا ، شوقتني ، أيضا ، إليه ؟
* ومن غيره ياصديقي ، ماركس ، كارل ماركس ، هو الذي جعلني كيف أراهما : العالم والحياة !
- كنت قد حذرته ، أثناء حديثك ، فعرفته ، لكنني أحببتك تنطق بأسمه ، وها قد فعلت !
تلك حكاية الفلسفة معك ، ماذا عن البحر ، عشقك الأخر ، الكبير وعوالمه المثيرة ، حتي قلنا أنك روائي البحر في أدبنا العربي كله ، ولا أحدا ينازعك عشقه ولا الكتابة عنه ؟
* صدقت ، هو فعلا عشقي الكبير ، لا شك في ذلك عندي ، ولي معه قصة أخري طريفة ... كنت في الثامنة من عمري ، يوم أخذني الإخوان قلفاط ، من زملاء المدرسة بالصف الأول ، إلي البحر في الإسكندرونة ... وقد زعم أصغرهما ، نقولا ، أن الجرأة وحدها ، هي التي تعلم الإنسان السباحة ..
سألته :
- كيف ؟
قال :
- أن تذهب إلي رأس " الصقالة " وترمي نفسك في البحر .
- وإذا غرقت !؟ .
قال الأخ الأكبر دميان :
- يكون هذا أفضل !
قلت خائفا :
- كيف يكون هذا أفضل ؟ الغرق يعني الموت !
فكر دميان ، وكانت له عينان ، جفونهما حمراء ومقلوبة ، نظر إلي بإستخفاف وقال :
- من لا يعرف أن يسبح ، من الأفضل له أن يموت !
أنا ، الآن ، أري هذا القول حكمة ! دميان كان حكيما علي طريقته . فمن لا يعرف أن يسبح ، فمن الأفضل له أن يموت . وقد قال أبو القاسم الشابي ، مترجما هذه الحكمة النثرية إلي شعر :
" ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر " !.
إلا أنني ، في تلك السن من طفولة مبكرة وعليلة ، ما كنت أعرف الحكمة ولا الشابي ولا صعود الجبال أو المغامرة في البحر ، لذلك قلت :
- ألا يمكن أن أتعلم السباحة علي الشط ؟
قال نقولا :
- يمكن ؟
رد دميان ، أكبرنا سنا ، وقائد طفولتنا :
- أنا أقول لا يمكن ، يعني لا يمكن !
سكت . تلبستني حيرة ، تقلدتني مخاوف ... سرت وراء دميان وأنا أرتجف من الخوف والبرد ، لأننا كنا في الخريف ، وكنت ألبس سروالا داخليا من الشيت الأزرق ، ومشينا علي الصقالة ، إلي أن صرنا في البحر ، علي عمق أمتار ، فألقي دميان بنفسه في الماء ، غط وطلع . فعل أخوه نقولا مثله ، بقيت وحيدا ، أري وأتحسر علي نفسي ، إلي أن قررت أن أعود إلي الشاطئ الرملي ، حيث أنزل الماء ، كما يفعل الأطفال الذين في مثل سني ، وفجأة صاح بي دميان :
- إلي أين ؟
- إلي الشاطئ !
- يعني إلي الرمل !؟
- كل الأطفال يسبحون هناك!
- أنت يجب أن تسبح هنا !
- لماذا ؟ !
- هكذا ... أنا لا أحب الخوافين !
- أنا أخاف لأنني لا أعرف العوم !
- علي الرمل لا يعوم أحد ، ولا يتعلم أحد ... فهمت ؟
- ...
- تعال تفرج إذن كيف نسبح نحن ... راقب فقط حركاتنا ، الأيدي والأرجل مثلا ... ألا تعرف الضفدعة ؟
- هذه أعرفها .
- أفعل مثلها .
- أين ؟ في " بركة " المدرسة ؟
- " بركة " البحر !
- الضفادع لا تعيش في البحر .
- بلي ! تعيش ... تعال وأنظر إليها !
سرت إلي رأس الصقالة ، كنت راغبا حقا برؤية ضفادع البحر . وقفت ، حملقت ، انتقلت من طرف إلي آخر ... لم أجد شيئا ، لم أر سمكة واحدة ! كانت هناك فلائك ، مواعين ، وكان عمال وبحارة ، وفي البعيد كانت سفينة ترسو ، وكان سباحون فتيان يتسابقون نحوها . وكان الإخوان قلفاط ، نقولا ودميان ، قد حدثاني أن هناك ، علي طرف السفينة سلما يصعدون عليه بسهولة ، حيث يحظون ، من القبطان ، بالشيكولا والبسكويت ، ويتفرجون علي غرائب السفينة ، مثل السطح ، والقمرات ، والعنابر ، وحتي غرفة القبطان ، وكذلك – وهذا هو الأهم – يرون النساء بثياب البحر ، شبه عاريات تقريبا !
وفجأة دفعت إلي البحر ، عند رأس الصقالة !غطست وأنا أصرخ ، أرتفعت إلي فوق ، هبطت إلي تحت ، شربت الماء المالح ، تابعت الصراخ ، وعندئذ ألقي دميان نفسه ورائي ، أمسكني من يدي قائلا :
- لا تخف !
هتفت من حلاوة الروح ، وأنا أبكي :
- أنا أغرق يا دميان ... أنقذني !
قال دميان :
حرك يديك ورجليك فقط ... أفعل مثل الضفدعة ... هيا ، سأتركك !
تركني ! ومن جديد رحت أتخبط في البحر ، وأنا أحرك أطرافي ، إلي أن عمت ، فعاد يمسكني من كتفي قائلا :
- برافو ... تابع ياضفدعة برية !
تابعت إلي أن تعبت ، شربت كثيرا من ماء البحر ، لم أعد أحتمل . تعلق دميان بقائمة الصقالة الحديدية ..
سحبني نحوه وقال :
- تعلق أنت أيضا ، أفعل مثلي ... أسترح ..
أسترحت ، قال دميان :
- مرة أخري إلي البحر ...
أرغمني علي العودة إلي الماء ، عدت دون صراخ ، تخبطت من جديد ، عمت من جديد ، وقف علي مقربة وقال :
- تعال إلي ...
حاولت ! حاولت ! وصلت إليه ، أسترحت وأنا أتمسك بكتفه ، دفعني كي أعوم ، عمت ... ابتعد وقال :
- تعال إلي ...
ذهبت بصعوبة بالغة نحوه ... وعندئذ قال :
- يكفي اليوم ... تعلق بالصقالة ، هيا نصعد .
عندما صرنا فوق الصقالة الخشبية ، أستلقيت تعبا ، لم أعد خائفا ، إلا أنني تقيأت ماء البحر . ودميان ينظر إلي ويضحك ، ثم جاء واستلقي إلي جانبي قائلا :
- الضفدع وحده يسبح في " البركة " ، أما الإنسان فإنه يسبح في البحر ... وفي البحر العميق جدا يكسر ، مرة واحدة ، خوفه من الغرق ... يصير دلفينا !
نظرت إليه بكره ، لم أتكلم ، ما كنت قادرا علي الكلام ، عيناي فقط ، راتا السماء الزرقاء ، عالية جدا ، وطيور النورس البيضاء تحوم قريبا مني في الفضاء ، والريح رخية ، والسحب البيض ، بتشكيلات بديعة ، تندفع نحو الأفق ، وتأخذني معها . وبعد ذلك ، عندما بلغت السادسة عشرة من عمري وعملت في الميناء وعلي المراكب ، قلت للريس الطنحر ، بعد أن رويت له قصتي :
- هل صحيح أن الفرق الوحيد ، بين الإنسان والضفدع ، هو " البركة " والبحر ، كما يقول دميان ؟
رازني وقال :
- صحيح ... دميان هذا كان " فلسفونا " بحريا !
- فيلسوفا ياريس !
- نعم ! كما تقول ... لو سبحت علي الرمل ، ما كنت اليوم معي علي المركب .
وبعد أن تنهد قال :
- البحر للإنسان و " البركة " للضفدع ، هذه هي القصة كلها ! أين صار دميان هذا ؟
- لا أدري ... أفترقنا منذ تركنا المدرسة ، سمعت أنه هاجر إلي بيروت ...
قاطعني :
- يعني إلي البحر ؟
أضاف :
نعم ! نعم إلي البحر ... وإلا فكيف !؟ أسمع ! النسر له الجبل ، والبحار له البحر ، تعرف لماذا ؟
- لأنه إنسان !
- تماما ، ولكنه إنسان نسر ... نسر بحري ، الطير يصعد إلي فوق ، ونحن ننزل إلي تحت ، إلي الأعماق ... الجبال والأعماق ، والموت ، هناك وهنا ، بكرامة ... إذا مت ، وكلنا سنموت ، فلا تخش القاع ... إذا مت ! في البحر ، فإنك تموت بشكل لائق ، وهذه حال النسر والجبل ... موت النسر يكون في الأعالي !
قلت :
- ولكن الإنسان أقوي من النسر ياريس !
- لا ، هما أخوان ! هما رجلان ، وكل منهما له ساحته ... المسألة ، كلها ، تتوقف علي جواب هذا السؤال : هل أنت رجل أم ضفدع ؟
قلت :
- رجل !
ربت علي كتفي وقال :
- قل هذا غدا ، ودون كلام ، للعاصفة حين تهب !
قلت : سأفعل !
وفعلت ... !
كان هذا درسا بحريا ، لم أنسه أبدا ، حياتي كلها !
- هكذا ، إذن ، ركبت البحر ، فأصبح عالما إليك وياله من عالم ، به عوالم لا حد لها ... ورأيت في حكايتك عن البحر " حكاية " بديعة جدا ، وبها حكم ، وفلسفة ، ومغامرة بحرية وأحلام ...
لن أكون في سؤالك ثانية ، أكتفيت ، منك الليلة ، بحكاية الفلسفة والبحر ، لم تدع لنا الحكاية صقالة نقف عليها في مواجهة البحر ، لأسألك عن الكتابة ، عن القصة والرواية ، كيف تكتبهما بهذه السلاسة ؟
* ههههههههه ، دعنا الليلة ، فقد أكتفيت كما قلت ، وتعبت أنا ، أريد أن أسترح عن الأسئلة برؤية البحر والميناء والنوارس ، والريح والعاصفة ، والسفينة حين تداعبها الأمواج ، كفاية بقي !
لملمت أوراقي ، ورحت ذاهبا عنه ، بعد أن ودعته ، هذا القبطان البحري ، الكائن البحري الذي يجد بحرا في الكتابة أيضا !
-----------------------------------------------------------------------------
* الحوار متخيل ، لكن ، الإجابات هي نفسها أحاديثه ، مستخلصة من كتاباته أيضا ...
قصدت ، أسامره ، هذا الكائن البحري المدهش ، رائد روايات البحر في أدبنا ، بإمتياز ، وتحية إلي روحه وتراثه الخالد في كتاب ثقافتنا.