Powered By Blogger

الاثنين، أبريل 28، 2014

أبو ألق ، عاشق الأطفال و ... الحياة !


                                                                    - أبو ألق -


 

-------------------------------------

مثلما ورقة شجرة أسقطتها عليك رياح الخريف ، يأتيك خفيفا ورقيقا ، طويلا بلا عوج ، ساهما ومنسرح الشعر علي رأسه الصغير ، عيناه تخفيهما دائما نظارة شمسية سوداء فتكاد لا تتعرف عليهما ، مقل في المشاركة في الحديث الذي يبعد عن اهتمامه أو إبداعه المتنوع المثير ، وفيه يكون – عادة – متحدث بارع القول ، عن شعره وألحانه التي يبدأ يسمعك موسيقاها ويدندن إليك بها بفرح طفولي تلحظه عنده ، أنيق في ملبسه ، ذو نشاط وحيوية تجعله في تجوال دائم في مدينته ، يلحق بذاك المبدع يشاركه فنه أو ذلك الملحن يمكث عنده فيشبع عنده نهمه المفرط  للألحان والموسيقي والشعر الذي يتدلي فيعانق الصغار وبسطاء الناس ، يبدي اهتماما عظيما بالقضايا الاجتماعية ، تلك التي يتأذي منها الناس وتسود علي سطح المجتمع ، عن الأطفال في سني الرياض ومرحلة الأساس ، عن ذوي الاحتياجات الخاصة والمعاقون ، يصادقهم ويجعلهم من صحابه . عبد الله أحمد إبراهيم سعد الذي شهر في الناس بلقبه السائد الآن : " أبو ألق " . وألق هي كبري بناته الثلاث ، والتوأمان " قانتة " و " متبتلة " . من مواليد مدينة ود مدني التي تخرج في مدرستها الفنية . ذو نشاط اجتماعي وثقافي وفني واسع ، فهو عضو " رابطة الجزيرة للآداب والفنون " و عضو " المنتدي الثقافي لنادي الخريجين " ، وعضو في " منظمة الأذواق الجميلة " ، وعضو " جمعية مرضي الدرن ، وعضو " ملتقي اصدقاء حوض النيل " ، وعضو " رابطة الإعلاميين والمبدعين لمكافحة مرض الايدز . أبو ألق فاعل وبحيوية عالية في جميع هذه المناشط والفعاليات يكاد لا يكف عن الفعل الخلاق في برامجها وخططها . وهو الذي عرف باهتمامه الكبير في ثقافة الطفل لأكثر من عقدين من عمره الغني بالثقافة والإبداع . نراه يسعي ، كل مسعاه ، في ما بين رياض الأطفال ومدارس الأساس ، وثيق الصلة برياض : القبس ، وأنا السودان ، والفرنسية والجيل ، والبريطانية والمك نمر ، والحمد ورياض طيف ، برياض فلاحة البساتين ودار المهندس والخدمات الاجتماعية . يقدم لهم أغاني الأطفال و الأناشيد التي تتناسب وعقولهم الغضة في نضارتها ورؤاها للحياة . أصدر أبو ألق
" مطبقا " صغيرا بديعا أسماه : ( أهازيج : طرح سوداني ، لطفل سوداني ، بمفردة سودانية ) . وهي أهزوجة أولي للرياض ، ولكن هناك الكثير الذي يجري عليه البروفات لتقديمه ونشره في المنابر المعنية بثقافة الطفل . كتب في  النظافة  :
( يلا نأكد يا حبان
النظافة من الإيمان
هيا ننظف بي إتقان
لملابسنا وللأبدان
لمنازلنا ولشوارعنا ...
لروضتنا الحلوة كمان
ويبقي شعارنا في كل زمان
تعليم صحة سلام وأمان . ) ...
يبدأ تعليم الطفل بأساسيات الحياة ، تلك السلوكيات التي أول ما تبدأ في الأسرة ثم في الرياض ، ونظافة البدن والملابس والحرص علي نظافة الشوارع والرياض نفسها مما يشيع الطمأنينة والهدوء في نفس الطفل ويتعاظم لديه الإحساس بالسلام والأمان وهو يري انعكاسات كل تلك القيم في صحته وتعليمه تماما كما قالت بها الأهزوجة . ونراه يعلمهم المناشط الحيوية لحياتهم في السباحة وحب الموسيقي وعن الروضة وإشارات المرور ، عن علم السودان وعن التخريج الذي هو يوم من أيام الفرحة والآمال لدي الطفل . يقول عن علم السودان :
( علم السودان
 زاهي الألوان
رمز الأوطان
فداه الدم اللون الأحمر
ولون الزرع النامي الأخضر
أبيض لون القطن النور
أسود لون الشعب الأسمر
هو شعارنا وبيهو بنفخر . ) ...
لقد فسر إليهم معني هذه الألوان التي في علم السودان ، فجعل لكل لون معني ودلالة ، بعبارة سهلة رشيقة تتماشي مع وجدان الطفل ، وتحبب إليه علم البلاد ومنه يكون في حب الوطن . أبو ألق ليس ناظما لشعر الأطفال فقط ، بل هو ملحن ومؤدي لهذه الأغاني البديعة.
من المعلوم أن الطفل ينشأ علي ما يجده في بيئته وعلي ما يراه ويتعلمه في الأسرة والروضة والأساس ثم في مراحل التعليم المختلفة حتي يكون صبيا راشدا في الدراسة الجامعية أو عاملا في الحياة إذا أنقطع عنه تعليمه لهذا السبب أو ذاك . هكذا نشأت بنته الكبري ألق علي حب الشعر والموسيقي ، بل – بصحبة والدها وعونه – بدأت مشوارها الفني في أداء تلك الأغاني للأطفال بمصاحبة الموسيقي ، سواء كانت بتلحين والدها أو آخرين . فقد سجل لها التلفزيون القومي والإذاعة القومية نشيد " الأصالة " :
( نحن باكر لما نكبر
نبقي جيل حامل رسالة
للسلام ندعو ونبشر
ونمشي في درب الأصالة
ننبذ الفرقه ونزيله
ونزرع القيم النبيلة
للوطن نبني ونعمر
والبلد نحفظ جميله
في الحقول نبقي السواعد
وفي سبيل الحق نجاهد
وبي عزيمة قوية صادقة
نقهر الزمن المعاند !
باكر السودان وطنا
بينا يخضر يبقي جنه
خيرو يكتر يعم أهلنا
فيه نحقق كل أملنا . ) ...
و ... عن المكفوفين و المعاقين حركيا :
تعددت في تنوعها اهتمامات أبو ألق ، فقد شرع منذ سنوات في توثيق علائقه مع مدرسة الجزيرة الخاصة للإعاقة الذهنية التي تقع في حي بانت بمدني ، ومنها غدا – من بعد – وثيق الصلة أيضا باتحاد المكفوفين . تلك الفئة التي جعلتها أقدارها تعيش علي هامش المجتمع فلا يلتفت إليها أحد سوي ذوي القلوب النبيلة والعواطف الإنسانية . فجعلهم أبو ألق أحدي مشاريعه الهامة في مشروعه ومشواره الفني ، يلتقيهم ، يكتب إليهم الأغاني والأناشيد ، يؤازرهم ويحرض المجتمع علي دعمهم ونصرتهم في حياتهم الخشنة ، وقد رأيته كثيرا وهو في هم التفكير كيف له أن يدخلهم في التعامل مع التقنية الحديثة ، في النت وفي الاتصالات مثلما جميع الناس . كتب نصا عن المعاقين حركيا هو لدي الملحن أحمد المك الآن يجري عليه اللمسات الاخيرة لكي يخرجه إلي الناس . ثم إبان منافسات الدورة المدرسية الاخيرة كتب نص  " البصيرة " ولحنه حيث قامت الفنانة الكفيفة انتصار بالتغني به في مسرح دنقلا ، تقول كلماته :
( لو عيوني بقت ضريرة
والظلام عتم مصيره
بمضي خطواتي واسيره
شوفي دائما بالبصيرة
ماضي في تسياري ماضي
وراضي يا أقداري راضي
وداير أعيش في الدنيا عادي
عزمي سندي وصبري زادي
بصري بي قلبي الرهيف
وشوفي بي حسي الشفيف
ورغم يا أيام كفيف
لاني عاجز لا كفيف !
ما بسلم لي عمايا
ما بهون وتخور قوايا
بمضي دربي ولي النهاية
وهدفي أبلغ أسمي غاية . )...

وهنالك نصا كتبه عن المتعايشين مع مرض الايدز منشور في النت علي موقع " الصندوق القومي لمكافحة الايدز " بولاية الجزيرة ، تم تلحينه وأجريت عليه البروفات بأداء تومات مدني حيث كان من المخطط له أن يقدم هذا العمل الاستثنائي ضمن الاحتفالات باليوم العالمي لمكافحة الايدز ، لكن ، للأسف العميق ، توقف العمل فيه بسبب من عدم توفر التمويل لإكماله وعرضه ! لكنني أرجو أن أقدم هذه التحفة البديعة التي جعلها أبو ألق في حق " المعلم " :
( أهدي ليك شكري الجزيل
ألقا في حقك قليل
انت يارائع نبيل
يا معلم يا أصيل .
مهنتك ما أشرفه
العقول بتثقفه
في سبيل المعرفة
يا مربي يا جليل
يا معلم يا أصيل
ليك أيادي علي الجميع
ليك دوام أعظم صنيع
تدي فوق ما تستطيع
للمعارف كم تشيع
تضوي للناس السبيل
يا معلم يا أصيل !
كل نابغ من رعايتك
أي مبدع من عنايتك
عاليه فوق النجم رايتك
النجاح هدفك وغايتك
التفوق ليك زميل
أيه أقول فيك يا رسول
وأنت بتضوي العقول
التلاميذ والفصول
صارو ليك هم ما بزول !
ما في ليك في الناس مثيل
يا معلم يا أصيل .
ماضي بي أنبل رساله
العقول تشفي اعتلاله
بالعلم تمحو الجهاله
تهدم اركان الضلاله
انت نبراس كل جيل
يا معلم يا أصيل . ) ...
وكم تساءلت : لماذا لا يتغني الفنانون " الكبار " بمثل هذه الأناشيد البديعة للأطفال و ... للكبار ؟ لكانوا سيكونوا في هذا الشأن الجليل نفسه الذي عبره نري نبالة الرواد من دعاة الإنسانية والحياة العفية . هي تحية تقديرا في شأن هذا المبدع الكبير ، في حق الطفل السوداني وحق ثقافته ومستقبله ، وفي حق من يحتاجون الرعاية من المجتمع والانتباه إليهم .
--------------------------------------------------------------------------------------------
ملحق
-----
نصوص من أشعار أبو ألق :

المزارع
-------
من نومو قام بي بسمله
طهر جوارحو وغسله
صارت خطاه متمهلة
تهمس شفاه بالهيللة
دخل المسيد ادي الصلاه
وتلي بعض آيات رتله
وقام في عجل قاصد الخلا
حواشتو تب ما بهملا
يوماتي لازم يوصلا
ويقيف قليل يتأملا
لوحة نضار ما أجملا
الروعه فيها مكملا
ينظر إليها يغازلا
يلثم ترابا يقبلا
يسقيها عرقو يبللا
المويه صلح جدولا
وحش السرابه وعدلا
وشوالو للبهمات ملاه
ورفع ايديهو لي باري الملأ :
يارب امورنا تسهلا
تكفينا شر آفه وبلا !

لغة الإشارة :
------------
لما تستعصي العباره
للأصم يصدم جداره
يخترق صمتو بمهاره
ويبتدع لغة الإشارة !
...   ...   ...
الإشارات الذكية
بيها ينجز أبجديه
واصطلاحات عالمية
تسمعا العين في حوارا !
...   ...   ...
واصلو ما بعدم نظام
للتخاطب غير كلام
والتفاهم بانسجام
والتواصل بي جداره !
...   ...   ...
بالإشاره يصيغ خطاب
بيه يتحري الصواب
في سؤال أو في جواب
صيغة بتيسر عسارا .

إشارات المرور ( للأطفال ) :
--------------------------
انتبه عند العبور لإشارات المرور
الإشارة اللونا أحمر : الطريق مفتوح لغيرك
الإشارة اللونا أصفر : استعد شان تبدأ سيرك
الإشارة اللونا أخضر : انطلق واصل مسيرك
...   ...   ...
اتبع عند العبور لإشارات المرور
التزم عند العبور بإشارات المرور
احترم عند العبور لإشارات المرور .

الروضة :
--------
نمشي الروضة        نسيب الفوضي
روضة تمام           وفيها نظام
ندرس عربي         ودين وحساب
فيها لعب             اشكال وألوان
وفيها نشيد          علم السودان .

تخريج :
-------
الليلة اليوم يوم التخريج
منظر رائع وحفل بهيج
للخريجين يوم التتويج
فرحة وبهجة ومرح وضجيج
نحن ح نمشي المدرسة بكره
فيها ح نكتب ونرسم ونقرأ
وبكره الروضة ح تصبح ذكري
ليها دوام نتذكر ونطرا
اتخرجنا الليلة خلاص
ومن الروضة ح نمشي أساس
عاملتونا بذوق واحساس
وراعيتونا بكل إخلاص !

الموسيقي :
----------
دو ري مي فا صول لا سي
الموسيقي ظريفه لطيفه وامتع شي
منظومة من الأصوات
إيقاع مصحوب لزمات
في سلالم ومقامات
معزوفة علي الآلات
تنساب أعذب نغمات .

السباحة :
--------
السباحة رياضة مفيدة
لازم نتعلما ونجيدا
نحاول نتقن فن العوم
لأنو أكيد ح يفيدنا في يوم
نكسب منو نشاط ولياقة
ويزيد اجسامنا جمال ورشاقة
رياضة مفيدة للأبدان
وبتعلمنا الصبر كمان
بيها وصانا يا أحباب
الفاروق بن الخطاب !

 

 

الاثنين، أبريل 21، 2014

تأملات في أحدوثة تاجوج ، في المرأة و ... في الجسد !




-------------------------------------------------




أضاءة شعرية بشأن المرأة التي تجلت في تاجوج ، المرأة لا الأحدوثة :

( هذه رسالةٌ إلى المرأة المكتوب عنها. قد تقرأها وقد لا. وإذا قرأتْها فمن غير المستبعد أن تقول: «مَن هذه؟». ولن تجانب الصواب. فالسطح منها لم يظهر هنا، لأنّ جماله ليس موضع بحث. أمّا دخائلها وقد حاولتُ النظر إليها، فأنّى لي، وقد فارقني العزم على الكشف، أن أسبر غورها، فلا يبقى سرّ إلّا جاءني؟

 وستقولين في نهاية المقال: حتّى أنت لا تعرفني." ...

وكم ظل يصرخ أنسي ، لأجل الروح والجسد ، لأجل تلك التي عانقته في الفضاء الأثير الجميل :

إسألني يا الله ماذا تريد أن تعرف؟

 أنا أقول لك:

كلُّ اللعنات تغسلها أعجوبة اللقاء!

وجمْرُ عينيكِ يا حبيبتي يُعانق شياطيني.

تُنزلينني الى ما وراء الماء

 وتُصعدينني أعلى من الحريّة.

أُغمض عليكِ عمري وقمري فلا تخونني أحلام.

يا نبعَ الغابات الداخليّة

 يا نعجةَ ذئبي الكاسرة

 مَن يخاف على الحياة وملاكُ الرغبةِ ساهرٌ يَضحك؟

 لا يولد كلَّ يوم أحدٌ في العالم

 لا يولد غيرُ عيونٍ تفتِنُ العيون!

نظرةٌ واحدة

 نظرة

 وعيناكِ الحاملتان سلامَ الخطيئة

 تمحوان ذاكرة الخوف

 وتُسيّجان سهولة الحصول بزوبعة السهولة!) *...

ستظل المرأة أحد أهم الهبات البشرية وأكثرها مدعاة للتأمل والدرس والتناول الأدبي والفني في مسيرة البشرية ، فهي الحيوية والجمال الذي يبهج أيامها كلها ، ويجعلها في هذه الرفقة الحميمة لهذا الكائن البهي في سحره وفتنته وعذوبته ، في نعومته اللينة الهينة ، وفي صلابته وشراسته ومشاكساته في اليومي من حياتنا . والمرأة ، هي أيضا ، الأكثر تناولا وتأملا في الأدب والفنون علي إتساعهما وشمولهما وتنوعهما في كل وقت وحين . ولا أظن إن هنالك إبداعا ما ، أيا ما كان ، استطاع أن يفلت من تناول شأن المرأة بهذا القدر أو ذاك ، فهي ، أيضا ، في الجوهر من الإبداع ، مصدره وينبوعه وأضواء تألقه حين يجيئه التألق وتفيض الموهبة فتسوح سوحها في الثقافة والناس . تاجوج ، بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق ، تعد أجمل النساء في زمانها ، .... ، جميلة الجميلات و ... أجملهن علي ما تقول به " الأحدوثة  " ، تنتمي إلي قبيلة " الحمران " في شرق السودان بالقرب من مدينة كسلا ، وعاشقها الذي أخذ بجمالها هو أبن  عمها ، وزوجها فيما بعد ، الشاعر المحلق بن علي . أختلف الناس في أمرها ، تماما مثلما أختلف المبدعون في شأنها : الكتاب والشعراء والمسرحيون وحتي المؤرخون ، كل يري الأحدوثة بما يعن له ويطمئن إليه قلبه . لكنهم جميعا علي اتساع تناولهم وتنوع رؤاهم واختلافهم حول تاريخية وتفاصيل مجريات الأحدوثة ، لم يأت أحدا من بينهم – فيما أري – برؤية جديدة مبتكرة لهذه الأحدوثة الخالدة في شأن تاجوج الجميلة بنت الحمران وفي شأن النظر إلي المرأة ، فلم يخرجوا عن جوهرها وأن أضافوا إلي وقائعها ما شاء لهم أن يضيفوا وحذفوا ما عن لهم أن يحذفوا ، لكن الجوهر من الأحدوثة نفسها فقد ظل ثابتا عندهم بلا استثناء ، ما عدا تلك الرؤية الذكية اللامعة للقاص والمسرحي الراحل مبارك أزرق في مسرحيته البديعة  " لغز تاجوج " * حين رأي كيف أن المجتمع هو الذي أطر جسد المرأة فجعله سلعة قابلة للترويج ، وشرعت الشركات التي تصنع أمجادها وأرباحها تتسع وتمتد وتتكاثر عن طريق العروض وأشياء الجمال التي تجريها علي جسدها ، ثم جعلت هذه " النظرة " التي تشوه حقيقة المرأة وقيمتها في مقدمة برامج الميديا وإعلاناتها فساهمت بقدر كبير في جعل منظورها الشائه في عقول وقلوب جل الناس ، فنهضت المجتمعات تحت هذا التأثير نفسه تحاكم جسد المرأة ليكون محطا للشهوات والنزوات الجنسية فحسب ، ليس إلي قيمتها الإنسانية ولا إلي وعيها وسعيها الجميل في الحياة جنبا إلي جنب مع الرجل .
وممن كتبوا عنها أو تناولوها بشئ من التعليق ، نعوم شقير في كتابه " جغرافيا وتاريخ السودان " ، ومحمد عثمان هاشم الذي جعلها في رواية علق عليها الدكتور عبد المجيد عابدين و الدكتور إبراهيم عبده ، والدكتور خالد المبارك الذي كتب عنها كتاب " تاجوج " ، ثم خالد أبو الروس الذي مسرح الأحدوثة فجعلها بالشعر العامي العام 1934 ، ثم تلاه عبد الله سابو الذي جعلها مسرحية حيث نظر إليها في اطار الحكاية الشعبية وأضاف إليها ما من شأنه أن يأخذ بالعقل والذاكرة الشعبية ، حين جعل دافع المحلق لطلبها عارية هو بسبب من ما سمعه من ضاربة الودع من أن لتاجوج " شامة " في موضع من جسدها ، فداخلته الهواجس فأراد أن يستوثق من قولها ، مما يعني ، في واقع الأمر ، أنه قد داخله الشك ، الذي هو من مفسدات الحب كما هو معلوم ! كذلك تناولها الدكتور عبد الله الطيب في كتابة " الأحاجي السودانية .وكان الشاعر الكبير الراحل صلاح أحمد إبراهيم قد كتب مجموعة قصصية " تاجوج وحكايات آخري " نشرتها دار أبنوس للنشر والتوزيع بأمدرمان العام 2007 ، تناولها صلاح نثرا سرديا ولم يري فيها أيضا سوي جوهر الأحدوثة . وكتب الراحل مجدي النور عنها نصا مسرحيا أسماه " تاجوج في الخرطوم " فلم يفعل فيه أكثر من استداء تاجوج للعاصمة الخرطوم ثم أتي بالمحلق أيضا فجعلهما في الحوار والدراما بمنطق ولسان أهل الخرطوم ورؤاهم في الحب والجمال ، فلم أري عنده جديدا أيضا سوي جوهر الأحدوثة !  وتناولها أيضا المؤرخ محمد صالح ضرار فأضاف إليها مشهدا تأباه الفطرة السليمة عند السودانيين ، فقد روي أن النور أبن عم المحلق قد طلب منه أن يكف عن قول الشعر والتشبب في تاجوج حتي لا يسوء حالهما أكثر مما صار إليه ، لكنه بادره بأن قال له ، لو رأيتها لما عاتبتني ، تعال لأريك إياها . ثم ثقب الخباء ليري من خلاله تاجوج التي طلبها ترقص عارية أمامه بينما النور ينظرها من ذلك الثقب !  ثم أنشأ السينمائي الراحل جاد الله جباره فيلم " تاجوج " الذي راح يعرض في شتي بقاع السودان وفي الدول العربية ، لكنه لم يخرج عن معالجة الأحدوثة في جوهرها المتواتر بلا أية رؤيا جديدة . وهنالك العديد العديد من اللوحات قد جعلها التشكيليون في تبيان الجسد الأنثوي لتاجوج ، فهي قد حازت علي هذا القدر الكبير في المخيلة الجمعية للمبدعين في شتي ضروب الإبداع . ففي الشعر – علي سبيل المثال – وهو الذي أعول عليه كثيرا بأمل أن يتناوله بطاقته وقدراته الكبيرة في سبر وتبيان الأعماق ، قال عنها الشاعر الراحل كجراي في معرض حديثة عن قصيدته " تاجوج " التي تغني بها محمد وردي : ( لست أدري هل يحق لي التعليق علي عمل فني انتجته ؟ كنت في الواقع أرجو أن يأتي التعليق من المستمع المتذوق ... ولكن يمكنني أن أقول أن تاجوج الجميلة ، الأسطورة ، تاجوج المرأة ، التاريخ ، لا تهمني كثيرا ، لأنني لم أعايشها عبر أمتدادها الزمني ... إذن فتاجوج هنا تاجوج معاصرة تعيش في نبضات قلوبنا وتتسلل في غابات مشاعرنا ، تسري في دواخلنا حتي النخاع ... وقد تكون تاجوج هذه مثل ليلي عند المتصوفة يشترك في حبها الجميع ، ولست إلا شاعرا يحاول بالكلمة والنغم أن يملأ فراغ الوجدان بالعاطفة والحب والإعتزاز والشموخ فأن وفقت فيها نعمت وإلا فحسبي شرف المحاولة ! . ) *
وكان كجراي قد قال في بعضها :

( تمر المحنة زي ضل السحابة

حروف اسمك نغم يسقي الغلابة

حروف اسمك بشارة خير حبابة

حروف اسمك حليفة وغنا الصبابة

...   ...   ...

مع الأيام يزيد حسنك نضارة

عشان نروي ... تخضر الصحارى

بوصف ليكي ألحان العذارى

نعيش باقي العمر في الريد سكارى

...   ...   ...

نخوض بحر الهموم نبحر نعدي

نقابل بالثبات موج التحدي

سنين العمر تاخد وما بتدي

ودربك لشاطي النور يودي . ) ...

الجدير بالملاحظة هنا ، أن كجراي برغم أنه أراد لتاجوج أن تكون معاصرة ، أمرأة تخوض دروب الحياة والنضال بإعتبارها صنوا وندا للرجل وهما معا يقودان طلائع التغيير والتقدم والحياة العفية ، لكنه – كما أري – قد تجنب أن يتناول قضية الجسد الأنثوي في الأحدوثة وكيف نظر إليها المحلق وحاكمها وفقا لها وهو في ذلك متسق مع نظرة المجتمع لها ، فالمحلق هو أبن بيئته ووعيها السائد علي أية حال ! الشاعر الراحل جيلي عبد الرحمن كان قد سبق كجراي في قصيدته " تاجوج " في ديوانه المشهور " الجواد والسيف المكسور " ، يقول جيلي في بعضها مخاطبا تاجوج :
( عريان
ها أنذا بلا سيف يطيش ولا فخار
وقبيلتي عيناك،
موج فيهما يبكي الكنار
إن كان ينصب كل يوم في شوارعنا قتيل
في عينه الخضراء ...
يا عيني تناوحت الحقول
نواح " دوبيت " يغني الهجر
والأيام غول
تاجوج ...
فتانا الشوق يصحو في الأصيل
نهارنا زيت وأزميل
تعاسات ...
ذهول !
فمن أين للحب المرجي أن يجئ
وعلي العيون غمامة تبكي
وأشواق تضئ ؟
و جوادنا المسكين يكبو
فوق أشلاء النهار
عريان ...
ها أنذا بلا سيف ييش ولا فخار
وقبيلتي عيناك
مرج فيهما يبكي الكنار ! ) ...

وكما هو ملاحظ في هذا المجتزأ الصغير من قصيدته فأن جيلي أسقط أوجاع الواقع الخشن في بؤرة الأحدوثة حيث توجد تاجوج فظل يناجيها لكنه جعل الرمز منها يشي بالوطن ، فجعلها حضنا إليه وإلي المتعبين في وطنه وملاذا للكادحين وأملا مأمول في رؤاهم ، ودربا سالكا للمناضلين في سبيل الحرية والإنعتاق والتحرر ، لكنه ، أيضا ، لم يري في تاجوج غير هذا الرمز الذي قال به ، فلم يري تلك " النظرة " الشائهة للمرأة التي سادت في ذلك المجتمع التي لا تري فيها سوي جسدها ، تلك النظرة التي أودت بتاجوج والمحلق إلي مصيرهما المأساوي فقضي علي مسار قصة عشق جميل بالدم والجنون و ... الموت !
معاصرنا الجميل عمر الطيب الدوش في قصيدته " تاجوج " من ديوانه " ليل المغنين " قد ألبسها ثوب الفتاة المعاصرة ، التي تحمل هم الوطن والغلابة ، وتعرف أين يكمن جرح الوطن ، بل وتعرف كيف يكون إيقاف النزيف وشفاء الجرح ، لكنه جعلها في ذات بيئتها وسط الأبل والشجر والوديان ، تقول بذلك القول الجميل من ذات موقعها ذاك ، ونعرف أن الدوش قد امتلك القدرة علي جعل اللغة تنصاع للرشاقة واللطافة والرهافة ، فقصيدته تجنح وتجمح في إيقاعها حد تشبه أن تكون أغنية جميلة راقصة ... لكنه ، وهو الرائي المدهشنا برؤياته لم يري محنة المرأة التي تتجلي في النظرة الشهوانية إلي جسدها ، وإلا لكانت قد أتت في قصيدته الجميلة ، يقول :

(
تاجوج بتكتب بالشمال

 منحوتة فى شكل اكتئاب

 بتكحل الإبل النحيلة بالمشاوير النبيلة

 وتعشى ضيفان القبيلة بالأناشيد الطويلة

 موهوبة زى كل البنات

 فى الأسى المنسوج خيال

تاجوج بتحلب من غيوم كسلا ... المطر

 وتوزع القش والشجر

 بتعرف الهم والكدر

 حفيانة تجرى ورا السراب

 تاجوج بتكتب بالحراب

 تاجوج بتكتب بالشمال

 وبترتق الثوب والنعال

 وتمرق الهم الموكّر من قلوب كل الرجال

 تاجوج سؤال .. تاجوج غزال ..

تاجوج محال .. تاجوج خيال

 إتخيلت انو المحلق ساكها بى طريق شاقى الغمام :

 يا يتامى .. يا غلابة .. شوفوا لى تاجوج زمام ! . ) ...

التشكيلي والشاعر والكاتب الصحفي ، أبن كسلا وأحد مؤسسي " رابطة أولوس الأدبية بكسلا " أحمد طه الجنرال ، وهو ما هو عليه من عشق لتاجوج وسيرتها فقد قال عنها في قصيدته " سمت نفسها تاجوج " :

( نزلت غزالة القمر الحزينة

و تخطرت في الأرض

سمت نفسها ... ( تاجوج )

عادت بعد أسبوعين .... لم تجد المكان

رحلوا جميعاً

الشمس .. والأقمار .. والأنجم المتوهجات

ونضارة الأيام خط الشيب

مشتعلاً على مفارقها ...

رحلت مياه الغيم من كل السحاب

ونضبت بحيرات السراب

والخاطر المشبوب .... شاب !

فهاتوا رثاء العاشق المقتول

مصلوباً على كل الجهات

فالقلب غنى آخر اللحظات ... محزوناً . . ومات ... ) * ...

ونري الجنرال هنا قد تحسرها ملء قلبه حد صار في وجع الفجيعة جراء موتهما معا : " العاشق المقتول " و العشيقة ، وبموتهما رحلت الأغنيات و ... " آخر اللحظات " التي كانت في القلب العاشق ، لكأن في الموت الموات لا الحياة ، والحسرات تصيب من القلوب العاشقات مواطن مواجدها لا شك ، ولكني – والحق يقال – قد بحثت عن وجه المرأة في القصيدة فوجدته ، وجها جميلا لأنثي مزهرة وضاجة بالحياة و ... قد رحلت ، فخلفت الحسرات الكثار من بعدها ، ولم تسير القصيدة إلي أعماق الأحدوثة ! لكنني وجدت أن أحمد طه قد قد أوردها في قصيدة آخري : " تاجوج ولطعة الكركار علي ثوب الشيفون " * . فقد صورتها القصيدة عاشقة للحياة ، تضج أعطافها وعواطفها " فرحا وحبا ... واشتهاء " ، مجدتها أيضا حين جعلتها أميرة علي عرش العفاف ، فقد كانت عفيفة ولذا أعطتها القصيدة زمام الملك أيضا . لكن ، في ذات عين جمالها ، أورثتها القصيدة بعضا من الخوف الذي يخالط الوعد فيجعله موشحا بالنزيف ... ، تري ، أيكون ذلك إرهاصا لما سيأتي ويكون من تداعيات الأحدوثة في مصائر شخوصها الداميات ؟ . لكن القصيدة سرعان ما تنتقل ، بنقلة واحدة ، ولكنها ممعنة في جدتها كامل بيئة الأحدوثة : " تاجوج ، ونحن ، والشرق المغني والمكان " إلي حيث المدينة التي ارتدت ذلك الثوب " البنقالي "* السودانوي الشهير و ... نامت . ولعلها كانت في الحلم لذا تحضنا أن لا نوقظها !
نري ، هنا ، تاجوج وقد فكت ضفائرها واختلطت في المدينة وناسها ، فشرعت  تعيد كتابة التاريخ  الذي ، حقا ، يحتاج للنظر إليه وإعادة كتابته ، و ... تغني . وستكون في رقص الغناء والأناشيد ، هي في الفرح إذن حد جعلت لقلبها واحدا دون الآخرين جميعا فجعلته محلقها " الجديد " ، الذي كان واقفا إلي بابها ينتظرها ، ليؤازرها ويكون في معية فرحها الجديد . جعلته القصيدة في هيئة شاب بشعره الأفرو * وبنطلون الجينز و ... الجيتار ويغني ، تماما مثلما هو شأن شباب تلك الأيام ، أيام ثورات الشباب والنهوض التحرري ، وتشرع الموسيقي تصدح ، تعلو طبول وإيقاعات الأغاني فتشيع في المكان والناس الفرح والأماني المزهرات . الشاعر جعل تاجوج هنا معاصرة أيضا ، وادخلها في صلب المعاصرة مع إيقاع وتواتر الزمن في القصيدة . لكنه ، أيضا ، لم يقترب – كما الآخرين – من المرأة / الجسد ، الذي هو جوهر الأحدوثة كما هو معروف . تقول قصيدة أحمد طه " تاجوج ولطعة الكركار * علي ثوب الشيفون * " * :
( كانت علي عرش العفاف أميرة
ملفوفة ...
بوشاح من عشق الحياة ...
التاج كان مرصعا فرحا وحبا ... واشتهاء .
هذي الضفاف ... والملك لك
نحن الرهاف ...
وكلما ملكت سواعدنا ،
إحتضان ...
الشعر ... أبيات القصيد ،
وكل أمجاد الزمان
الوعد الموشح بالنزيف
والدوحة المبحوحة الصوت ... مخيف !
تاجوج ، ونحن ، والشرق المغني والمكان
علي قلبي " تلفحت "* المدينة ثوب " بنقالي "* ونامت !
لا توقظوها فهي تحلم .
أن تاجوج الحزينة
فكت ضفائرها وهامت في خيالات المدينة
تعيد كتابة التاريخ بالحرف المرمد بالحقيقة
وتغني ...
أن تاجوج الحديقة
أوصدت أبوابها قسرا لكل الزائرين ...
عدا المحلق !
كان المحلق واقفا بالباب ،
الرأس " أفرو "* ...
ويلبس بنطالا من الجينز الممزق
يداعب الجيتار :
صول . لا ... سي دو ... لا
لا ... لا ...لا ... لا ...
علي قلبي تفتحت المدينة ،
ثوب شيفون و ... نامت ! ) .

الشاعر اسحق الحلنقي يعد في شعرنا واحدا من أجمل شعراء الأغنية السودانوية ، بعاميته الفصيحة في اناقتها الرشيقة وصورها الوجدانية التي تلامس القلوب وتقول بما في قلوب المحبين والعشاق . يقول الحلنقي في قصيدته  " كسلا " :

( اليوم عدت إليك يا كسلا            وبمقلتي تعاسة المتغرب
  في كل شبر ضجة وتأسف         أنكرت بعدي ... جفوتي وتغربي
  أنا إن رجعت إلي غد لا تأسفي    فالمجد بعضا من فضائل مذهبي
  هذي الجبال عبادتي في صمتها   شمخت كمحبوب عزيز الملب
  وبقبر تاجوج اصطحبت عبادتي  صليت في قبر جريح متعب
  والقاش ممتد بعيني هائم          بسط الذراع يضم لون المغرب . ) *

المعروف عن الحلنقي أنه شاعر عامية عظيم القدر ، رشيق العبارة وموغل في الوجدان الجمالي الذي يطلع مزهوا في شعره الشفيف ، لكننا نراه هنا نراه يكتب شعرا بالفصحي لا يقل عن جودة ما في قصيدته العامية الغنائية ، وهذا ما أشار لي به الصديق أحمد طه في معرض حديثنا عن أحدوثة تاجوج . الحلنقي أبن كسلا وعاشقها وكم تغني بها ، بالطبيعة منها وبالحبيبة والمواجد التي توحي بها لعاشقيها ، نراه في قصيدته هذه قد جعل " يتعبد " في قبر تاجوج ، إذ اتخذه ضريحا يحب وموضعا للخشوع والتوله ، وهو إذ يفعل ذلك يستعيد لا شك أحدوثة تاجوج ويستشعر جرحها و ...  تعبها ، تعب الروح والجسد الذي أودي بها ، بعشقها الجميل وعاشقها ، هذا الرؤية لدي الحلنقي أتكون هي بعضا من نبع الحنان الذي يسري في قصائده الفاتنات فيكسبها عذوبة وألقا ومحبات ؟
                        

أما الدكتور مبارك حسن خليفة ، ذلك الشاعر المعلم والمنورالكبير فلديه – كما اظن – قصيدة كاملة عن تاجوج لكنني لم أجدها بين مجموعات شعره التي بحوزتي . يقول عن تاجوج في قصيدة له كتبها في تحية مدينة كسلا :

( أحببتك يا مثوي تاجوج السمحة
أه ... لو أني شهدت محاسنها لمحة
تمنحها لأبن العم العاشق فرحة
وتداري خجل الأنثي ...
خلف الطرحة ! ) ...

ولقد رأيت مبارك يراها هنا بذات رؤية المحلق لها ، جسدا يعوي بالجمال والفتنة والإثارة ، فلم يراها في حقيقة أمرها ، أو لنقل أنه لربما رأي ولم يتناولها وهي في ذلك المنحي ! و لكن ، كما ذكرنا في غير هذا الموضع ، أن مبارك الآخر ، وأعني الراحل مبارك أزرق هو الوحيد بين من تناولوا أحدوثة تاجوح من رأها برؤية مختلفة في مسرحيته " لغز تاجوج  " ، فقد رأي فيها شيئا من اللغز فسعي في معالجته الرائدة أن يكتشف ما في لغزها ، ومن بعد ، يريه للناس في مسرحيته . ولأن رؤيته تلك تكاد تتماهي مع ما نرأه بصدد النظر للمرأة باعتبارها ليست جسدا فحسب بل هي إنسان تتمتع بقدرات ذهنية ونفسية وأخلاقية وبمبادرات خلاقة في الحياة ثم أن لها إحساسها العميق بكينونتها الإنسانية وذات كبرياء وقوة في نفسها ومآلات حياتها كلها وسيدة لمصيرها فقد رأيت أن نوضح هذا المنحي في مسرحية مبارك أزرق الذي نعده قد أرتاد حقلا بكرا وقتذاك بجسارة جعلته يشيعه في الناس .  يقول مبارك في شأن رؤيته: ( ومهما يكن من أمر فأن قصة تاجوج ، حقيقة كانت أو غير حقيقة ، فأننا واجدون فيها ومضة من فن الشعب وفكره . إذا كان قد اصطنعها من خياله ، وأخذ يعجب بها ويتأملها ، أو تلقفها من الحقيقة وأخذ يرويها ويسمعها . ولهذا فلابد أن يستخلص الرمز من جوهر القصة ، أسطوريا كان أو غير أسطوري . ولهذا السبب نفسه نري أن جميع من تناولوها قد اتفقوا حول جوهرها : طلب المحلق إلي تاجوج أن تخلع ملابسها وتمشي أمامه عارية . وألح في الطلب ، فاستجابت له مشترطة الوفاء بما تطلب ، فوافق ، فكان له ما رغب فيه ، وكان لها ما أرادت ، وكان طلاق وفراق ! هنا الجوهر الذي أغراني ، وهنا النقطة التي أردت أن أنطلق منها ، وأبني عليه هيكل المسرحية ، ولا يهمني من الأمر فوق ذلك هم ، أأسطورة هذه القصة أم حقيقة ؟ ذلك لأن الرمز هو جوهرها الحقيقي إن كان مستخلصا من التاريخ أو منبثقا عن الخيال . وهو أهم ما فيها . ولابد أنه يحمل في صلبه مدلولا ومعني . وأما قصة تاجوج كحدث تاريخي محض فأمر لا قيمة له البتة ، فوق أنه لا يقوم علي منطق مقنع ! ولعل هذا ما دعا الكتاب إلي اختلاف ، علي الرغم من أنها بلسان الشعب تروي باتفاق !! ) ...* ثم مضي مبارك ليعقد في متن المسرحية مقاربة مبتكرة إذ جعل لتاجوج مثيلة لها ، في الجسد وفي واقعة الموت جراء النظرة المؤلمة للمجتمع في الجسد ، نفس الجسد الجميل الشهي الذي فتن الناس واستوجب الانشغال به من حيث هو غواية أنثوية طاغية ليس للناس قبل بها ولا احتمال : بين تاجوج و مارلين مونورو ، يقول مبارك : ( ... وتاجوج قتلت بطعنة الخنجر ، ولكنها في الواقع انتحرت هاربة من تخلف مزر . ومارلين مونورو ، الممثلة الأميريكية العالمية الشهيرة ، انتحرت بتعاطي العقار ، ولكنها في الواقع قتلت مطاردة من كابوس مادي . ومن عجب أنهما لاذتا بحمي الفن في الوقت العصيب . فمارلين تزوجت ميللر الكاتب ، وتاجوج تزوجت المحلق الشاعر ، ثم انتهي زواجهما بطلاق وفراق ! مارلين ولدت عارية ، وفقيرة ، وبلا أب . وعاشت عارية في المراسم والمخادع وهي صبية . ثم شبه عارية في أغلفة المجلات بعدئذ ، ثم تغطي هذا اللحم العاري شيئا حين غدت أعظم ممثلة إغراء في العالم كله . هكذا خلقها العالم ، وهكذا أرادها أن تحيا ، وحين وصلت إلي أقصي ما تطمح إليه من مال ، وجاه ، وسلطان ، وصيت ، نبذت هذا العري . ولكنها أيقنت أن العالم لا يري فيها سوي الأنثي العارية . فأصابها يأس ، وحاولت غسله بالخمر ، ثم بالعقار ، ولم تصب من أيهما نفعا ! وإذ مسها الضر مسا شديدا لاذت بميللر ، الذي يكبرها بسنوات ذوات عدد ، فتزوجته. لعله يكون الدثار السميك الذي يغطي عريها . ولكنه انمحي بجانبها ... إذ بقي هو زوجها ، زوج ملكة الإغراء الطاغي ، المغمور بعبق صيتها وأنوثتها الطاغية . وإذن فقد ضاق الدثار العريض عن جسمها الفضفاض ، فضاقت نفسها ، ولم تري في العالم والناس إلا عيونا تنهش في سطحها ، فبرمت بالحياة ، وبرمت بنفسها ، ونبذت كل هذا المجد الذي صنع منها دمية من لحم شهي ! وللنظر الآن بأبصارنا إلي هذه المفارقة : حياة في أمريكا ، وفي هوليود وفي القرن العشرين ، وحياة في السودان ، وفي الريف ، وفي القرن التاسع عشر . ولكنه جدير بنا أن ننظر ببصائرنا إلي هذه الموافقة : البشر ولد خصيصة واحدة منذ بدء الحياة . يفترقون في عيش، ومسكن ، وملبس ، ولغة وطبيعة . ويتفقون في نزعات ونزوات وطبع . وليرو الرواة ما يروون . ولكني باختلاف روايات الرواة ، واختلافهم في تفسير أحدوثة تاجوج ، لا أحسبها إلا من نزعة واحدة عند المرأة : تلك الصرخة الداوية بفم مارلين المصبوغ بالأحمر وبالقلم ، أو فم تاجوج المدقوق بالأخضر وبالابرة * . نزعة المرأة ذكية الفؤاد والعقل والروح . والتي تنفر أن تشبه الدمية ، وتسعي لأن يجل قدرها ، ويعلي شأنها ، لا لجمال وجه ، وقد ، وخصر ، وأرداف ، ولكن لإنسانية وكرامة .  وفي هذا ما أحسب إلا تاجوج ومارلين صنوين : الأولي انتحرت مقتولة ، والثانية قتلت منتحرة ! ) * .
تلك – في ظني – هي النظرة المبتكرة التي اهتدي إليها مبارك أزرق فاستخلصها وحرص أن يجعلها في المسرح . وهي – كما رأينا – قد لامست بشكل مبتكر القيمة الإنسانية للمرأة المعاصرة ، حيث لا ينبغي أن ينظر إليها كجسد للمتاع فقط بل كإنسانة لها قيمتها ووعيها وعقلها وروحها اللطيفة تسعي بها في الحياة ، ومبارك بهذا التناول الذكي أعده الرائد في النظر والتأمل الموضوعي في أحدوثة تاجوج فقد رآها كما لم يراها الآخرون ، رأي أن هنالك " تسليعا " مريعا يتم لجسدها حد يحولها إلي مسخ يجلب المال للإحتكارات والشركات العالمية العملاقة ذوات النفوذ المشتغلة علي جسد المرأة واشياء الجمال التي يجعلون جسدها فيها ، تلك الأدوات والمواد التي يصنعونها صنعا ويسوقونها عبر جسد المرأة وعلي حساب كرامتها وإنسانيتها !

تفكرات في الجسد الأنثوي أثارتها الأحدوثة :

كينونة الجسد في المغايرة ، وفي شعرية المعني ، فالجسدي ، هو البلوري في موضوعاته ومراميه ، ذلك الذي يهرب من كل ميتافيزيقيا ، هو نفسه الذي تتجدد أنفاسه برفقة هذا الهروب ولا ترتاح لنداءات الأحياء / الأموات ، أصحاب التابوهات والمحرمات والنواهي والإشتراطات البالية ، تلك التشوهات الدمامل التي لا توافق التراكم الخلاق كما لا توافق الفكر الحي ! هذا الجسدي ، إذن ، هو الكائن الذي فينا و نحيا به ، وبه نخوض كل معاركنا وصراعاتنا المعرفية ونكون في شعرية مستحدثة تحدس بجديده و ... جديدها معا ! ولكن :

" فوق جسدك المجزأ

نرسم حلقة طائرة ،

الإيقاع الأدق ...

يوح باليمين وباليسار

والسكرة المنعشة تدمر كل مركز "! .

كما قال " الخطيبي " ... ، إذن ، ليس الجسد غرفة ولا سقفا ، أنه نافذة ، طبيعة حرة وشهوانية ، بعيدا عن " الرهانية " وعن تجسرات " الصفقات " ، يكون الجسد بذاته خارج عنوانه ، لكنه في عناوينه الكثيرة ، غير مزهوا بذاته . هنا ، عند النظر إلي الجسد ، تبدوا البداية بهذا الطرح العام كأنها غير واقفة علي مسندات ، والكلام هنا مرادف للإطلاقية أو هي " للاندهاشية " ، في ما يشبه الفخاخ ، إذ تتميز المغايرة – المطلوبة بالحاح – بهذا الإيقاع نفسه ، وفي الآن نفسه لا يراد للجسد أن يكون غاية في ذاته ، لأن المغايرة محسوبة علي مايأتي ، ما ينبثق ، ولها في رقصها حالات الجسد ! ليس هنالك من جسد غير قابل لأن يكون موضوع تفكير ، بل قصدية الموضوع ، موضوع الجسد أعني ، هي أن تكون هذه الأولية هي نفسها جوهر التفكير في الجسد ، هي قلبه ، هي دمه ، وبهما تكون مشروعيته ، تفكراته كلها وأشاراته النورانية ، لأنها لا تدل علي حيويته فقط ، بل علي فاعليته أيضا ولا من تقصير في حق ، إذن ، سوي من جهة التوحد أو النرجسية !

أهو زيغ أم وهم أن نتفكر في الجسد وموضوعاته ، وأن نسعي التأمل في مبادئه ؟ لربما ، إذ نعمل علي ذلك ، نبلغ أساس الفكرة ذاتها ، كما يقول " هيدغر " ! هذا المدي ، إذن ، هذا الجسد الشاسع الوضئ ، مشرعا أمام المسعي ، أيا ما كان ذلك المسعي ، فكن – أيها الفكر الحر – في هذا المدي الممتد ، كن علي مقربة من البئر لا من المستنقع ، أجعل " حفرياتك " وشعرياتك ، كتاباتك كلها وفنونك هنا حيث وجود الفكر هو وجودك ، متاخما للجسد ، فمعناه هو معناك ، وليس البحث والدرس فيه سوي الترحيب الفرح بهذه المحاولات الجسورة للأقتراب من تخومه الفارهات ... أبدأ في " حفرياتك " ولا تخش شيئا ، فليس صاحب الغابة السوداء داعية جنون ، صاحب هذا الذي يخرج " الحي من الميت " بلا رهبة أو رهبانية ، بل بإنسانية جسدية حيث هي أعصار المخيلة ، التي هي المبتغي و ... هي شعرية التفكرات في أقترابها من الجسد الحي ، ذلك يكون هو " شقا " للمجال الأكثر خطورة وغموضا علي تخوم الكائن فينا ، أنخراطا في رسم حركة شعرية / جسدية لا تتطابق وتنهزم أمام السائد المهترئ ولا تتعالي ، فالأرض ، في برهة مقامنا عليها ، بمباهجها وفتنتها ، هي عند نهاية الأمر ، هي أرض الجسد ، وهو سيدها المبجل بلا منازع !
لكأنني سأخاطب سيدة الأحدوثة تاجوج فأنتبه إليها ، و ... إلي الجسد في آن ، وكليهما في كينونة المرأة ، في جمالها الإنساني كأمرأة:

فوق جسدك الشهي
أرسم خارطة لوعيك
للتفكرات في الجسد الأنيق
و ... فيك
حلقة مجسدة أيضا
ذات إيقاع
أبدأ معها من القاع ،
ثم أصعد ...
أصعد حتي دوالي العنب
ومذاق السكر
ستجدينه حاضرا هنا ،
في الجسد
الإيقاع ناصعا بهيا ...
إيقاع الجسد !

ليس الجسد غرفة ولا سقفا ، أنه نافذة ، طبيعة ملتاعة ، هجرة في الدواخل الحميمة ... وفي ذات الجسد ، هجرة إلي حيز آخر ، بعيدا عن الرهانية ، وبعيدا عن " الصفقات " . يكون الجسد أحيانا خارج عنوانه ، لكنه يظل مزهوا بذاته ، وهو الثيمة العظمي ، بالغة الثراء والموجدة ، في الحوار السري بين الإنسان المعافي وعوالمه ، وبين الإنسان نفسه والوجود والألوهة ... هو مع ، وهو أيضا ضد ، وهو المغايرة ، لكنه في الذات التي هي ذاته نفسها ، هو نفسه ، وقد أضحي بفضل المنورين العظام غاية أحيانا وسلما لبلوغ الأعالي ! هو ، إذن ، محسوب علي ما يأتي ويسقط علي الراهن فيكون فيه ، راهننا في علاقاته المتنوعة المعقدة ، فيكون هو ما ينبثق ، ما لا يسكن بعد الآن . تلك البرهة من قصيدة الجسد لها ، أيضا ، في الرقص حالات ، حالات الجسد نفسه في أطواره وتجلياته وهو يعيش الحياة .  حقا ، كل روح ظهر في جسم ، هو ناري أو نوري ، هكذا كما رأه أبن عربي  .
وبعد ، وبما أننا في حضرة أحدوثة تاجوج ، حيث أفضي جمال الجسد إلي الموت ، فلنا أن نتأمل كثيرا في الجسد ، لنري كيف للمرأة أن تكون – وإن تجلت من داخله – أجمل الكائنات وأكثرهن فعالية في الحياة وأملا في الغد الجميل .
أنني ، أتطلع ، وكلي أمل ، أن نفتح ، لمناسبة هذه التفكرات في أحدوثة تاجوج ، نافذة للحوار و ... مزيدا من التفكر اليانع في شأن المرأة والجسد ، المرأة التي نحبها ولا نعيش الحياة إلا برفقتها الحميمة ، والجسد الذي نوده يكون في إنعتاقه وتحرره و ... جماله الذي يهب الحياة لا أن يقتلها !
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
* من آخر كتابات الشاعر اللبناني الكبير الراحل أنسي الحاج التي أتجه إليها أخريات حياته .
* " لغز تاجوج " – مبارك أزرق . الناشر مؤسسة إشراقه للنشر والتوزيع والإعلان بالخرطوم ، طباعة مطبعة نهضة مصر بالفجالة بالقاهرة ط أولي 1987 .
* " كجراي عاشق الحرية والقول الفصيح / دراسات في حياته وشعره " – جابر حسين ، الشركة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة ط أولي 2007 ص ( 260 ) .
*لغز تاجوج ص ( 68/69 ) .
* كانت النساء السودانيات إلي وقت قريب يتجملن بوخز شفتهن السفلي بالإبر بعد غمر سن مقدمتها بالكحل  فتتشرب وتمتص مواطن الوخز ماء الكحل فتصطبغ – من بعد – باللون الأزرق فتغدو الشفة زرقاء كحلية اللون ، وكان فاشيا في الناس وقتذاك أن ذلك أحدي جماليات الشفاه في وجه النساء التي تظهرهن في جمالهن وأنوثتهن !
* " لغز تاجوج " ص ( 60/61/62 ) .
* مكتبة أحمد طه :
Sudanese On Line 
* " تاجوج ولطعة الكركار علي ثوب الشيفون " لأحمد طه الجنرال  من كتاب :" قصائد من الشرق " اعداد وتقديم حسان أبوعاقلة أبو سن – شركة كسلا للطباعة والنشر ، بدون تاريخ اصدار ، ص ( 97/98 ).
* " الكركار " ، خليط من شحم الضأن وزيت السمسم والقرنفل والمحلب والصندل وغيرها من اليب ذوات الروائح الطيبة ، وتستخدم النساء هذا الخلي فيمسحن ويدلكن به أجسادهن ويتبخرن بدخانه ورائحته فينعم ويرطب الجسد .
* " ثوب الشيفون " ثوب سوداني كان موضة مرغوبة لدي النساء وقتذاك .
* " تلفحت " أي أحاطت جسدها به فارتدته .
*" بنقالي " ثوب رجالي منسوج يدويا كان موضة في الرجال أيضا ، ولرما رمز به الشاعر هنا للمعاصرة لدي المحلق .
* " أفرو " تسريحة رجالية في تسريحة شعر الرأس لدي الشباب وقتذاك وابتدرته بعض النساء أيضا كما عند انجيلا ديفز !
* قصيدة " كسلا " – اسحق الحلنقي  ، كتاب " قصائد من الشرق " ص ( 125 ) . وكان قد أشار إلي بقصيدة الحلنقي الصديق أحمد طه الجنرال موضحا أن للحلنقي شعرا جميلا بالفصحي ولا يقتصر إبداعه الشعري علي العامية في الشعر الغنائي .


 

 

 





الاثنين، أبريل 07، 2014

محجوب شريف مات مقتولا !





-----------------------------

" ياحبيبي ،
نقوم الآن إليك
يخالطنا الشوق ،
حتي سماؤك ساهرة للغياب !
كأن لقاؤك هذا فراق
ولم يبق فينا سوي الجرح
شبابة للعناق !
فلا شئ يجمعنا غير صوتك
ولا شئ يقتلنا كالوطن
لاشئ يقتلنا كالوطن !
"
                                 - ديشاب -

عند الساعة الثانية بعد ظهر الأربعاء 2 أبريل الجاري رحل عن عالمنا الشاعر الكبير محجوب شريف ، لكنه لم يرحل في صمت المشرفون علي الموت ، فقد كان ضاجا بالحياة فرحل في صخب و ... عنفوان يطلع في الناس حتي آخر أنفاس حياته !  الفن ليس ترفا ، ولا تهويمات هلامية ، بل أنه حاجة ملحة وضرورة . وهو أيضا أمنية وإجتراح ، أمنية اللاموجود ، وفي ذات الوقت – هو الوسيلة لتحقيق تلك الأمنية وإجتراحاتها المختلفة والمتنوعة . و الثورة نفسها ، في مبتدأ أمرها ، هي أيضا شعر ، والإنسان الكامل شاعر . ونقصد بالشعر هنا المزيد من الواقع ، من المعايشة الحميمة للشعب وقضايا الوطن ، من النور ، من الشعور المفرط بالوجود الإنسائي ، من الخيال المبدع المحلق ، خيال الشعب المبدع ، الشعب المعلم علي قول محجوب ، ذلك الخيال الذي يستمد منه الشاعر مادته الأساسية وجوهر إبداعه الحي . فالشعر سلاح لا مرئي ، أشبه ما يكون بحرب العصابات في أزمنة النهوض الثوري ، لكنها تأخذ ميدانها ومجال معاركها في النفس الإنسانية ، حرب مستعرة ومتقدة ، بل محرقة ، وشديدة العنفوان تشن ، كل لحظة وفي تواتر متوهج علي الأعراف والمصالح الذاتية المصطنعة والرياء في النقد الذاتي ، حرب علي الأفكار المبتذلة البالية ، ثم تكون – مثلما كتائب المقاتلين الثوريين – حشود تمشي بإصرار في سبيل الذكاء المبدع . في بلادنا بدأت في الظهور ملامح قضية جليلة السمات ، وفي ظني أنه يجب التوقف قليلا أمامها وتفحصها بجدية ومسئولية كاملة ثم نبدأ ، جميعنا ، في تشريحها ومعرفة جميع وجوهها ...وهي قضية  " السعادة الذاتية " ، وأعني بها راحة الضمير والاطمئنان في الحياة ، وهي نفسها قضية الإبداع الذاتي وكيف يكون في تجلياته المتنوعة الكثيرة التي ترتبط ، بأوثق رباط ، مع قضية شعبنا المركزية : قضية الحرية والديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان . لهذا كله ، وبسبب منه أيضا ، فأننا نري أنه لابد من عودة الشعر – مجددا – إلي وظيفته الحقيقية ، كعنصر ثوري خلاق ، مؤكدا علي قيمة الإنسان / الشاعر ، خالقا وثوريا وسيدا لمصيره كله ، حيث يتحد لديه الرمز الذاتي بالرمز الجماعي ... ويصبح الشكل والمضمون في قصيدته وحدة عضوية واحدة تمسك بجسد القصيدة وملامحها ، فتصبح هي نفسها مصهرا حقيقيا وانفعالا داخليا ونسغا حيا ...  هكذا تغدو وقد حلت فيها بوضوح جلي ملامح وروح الزمن الإنساني . وعند ذلك ستجد – لا مندوحة – الروح الكلية للعالم وللكون وقد تجللت وتزينت بها القصيدة كلها ، ثم أن الشاعر نفسه – عند نهاية أمره – ستجده غارق حتي أذنيه في بلبال هذا العالم ، في بلبال الثورة والإنسان ، تلك بعضا كثيرا من محارق محجوب شريف ، التي أمسكت به من الروح والدم والعصب الحي في المخيلة و ... في الجسد ، تلك – في ظني – هي محارقه التي أودت به : الوطن !
الوطن تكاثرت عليه النصال ، وأمتد فيه النزيف وفاضت منه الدماء ، وسادت عليه الديكتاتوريات ، تذهب واحدة لتأتي بغيرها ، وفشت فيه الذئاب والثعالب و ... الكلاب ، غدا ساحة نتنة تلغ فيها الضواري والدم يساقط من أشداقها ، ذهب الجنوب ولم يتوقف القتل يوما واحدا لا في الغرب ولا في الشرق ، أستشري الفساد وطغي وأستبد ، والضعف فينا قد أمتد وأمتد ، فلا صحة في بدن الشعب ولا تعليم لأطفاله ولا رعاية من أي نوع ، وزاد علي الناس وطء الفقر والمسغبة ، وطال القمع والاضطهاد والظلم والقتل والسجن أوسع قطات الشعب علي امتداد الوطن " الحدادي مدادي " علي قول شريف أيضا ، أصبحت الحياة جحيما لا يطاق ، فتحركت المحارق لتنال من القلوب ، توهن الجسد حتي تضمحل منه الحياة فتسلمه إلي الموت ! فكيف لمحجوب شريف أن لا يموت وتلك المحارق كلها تتناهشه من كل أطرافه ودواخله ؟ وسط هذا المعمعان الصاخب المرعب ظل محجوب شريف يعيش قصيدته ، فنه وقضيته ومواقفه كلها ، يكون ، يوميا ، مشدودا بين طرفي توتر لابد أن يفضي إلي فعل ما ، إلي قصيدة أو أغنية مكتملة التكوين والبهاء والجدوي ، أو إلي نشيد صاخب مدوي يشد من أذر أمته ويحفزها للنضال وللصراع ... يكون في أتون الخلق الفني بالجسد العاري والقلب العامر بحب الناس ولا يستقر أبدا علي حال ساكنة ، ولا هو يركن ، ولو لبرهة واحدة ، للهدوء المخالف لنواميس الفن ووجدان الفنان ، فتراه أينما وليت وجهك ، خائضا في الساحة تلو الساحة ، جهير الصوت ، شامخ القامة ، مترعة نفسه بالتفاؤل والأمل والأغنيات ويصدح بالأناشيد مبشرا بالغد الجميل الذي يجئ لا محالة ، وساخطا السخط كله ضد ديكتاتورية الحاكم الظالم وأجهزة أمنه وأدوات قمعه وناسه ومشايعوه من الكذبة والمنافقون . كأنه وهو يفعل ذلك كله مثله مثل " بروفروك " في قصيدة اليوت حين يتساءل في جسارة وثقة عالية بالنفس لكي يحفز نفسه ذاتها للفعل والصراع : ( أأجرأ علي أن أقلق الكون ؟؟ ) . أعرف تماما أن محجوبا كثيرا جدا ما يناقش نفسه ويحاسبها ، يفعل ذلك بينه وبينها علي بلاطة ، ثم ينزلها منزلتها في قصيدته ... فقد استطاع ، برغم الظلال السوداء للديكتاتورية وخشونتها ، أن يجعل قصيدته تلعب دور النشرة والمطبوعة والمنشور ، دور الصحيفة والأذاعة والتلفزيون ، حين خلق
- بمحض قصيدته ونضاله ومواقفه – أعلاما مرموقا ومسموعا ومشاهدا لشعبه كله وللوطن . شيئا كثيرا وعميقا جدا من ذلك كله قد تحقق فعليا في تجربة محجوب شريف الشعرية ، ومثله قد تحقق في نمط حياته الفقير الفريد وفي مسار نضاله السياسي ثم تضامنه ودعمه الوافر للفقراء والمرضي والأطفال الذين جعلتهم قسوة المجتمع وخشونة الحياة علي الأرصفة و ... إلي المرضي ! تلك محارق يومية مرعبة من صنع الديكتاتوريات ، تصنع بالذين يمتلكون حس الشعر والفن والتزام جانب الشعب والوطن وقضاياه ، لمن يمتلك وعيا عميقا بالحياة كما محجوب و نقاء سريرة وإخلاص يذهب بصاحبه إلي حيث فضاءات اليقين التي يهون لأجلها حتي ماء الحياة ، حد يصيب العطب المواضع الأكثر حساسية ورهافة من الجسد ، تلك المحارق هي التي نالت من رئتي محجوب ، تلك مقاتل الحكومات الديكتاتورية تجعلها في الناس ، ولمثل محجوب أن ينال منها أوفر نصيب فتذهب عنه من جرائها الحياة و ... يكون الموت ، تماما مثلما حدث للإنسان الشيوعي النقي – نقاء المرايا تحت القمر – علي قول لوركا ، مرغني محمد شريف أبو شنب ، الذي أفسدت إليه رئتيه أجهزة أمن الإنقاذ حين أدخلت رأسه داخل جوال " شطة " حارقة  وربطوه عند العنق ليستنشق الموت فقضي بعد حين في القاهرة بينما كان الحزب يسعي لإنقاذ حياته ، فمات مقتولا ، تماما مثلما مات محجوب شريف ، مقتولا علي أيدي الديكتاتوريات التي رزء بها الوطن مرات ومرات وحتي يوم الناس هذا ، مات مقتولا جراء السجن والتعذيب والمطاردة والفصل التعسفي من وظيفته و ... من جراء القمع ثقيل الوطء علي شعبه والوطن ،
مسيرته الشعرية ، واندفاعه الصاخب في الحياة نفسها – في حياته الشخصية والعامة – بذلك التوق الجمالي الشفيف ، والغني الثر والصدق الكلي يخالطه بعضا كثيرا من نبالة الإنسان يحف به ويحيطه الأمل العريض الفسيح الذي أبدا ما فترت همته تجاهه ولا غاب عن ناظريه وقلبه الوسيم أو عن قصيدته لحظة واحدة ، يعتبر ، بمقاييس الإنسانية ونبلها ووعيها الناضج ، وأيضا وأيضا ، بمقاييس الشعر ومتطلباته جميعها ، نقول : تعتبر ، في خريطة شعرنا المعاصر نسيج وحده و ... قل نظيره ، وأنموذجا ساطعا وباهيا لكيف للكلمة أن تكون رؤيا مكتملة في الحياة ، وكيف لها – أيضا – أن تكون هي بذاتها موقفا  متفردا تجاه الحياة بإحداثياتها وتجلياتها اليومية والكونية في إطارها الإنساني العام ... ويمر العام تلو العام والشاعر في خضم الشعر الذي هو نفسه خضم الحياة وقد تحولت قصيدته وإشارات حياته إلي نشيد عام ، موقعا عليه فيما بين الشاعر والناس والأشياء والحياة ، مندغمة – كإنثيال الدم – في جملة الإبداع العام للشاعر ، خالقا لنفسه مساحة مضيئة ودافئة في المجري العظيم ، بالغ الخصب ، للشعر السوداني ، وإذا سأل أحدا عما قدمه للشعب والوطن ، فأنه ، لاشك كان سيقول بذات ما قال به الشهيد عبد الخالق ردا علي السؤال البائس الذي سأله السفاح نميري عما قدمه للشعب السوداني : ( الوعي ، الوعي بقدر ما استطعت ! ) ، لكن الديكتاتوريات قلما تفهم ما تكون عليه الشعوب في شأن الطغاة !
وكم أبكاني حديث مبارك بشير إلي محجوب شريف في قصيدته الجميلة المؤثرة " قصيدة إلي محجوب شريف " * :
( ... كيف ترضي
  يا سمح الأناشيد والغنا
  أزنت الذي
  صارعت كل الأنظمة
  وسرجت خيل
  كل القضايا المتعبة
  نحنا انتصرنا بيكا
  في كل الظروف المؤلمة
  غنينا ليك :
  محجوب زغاريد النساوين
  التعابه  
  محجوب أغاريد الوليدات
  والبنيات الغلابة
  محجوب تباشير الصباحات
  البترجع
  بعد الليالي المدلهمات
  والوجع .
  محجوب حنان طفلا كبير
  لكنو دايما مفتري
  علي كل ظالم ومدعي
  كيف ينحني
  هذا المغني المستحيل
  هذا الذي
  صرع الطواغيت الصغار
  قدام " زيادة سكري " ؟! ) ...

تماما يا مبارك ، " زيادة سكري " هي التي داهمته وهو في الداء الوبيل الذي أصابته الديكتاتورية به وسار به يغني في وجع الحياة ويعيش بأقل من ربع فاعلية رئتيه فيصرع بسلاح الشعر الجبار " الطواغيت الصغار " ، ومثلما قال محمود العالم فقد كان دائما في تذكر ناهض : ( أتذكر : وقفة طويلة أمام حائط معتم ، " كل المساجين وشهم للحيط " . أمر قطعي ملزم ! هل من سبيل لعبور هذا الحائط وتجاوزه ؟ نعم ... سبيل واحد ، إلغاؤه ، كيف ؟ البعض فقد الوعي ، آخرون إنهاروا جسمانيا أو نفسيا ، وآخرون صنعوا نافذة خرجوا منها إلي ذكرياتهم ، إلي المتخيل ... )* . تحت ظلال الديكتاتورية تحول الون إلي زنزانة ضيقة ، خانقة تكاد تقطع الأنفاس ، لكن محجوبا سار – بيقين راسخ في رحلة الخيال المحرر ، إلغاء الزنزانة بضوء فكرة ، بالأمل في الغد الأجمل و ... بالشعر ، قصيدة أثر قصيدة ، أغنية وحلم يشحذ حواس ذاته نفسها وحواس شعبه ، يتابع تغيرات الأيام والليالي بخطوط وكلمات محفورة تتابع ، تحصي التجدد والتغيير عبر الحوائط الصماء في " السجن السميك " ، فكان مسيره العظيم في دروب الحرية المزهرة . كان واعيا جدا بمرضه وحالته حد أن أصبح صديقا له ، يسامره وينادمه ويضاحكه ، يقول :
( ... أغني
  وكم جرح فيني
  وبحلم كنت بالأيام
  تصالحني وتصافيني
  ولمن شفتك اتوهجت
  ظنيتك حتلفيني
  وتعافيني
  حليلو العمر ما انجم
  رجع للحزن والحمي .
  وداعا
  أقولها في اعصابي
  كم إعصار
  هدايانا الصغيرة ... صغيرة
  للتذكار
  خوفي عليها من طول الزمن
  والنار
  وخوفي علي ... آه
  من وحشة المشوار
  حليلو العمر ما انجم
  رجع للحزن والحمي . ) * ...

في اللحظات التي كان الموت يحيط به منتظرا لحظة الخطف ، كان يطمئننا بمرح الإنسان المحب للحياة ويعيش الأمل : ( ... بشكل قاطع المعنويات لم تنزل أبدا ، ولأنها عالية جدا جدا أحاول إنزالها شوية . )* . محجوب عاش جميلا كأجمل ما يكون الإنسان ، نقيا وصاحب ضمير يقظ ، نبيلا وذكي القلب ، شاعرا كبيرا و عاشقا للحياة . و ... الآن وقد تركتنا في الفعل الجميل وحب الوطن ، فقد آن الوقت لنمشي علي ذات دربك ، وقد مهدت لنا دروب المسير ، نمشي ونغني ونناضل ونمشي نحو حلمك / حلمنا في الحياة الجميلة القادمة و ... بذات الحسرة والدمع نسألك :
( محبة البينا ...
  ولأ صداقة ؟
  ولأ بداية فرقة طويلة ؟ ) ...
لا ، ليس فراقا البته ، فستكون في ضمير شعبنا صوتا بهيا وأغنيات في حبه ، و أناشيد ورايات عاليات في نضاله .
العزاء للوطن والشعب وللحزب ، لأميرة الجزولي زوج الشاعر الكبير ورفيقة حياته العامرة ، للجميلات ، مريم ومي ، ولآل الجزولي وشريف معا ، ولمحجوب الخلود والبقاء .
------------------------------------------------
* بعضا من هذه الكتابة من مخطوطتي " حول مسيرة محجوب شريف الشعرية والنضالية " .
* " قصيدة إلي محجوب شريف " لمبارك بشير ، عدد الصحافة الأسبوعي أشراف أحمد طه الجمعة 4 أبريل 2014 .
* " مفاهيم وقضايا اشكالية " محمود أمين العالم – دار الثقافة الجديدة ط أولي 1989 ص(5) .
* " السنبلاية " محجوب شريف ، دار عزة الخرطوم ط أولي 1998 ص ( 32/33 ) .
* المصدر السابق ص(20) .
* من مهاتفة طويلة مع الشاعر لدي عودته من رحلة علاجه الآخيرة بألمانيا .

الأحد، أبريل 06، 2014

الشاعر النوبي كمال عبد الحليم ، الشعر حين يلتجئ إلي خشبة المسرح ....









---------------------------------------------------------

ما قبل المدخل :
إلي كمال عبد الحليم ،
صديقي وخلي ...
هو الزمان كله ،
زماننا الخشن ...
وبعضا حليما من نفسي .
أهو أنا ؟
رؤياي في الدنيا وبين الناس ،
أيكون هو ...
شاعر هذا الزمان نفسه وإنسانه الشعري ؟
أيكون هو الدنيا ،
أم يكون هو الوطن ؟
أيكون هو ... ،
أيكون هو ؟
ياحبيبي :
كن حتي أكونك
لأكون معك ...
فأكون فيك !

المدخل :
مهرجان الغمام ، هي ليلة الشعر في وجهه النوبي ، الصبية النوبية العفية ، حين نقبلها لا ترد العناق ولا القبلة ! والصوت ، قد تبعثره الرياح ، فيا ليلة العشق النوبي ، كوني وإنفتحي لأغنيك ، أغنية خصوصية تنادي الرياح التي سكنت في الخيول ، فأنت فينا قمرا مزهرا ونجما ، هكذا حدثتنا المدائن القديمة والصبيات الجميلات عند النهر ، فقد يأتي الصوت إلينا ولا يصل الموت في هذا الزمان المسخ ، الزمان الذي نفتش عنه ثم لا نجده ! تلك قصائدك تضئ من حولنا ، معلقة علي صهوات الخيول والبرق ... فالمسافات بيننا جد قصيرة والبعاد طويل طويل  ، فلا نلتقي إلا عبر القصائد والكلمات والرحيق النوبي المعتق ! يا أبو الشعراء* ، ذلك ما قد جعلنا في التنائي ، أهي  " القبعات الحديدية "* ، أم " العيون الرصاصية  " *، أم هو " الجزموت النهائي " * ، أم تري هو القبح السائد ذو الهيمنة وقد أسفر فينا فإنزوينا ؟ و يا أبو الشعراء ، كم وددنا تكون معنا فتحدثنا : عن الشعر والوطن و ... عن المرأة ، عن اللغة النوبية وإنتقال المفردة النوبية في ترحالها التاريخي إلي غرب الوطن ... قد كنت تقول لي : " أجدادي كانوا هناك " ، وكنت أضيف إليك أنا : " نعم ، و ... بقوا هناك ، فقد أستهواهم الجسد الشهواني لحبوباتنا الأفريقيات كمال قال عبدالله علي إبراهيم يوما " . وتحدثنا عن دخول العرب والإسلام للسودان ، وكيف كانت سيادة النوبة في وجه الوطن ، ثم – من بعد – سادت العرب ، وكيف ؟
وكيف تراجعت اللغة النوبية الجميلة ، و... النوبة كيف هم قد أصبحوا في الشتات ! ولكنت – أيضا وأيضا – ستحدثنا عن التراب والنهر والأغنية ، عن حي  " أدونقه " * البتول حيث طفولتك وبراءاتك الأولي ولم ظلت تصاحبك – من بعد – كل حياتك ، و ... عن
الأرقينية * التي كانت – وظلت – ينبوع الهامك في الشعر والقصيدة ، أيكون حديثك إلينا هو تاريخ اللغة والشعر والعشق النوبي ، أم هي مرحلة ، مجرد مرحلة ما في مسار حياتنا ؟ لربما كان الأمر كله لا يعدو إلا أن يكون تاريخا ما ، حامضا ومالحا ، وجميلا بهيا كما نراه ونعيشه ، لربما ! أم تري سيكون حديثك كما هي " حبيبتي الملح والأصدقاء " * ، و ... ولا أزال أتذكر جيدا " بائع اللبن " * ، ذلك الرجل فارع الطول الذي يفتح الباب عليه وهو واقف كما الوطن في مواجهة سيدة البيت الجميلة !

بورتريه للشاعر :
شبيه " أخناتون " ، طويل القامة جدا ، يبدو كنخلة باسقة تقف في مواجهة البحر ، والنوبيون يطلقون لفظة بحر يريدون به النيل ، نيلهم الذي هو ملامحهم وثقافتهم وماء حياتهم ، وينطقونها " بهر " . في ملامحه شئ من النيل ومن الجروف أيضا ، من النخل في أأفتراع شموخه وتعاليه والكثير من التاريخ . محددة جدا وواضحة جدا كل تقاطيع وتفاصيل جسده الفارع : الوجه لكأنه قد نحت من صخرة جرانيت ملساء وصلبة فتشي بوضوحه الجارح ، تماما مثلما تمثال ترهاقا الذي يحتفظ بنضارته كلها حتي يوم الناس هذا . له أنف طويل وناهض كمنقار طير جارح كبير ، أشبه ما يكون بأنف عبد الناصر وأمل دنقل ، يتقدم الوجه كله في شموخ متعال ، شعر رأسه ناعم كما السعدة * التي تنبت في جروف الشمال في حضن النيل العظيم ، مرسل بعفوية تامة إلي الوراء ، بلا أي اهتمام منه يتجه صوب الوراء ، لكن الرياح والمشاوير اليومية الكثيرة هي وحدها التي تمسك به فتأخذه حيث تشأ ، فتراه في كل يوم علي هيئة وحال . عيناه ، كأغوار  " البهر " ذاك الذي في النوبة البكر ، زرقاء وعميقة ، لكنها موحية جدا وذات معاني وصور ، تري فيهما سحب الشتاء وصفاء الأيام وبراءة الأطفال ، فيهما حول خفيف حبيب ، مثلك ذلك الذي كان يطلبه ويلح عليه الشاعر العربي القديم :
( أن العيون التي في طرفها حول
  قتلتنا ...
  ثم لم يحيين قتلانا ) * ...
لكنه ، دائما ، يغمض اليسري ، اغماضة سريعة مترددة ولكنها متكررة ، فتبدو أصغر حجما من اليمني ، وأري مثل ذلك كثير منها لدي النوبة رجالا ونساء ، ولست أدري لذلك كله سببا ، أهو الطقس ، أهي الشمس في سطوعها المستمر ، أهو الغبار الرملي ، أم بسبب من البيئة نفسها وتأثيرات المكان والناس والأشياء والنبات والحيوان معا ! أصابع يديه طويلة أيضا ومعبرة جدا ، لكأنها بعضا من لسانه وإفصاحه ، تكاد تحس من جراء حركاتها وسكناتها أشعاره ودواخله نفسها ... يمشي بخطو واسع عجول فتكاد تظنه مهرولا ويود أن يلحق بموعد هام ينتظره ، أو لربما – بسبب من خجل حييي – يرغب أن يتواري سريعا عن الآخر ! يحب كل الناس ، حتي من نعدهم أعدائه فأنه يحبهم بتسامح غريب ، ويصادق الفقراء من بين الناس فيصورهم في أشعاره وقصائده ويري من خلالهم الدنيا ذاتها ، دنياه وعوالمه . يمشي أيضا كما السياب ، يرفع رأسه إلي أعلي ، إلي السماء وإلي فوق ، ويشمخ بأنفه عاليا عاليا بكبرياء كبيرة وإعتداد ، كبرياء الشاعر الكبير واعتداده بنفسه ، بذرة نامية في دواخله تمده بالوهج ، وهج الشعر وألقه وعنفوانه .  يرتدي من الملابس أبسطها وأقلها سعرا فيبدو بسيطا وفقيرا في مظهره ، فتراه بالقميص العادي قصير الأكمام والبنطال ويتكرر عليه كثيرا نفس القميص وذات البنطال لأيام عديدة قادمة ، لكنه لجأ مؤخرا ليكون في الجلباب والعمامة المبعثرة علي رأسه ... بسيط كماء النهر والجدول ، وكما الرؤية يسعي بين الناس ، رؤية الطفل في براءته الأولي ، عاديا كما لغة الحديث اليومية ، لكن في دواخله تكمن الكثير من براكين الشعر والإبداع ، عصية علي التخفي فتطلع منه علي الورق شعرا و ... مسرحيات لأجل الفن والحياة ، لأجل الوطن وشعبه ، شعبه النوبي و شعبه السوداني في تنوعه المثير ، إنسان كبير ، وشاعر كبير !

عن الشاعر أيضا وقصيدته :
كنت ، في زمان سابق ، قد كتبت شيئا عن قصيدة كمال ، لمناسبة الأوبريت النوبي الكبير " دهب ودهيبه " ، وهي التي أعدها نقطة التحول الحقيقية في توجه كمال كليا تقريبا لكتابة المسرحية الشعرية ، كتبت أقول :  لم أجد مدخلا أرحب وأفضل من قصيدة " نوبيا "
للشاعر النوبي محمد علي أحمد* تصلح لتقديم اضاءة موحية وعميقة عن وجدانيات وجوهر قصائد كمال عبد الحليم ، أعني مجموعات قصائده في مخطوطة ديوانه الذي لم يطبع بعد ، النوبية منها وغير النوبية ، فقصائده وأشعاره جميعها تجد فيها ظلالا وانفاسا ورائحة ، هي علي التأكيد ، ظلال وانفاس ورائحة النوبيا ، وفي ظني أن شاعريته – في جوهرها العميق – نوبية خالصة ، وأن توهج شاعريته ونبضها الحي يصدران من هذا النبع بالذات ، الينبوع النبوي ، تقول القصيدة :
( الجبل ، الباخرة ، الموية
  الباخرة ، الجبل ، الموية
  الجبل ، الموية
  الباخرة ، الموية
  الموية ، الموية ، الموية !
  ...   ...   ...
  الموية الشلت رحم الأرض
  ال كان ولاد
  الموية الغطت
  كل حضارات الأجداد !
  أمات كنجي وو دنياد
  وو أقر كنجي وو دنياد !
  ...   ...   ...
  دغيم الموية
  دبيره الموية
  أرقين الموية
  اشكيت الموية
  ...   ...   ...
  الجبل ، الباخرة ، الموية
  الباخرة ، الجبل ، الموية
  الجبل ... الموية
  الباخرة ... الموية .
  ...   ...   ...
  الموية ... الموية ... الموية
   ياحليل بلدينا ... واااي الليل ! ) .

