Powered By Blogger

السبت، أغسطس 25، 2012

عن صديقي !

                                                                  * محمد مدني *
* ماكتبه الشاعر عادل عبد الرحمن عن صديقه الشاعر محمد مدني :
   نقلا عن : دار الشاعر عبد الرحمن / المدونة .
--------------------------------------------
عن صديقي

"خديجة إدريس أسفدايْ قبْرِي هِوَتْ قُبُطانْ" ، حبلت بطفلها البِكر في السودان منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم ، ولكنّها
أصرّت على أن تضع حملها الأوّل بأرض الآباء والأجداد / إرتريا ، ففعلتْ . وعادت بطفلها في شهوره الأولى حاملاً اسم "محمد
محمود الشيخ أحمد" ، الذي نشأ وترعرع بمدينة ود مدني . تلك المدينة التي سوف يحمل اسمها لاحقاً ، حين "يعود" إلى حيث دُفنت
سّرته .. يعود إلى تلك الأرض للمرّة الأولى وهو في مقتبل العشرينيّات بعد أن فارقها في المرّة الأولى وهو بعدُ خُديْجْ . .
هذا الشابّ الطويل النحيل المَعصْعصْ ، التراهُ يسير في شوارع "مدني" التي يحفظها عن ظهر قلب ، اليعرف بيوتها بيتاً بيتاً مشرِعة ً
أبوابها له ، اليعرف عوائلها اسماً اسماً .. فرداً فرداً .. اليبزّ صعاليكها وشرّامتها في التناقر والتنافس على طولةِ اللسان ، المحبّب
لدى نساء الحيّ : عجائزهنّ لونسته التي تبعث فيهنّ السرور ، وصباياهنّ لأناقته في الكلام . الشاب القنفذ، القادر على إضحاك
المجالس في بيوت المآتم والأفراح .. كان يغيظ أقرانه ويثير في نفوسهم الغيرة والحسد ، فينعتونه حين تغلبهم الحيلة، متفائلين بإثارة
حنقه: "يا أرتري" ! فيعيّرهم ، مضمراً غبطته ، بقبائلهم وأصولهم العرقيّة : يا شايقي ، يا حلبي ، يا فلاتي ، يا دنقلاوي .. يا جعلتي!
ذاك الشاب ، حين تدخل بيته ( الذي كان نصفه مكتبٌ لجبهة التحرير الإرتريّة ونصفه الآخر سكنى العائلة ) سترى فيه وجوهاً أخر :
فربّما ذهب توّاً ، ما أن تخطّى عتبة الباب ، إلى اجتماع ٍ طلابي أو شبابي أو تنظيمي لأحدى أذرع "الجبهة" ، وإمّا أن انضمّ إلى
الاجتماع الدائم للعائلة ! فهذه العائلة ( أب وأم ، أربعة صبية ، فتاتان وابن خال وزوجه ) حين يكتمل نصابها ستختلط عليك الأمور ،
خاصّة ً لو كنت حديث عهدّ بهم : أسودانيّون هم أم إرتريّون ، هل هذا اجتماعٌ عائليّ أم سياسي ؟!! وسيصعب عليك تحديد المسار
للخيط الرفيع الفاصل بين الجد والهزل . ولربّما ذهب الشاب من توّهِ ، حالما تخطّي عتبة الباب ليواصل القراءة في كتاب ، أو أغلق
باب غرفة ٍ خالية ليدوّن أبيات شعر كان قد بدأها في ذهنه على قارعة الطريق ..
 ( سأذهب غداً ) !
فاجأني بالخبر دون سابق إنذار ، أعني أنّه بالرغم من أنّنا كنّا نتحدث عن جدوى وضرورة ذهابه إلى "الميدان" وبشكل شبه يومي منذ
عامين ، إلا أنّه كان قد فاجأني بالخبر مساء ذلك اليوم من العام 1977 ليفعلها غداً . وما أن وطأت قدماه أرض المعسكر ( نمرة 8 )
وقام بتعريف نفسه ، شرعوا في مناداته ب : محمّد السوداني . وظلّ يحمل ذلك اللقب إلى أن ضبطه ذات يوم الرفيق/ محمود كداني
( المعلّم بمدرسة الكادر – خرّيج سجن "ألَمْ بكّا" التي تعني نهاية العالم في الأمهريّة ) حين ناداه ب : محمد مدني ..
ذلك الاسم الذي ظل يحمله منذ شبابه وحتى المشيب .


===================


و بعد شهورٍ قليلة من ذهاب "مدني" إلى الميدان الإرتري اتصل بي الصديق/ حاتم محمد محمد صالح ( الكاتب
والناقد المسرحي ) من الخرطوم ، والذي كنت لم ألتق به بعد إلا من خلال حكاوى مدني عنه ، هاتفني :

- معاك "حاتم" من الخرطوم ..
- أهلا ً حاتم ، خلاص ناوي تجينا أخيراً !
- لأ ، حتجينا إنتَ - يوم الخميس زواج "محمد محمد خير" ، حتلاقي "قبيلة الشعراء" مجتمعةً في عُرس الشاعر .. (حينها) !
- طيّب ، فرصة عظيمة . حأكون معاكم يوم الخميس .. أيوة الساعة خمسة في كبكبانا ما بطّال .. بس حنتعارف كيف ؟!
- حتلاقي عب أزرق لابس جينز وشايل مخلاية ، وللتأكيد ، مُصبعو الكبير مارق من الكبَك .. أظن كده حتعرفني !

وبالفعل،حين دلفت إلى ذلك الصالون في تلك الضاحية (الكلاكلة) من ضواحي الخرطوم ، شاهدت ذاك النفر من
"قبيلة الشعراء" الذي قلّما يجتمع في مكان ٍ واحد : شيخنا / محمد المهدي المجذوب - النور عثمان أبّكر - محمود
محمد مدني - حسن أبو كدوك - عبد القدوس الخاتم - سامي سالم ، و.. و..
واسقنا بالصبوح يا بهجة الروح : عرسٌ ، خندريسٌ وشعرٌ .. وفي تراطم القراءات ، في تلك الأمسية التي هي من
صنع إنس ٍ وجن ، التفتَ نحوي "شيخنا المجذوب" متسائلاً :
- وأنتَ يا بُنيْ ، ألا تكتبُ الشعرَ ؟!
- ليسَ بعدُ .. ( قلت له) ولكن سأقرأ لكم من شعر صديق اسمه : محمد محمود الشيخ !
وقرأت لهم ما مطلعه : ( أنا أيضاً أسافرُ في فناء الجرح لا أرقى إلى مرقاكِ .. )
وما ختمه : ( ألا إنّا لمأخوذونَ ، مسحورون ، مجذوبون لا نرضى سوى بالسامق المتسنّم الصهوات ) ..

وحين أتممت القراءة همهمَ "الشيخ" ، دون أن يكفّ عن هزّ رأسه :
" هذا شعرٌ يا بُنيْ " .. " هذا شعرٌ .. " ..

وبعد شهور قليلة ، حين لحقت ب "مدني" وجلسنا سويّةً كان هذا أوّل ما حكيتُ له :
" شهادة ُ الشيخ " أل/ قلّما كان ينطق بها !

تنويه :
هذه المقاطع من مداخلتين في "بوستين" نُشرت بموقع "سودانيز أون لاين" للصديقين مطر قادم ، وحاتم محمد صالح .

ليست هناك تعليقات: