Powered By Blogger

الخميس، ديسمبر 29، 2011

أنه يصحو ، أنه يحيا ... إلي كجراي !

للموت
رائحة البقاء ،
وللموت حضور بهئ في الحياة !
تكسرت المرايا كلها
وتناثرت مزقا كما الليل البهيم
وأشتد في الناس الذهول !
صارت الكلمات كالاعشاب ،
تتسلق الجدران
والكثبان
والرمل الطري ،
وتقتحم الدروب إلي العقول !
فتدور ساقية الحياة ،
يشع فيها الدفء
والدم
والتجلي الواقعي
والمعني الجليل لتداعيات
الرفض في زمن الوصول !
كان فينا شاعرا ...
رفد المخيلة
بالبديع من المعاني والصور
ينثر الكلمات في من حوله
دررا درر !
يعطي ... ويعطي ...
يهب البنيات الجميلات
الصبايا
أنجما ،
وسحائبا ،
وقلائدا ... من الورود ،
من البروق ومن المطر !
فيحزن إذاك أقنعة القبول
ويبتعدن بفضله
عن الوعورة في الدروب الموحشات !
وعن التزلف في بلاط الحاكم المجنون
وعن التشابه دونما سبب للمفردات !
وعن بريق الصولجان
والتماهي والتبرج في البيان
بعيدا عن أشارات الذبول
قريبا من بدايات الفصول
في قصيدته ،
وضع الحقيقة
والرياح ...
البحر والمدي الممتد ،
الفقراء والناس الذين
عليهمو عبء التساؤل والثبات !
وأرخي السدول علي قصيدته ،
أكسبها غموضا لينا
وجسارة في اللون ،
فتوهج المعني
وأشرقت العبارة !
ياعزيزي :
" وطن الصحو أضحي يثمر
الكوثر الأحمر وعدا وبشارة
ويعرف التاريخ
نضالا وصمودا
ولايري في مقطع الشعر خسارة " !
فأمض عنا ، ياحبيب الروح ،
فما شعرك إلا
شاهق المعني
وفي الابداع عنوان جسارة !
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
** الابيات بين الاقواس تنويع لمقاطع لكجراي يقول فيها:
"وطن النسيان لايثمر
غير الحنظل الاصفر
حقدا ومرارة
يعرف الربح
عقودا ونقودا
ويري في مقطع الشعر الخسارة "!

الأربعاء، ديسمبر 28، 2011

كن في الحشود الرفيق ، إلي صديقي الشاعر والمناضل المغربي محمد نور الدين بن خديجة !

لا تقولو له تمهل
بل زيدوه في الحب إكتمالا
ودعوه يزرع الساحات وردا
وشموعا ونضالا
ياصديقي ...
وأنت تطوف بالعمر
من أجل أن تجدد لنا معني التقدم والصراع
وفي الناس المسرة والسلاما
لا ليقضوا العمر صبرا وإبتهالا
فكن ياصديقي ،
في الحدائق
وفي الفواكه
وقل للشعراء الجدد
أن يعتنوا بضمير الغائب
وللجميلات قل لهن
أن يستجبن إذا تمني العاشقون
وللشعر قل :
حلق
بجسارة فوق عصرك
وليسطع ضوء المستقبل في مرآتك
ولو بشكل
خافت
وللسيدة المغربية في الغمام
بلغها ، ياصديقي
السلام
وكل الهيام  !

السبت، ديسمبر 24، 2011

الرفيقة عطا أو ... المرأة التي أحببتها !