الموية ... الموية ، هو ماء نهر النيل الذي كان قد سبق وحمل الباخرة ، وهو نفسه الذي غطي وجه الحضارة النوبية العريقة وجسدها في وادي حلفا وقراها ، والتكرار في القصيدة متعمد مقصود ، توجعات مؤلمة في الروح كنشيد نازف لهذا الجرح العصي علي الإندمال والشفاء لآماد طويلة قادمة في الحقب والأزمان . وأتت الأمكنة التي هي بعضا من القري النوبية من حول حلفا ، وقد أغرقتها المياه ( دغيم / دبيرة / أرقين / اشكيت ) صرخة تفجع نازفة وحادة في أفق مفتوح في وجه الزمان " الشين " ، الراهن ولربما الآتي أيضا ! وقد عرف النوبيون بإعتزازهم الجرئ بتاريخهم وحضارتهم ، لا يتخلون عنها البتة ولا تغيب عن رؤاهم ووجدانهم وهم في بلبال الحياة وضجيجها وقسوتها . التصق التاريخ والحضارة لديهم بتكوينهم الفكري والنفسي ويكاد هذا الإلتئام الحميم يطفح علي سيماؤهم وملامحهم جميعها . أما التراث الثقافي النوبي ، وأما اللغة النوبية فإنهما قد إمتازا بمقدرات فائقة الغني والثراء في الفصاحة والإبانة والقول ، في الغناء والموسيقي و ... الشعر .  النوبة قوم ترجع جذورهم هنا في السودان إلي القرن الأول قبل الميلاد ، قطنوا إلي حيث ضفاف النيل في ما بين مروي القديمة وبين انحناءة مجري النيل في الدبة ودنقلا ... وأدخلوا معهم اللغة النوبية لأول مرة إلي مناطق النيل ، فأصبح لفظ نوبي يؤشر إلي دلالات جغرافية وعرقية ولغوية وحضارية واحدة بعينها ،  وفي الروح النوبية ، تماما كما في الأرض والتراب ، توجد الجذوة حية ، عفية تنشد السقيا والطلوع ، وسيكون لكمال ، في قصيدته  ، ومن بعد في مسرحياته الشعرية ، ملامح ومهمات الطلوع التي تسهم وتدعم بقدر كبير في بعث الروح النوبية صوب نهوضها الآتي .
حدثت الهجرة النوبية الكبري العام 1963 ، وكانت في جميع وجوهها تهجيرا بالإكراه هذه المرة ، تهجيرا قسريا بسطوة قوانين الديكتاتورية وجبروتها الظالم . فأصبح ذلك العام عام السواد والسير في جماعات ، تكثر أو تقل ، وقد انفرط عقدها صوب الشتات في الواطن " الحدادي مدادي " علي قول محجوب شريف الذي نتمناه في العافية التي تلد ، باتجاه المجهول والزمان الخشن . شمل التهجير وقتذاك مواقع النوبة كلها ومواطنها الأصلية من غابر الأزمان ذات العراقة وعبق التاريخ الحي في شمال السودان وجنوب مصر ، وأمتدت آثار وتداعيات تلك الهجرة فأصابت الأفئدة والقلوب والوجدان الجماعي للنوبة كلها ، فكست اشارات الحزن ومرارات الفقدان الوجوه والسحنات والملامح ، وصبغت – بالسواد وعتمته الكثيفة المرة – الوجدان الثقافي للنوبة ، في الشعر والمسرح والأغاني والموسيقي و ... اللغة . يقول الشاعر النوبي المصري محي الدين صالح * :
( حنانيك يا نيلا غمرت بلادنا
  كسيل طغي فانهار منه المنازل
  أتسمنا يا نيل ، أم هان ودنا
  فغاصت بقاع النهر " حلفا " و " قسطل " ؟
  وأغرقت يا نيل النخيل ...
  وأين ما نقدمه للضيف حين نجامل ؟ ) ...
ثم يمضي ليقول بالحسرات الكثار وألم موجع يطال منه الروح والذهن وأفق الثقافة لدي النوبة جمعاء :
( فأسلمت نفسي للرحيل وأنني
  بأسرار ما حاكوه بالليل جاهل
  وغادرت أرضي محبطا متشائما
  أسائل نفسي ، أين ترجي الفضائل ؟
  حنانيك يا نهرا أضيع جواره
  وغرر فيه الأهل ظلما ليرحلوا !
  أعدل يواري إرث أجدادنا هنا ...
  ويهجر درب سار فيه الأوائل ؟؟ ) .
إن هذا الواقع القاسي ، بكل دلالاته وجروحه ونزيفه المستمر ، وبالشروخ العميقة التي أصابت الروح النوبية المبدعة ، أمتد ليطال فيبلغ الذهنية الثقافية النوبية في أعماقها الحية . ولكن سرعان ما تبدأ بذرتها العفية في النمو والإزدهار ، وتبدأ – في ذات الوقت – تكتسب حيويتها ودفئها ودورة حياتها الملهمة ، بدأت إذن ، الزهور والورود تطلع في الحديقة النوبية المزهرة . والجدير بالملاحظة هنا أن كمالا كان يحرر صفحة كاملة بصورة راتبة في اصدارة " أولوس الأدبية " بكسلا تحت عنوان ذو دلالة عميقة : " كتابات علي ورق الورد " ، تري هل كان ينظر وقتذاك ، بوجدان الشاعر النوبي وعقله ، إلي هذه الحديقة النوبية المزهرة في طلوعها ؟

الشاعر من دوحة الشعر إلي خشبة المسرح الشعري :
كمال هذا من بين الرعيل الباسل في تأسيس ونشأة " رابطة أولوس الآدبية " بكسلا ، وهو أيضا – باستثناء وهيط – للشاعر المؤسس الكبير الراحل كجراي ، فقد " بدلوا  مواقع إبداعهم : الراحل مبارك أزرق أدار قلبه ومخيلته بعيدا عن القصة القصيرة التي أبدع فيها صوب المسرح ، وديشاب بشاعريته العبقرية غدا يعد في النابهين في الدراسات والبحوث اللغوية واللسانيات ، أحمد طه الجنرال ، لم يسير في إبداعه التشكيلي والشعري فغدا معروفا ككاتب مجيد وصحفي لامع ، كذلك – وياللمفارقة – فعلها أبو الشعراء إذ أكتفي بديوانه الوحيد " حبيبتي الملح والأصدقاء " وأتجه بكلياته صوب المسرح الشعري ، وعندما كنت أسأله ، وأينه الشعر ؟ يجيبني ضاحكا : " أهو كلووو شعر في شعر ! " ... وأظنني في التعجب والدهشة والسؤال عن دوافع تلك التحولات العميقة في إبداعهم ، وفي خاطري أن المسرح عندنا يعاني الآن اضمحلالا وضمورا ملحوظا في حياتنا الثقافية . وكنت قد تحسرت بالأمس القريب لواقعتان في شأن المسرح : الأولي حين أنبرت جماعات أدبية بالتعاون مع المركز الثقافي الألماني فاحتفلوا بأسطورة تاجوج في شأن مسرحتها ، كانوا جميعا في كنف مسرحية " تاجوج " لخالد أبو الروس ، فتعجبت حد الألم كيف لهم أن تجاهلوا " لغز تاجوج " لمبارك أزرق بتناولها الفذ غير المسبوق لهذه الأسطورة الجميلة ! الثاني كانت احتفاليات يوم " البقعة المسرحية " ، فإقتصرت علي ترديد وعرض ما يتكرر عرضه وتناوله لأكثر من عقدين ولم يشر أحدا لمبارك أزرق أو كمال عبد الحليم الذي كنت قد نشرت حوالي العام ... دراسة مطولة تنويها وتذكيرا بمسرحيته الرائدة " دهب ودهيبة " علي صفحات " الأيام الثقافي " ! مخطوطة كمال لديوان شعره " حبيبتي الملح والأصدقاء " بحوزتي ولا أزال أبحث عن ناشر لمجموعاته الأدبية الكاملة ، فله في المسرح : " دهب ودهيبة " ،  و " موال عشان بلدي " مسرحية شعرية بالعامية في لوحات ، و " مؤانس الرئيس " مسرحية شعرية بالفصحي من فصل واحد .
مخطوطة ديوانه " حبيبتي الملح والأصدقاء " يحتوي علي ... قصيدة ، والوجه النوبي فيها لامعا ومضئ ...
كمال الآن ، ترك الوظيفة ، فقد كان يعمل كاتبا ( باشكاتب ) في قسم االهندسة بالسكة الحديد ، من بعد عمل لفترة ليست طويلة بالشركة العربية للإستثمار الزراعي في منطقة القضارف وما حولها ، الآن يمكث في القرية خمسة  أرقين " في حلفا الجديدة ، يكون في الشعر المسرحي ويكونه ، بصحبة زوجته ورفيقة حياته فريال حسن عربي ، ولهما من البنات خمسة : شذي ، صافي ناز ، إيمان ،
نازك الملائكة ، آلاء ، والأولاد : الوضاح و عبد الحليم . التحية لأبو الشعراء وهو في رحلته المجيدة ليدخل الشعرية في المسرحية السودانوية و ... بظلالها النوبية السمحة يا مبارك بشير !
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*  " أبو الشعراء " ، هكذا كان يناديه صديقه القاص والمسرحي الراحل مبارك أزرق وسار عليه أصدقائه .
* " أدونقة " أحد أحياء أرقين قرية الشاعر كمال ومسقط رأسه .
* " الأرقينية " نسبة إلي قرية الشاعر ويعني بها تلك الطفلة البريئة الجميلة وقد تعلق بها قلبه الطفل وقتذاك .
* " حبيبتي الملح والأصدقاء " قصيدة للشاعر تنبأ فيها بانتفاضة مارس / أبريل التي أطاحت بديكتاتورية نميري ، وجعلها عنوانا لمخطوطة ديوانه .
*" بائع اللبن " أحدي قصائده الجميلة في مجموعته الشعرية .
* " السعدة " هي النجيل الطويل الناعم الملمس ينمو علي ضفاف النيل وجروفه . كانت العبارة في أصل المسودة : ( كما الحرير الذي في شمال الوادي ) وجري تعديلها نزولا علي رأي القاص الراحل محمد علي المصري بمصنع سكر الجنيد .
* قصيدة " نوبيا  للشاعر النوبي محمد علي أحمد نشرت في كتاب " في سيرة جمال كاتب سرة شرق " سلسلة دراسات ثقافية ودبلوماسية – مطبعة جامعة الخرطوم 1988 ص ( 78) .
* قصيدة الشاعر النوبي المصري محي الدين صالح نشرتها مجلة العربي الكويتية العدد ( 465) أغسطس 1997.