إلي عاشقة الطمي والحبو الجميل : الأستاذة حكمة أحمد !
-----------------------------------------------------
عبد الرحمن وعطيات الأبنودي ، أمل دنقل ، ويحيي الطاهر عبد الله ، نجيب سرور ، وزكي مراد ومحمد خليل قاسم ، جميعهم من الصعيد في جنوب مصر ( جاءوا القاهرة مطلع الستينيات من القرن الماضي ... حضروا للمدينة الكبيرة تدفعهم حمي الثقافة وقلق وتوتر الأبداع . الأحلام وقتذاك كانت كبيرة، تحفها الطموحات – كالهالة تحيط بالقمر – فتجعل الحياة أحلي وأنضر ، وتستحق أن تعاش ، بكامل حيويتها وفاعلية الوجد والعنفوان الأنساني .
وقتذاك – في ذلك الزمن الذهبي الجميل – كتب أمل ديوانه الأول " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " ، وكتب نجيب سرور " ياسين وبهية " ، و " الشمندورة " تألقت في سماء الثقافة أبداعا جميلا لمحمد خليل قاسم ، زكي مراد كان يكتب أشعارا جميلة ، يعلقها علي صدور العمال والفقراء والمثقفين ، نياشينا وأوسمة لامعة تجمل صدورهم وقاماتهم ، ويسعي هو ، في ليالي القاهرة ونهاراتها ذوات الضجيج، مناضلا سياسيا وقانونيا مديد القامة ومدافعا صلبا عن الحريات والحقوق والحب والعافية . يحيي الطاهر عبدالله بزغ – كما النيزك المتوهج – قصاصا عظيما بقامة النخيل ، ناهضا بأبداع مدهش بحجم الدنيا والناس قاطبة !
عطيات عوض محمود خليل ، تخرجت في كلية القانون ، تهوي التمثيل والرقص والفنون ... لكنها ، أيضا ، درست وتخصصت في الأخراج السينمائي للأفلام التسجيلية ، حتي غدت من أكبر مخرجي الأفلام التسجيلية في مصر والعالم العربي . كات تود أن تكون راقصة ، ولكنها أسبعدت بعد المعاينة الأولي ، فذهبت لعالم السينما وتخرجت العام 1972م في معهد السينما في مصر وذهبت لانجلترا فدرست تقنيات السينما التسجيلية ، وعادت لمصر فعملت في حقل السينما الذي أصبح مجالها الحيوي ودنياها !
عبد الرحمن الابنودي وعطيات تزوجا .أصبح عبد الرحمن شاعرا كبيرا في العامية المصرية ، ولمع نجمه فتألق ، وظل يكتب أشعارا جميلة تقف في صف الفقراء والكادحين ، أشتهرت قصائده جدا ، وعرف في الناس شاعرا كبيرا وصعيديا تقدميا ، يحقق بأشعاره أحلاما وطموحات نبيلة تسعي بينهم وتبشرهم بغد جميل ورائع سيأتي ! عطيات ، هي الأخري ، أصبحت مشهورة أيضا : كاتبة ومخرجة سينمائية وتقدمية كبيرة ، حملت الهم اليومي للفقراء في سويداء قلبها ، داخل حقيبة يدها النسائية ، وسارت في الحياة بنبل وشرف ووعي كثير ! عطيات وعبد الرحمن تزوجا إذن ، ولكنهما ، والسنوات تمضي بهما ، لم ينجبا ! ولم يكن ذلك يشكل لديهما مأزقا أو أزمة من أية نوع ، الحياة من حولهما كانت جميلة ، وصورا بديعة ملونة تزحم عليهما مخيلتهما ، فقد كان التأمل في الحب عن كثب :
جسدي ريشة والمدي شاطئ
طريق الصواب
طريق الخطأ !
لعلني أخطأت ...
لكنها تجربة !
كانت الأحلام – وقتذاك – صادقة صدقا كليا ، والواقع أخضر ، والطموحات كبيرة ونبيلة ، ولهذا ظلت جمرة الأبداع لديهما متوهجة ، ساطعة لاتكاد تنطفئ !
أوائل سبتمبر العام 1979م ، في ذات عام زواجه ، يصيب السرطان أمل ! كان في ذروة توهجه الشعري وعطاؤه الخصب ، كان يخطو بشعره وتجربته الأبداعية خطوات نوعية جبارة صوب الأكتمال ، كان يكتب :
أيها السادة : ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف
وفي الظهر : الجدار !
آه ... ما أقسي الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر... مرة !
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !
   إلتجأ أمل وزوجه الكاتبة الصحفية عبلة الرويني للغرفة رقم " 8 " في الدور السابع بالمعهد القومي للأورام بالقاهرة ! وفي تلك الغرفة العجيبة ، قاوم أمل هجمات السرطان قرابة العام والنصف! عالم الغرفة كان عالما مدهشا يفيض بالحياة ، علي الجدران صورا ملونة بديعة وتنبض بالحياة وتعلو فوق الموت ! لوحات كاريكاتورية وقصائد شعر جميلة ، صورة يحيي الطاهر عبد الله معلقة علي الحائط المواجه ، وعلي الجدار المجاور علقت بطاقة من ياسر عرفات ، ثم رسم كاريكاتوري لجورج البهجوري حاملا باقة من الزهور الندية المتفتحة للحياة إلي أمل في سريره ، أرسلها إليه من باريس حيث يقيم منذ سنوات عديدة ! قصيدة حسن طلب " زبرجدة إلي أمل دنقل " التي نشرتها مجلة الدوحة القطرية معلقة إلي جوارها ، ثم قصيدة أمل البديعة الأخيرة " ضد من " تجالسهما ، أو بالأحري ، تجالس أملا نفسه ! بالغرفة – أيضا – مزهرية كبيرة ملونة تطل منها الورود دائمة الصحو ... ومن تلك الورود ، كانت " أسماء " أبنة يحيي الطاهر عبد الله ، تأخذ منها واحدة تضعها في شعرها عند كل زيارة تأتي فيها أمل ، كانت تفرح بتلك الورود والأزاهير الندية ! " أسماء " – فجأة – تنظر إلي قدمي أمل ، تنظر إليهما مليا وتقول مخاطبة عبلة : " أنه لا يحرك رجليه " ! ، فتقول عبلة ، معزية لنفسها وليطمئن قلب الصغيرة ذات الأعوام الستة : " نعم يا أسماء ... أنها توجعه قليلا " ! وفي اليوم التالي مباشرة ، كانت " أسماء " تحمل معها رسما ملونا لأمل وهو خارج السرير، بأرجل معافاة، في حديقة مليئة بالزهور ، طليقا كما العصفور في مواجهة الحياة والكون بأسره ! يأخذ أمل تلك الرسوم ويعلقها علي الحائط بجواره ، ويواصل – بأصرار عنيد وأبداع عميق – كتابة الأشعار الجميلة ... أبدا لم يتوقف ذهنه المتوقد عن الكتابة المبدعة والشعر العظيم حتي آخر رمق من حياته الخصبة !
زار يحيي أمل في مستشفي العجوزة عند أجراء الجراحة الأولي العام 1979م... ولكنه لم يحتمل فكرة أن أملا يمكن أن يموت ! عذبته فكرة رحيل أمل عن هذه الدنيا الجميلة الرائعة ... وكان أمل أحد أجمل وجوه الدنيا الجميلة تلك ... قال لعبلة متسائلا بمرارة قاسية : " لماذا يموت أمل بينما أولاد الكلاب أحياء ؟ " ... وبكي بحرقة مست وجدانه كله ، وزلزلت كيانه الأدبي الخلاق ... ولم يأت أبدا لزيارته من بعد !
نجيب سرور يصاب – فجأة – بالذهول عن الحياة والناس ، ويموت سريعا كالومضة ! وزكي مراد يموت في حادث سيارة عبثي ، وهو يقود عربته الفلوكسواجن ، كان يود اللحاق بأجتماع سياسي ! ومحمد خليل قاسم يموت فجأة ، يرحل كما النزوة ويغيب ! والعام 1980م لم يبلغ منتصفه بعد يموت يحيي الطاهر عبد الله في حادث سيارة كان يقودها بنفسه ، وهو الذي حزن لفكرة موت أمل المتوقع ! يرفض أمل الأشتراك في كل مراحل غيابه ... لم يسأل عن الأسباب ، ولم يتكلم قط في تفصيلات موته ، ولم يثرثر بشكل عاطفي حول أبداع يحيي القصصي ، كان يقول : " أن يحيي خاص بي وحدي " ! قالها وبكي ... تقول عبلة بشأن هذا الموقف : " كانت المرة الأولي التي أري فيها دموع أمل " ! ولكن ، لماذا لم يكتب أمل عن يحيي ؟ تقول عبلة : " كان وجه القاص يحيي الطاهر عبد الله أحد وجوه قصيدة الجنوبي ... ولقد عذبت أمل كثيرا محاولة أستحضار يحيي داخل قصيدة ! ففي كل مرة يحاول أستحضاره شعريا ، يهرب يحيي وتهرب القصيدة ! ونسي أمل القصيدة ، حتي أطل يحيي في الورقة الأخيرة " ...:
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصبا ، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد
ليت " أسماء " تعرف أن أباها الذي ...
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود
ليت " أسماء " تعرف أن البنات الجميلات ...
خبأنه بين أوراقهن
وعلمنه أن يسير ...ولا يلتقي بأحد !
رحلوا ، وما تركوا سوي الذكري ، وإبداعات عميقة ومضيئة تعيش دورات حياتها معنا ، ومن بعدنا أيضا !
عبد الرحمن وعطيات يواصلان الحياة ، يعيشان سويا ويناضلان ، في الكتابة والأبداع والحياة اليومية ... يواجهان – معا – مظاهر الموت والذبول بالمزيد من الإبداع ، وبمقدرات عالية للصمود وتحدي الصعاب :
ويا قدرتي علي الصمود
ياتماسكي
مدد ... مدد ... مدد !
كان لويس عوض ويوسف أدريس حاضرين معهم ، وجابر عصفور يزورهما بشكل يومي ... وأحمد عبد المعطي حجازي يراسلهما بصورة منتظمة من منفاه الأختياري في باريس ، وكذلك كان يفعل الرسام جورج البهجوري ... وأمل لايزال صامدا ، وبأرادة فولاذية يكتب أجمل أشعاره !
عطيات وعبد الرحمن لايزالان سويا ، ولكن الدنيا بدأت تذهب عنها بهجتها المعهودة : أنفصلوا – عبد الرحمن وعطيات – عن تلك المشاركة الحميمة في الحياة وفي النضال وفي الإبداع ، أنفض زواجهما العام 1989م ... فكتبت عطيات كتابها الرائع " أيام لم تكن معه " ، ويلجأ عبد الرحمن للمخاكم والقضاء يطالبها بالتخلي عن لقب " الأبنودي " الذي ألتصق بأسمها ، فرفضت ، وكانت تصرخ : " هل هنالك في الدنيا أحدا يمكن أن يلغي تاريخه ؟" ، وظلت تجتفظ به حتي يوم الناس هذا ! وتبدأ تجري تحولات عميقة تطال وجهة الإبداع نفسها فتظهر في عيون الكثيرين مخيفة ومحبطة : صنع الله أبراهيم يبدأ في الكتابة المتخصصة للأطفال ! وتظل " نجمة أغسطس " و " اللجنة " علامتان بارزتان في مسيرة إبداعة وفي أفق الثقافة نفسها ! جمال الغيطاني يذهب بإبداعه كله – مرة واحدة – إلي كهف التصوف المعتم الداكن ويكتب " كتاب التجليات " ! أحمد فؤاد نجم يتخلي عن المغني والمناضل العظيم الشيخ أمام ، ويبدأ يجتر ذكريات النضال والشعر ، ويصبح وجها مالوفا لدي الفضائيات الحديثة ! ويموت الشيخ أمام كمدا وحسرة ومن جراء هذا التحول الرهيب ! وعبد الرحمن الأبنودي يتفرغ عشرة سنوات كاملة ليكتب ويحقق " سيرة بني هلال " ! وياللهول العظيم : ينفصل عن علاقته الزوجية بعطيات ! أيكون ذلك بسبب من التحولات العميقة في أساس الوجدان المبدع لشاعر العامية الكبير ، أم يكون ذلك بسبب من عدم الأنجاب ، أم يكون بسبب من " أسماء " ؟
في تلك اللحظات المترعة بمعايشة الأحداث الكبيرة والتحولات العميقة ، يطلب أمل – وهو ينازع الموت القريب – أن يستمع إلي كلمات الآبنودي عبد الرحمن ويغنيها محمد قنديل ، فيسمعها ويسمعها ويسمعها من جهاز تسجيل في غرفته :
يا ناعسة لا ، لا ، لا لا
خلصت مني القوالة
والسهم اللي رماني
هالكني لامحالة !
عند الرابعة من صباح السبت 21 مايو1983م مات أمل دنقل ! مات ولم تكتمل رحلة أبداعه ولا قصائده ، فظلت محاولته الشعرية الضخمة " أقوال جديدة عن حرب البسوس " غير مكتملة ، فقد رحل عنها وتركها تنشد الأكتمال في ذاكرة الأجيال المبدعة من بعد !
عبد الرحمن ذهب بعيدا في التراث ، ذهب ولم يرجع ، كما فعل من قبله محمد عمارة وحسن حنفي ! وبقيت عطيات : أبنودية ، صعيدية ، تقدمية ، تحيا حياتها بتواز حميم وعميق مع أفكارها في الحياة والناس معا ... فبقلبها الكبير الجميل ، كانت قد تبنت " أسماء " إبنة يحيي الطاهروأتخذتها أبنة لها ورفيقة حياة ... عطيات الآن ، طفلة تعيش ملء قلبها الحياة ، ولكنها في الحادية والسبعين ، فرحة جدا بالأنتفاضة وتقول : " عملوها أولاد الأيه ! أنتفضوا في 25 يناير ، العاديون ، أبناء العابرين ، بناة الأهرام ! قلبي أنخلع من الأنبهار ، وعاد ! " لقد عرفت التشرد والمطاردة والفصل من العمل والسجن ، فظلت سامقة كصنوبرة ، تقف عالية وتتحدي الرياح ! أخرجت ونفذت أكثر من خمسين فيلما تسجيليا نالت عليها جوائز عديدة في مصر وفي مهرجانات غالمية ! تقول عن وجهة عملها السينمائية : أسعي للتأثير علي وجهة النظر الذكورية وتغيير الأفكار البالية والعادات الموروثة التي تنال من حقوق المرأة ومن حريتها ... وعانيت في حياتي من القهر الواقع علي النساء ، ومؤمنة تماما بالمساواة بين الجنسين ". لقد صنعت أبطالا في أفلامها ، وسرعان ما نزلوا للشوارع وعمدوا بدمائهم أنتفاضة الشعب !
عطيات وأسماء ، أصبحتا نخلتان باسقتان ، بسمات ونبل الحياة ونضارتها الأولي ، وصدقها العذب ، علي شاطئ الحياة اليومية ... هما الآن يعيشان معا ، يعيشان كما ينبغي أن تعاش الحياة برفقة الشعب الغزال كما يقول درويش ... يبشراننا بالبراءة والأقحوان ... التحية العميقة من الجنوب لجدل الحياة وخصبها وعنفوانها الفوار ...هي الدنيا ... هي الدنيا وعليها السلام !

حياة و ... موت زكريا !

1_ وؤية خارجية :
-------------------
أزرق اللون ... كتمثال من القهوة . أبنوسي الملامح والسمات . طويلا كسنديانة ونحيفا . خفيفا كجناحي طائر ، ذو أنف دقيق وحاد. شعر رأسه كثيفا وطويلا ومتماسكا ، وشاربه يكاد يطفر من فوق فمه الدقيق الوسيم ... عيناه عميقتان ، داكنتان وغامضتان ... لهما لمعة لا تتركهما قط ، جبهته نافرة قليلا ومتحفزة . له يدان رائعتان ، أصابعهما نحيفة وطويلة قليلا ، ولكنها صلبة ، قوية ومشرعة أبدا للمشاكسة ، كانت أصابعه هي سلاحه الذي يلازمه دائما في الكتابة والقتال . مرة قال لي : " أنها أقلامي أحيانا ، وأحيانا كثيرة هي رماحي وسيوفي " !
كان يهوي السير مسافات طويلة علي قدميه ، كل الشوارع ، المسفلتة والترابية ذات الحفر والغبار ، كانت تعرف وقع خطاه . مرة ، دخل بعد مغيب الشمس إلي أمدرمان راجلا ، وتواري خلف الليل بضع ساعات ، وعند العاشرة كان يطرق باب منزل أحد أصدقائه بالبراري يريد قضاء ليلته معه !
نعته أحدي الصحف اليومية : " كان دمث الأخلاق ، محبوبا لدي رؤسائه وزملائه ، مجدا في عمله ، ناشطا ... و ..." !أما هو فقد ظل يردد : " في صحفنا لا أقرأ أعلانات الميلاد والزواج والموت ، فالخارج من هذه الدنيا كالداخل إليها ، كلاهما تعس ... فلم تعد تشغلني هذه الأشياء كثيرا ! "0
في جنازته لم يكن هنالك أكثر من بضعة أصدقاء ، فالنبأ لم يتسع مداه ليبلغ أطراف مدينته بعد ! عاش عمره القصير كومضة ، مات فجأة ، ودفن فجأة ... وعاش بقية عمره الحي في ذاكرة أصدقائه ومعارفه . سكن _ أخيرا _ في الشوارع وأختلط دمه بتراب مدينته ! أحد التشكيليين من أصدقائه رسم كل ملابسه وبورتريهات عديدة لوجهه وجسده ويديه ، وأحتفظ بها في غرفته الضيقة . كان يعرض اللوحات علي أصدقائه قائلا : " أنها مخلفات رائعة ، رموز لأحد أجمل شبان بلادي ... معذرة أصدقائي ، لن أعرفكم به شخصيا ، فقد رحل عن دنيانا فجأة " ! و ... تختلط الألوان ، تنساب اللوحات رموزا واضحة علي أفئدة الأصدقاء ، وتسكن كل التفاصيل تلك الغرفة ... تتسع الرؤيا ، ينكشف المستور ، فيسود التشكيل إذ يجسد واقعا ... يمضي الليل وهو يؤغل في الرحيل ، ويعم الفرح ، ويطلع الصباح ، و " زكريا " في حضرة الأصدقاء ، في ذاكرة البلد !

2 – رؤية داخلية :
-----------------
كان وديعا وحانيا كغمامة ، شرسا أحيانا كأعصار ، سريع الأشتعال كعود ثقاب ... في قلبه ساحات كثيرة وشوارع وأزقة وأرصفة يحتلها الفقراء . كان يحب الأطفال والندي و ... يصادق الليل دائما ، يضحك بعفوية طفل ويقول : " لقد أقتسمنا اليوم ، لهم النهار ولي الليل ، شكرا لهم ، لقد ربطوا خطواتي بالليل صاحبي " ! أما حبه الذي لا ينتهئ فقد كان الكتابة . عمل موظفا بالمحكمة الشرعية قرابة سبع سنوات ! ولم نجد لديه بمنزله عند رحيله سوي الكتب والدفاتر والمجلات والصحف والأقلام ... كانت كل أحلامه تسكن تلك الأوراق المبعثرة علي أرض غرفته وتحت وسادته وفراشه ... لم تنشر له صحف بلاده سوي خمس قصص قصيرة وقصيدتان . كان جوالا لايتعب ، وكخيوط العنكبوت ، كان ينطرح علي ساحات المدينة ، حيث الأبداع ووهجه الكثير : في الندوات السياسية والشعرية ، في الأجتماعات الشعبية ، في المسرح والعروض السينمائية الخاصة ، وفي المكتبات العامة وفي الميادين ... حتي مدرجات الجامعات ، كان يدخلها بهدوء ويغادرها مثل بركان يتهيأ ليثور . أحب الرقص جدا وكان يهواه ، كان يرقص لساعات متصلة حتي يناله التعب فيتداعي إلي أقرب المقاعد إليه ، يستريح قليلا ، ويعود إلي الرقص !
قطع مرة حوالي خمس كيلومترات وهو يتقافذ راقصا ، وراكضا ، مخترقا شوارع المدينة المظلمة حتي يلحق حفل عرس يخص أحد أصدقائه . وهو عائد إلي منزله ، في الساعات الأولي من الصباح ، أوقفته دورية أمن ، أخرج بطاقة هويته لهم وقال : " أحب شوارع مدينتي جدا فلا أطيق بعدا عنها في الليل ، أحب الكتابة وأساكن الكلمات ، أعمل موظفا بسيطا ، وعمري قصير ... قصير للغاية فلا تنزعجوا لأمري ! " 0 فتركوه يمضي و ... يغوص في الليل !

3 _ حياته :
-----------
أحب أمرأة واحدة . أحبها حتي نهايات الفرح ، أبدا ما أحب غيرها ، أحبها بجنون العاشق ونقاء سريرته ...ظل يلازمها كثيرا ومدمنا النظر إلي عينيها . حكي لي عن عيونها : " في أحد زوايا المدينة الهادئة أجلس قبالتها ، عاقدا حبي جديلة معطرة ، كالهالة ، حول وجهها الجميل ثم أبدأ أبحر في عيونها ، صدقني ، تمر علي لحظات أبصر فيها المحار واللآلي والأصداف وأعشاب البحر الندية في حدقات عيونها ... ما أحلي السفر في بريق عيناها ياصديقي ، عيونها التي بلون البحر زرقة وعمقا ... عيناها حصني عند العاصفة ، وواحتي عند التعب ! " 0
ولأنه كان يحس أحساسا غامضا بدنو أجله ، قلقا ومنتظرا – علي الرصيف – مصيره الشخصي ، فقد كان يقول لها دائما ، علي مرأي ومسمع أصدقائه : " غاليتي ، أنا أحبك ، أحبك جدا ، وأعز كثيرا عيناك التي من أجل خاطرهما لا أنكسر ... فدعيني ، دعيني لشأني ولا تحبيني " ! ولكنه ، في واقع حاله ، لم يقو علي نسيانها لبرهة واحدة ، ولا أستطاع يوما أن يكون بعيدا عنها ! مرة ، قال له أحد أصدقائه : " ما أسعدك ، فأنت تمتلك حبا كهذا ، كبيرا وعميقا " ! رماه بنظرة فيها الكثير من الأسي والحزن الممزوج بالدهشة والقلق وقال : " هذا الحب يضنيني ويعذب قلبي ... لذا فقد أحببت الوطن ، فوسط أهله الطيبين وجدت عيني حبيبتي هذه ... لن أكذب لأقول أنني سانساها ، فالوطن محفور في ذاكرتي بأزاميل النار المقدسة " ! مرة أخري ، كان يمسك بورقة وقلما ويبدأ يرسم خارطة كروكية للوطن ... ثم يضع راحة كفه علي الخارطة – التي تكون بحجم راحة يده –ثم يقول : " أنظر إلي هذه المساحات ، أنها بحجم عيني حبيبتي ، هي تسكن هنا ، في قلب الوطن ، بضعة منه ياحبيبي ! " 0 ثم تمتد أصابعه الطويلة الصلبة تكور الورقة الرهيفة ، ويضعها بين أسنانه، يمضغها بحب حتي لتخاله سيبتلعها ... !

في أحد الأيام المطيرة ، جلست وأياه ، في أحد حانات المدينة الفقيرة ، وحول كأسين أخذنا نتحدث ... كان يتحدث بلغة ساحرة ، تأخذك إليها أخذا ، كان قاموسه اللغوي من الأتساع بحيث يجعلك مشدودا إلي كلماته ، إلي عينيه وأصابعه ، كانت أصابعه تشاركه الحديث والأفصاح . وأخذنا الحديث أخيرا إليها . أعتدل في جلسته ، وأشعل سجارته بقلق واضح ظل يلمع بريقا خلال عيناه ، ثم قال يحدثني : " أتعرف ، أنها أمرأة رائعة ... رائعة تماما لانها سماوية ، ولكنها أمرأة ليس هذا وقتها ، وهذا ليس زمانها ياصديقي ! " 0 وتعلقت عيناه بنجم بعيد ، يكاد يحجب السحاب توهجه ... وأضاف : _ أريد أن أتعود نسيانها ... أريد أن أبتعد عنها !
_ ولكنك لن تقو علي نسيانها مهما أبتعدت عنها !
_ ربما تنساني هي ... وهذا ما أبتغيه !
أنك تدمر قلبك وحياتك ، وتعذب كثيرا نفسك !
_ أعرف . ولكني أفعل هذا لكي لا أجلب لها التعاسة والعذاب ...صدقني ، وهي الرقيقة والشفيفة ، لا تجتمل أن تتألم بهذا القدر ... هل رأيت وردة تصمد لأعصار ؟
_ لماذا لا تتزوجها وتعيشان معا كأسعد عاشقين ؟
_ أعرف تماما أن هذا لن يحدث ، لن يحدث البتة !
_ إذن ، ماذا ستفعل بالضبط ... خبرني ؟
سأستخرج أجازتي السنوية وأسافر لجنوب الوطن !
_ ولماذا جنوب الوطن ؟
_ حلم قديم يعيش معي ويراودني بأن أقضي وقتا هناك ... أتعلم ، أن أحد أجدادي من الأستوائية ؟
وغاب عن العاصمة لأسبوعين كاملين ... ثم عاد إليها ، للمدينة والحبيبة معا ! عاد ، في أحدي الليالي حالكة الظلام إلي مسكنه ، أشعل قنديل زيتي صغير ، فالكهرباء ظلت " مقطوعة " عن الحي بأكمله طوال اليوم وتلك الليلة ... وضع أوراقه أمامه فوق منضدة صغيرة وشرع يكتب لأطفال السودان ، قصيدة حلوة عن البهجة التي لاتموت في حدقات الصغار ، عن الحياة التي تقسو عليهم مثلما تفعل للأباء والأمهات ! عند الفراغ من كتابتها ، ترك كل شئ علي حاله وخرج ! كان الليل قد أنتصف ، وهدوءا كثيفا ودبقا يحيط بالبيوت ... كان قلقا جدا وهو يجتاز البيوت ويدخل في أزقتها بحذر وخفة ... وفي خاطره أطفال بلاده : تراهم – الآن – مكومين فوق بعضهم ، جائعين وبأسمال لاتقيهم البرد والبعوض ينهش في أجسادهم الغضة ... فظل يردد بصوت مسموع في هدوء الليل الرتيب : ياوطني الرائع ، أسمع صرختي : من يهتم لهؤلاء الصغار ومن يحميهم من العاديات الكثار ، وكيف يكون أمامهم المستقبل ؟ تنبه ، فجأة ،لأفق
من الكلاب يعوي بعيدا . أنعطف يسارا ودلف لتوه لشارع أسفلتي مهترئ وتابع الخطو ... لم تفارقه حالة أطفال بلاده تلك اللحظة . عند نهاية الشارع ، وقف في مواجهة منزل يبدوا أن ساكنيه قي الغني ، فالجدران عالية وبيضاء ، ملساء ومجلوة ، كأنها قد طليت في الصباح ...تحفه من جوانبه كلها مصاطب أسمنتيه ، الباب كبير جدا وأنيق ... أبتعد قليلا في مواجهة المنزل وظل يتأمل في الليل ، وفي خاطره ، البيوت والناس والأطفال والوطن ! فجأة ، أخرج من جيبه قلم شمعي كبير أحمر اللون ، وأمتدت يده تكتب علي جدران المنزل الأبيض : " يا أطفال السودان أتحدوا في ... " ... لمعت – فجأة – عند مدخل الشارع من جهة اليمين أنوار سيارة مسرعة صوبه ! ترك الكتابة وأسرع الخطو عائدا لمنزله ، مخترقا الشارع الترابي الضيق المظلم ، دفع باب المنزل ، وكالسهم دلف للداخل وهو يردد : " الكلاب ... لم يمهلونني لأكمل كتابتي ! " 0
في تلك الليلة ذاتها كتب " الطفل الجميل والغول القبيح " ، حكاية رائعة للأطفال !
بعد خمسة أيام ، عند العاشرة ليلا ، وكان قد حضر لتوه من أحدي دور السينما حيث شاهد أحد أفلام أسبوع الفيلم الفرنسي ... خلع قميصه وشرع يكتب وعشرات الأوراق مبعثرة أمامه بفوضي كثيرة ! فجأة ، سمع بوضوح دقات قويات متتالية علي باب منزله ، دقات ، بدت له لحظتها ، كطلقات الرصاص تمزق – بعنف حاد – هدوء الليل وتهز سكونه الرتيب ! ولما كان يشغل أحدي غرف شقيقته الكبري ، فلم يرغب أن يستيقظ الصغار ، والكبار من بعد ، جراء الطرقات العنيفة المستمرة علي باب المنزل ! أنسل بهدوء ، لكن بسرعة ، صوب الباب الخارجي ملبيا لذلك النداء الطارئ ... فتح الباب ليجد أمامه خمسة رجال بملابس عادية ، وعلي مسافة بضعة أمتار تقف عربة بداخلها سائقها . كانت مفرزة أمن مدججة بالسلاح ! بغلظة ، تبينها منهم في الظلام ، أحاطوا به ودفعوه دفعا خشنا إلي داخل العربة ، وسريعا جدا تحركت العربة بهم صوب المجهول ! الباب الخارجي للمنزل ظل مفتوحا لم يغلقه أحد !

4 _ وفاته :
-----------
كان قد خرج لتوه من " الأعتقال " السياسي ، عام كامل وأربعة أشهر قضاها في المعتقل . بعد ثلاثة أيام ذهب إلي مقر عمله ، مطالبا بحقه في العودة للعمل . كان فرحا ، سعيدا ومتفائلا ، يبدوا وكأنه يريد أن يحتوي الدنيا بين ساعديه . رغم أنه تلقي – يوم ذهابه إلي مكتبه – خطابا يخطرونه بموجبه بفصله من الخدمه ، وأن عليه أن يتصل بالجهات المعنية لتسوية أستحقاقاته ، هكذا ، بدون أي أيضاحات أو أشارة لمسببات الفصل ! لم يندهش ولم يغضب كثيرا ، لكنه ظل متماسكا وواعيا لكل أبعاد قضيته . قدم أحتجاجا كتابيا قويا ضد قرار فصله عن العمل بدون مجلس محاسبة كما تنص القوانين ، تماما مثلما فعل بتقديمه أحتجاجا مماثلا ضد قرار أعتقاله كل هذه السنوات بدون مسوغ قانوني أو تهمة واضحة وبدون أن يمثل أمام محكمة !
في اليوم الخامس لخروجه من المعتقل ، وبعد أستلامه لخطاب فصله من الخدمة ، وبعد تقديمه لأحتجاجه الكتابي ... قصد منزل حبيبته ، التي كانت تزوره بأنتظام حين كان بالمعتقل ، جلس إلي أسرتها قرابة الساعة ، ثم إختلي بها في غرفتها ، مكثا معا حتي ما بعد الواحدة من الصباح ... قال لها وهو يجلس في مواجهتها :
_ هل تتزوجينني ؟
صمتت لبرهة ... أتسعت حدقات عيونها وقالت بدهشة :
_ أتمني ذلك حقا حبيبي !
_ ولم لا ؟ أجابها في سرعة وأرتباك لاحظته !
_ أنني موافقة ... موافقة تماما ياحبيبي و لكن ... !
_ ولكن ماذا ؟
_ موافقة ومستعدة كذلك ، بشرط أن تنفذ أنت – شخصيا – هذه الموافقة !
أطرق طويلا ، وظلت أصابعه النحيلة ، القوية ، تداعب وتمشط شعر رأسه . فجأة ركز نظراته كلها علي مساحة وجهها ، وأمسك إليه أصابعها وقال :
_ أنا أيضا موافق ... موافق كليا ومستعدا تماما ياحبيبتي و لكن .... !
قبل كل منهما يد الآخر و ... أفترقا !
في اليوم التالي ، وجد " زكريا " مقتولا ! ملقي في الفضاء المؤدي للجريف غرب ، في المساحة التي تلي مطار الخرطوم الدولي . قدمه اليمني بها الحذاء لكن اليسري كانت حافية ، أصابع يديه مكسرة ومهشمة تماما ... ملابسه وهيئته يدلان علي أن عراكا كثيرا قد جري معه ، لكن الملابس كانت سليمة لم تمزق ، نقوده القليلة لم تمس علي مايبدوا ، فلم يعرف عنه أنه كان يحمل الكثير من النقود عند تجواله ، فلم يكن يملكها أصلا ! ساعته العتيقة الصغيرة علي معصم يده اليسري و تعمل برتابة ... ظلت أنفاسه تتوالي ببطء كثيرا وكأنها ذاهبة في التلاشي و... في البياض ، كان في غيبوبة كاملة ، يبدوا كجثة !
وجده ، في الصباح الباكر ، بائع خضروات كان يحمل بضاعته إلي سوق البراري ! عند السابعة من صباح ذلك اليوم ، كان في غرفة الأنعاش بمستشفي الخرطوم ! رغم المحاولات الكثيرة الجادة من الأطباء – وكان من بينهم أصدقاء له – لم يتمكنوا من أعادته لوعيه ... وظل الحادث برمته يكتنفه الغموض الكثيف ... عند الثالثة بعد الظهر فارق الحياة !

أضاءة ضرورية :
-----------------
- دفن " زكريا عبد الرحمن عيسي " في مقابر فارق مساء ذلك اليوم ... فيما بعد ، وجد العديد من أصدقائه ومعارفه مشقة كثيرة في التعرف علي موقع القبر ، وكأن هنالك من كان يسعي ، السعي كله ، لطمس معالم القبر !
- بعد أسبوع واحد من الحادثة ، تقدم أحد المحامين الكبارببلاغ رسمي للسلطات القضائية ، متهما بعض عناصر جهاز الأمن بتخطيط وتنفيذ الجريمة بالكامل ! ولكن – ولأسباب باتت معروفة فيما بعد – توقف سير أجراءات القضية و ... أختفت كل المتعلقات الخاصة بالقضية / الجريمة !
- كان " زكريا " منتميا للحزب الشيوعي السوداني و ... ناشطا في صفوفه

الجمعة، ديسمبر 23، 2011

السوسنة: أرفضها الهدايا ، هدايا الغياب !

أرفضها الهدايا ، هدايا الغياب !

إلي : أشراقة حامد مصطفي ...

------------------------------


من وجع غمام شفيف

وسريان نهر هادر مضيف !

من بين ثنايا غمام أليف

طلعت ... ،

ونناديها : شروق !

فقر في الطفولة

وهللويا علي الورق !

مستوحشة شكاكة في الصغر

محاورة جسورة في الكبر

متعلقة بأرواح النساء في الصغر

مبشرة بأرواح الكون في الكبر

شروق ... شروق

مثل الأقمار ومثل الشموس

بقرينة المد والضوء ...

مثل الآمال التي ترتفع عاليا عاليا

ماتزال تمتطئ الرياح ...

تعلو وتعلو وتعلو !

شروق ... شروق

محيط أزرق

عميق وفسيح

متدفق ومذبد

مثل بالمد ... بالمد وحده

بالمد حيث لا جذر

تاركة وراءها ليالي رعب وخوف

ترتفع

وترتفع،

ترتفع إلي فجر مدهش بصفائه !

شروق ... شروق

موهوبة في حضن الخمسين

جميلة في حضن حنجرة الغناء

في العتمة أكتشفت ذهبا أصفر

وبلابل ثلجية

و ... وشاح أحمر !

بأيديها نسته ...

ظلا أخضر

وقبلات ونهودا مرمر !

شروق ... شروق

طير يمتطي صهوات الرياح

موجة من فوق موجة

بجناحين مجدولان من ريش الشمس الإستوائية

طير يانع في الصباحات

خجولا في المساءات

و ... يتجاسر فيطالب بالسماء !

شروق ... شروق

تمردت علي الموروثات البالية

والأعراف السائدة

فتغلبت علي العوز والفشل

وتشبثت – رغم مرارة المنعطفات -

بالشجاعة والوعي والحب ...

واصلت موتها في الكتابة

لتخرج من الجب ...

واصلت ، إذن ، موتها ...

لأنها تحب الحياة ،

و ... تعيشها !

شروق ... شروق

في كل تجربة ترسم لوحتها

فكرة بفكرة

خيارا بخيار ...

موجودة ولا تنكمش نحو الأقل

بل تتفتح صوب الكثير !

وحين تضحك ،

ملء قلبها

ملء جسدها

وعندما تقع دمعتها ذات ليل

في النهر

آوتها ملائكة الأنهار

في حضنها ،

وعمدتها " انثي الأنهار " !

وهبتها عين البصيرة

لتتغلب علي ظلمات التهميش

وقهر النساء !

من المياه تعلمت لغة الجري

ومن سكان النهر التحديق في الأعماق

ومن الطحالب ثغاء الروح

لتصير ، بعد شموس وأقمار ،

إلي شجرة ثم غابة ...

تعدوا بها خيول النهر نحو المحيط !

شروق ... شروق

أتساع في الرؤية

وفاكهة في الأنهر

الضاجة بالحياة !

شروق :

يا أشراقة المعني

في صدور الجميلات البنات

أرفضها هذي الهدايا ،

" هدايا الغياب "

فالنهر يجري و ... يسقي

فلماذا يموت النبات ؟

لا للهدايا ...

لا للمنايا ...

لأجل البنيات

الجميلات البنات !

الاثنين، ديسمبر 12، 2011

" رومانس شجري " ... ، دهشة أولي !

ناجي البدوي : الكتابة بنبض القلب ،
ليس علي خطي المدارس و ... لا القواميس !0

" كن رجلا ولا تتبع خطواتي "
- جوتة -
... ----------------------------------------------------------------
أبدا ما قرأت له غير روايته البديعة المبتكرة " رومانس شجري " ! ولكني رأيته : لا أحد كان أكثر عنادا في تدليل اللغة وهي تهجس بوسوساته ، لا أحد أكثر " مكرا " ، ولا أكثر تصميما في خدمة " وساوسه " بمثل هذا الشجن العائلي في الكتابة . لا أحد أكثر أصرارا في تخليق العنصر الكتابي في مده وجذره ... ، في تحوله إلي عنصر / لغة تلامس كونية الوساوس ، في الرجوع ليجرح ، ويصرخ في ذات الوقت ، بإزاء الأشجار ... ، يااااا شجري الكأس والمسغبة ، بإزاء السماء " الواطئة " و ... بإزاء البحر ، في النهوض - ببسالة النوتي - ناصبا فخاخا كثيرة للصمت في جميع تخومه وانحائه التي يأتي لينتهي عندها الموج - موجه - اللايتعب ، والطائر الذي لا يتعب ، والريح التي لا تتعب ، والشجر المزهر طوااااالي ولا يتعب ، ووجع الكتابة والشعر ، وخصومات الأصدقاء في شأن " الحداثة " وما يكتب الآن ، وجميعها لا تتعب ، متوسطا - بحذق البحار العجوز ذو الشجن البحري/ وشجري - في ما بين الرمل والزبد ، الشاطئ والعاصفة هدب القمح والحقل ، أجتماعيات الحي وزغاريد البنات في عرس عابر ، الفرح المختلس والغناء الكتيم في الأزقة المظلمة ! هو العائد في كل حيز يقصده ليحل عنصرا محل عنصر ، يصدم عنصرا بعنصر ولا يخشي العسس ولا " المصنفات " التي صارت عدوا له أنياب وافتراس ، يكسر - في ما يكسر بعناده المعدني - زجاج اللغة ومكون سيولتها ، ثم يكون قادرا علي المباركة ، مباركة الكتابة و ... " الكائنات " !
هم رهط أمير في الكتابة ، في فضاءنا الثقافي الراهن ، أسميتهم " الكائنات " ! ناجي هذا هو الكائن من بين هؤلاء الكائنات ، كائن شجري ، كائن التخوم المقيم بيته في منعطف إلتقاء الوادي والسهل ، ملفوحا مهروسا بجرافات الطمي والحمم، محشورا بين تيارات الرياح وخفة الغيوم و ... جرافات الغابات ياعبد العظيم ميرغني ، الغابات التي تستكثر عليه الخضرة والظل ويستكثر عليها " القطع الجائر " باعتباره مهانة وتجفيف لحلق الحياة وريقها ... ، منبعثا في النهارات والمساءات بلا حقد أو أنتظار ، مقرا - أمام الملأ - بجدوي الكتابة ولمعان المعني وضياء الأستعارات ، مقرا - بلسان فصيح - بشجرية الحياة ، بالمنجم بين يديه والأعصار ، الجرف الثلجي والبئر ، بالذي ينهار أمام عينيه ليغيره و ... ينهض ليبني ما تهدم و ... من ثم يبدأ يقول الحياة بلسان وكلام شجري ... !
ياااااااا ناجي ، انعل دينك ياأخ !

الأحد، ديسمبر 11، 2011

للزهور ... للورود و للبنات !

دعونا نشرح خصائص النبات للصبايا الجميلات
لأن يداهما هما اللتان
زجتا بنا إلي العرس
وهن في الحدائق مزهرات !
فالورد مثلا ليس مجبورا علي أبداء العواطف للبنات
حين يتوددن إليه كاشفات عن
خبايا الأمنيات
لكنه في كل مرة يعطيهن أريجا سكريا
كالنوايا الطيبات !
وصاحب البنيات العذاري ،
القرنفل
لايمنح عطره المكنون إلا
للعاشقات !
حين يسفر العشق علي ملامحهن
ويكسوها بريقا لينا
والخفقان يعطيه بعضا من ثبات !
أما الياسمين ،
فله في قلوبهن
ود وحنين
يستجيب لهن ويهديهن
شذي للسنين القادمات
وهناك في جوار الماء في طرف الحديقة
ينثر النرجس إيقاعا من الوجد
وعطرا في البنات
ويضوع ... ،
يضوع دلالا عاطفيا
في قلوب الفاتنات
آه ياظل الشذي النديان
يافل الحسان
ياواهب الرضي و إكليل الحنان
وغناك المغني :
" تشبهي الفل في الجناين ... ياسلام "
أنت فيهن عطرا للأيادي والعنق ،
فينادين عليك ،
ياسكر نبات !
أما السفرجل
حامل الرايات في دنيا الحدائق
فهو الصديق لهن
صاحب الأثر المبجل
فيا حديقة الورد
يامسبلة العينان للذكري
وتباريح الهيام !
يوما ما سيأتي لبقية الأزهار
لتنال حظا في الرحيق
من حلو الكلام !
وعليك من المحبين الكثار
التحية والسلام !

عدت الآن إليك ... !

أنتظرتك
كان الهواء ماطرا
وغامضا
لكنه يهمي قليلا قليلا
علي الشبابيك والستائر
والأشجار والقصائد
فقد أنقشعت سحابات المواجد
وأسترخت العصافير
للنعاس والنوم المبكر
والذاكرة أزدحمت بالحقائب
والأرصفة المكتظة بالناس
وبالتوادد
والقطارات تتجه صوب المدن المطمئنة
تلك التي أبتعد عنها النعاس
والعسس
فبدأت أهيئ نفسي ،
خطاي للحديقة
وشعرك للمرايا
وذاكرتي للوردة
أنتظرتك
وأنا في منتصف الحب إليك
أحلامي تتوسد نافذتك
وقلبي بات يكسوه الغبار
والندي الشحيح
وأنا أعود إليك
عدت الآن
إليك !

السبت، ديسمبر 10، 2011

لغة في الرحيق ... !

في نبوءته يسترق الرحيق الحديقة
وفي خوفها المرتعش
تتنامي الطيور إلي عرشها في الشجر
قبل أن يبدأ الزهر همس الأمومة في قلب أطفالها من طيور !
ترقص في شالها السوسنة
والبحر يضحك ،
أسنانه السمك المتقافز
والزبد لج يسيل علي خصرها فتنوء الحجارة
وفي صمته يقرأ البحر مابين موج وموجة
والشهود الشجر !
في الرحيق أري ذهب الرمل .
أري " السوسنة " المشتهاة وأرعي خيالي في روحها !
أري كيف يمتزج الموج بالجسد
كيف تعوم الصبايا فيمتلئ البحر جنسا ،
وكيف يباعد رمل الشواطئ ما بين أفخاذه
وكيف يموت القمر
خجلا من صبيين يعتنقان المحبة والبؤس
و ... الألتجاء !

صالح محمود عثمان ، أعطيك صوتي و ... باقة ورد !

" ليس الإنساني هو من يشفق فقط علي الضحية البائسة ، ويتحسر علي ان القتل يوجد علي الأرض ... ، وإنما الأنساني هو من يساعد علي إبعاد يد القاتل ، وإنتزاع إمكانية الإضرار من أرادته " !
- شولوخوف -

صالح محمود عثمان ، محامي سوداني من جبل مرة في غرب السودان . تخرج في جامعة الخرطوم ، له مكتب بمدينة ود مدني يزاول منه مهنته المقدسة منذ سنوات عديدة خلت . يسافر كسلا جدا بين ولايات دارفور حيث أهله وقضاياهم الوعرة وبين الخرطوم حيث السلطة المركزية ورئاسات منظمات المجتمع المدني والسفارات والمقر الرئيس لمكتب الأمم المتحدة والمنظمات الأنسانية العالمية والمحلية المعنية بحقوق وصيانة حقوق الأنسان .
منذ أكثر من عقدين من الزمان إختص صالح بقضايا الحريات وحقوق الأنسان ، مركزا جل نشاطه الدؤوب علي قضايا أقليم دارفور بغرب السودان . ولكنه ، أيضا ، ظل يشتغل علي قضايا التعذيب والأنتهاكات لحقوق الأنسان في السودان . فقد نذر نفسه وحياته منافحا عن هذه القضايا الجليلة ، وهبها عمره كله ، وقته وماله وثمرات فكره النير و ... ضميره الأنساني النبيل ... أبدا ما أنحني لطاغية أو جلاد ، ولا وهنت عزيمته وأرادته الجبارة في النضال !
صالح عضو في المجلس الوطني عن الحزب الشيوعي السوداني ، فهو عضو لجنته المركزية . يعمل بنشاط مثابر مع " المنظمة السودانية لمكافحة التعذيب " ، معززا الأنجازات الباهرة في مجالات حقوق الأنسان وتكريس الديمقراطية وحكم القانون في حياة المجتمعات السودانوية ، رجل شجاع أرتقي في سلم المجد ، قضية أثر قضية . عشرات المئات من القضايا الشائكة ، والملفات ذوات اللهيب الحار أمسك بها ، صاعدا بها نحو مدارج الضوء المكشوف لأعين الملأ داخل بلادنا وخارجها ، حتي عرف في بلده وللعالم بأنه نصير الأنسان وحامي حقوقه ، وعرفته المحافل الدولية كلها والرأي العام العالمي ! في نوفمبر العام 2005 منح صالح أرفع وسام تقدمه " منظمة مراقبة حقوق الأنسان Human Right Watch ، كما كرمته " منظمة العفو الدولية " في لندن ، أضافة إلي جامعات ومنابر حرة في اميريكا وبريطانيا والمانيا وجنوب أفريقيا ، كرمته بجوائز تقديرية وشهادات دكتوراه فخرية ، وذلك تقديرا وأعترافا وعرفانا لنضاله الجسور الشجاع ودفاعه الذي لا يفتر عن حقوق الأنسان وكرامته . صالح هذا منحه البرلمان الأوربي جائزته لحقوق الأنسان للعام 2007 ، قال رئيس الهيئة التشريعية للإتحاد الأوربي في أحتفال إعلان فوزه بالجائزة : " لا يزال صالح محمود يعمل علي تقديم المساعدة لضحايا الصراع برغم المجازفة الشخصية الكبيرة . ويريد البرلمان الأوربي بمنحه الجائزة لصالح محمود عثمان أن يعترف بالعمل الذي يؤديه هذا الرجل الشجاع " ! ثم يمضي البرلمان في إعلانه فيقول : " أن صالح محمود عثمان الذي يعمل حاليا عضوا في البرلمان السوداني ، كان ناجحا في أسقاط أحكام الأعدام أو القطع ، كما أنه قام أيضا بفهرسة الجرائم في دارفور بتكلفة شخصية عالية ، بحكم أن أفراد أسرته قد قتلوا أو عذوا أو طردوا من منازلهم بواسطة المليشيات " ! هذه القامة الأنسانية / القانونية الشامخة ، أعتقلته السلطات الحاكمة في السودان وأودعته السجن بلا محاكمة لما يقارب العام ! لكنه ، كضياء الشموس ، خرج من السجن مرفوع الجبين ، مديد القامة ، مواصلا نضاله الجسور لأجل حياة أفضل للأنسان السوداني !
أتسعت - يوما بعد يوم - مجالات كفاحه العظيم ، وأمتدت لتشمل جغرافية الوطن باكملها وراهنه السياسي / الأجتماعي / الأقتصادي والثقافي . عناوين كثيرة ذات جدوي كبيرة أشتغل عليها صالح : " البحث عن السلام - النفطوالصراع - الحريات العامة - التعبئة ضد السلطة الحاكمة لتمسكها بدينية الدولة - قضايا الحقوق المدنية والسياسية للأنسان في بلاده - إنتهاكات حق التعبير والتنقل والأجتماع السلمي - إنتهاكات حقوق المرأة - إنتهاكات حرية الصحافة والنشر - الأعتقالات الإعتباطية - قمع الحركات الطلابية - إنتهاك الحقوق الأقتصادية والأجتماعية والثقافية - المحاكمات غير العادلة والأعدامات والعقوبات الجسدية - القتل والإغتصاب والخطف خارج نطاق القضاء في دارفور - الغارات الجوية ضد المدنيين " ! ذلك ، إذن ، هو " ملف " حالة حقوق الأنسان في السودان الذي ظل يشتغل عليه صالح ليل نهار لأكثر من عقدين . أنه يدافع ويترافع عنا جميعا ، في جميل المحافل والمنابر داخل السودان وخارجه ! المذهل في هذه التجربة الأنسانية الفريدة ، أنه قد أعد ونفذ - بمهنية وإحترافية عالية الدقة - فهرسة وأرشفة هذه الحالات كلها ، فغدت سجلا حافلا لحالة حقوق الأنسان في بلادنا ! أن هذا العمل الذي أنجزه ، والذي هو الآن بين يدي العالم ، لهو عمل جدير بالمؤسسات ذات الرصيد الكبير في مثل هذه الأعمال الجليلة !
لقد أصبحت أعماله الجسورة مدهشة لعيوننا وعقولنا معا ، ونحن نري ، نقرا ونسمع ن انجازاته ذات المواريث القانونية المشرقة وهي تتلألأ وتتألق في سماوات العالم الرحبة ، حتي أصبح نضاله ومسيرة حياته الشخصية والقانونية ضميرا حيا ينبض بنبالات أنسانية مزهرة ن وبشحنات ثقيلة متوهجة ، مثل أطياف شبحية هائلة ، تظلل وجودنا و ... حياتنا ، مزودا في الوقت ذاته ، ذواتنا بعلم أكيد في المعارف القانونية المتعلقة بحقوق الأنسان ... فعل كل ذلك وهو يعمل في توازن عجيب مستخدما أسلحة الذكاء الأنساني كلها ن هو انسان عالمي بإمتياز ، ابنا بارا من ابناء جلدتنا ن نفخر - الفخر والأعزاز كله - بنضاله الجسور ومسيرة حياته المشرقة !
صالح محمود عثمان : أيها المحامي الجسور ، والأنسان الشامخ النبيل ، طوبي لك ، ولمن يمتلك قلبا نبيلا مثلك ، طوبي للكلمات ، وللأغنيات والأناشيد السماويات ، والتحايا الجميلة المزهرة و ... الهواتف ! وتحت الظلال الشفيفة لمهرجانك العالمي ، نهديك حبا عميقا و ... زنبقة حمراء في يوم مجدك الشخصي ! طوبي لوطنك الذي تعشقه بوله عميق ، ولشعبك الذي رفعت جبينه عاليا فوق سماوات الدنيا قاطبة . طوبي لك وأنت تصنع لنا الأحلام والآمال الفسيحة في الزمان الخشن ، وتعيد لنا - بيديك الطاهرتين - دروب المستقبل الوضئ :
" لا تصف ما تري الكاميرا من جروحك.
وأصرخ لتسمع نفسك ، وأصرخ لتعلم
أنك ما زلت حيا وحيا ن وأن الحياة
علي هذه الأرض ممكنة . فأخترع أملا
للكلام ، إبتكر جهة أو سرابا
يطيل الرجاء ،
وغن ن فإن الجمالي حرية
وقل : سنحيا ، ولو تركتنا الحياة
غلي شاننا .
فلنكن سادة الكلمات
التي سوف تجعل قراءها خالدين " !
كما قال يوما ن لمثلك ، درويش !
ايها الماجد في الناس ن المضئ ككوكب ن غليك التحيات المزهرات و ... باقة ورد
و ... انا ، منذ الان ، اعطيك صوتي !

الجمعة، ديسمبر 09، 2011

كلمتان ، لأقولها للتجاني الطيب بابكر

لم يكن ليسوءه
أن أفضح أسمه في الشعر
لم يكن يتوقع أن يخذله البطين !
فظل يعب الهواء
حتي تضاءل الأوكسجين
في قلبه ...
وحين ضاق الطريق علي منكبيه ،
أنتعشت الموسيقي
في ردهات الحزب !
الآن يارفيقي :
الجراح في العائلة
وعلينا توزيع الواجبات
حسب العمر والرصيد الحزبي :
أنت ترعي مسيرة الحزب ،
محاذرا العسس ووعورة العمل السري
والمهمات !
وأنا أحضر إليك " عزة "
التي أحزنها أن تؤشر من البعيد
كي تضع علي وسادتك مجسما
لحلم السنوات
وتلاحظ التذبذب في مسيرة الدم
محافظة علي نعومة الحنجرة !
وأنا اترك لك أعترافاتي الصغيرة
كي تنجز بها رؤية المستقبل !
أما الولد الذي أوصيتنا به ،
فقد أزهر النبيذ في فمه
وصاح في حشود المؤبنين :
ما كل هذا الدم الزفافي
في عروق الحزب ؟
هو الآن يقرأ في كتاب " الميدان "
ويستعين بتنوع الثورات
علي أكتشاف الصلة بين الشعب والوطن
ونفسه !
وأنت غائص في دفاتر السلالات ،
تقيس بالشبر
المسافة بين البلاد ،
والأحلام القادمة
ولمعة الرؤيا التي توهجت
في المدن الكبيرة الحالمة
عاكفا علي سودنة الأيدلوجيا
حتي نستبين لون الريشة
التي حطت في شعيرات جسدك
حين كنت تنثر أسم البلاد
في سيرة الوجع
كنوع مستحدث في العشق
فتخضر أرض ،
وتزهر نوارة الفكرة !
*** *** ***
الحياة شرفات ... ،
شرفات ، لكنها عالية !
بعيدة في غور الأفق
لكنها دانية !
صفحات من كتاب البحر
غمامة في فم الطفل ،
سيدة عابرة !
في المنتصف من حياتنا ،
نبدأ من جديد ...
نبدأ من الشفق ،
حيث باتت السماء ثملة بالضياء
وثمة نداء
كلمات تقولها :
لمحمد وعزة ،
والصغيرات البنات
لفتحية وللرفاق في الحزب
إذ تريهم ، كيف تكون الصحافة
وكيف يكون الثبات !
كانت أيامك وهجا يا حبيبي ...
مشهدا محفوفا بالممكنات !
كنت " السنديانة الحمراء " ،
وشاحا في المهرجان
وفي مؤتمرات الحزب ،
ضياء الكهرمان
وميضا نادرا يستولد الصباحات .
آآآآه ، أعجوبة كنت ،
لكنها في العصر الخاطئ
واللون الخاطئ
والتسديد الخاطئ
والسياسة الخاطئة
والأحزاب الخاطئة
والديكتاتوريات الخاطئة
والأسلام الخاطئ !
عشت مزدحما بالرجاءات :
جعلت السماء ملونة واطئة
وبساتين البلاد مزهرة
أحلت كتل الظلام الكابيات
ورودا يانعات
للصبايا الجميلات
جعلت الضوء يشرق من خلل الصخرة
والبراعم في الفكرة
زهرة ... زهرة
ميسرة ... ميسرة !
منحت الأمهات البهار ،
في الجذوة تدخل مطابخهن ،
وقادرات علي الأحساس
بحقبتك تتسلل إلي الأولاد والبنات
ورميت العتمة إلي الهاوية
والذاكرة ،
إلي خاصرة الوطن
منحت الوعي يزهر من يديك
فجنبت البلاد المحن
أنت – الآن – هناك ،
أيها المجيد الفطن
حيث السماء تتوق إلي البياض ،
وإلي أبد مديد
ورأي سديد
فكن ياتجاني ،
كن ... ،
في الخالدين النشيد !

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* التجاني الطيب بابكر : من مؤسسي الحزب الشيوعي السوداني ، عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب ورئيس تحرير صحيفة " الميدان " الناطقة بلسان الحزب ، شخصية سياسية وطنية مرموقة في السودان ، وقد توفي يوم 23 نوفمبر الماضي بالخرطوم !

محاورة النص ، بوجع أقل ... !

المحاورة لمجتزأ من نص طويل بعنوان : " كن " المعركة ... عن تحقيقات كان ، لمأمون التلب !0نورد نصا للشاعر ونحاوره ، هكذا ، يستمر الحوار و ... نأمل أن نضيف بذلك ، فهما أفضل للنص الجميل !0------------------------------------------------------------------------------------------------------------



كنت أحاول أن أستريح قليلا

من وجع الكتاب

وسيلان الإبهار !

فيغافلني قلبي ...

كنت أحاول أن أغير شكل كتابتي

فتتمرد علي أصابعي

وتقفز – كأطفال مشاكسين -

فوق سياج حدائق الشعر

لتقطف اللوز والقصائد والفوضي

وتكتب أسماء " الكائنات " !

تري ، كيف تبدوا حديقة الشعر بلا

هؤلاء " الكائنات " ؟

ومن هو ذلك الولد المفتون بجمال اللغة

ويسرج القول ويطلقه – كالريح – في وجهي ؟

( الكائن الحي الوحيد هو الموت ! ) .

ياااااه ، مأمون التلب ، الآن ، يكتب :

* " مكاتيب الرسل

حول تفوهات الزمان ... "

قاطعته بدهاء أبليسي :

- مهلك ... ماذا رأيت أيها الكائن بين الكائنات ،

قل لي ماذا رأيت ؟

واثقا كحبل معقود علي طرفيه ، قال :

* " رأيت ما أصاب وجه الحمامة

والماء الذي شربته صباحا

بينما يمر ولد بنظرة خاطفة أبرزها

تأنيب أمومي

وكانت الريح تدرك أن لها أطرافا وحواس ،

بعد أن وسعتها أطراف الكائنات ! ".

مقاطعا ، مرة أخري ، قلت :

- ياللحمامات حين ينزفن ماء العيون

وسلامهن / رمزهن المحفوف بالهديل

يعاني الكمون !

والكائنات – تعرفها – هي الوحيدة

بين الوحيدات

لها حق التغزل – علنا - لعناب البنات !

و ... جدائلهن .

في الشوارع ، وساحات المدارس والمقاهي

والتظاهرات

ودواوين الشعر ، والحانات

التي لإبتكرتها مخيلة السكاري والصعاليك

وفي الحدائق العامة و الندوات

فكيف لا يكونوا حضورا في بهاء الشعر

أمام الملأ ؟

وكيف يجرأوا فيتهمونهم بالمروق

وإفساد الشعر ، وقد جعلوا أسماؤهم عناوين

في ملامح من يبتغون الشروق ؟

قل لي ياصاحبي ... ماذا رأيت أيضا ؟

قال :

* " رأيت ما أصاب كمون المطر الليلي في عين

القط ممتلئ

وأناه – يسهر علي لسانها – شرح

شعره ،

بينما جرس في ضفيرة البنت ينمو علي

مهل أصدائه ... " !

قاطعته ، كمن يستنكرا وضعا أحدثه لتوه :

- " ... ولكن

ألم تدرك – بعد – أن القطط مثل العشاق

ياحبيبي ... ،

وأنها تسعي ، مثلهن ، للعناق ؟

و ... ألسنتهن مقبلات ،

في وجد الليالي ...

مشرعات – كما الشفاه – للقبلات ؟ " .

عاد يسرح في ضفائر رؤياه كأنها أنثي يانعة وقال :

* " ... وكان الأب يفحص رجولته بالنظر إلي باب

البنت المفتوح طوال الليل لأشباه الظلال !

بين هذا وذاك :

كان كمن يعزف وحده ،

مشلول التجويف وعظام الإيقاع ،

شرر ينبع من فم يتذوق آخرا في الزقاق

الخلفي للبنت ،

أبطال الأفلام الكرتونية يتسللون من

أحلام الكبارملوكا لا كابح لحقيقتهم

وشواء الجيران يبلغ أذنا ناضجة تبدأ

آذان الفجر ،

يالهولي

وأنا عاشق

يمر كل هذا الليل دون أن أعد أصابعه

المجرمة !

هل من سبيل لأخراج الحمامة من جفاف

حلقي

والمطر من سرتي الوليدة للتو

والمشهد الوسطي من يدي التي ستقتل ؟

البنت

جسد

يؤرق أسلحة

وساحات حرب

تتفرس وجه الكون " !.

- تحيرت قليلا قليلا

في هذا الكون المعتم

وتذكرت ركن البنت المظلم

وبابها المفتوح الليل بطوله

لأشباه الظلال ...

فهل كل الحقائق – ياصاحبي – في هذا المدي المكتوم

حبا ودلال

هل ، هي الآن ، تقال ؟

تذكرت " سان جون بيرس :

( وكنت أنا نائمة

علي جنبي الأيمن

أصغي إلي خفق دمك الجواب قرب عنقي ،

عنق المرأة العارية " ! .

فياللبنات

ترقشهن الظلال !

كلماتك ... آآآه ، يا مأمون حبيبي ، كلماتك

أحالت البنات غابة من نوافذ

ومطر

وحنين من أصابع

تتلمس نبض الأشياء .

كلماتك ... كلماتك

ما جدوي البنيات الصبايا بلا أرتعاش كلمة

وما جدوي العالم بلا أنفاس أمرأة

بلا نسغ ، وأمطار وعيون سود

وأرصفة وقمر مسافر ونوافذ ياسمين

وشعراء مطاردون وملعونون من السلطات

وكتب وقصائد ممنوعة

وأحزان وعشب أزرق ... ويديك ؟

دعهم – ياصاحبي – مشلولون أمام أبواب البنات

المشرعات في ليلهن الحصين

وما من سكات !

فالكمان " المشلول التجويف وعظام الإيقاع "

قد أوصل لحنا في الناس ،

أوصله حتي تويجات القاع !

دعهم – أيضا – في شواء الفجر

وتعليم البنات خلاعة الرقص قرب النهر !

لكن العاشق ولهان

يالهولي أنا ...

فالعاشق – أيضا – حيران !

لكنه إذ يبدأ يكسر الليل شظايا

ويكبح حقائق الطغاة

يحيلهم إلي رماد المنايا

قد " أحصي الأصابع المجرمة " كلها ...

وأطلق سراح الحمامة المسجونة في الحلق

و ... أمطر

أمطر حشفا مرا في الحلق!

كان يرقص ...

يرقص ... يرقص

في مشهد البنت والأسلحة !

وغابت عن سماء المدينة

رايات الخديعة والأضرحة !

فالبنيات – ياصاحبي – غدون الآن

في المعركة !

لكن ، قل لي

ماذا شابها المعركة

كيف رأيتها ، وفي رؤياك مذاق البارود والأسئلة ؟ " .

* قال : " ... أن لهذا إسم

فلينطق به أحد لتنبت علي شفتيه الجثث أنهارا مدرارة

بالأمومة والحب .

إن كان لهذا تاريخ

فليوشر لعينه أحد

لتستريح القيامة من عبئها الطويل ،

أيام تحسب أعمال الأحياء والجمادات

وتجويع النار لأجل مجلل بالنوايا

والظنون ... " !

- يااااه ، جثث الأمهات

المحبات ... الحالمات

ياله من تاريخ ...

ياله من تاريخ !.

أستطرد يحكي حالته

وقد بدت معطونة برهق كثير

ومزامير تتحشرج ،

لكأنها تصدأ ،

لكنها بالكاد تنير :

* " ... كنت فيما يشبه سماء تزحف علي بطنها ،

ظهرها لا مكان فيه لجذور ،

في الأعلي تسطع النسور

بأجنحة مظلمة ،

في الأسفل كانت الطوابير الهالكة تنتزع

عيونها

تعصرها

فتخرج منها الحياة وتعترف : " !

- قاطعته ، وقد رأيت ما رأيت ،

" هي القيامة ...

هي القيامة

قيامة الجثث النائمة " !

قال يواصل ما أعترفت به الحياة :

* " لماذا يبدو خيار الولادة كأنه من أوامر

المولود ؟

إذ يطلب المولود ملكا ويقوض صراعه

يتجرع الجهل ويعرق يأسا عينيا

كان وما زال جسده ساحة معركة يسكنها

العرافون بثياب خفية

ولا تزال يد خالقه مبهمة المعني في

الأحلام ،

مكسورة الشكل خلف دموع كوابيسه

فقط ،

مخالب اليد بينه

ما عدا ذلك بوجهين يحيا

بتبادل لا ينفد للقتل يسمي نفسه

ما عدا ذلك ،

سيرة الخيال ، بقبحه وعجزه ، يتململ

بأنفاسه الأخيرة تحت قبضة الزمان ... ! " .

- نعم ...

" كأن الولادة خيار المولود " !

وبع أن يولد تبتدئ سيرة الوجع

في مسيره الدامي " يعرق يأسا

ويتجرع الجهل " !

ويعيش ، جسده الملعون ، معارك شرسة

يراوغ العرافون

وما تصله من أصابع يدي الخالق

يلجمها – أحيانا – ليوقف نوافير الحرقة المتفجرة

ولجامات قلبه الصاهل في براريه الشاسعة !

بيده يقتل ويسمي نفسه

يسمي قتله ... ،

في سيرة العجز والمهزلة

فمن يملك إدعاءا – الآن – ليسميها مرحلة ؟

والزمان قبيح ...

قبيح قمئ ياسادن المعرفة ! " .

* " ... ما كان زمانا تسبح داخله

قبل لم تكتمل

أشباح أبناء يرضعون – لازالوا – من

أثداء أمهاتهم

تمزيق مستمر لصورة الأب مبتسما خلف

سياج يحمل جسد أبنه الدامي ! " ...

- " مهلا ، مهلا ياصاحبي ، قاطعته :

كيف يقسم

هذا الزمان الدامي نفسه ،

كيف يجعلها برهة قاسية ؟ " .

* يواصل كأنه يحدث وجعا جواهو :

" ... في الثانية الأخري

بينما يحمل طفلا قطرة ماء حية راكضا – بقوة فنائه – نحو

جدتهليبهجها بلمعان القطرة

هي تتحسس ظمأ حكاياتها القديمة

تعرف الوجوه المكفهرة الدائبة علي

سطح بويضاتها الشبحية ... ! " .

- تنبهت فجأة للتي قد كانت ،

وهي الآن كائنة فينا

و ... كائنة : " رشيدة حبيب الله ،

هل كانت هي الجدة الكائنة ؟

فقد كانت ، أيضا ، تبهجها جدا قطرة الماء الحية !

وزمانا طويلا كانت تعرف

الوجوه المكفهرة في لمعان زائف

وتتحس ،

بسليقة العين وصفاء البصيرة

كيف تشتغل المحنة حتي لتغدوا وجعا راعف !

أبدا ما أبهجها بريقا يتصنع ملامح الملائكة

ولا فرح الزغاريد في الوجوه اللامعة !

تحذق ...

تحذق ...

ما هو عندها ،

وما هو في أصلاب الفتية الخارجة !

لا ...،

لست أفتق منك مكامن قد أنسدت

ولا عقدا لديك قد أنفكت !

لا عليك ، إذن ، ياصديقي ...

وقل لي ماذا رأيت في الثانية التالية ؟ " .

* تنهد ونطق كمن يحدث نفسه :

" في الثانية الأخري

بينما تقفز الشامة من نهد الفتاة لتبحث

عن كون لتصبح ثقبه الفائر ،

بينما يتحسس الولد كيان شبيه محتشما ،

شيب يرمق نطفة مطعونة الظهر

يالها من نهاية ! " .

- " الولد ، إذن ، أصبح في الشيب محتشما ،

ويرغب ...

يرغب ويسعي أن يري

وأن يكون مرئيا !

لكن النهايات مطعونة راعفة

النهايات تغدو – في ربيع العمر -

جراحا نازفة

ألم تري ... ،

ألم تري سديمها ؟

ألم تحصي كم بقي من الأحلام والسنوات والبكاء ؟

ألم تر الصمت قد طال السماء ؟

ألم تتفرس وجوه الفتيات

وكلهن يحملن ملامحك ؟

ولكن ، أينك ،

أيها المبصر الرائي

أينك ؟ " .

* في الثانية الأخري

تعبر نبوءات المجرة كاملة شوارع ألفتها ،

تختال بثوبها الرمادي ،

تنقشع اللغات من خلفها

كاشفة جسد الحرب البشرية ترفرف

داخل جمالها .

ياجمجمة الوادي ،

قرية تنام داخلك ،

مدينة تهش الكوابيس بينكما .

ياجمرة الآتي من لحظات ولادات متتالية ! " .

- " أعرفها ، تلك الكوابيس والجماجم

أنها تأتي ، حينما تأتي ، جمر متلاطم!

أنها الحرب تتعري لتنهض فينا فتنتها ...

وتستعر تواريخها جمرا ولظي ...

تكتم اللحظة الضاحكة !

ففي ليالي الحرب الطويلة

تبدوا السماء أحيانا بلا نجوم وذكريات

لكنها تحرض البرهة لتغدوا كونا في الناس

أشواكا ورملا وملحا في النعاس !

فكيف تكون الثانية التالية

والولادات متتالية ... متتالية ؟ " .

* قال حبيبي وهو يضحك

ضحكته الأسيانة الباكية :

" ... الثانية الأخري ليست تالية ،

أصلا بجانب ( التالية ) تحيا ، وتفور

بمقتنياتها الألمية .

خطف مستمر لآيات الأنبياء نحو غابة

أحداث تبصرها العين المدفونة من خلال

دودها ! " .

- ما أستطعت ، من بعد ، سكوتا

فالأنبياء قتلوا من الأحداث توهجها ،

حتي غدت – وهي الجريئة الباسلة – هامدة

كأنها من برهة الزمان

نائمة !

يالهولهم ...

وسوءاتهم الواضحة

الواضحة !

واصل في سرده و ... أنتبه :

* " ... الثانية الأخري ما يحاور القتل في سرير

طامح علي نهر الأبدية

حيث تتلفت الغزلان بجرأة ماء أزلي

ينتفض مفتونا من شعرها الصحراوي

حيث المشانق تطارد حبالها بما فاض من

رسائلها لإرتجافات أعناق جاسدتها.

أيها الزمان ... " !

- " دقيقة ... دقيقة

قاطعته ، بجرأة المتوهج

كثير الدلالات والحجج

ولكن ، كيف رأيتها ... ،

المشانق التي تطارد حبالها

تجاهد أن تنأي عن جاسدتها ؟ " .

* يواصل : " لآ ... أيها الزمان ،

لديك تراب القبر محمولا علي يد اليتيم ،

يتسرب من أصابعه حاملا معه بصمات

وليال ألف ،

لديك الوهب ،

وكبرياء النارتتجذر في نسبها الشيطاني !

وهل لك منا عهد ؟

ليسابق رموشنا للبكاء

ليلتقط القبلة من عاشقين

ويقذفها في حلم صبي يعيش في القرن

الأخير من القيامة ؟

وهل الحب ،

وما شابه أنحاء أسلحته وقتله

يتجلل تحت يدك المتفانية في الإفناء

والمحو ؟ " .

- " تحسرت ...

تحسرت حتي بكيت !

قلت – لا ، ليس إليه – بل

للزمان الفهيم

الزمان الكليم ،

و ... لنفسي :

ظلام كثيف كثيف ،

وبقايا جثث ومعلبات طعام طافية ،

الأتصالات مقطوعة ...

ياللعزلة الكائنة ،

ثمة أصدقاء رحلوا بين أعواد المشانق

اليابسة

وتركوا ، لنا ، وجع البقاء مع ذكرياتهم !

قصف ...

قصف ... ،

قصف شديد جدا

لامجال للغناء والرقص

من ، ياتري ، في هذا الزمان الكوني الكتيم

الكتيم اللئيم

اللئيم اليتيم

يفهم فوضانا ؟

نحن الذين علمتنا الحرب ،

الحرب الضروس المشتعلة في الدم والخاصرة

المزروعة شوكا ،

في برهتنا الراهنة

أن نترك أشياؤنا كما هي

عارية عارية

و ... نمضي إلي " التالية " !

فإلي أين نسير – ياصديقي – وماذا

سنري ؟ " .

* " ... أنظر للطريق إذا ،

وتغير لمرة إذ لا يمشي عليه أحد ،

ولا تحدث ( فعلا ) يشئ بوجودك لمرة

واحدة ...

ستري حينها :

هامات تتسامق لأسفل سافلين ،

حيث تكالبت أجنحة الملائكة علي دم

الحروب المتكلس ،

وحاورت لزوجة الرائحة هناك ،

وأشباه الأصابع وهي تعلم أسماء

الأتجاهات بالتهديد

( والجهات – تعلم – محكومة بدوران

الأرض ، وأسماؤها شهوة للمركز ) .

هيام الفتيات المراقبات ما يحدث في

الأسفل يسطع ،

أقمارا هلامية الجدوي وإختياراتها نافقة

بحسرة .

لمرة قاوم مرارة أصابعهن ،

ومرر لسانك وأرفع بصرك إليهن وقل :

هل للتقوي مكان ،

والإيمان ؟ " .

- قلت إليه أنا : " الطريق وحيد

والوحيد غريق !

ولا من مكان يسعهما :

" التقوي ...

والإيمان " !

جمرات الحريق

يراكمن في الأجساد

صديدا و ... ضيق !

وما من صديق

ما من صديق !

تذكرته في البرهة الراهنة ،

تذكرته ،

وهو الصديق الرفيق ،

هل تذكره ياحبيبي ؟

أراجون ،

ممتلئا بالزمان الصفيق

كان يقول :

" لست ممن يخدعون العالم ،

أنتمي بأكملي إلي هذا القطيع العظيم الحزين ،

قطيع البشر !

كافحت بذراعي الحريق في كل مرة

وعرفت الخنادق والدبابات .

وقلت دوما بلا حذر أسوأ خواطري في وضح النهار

ولم أنسحب عندما جاءوا ليبصقوا في وجهي !

وتقاسمت الخبز الأسود والدمع مع الجميع !

أخذت نصيبي من المرارة

وحملت حظي من الشقاء

لم تنته هذه الحرب أبدا بالنسبة لي ،

ما دامت أطراف شعبي ممزقة .

ألصق الأذن بالأرض ...

ما زالت تصل إلي تنهدات بعيدة مخيفة

تخترق لحم عالم أصم !

لا أعرف النوم ، وإذا أغمضت العين يوما ،

فإلي الأبد !" ...

يااااااه ...

كم أحبهن ،

البنات الصبيات

الجميلات ...

جرح عمري المديد ،

بادلنني الوهم بالحلم

رقصاتهن ترتق ظلي

في الطرقات .

أنتشلنني من ركام الخراب

وجراح الحراب !

كم أخذن بيدي للبراح الفسيح

من باب لباب !

لا المركز يجعلهن في البهاء

ولا الهامش يحيل جراحهن أغنيات

في النداء !

فكيف تصف – أنت – إليهن

الغابات التي حلمت بها

والأرصفة التي سهرت ونمت فيها

ودخان السجائر والقصائد

وحمي المصائد

والشوارع والباصات والنساء والمكتبات والأحزان

هكذا إذن ، تصف جتي نبض قلبك المندي

بالأمل وقد دنا في السهاد !

تصف كل ما رأيته – أيها الرائي – في حياتك

بمنتهي العذوبة والألم

مخبئا نصف ذكرياتك علي الأقل !

كأنك تحذو حذو " أميليو برادوس " ،

فتسير خلف ضفائرهن :

( أسير في أثرك ،

خطوة ... خطوة

إلا ترين ذلك ؟

فأني أضيع ،

خطوة ... خطوة ! ) ...

تنهد ، عميقا وطويلا ، صاحبي ،

بألم يختبي خلف قلق أصابعه

خشية أن ينتبه الحرس

عندما يشرع يدق ،

مع نبضات القلب إليه ،

الجرس !

لتكاد تري دم الشاعر فيه يتسلق

ليبلغ أطراف جسده ،

و ... أجسادهن !" .

أخيرا قال :

* " في الثانية الأخري ،

إن شاء المولود ،

يري الحضور القوي لملائكة تولد من

صلبه

وتبحث قلقه عن أقدار صنعها بيديه

تقتنص الأرواح وهي تحيا جمالا لم تدركه

في حينها ،

إذ يسير الجمال أمام الروح ،

ولا تدركه إلا بعد خروج الحروب من

عينيه الغائرتين في الأبد!

تنام ميتة - بعد أن حدثت – تحت حماية

ظلها ...

ودموع تتدحرج في لحظات الغضب ! " .

- تلك كانت ، إذن ، بعضا من سيرة الوجع

وغناء الحياة / البنات !

فتحت العيون أفقا يضئ عتمات الجسد

والزمن الموات !

أرجوكم :

أتركوا البحر في عزلته

البحر الذي يتبدد كل يوم علي الرمل

ودم الصبيات البات

ينثر زهورا ملونة علي قمصانكم

وطاولات الوظيفة ...

أوصيكم :

لا تتهموا الشاعر بالإبتذال !

أفهموا براءة الموج

أفهموا فوضاه وحزنه المائي

وأمواجه التي تغسل ملوحة المدينة

وتبدلها بالأشجار والريحان !

حتي يري " الجمال الذي يسير أمام الروح "

في حديقة الرمان !

وأنت ، أيتها المدينة ، ياقلبا من الزجاج

والبراءات والشوك واللافتات

ياوترا يرقش ليلهن البنات

لا تتأمري علي الشاعر ...

لا تؤاخذي شعره المحدث

ودعي البحر ينفتح علي المرايا

حيث الشاعر يجلس حالما علي الرمل

يحلم بالتفاحات والسوسنة

تلك التي في قلبه

حاضرة ... حاضرة ! ".

بيني و مأمون التلب و ... ياااااااا طينيا !

شاقَّةٌ ضربةُ الروحِ في العين،
دودتها أشقى من تُربةِ عَقلها
من نباتات حريقها
من تدليك جسدٍ بدهونِ النظرة حتَّى تطفر سطحيّةُ الشهوَّةِ كتنينٍ بلا رؤوس.

شاقَّةٌ هذه السحابة على السماء
هذه النجمةُ على ضوء عين القطةِ
قاسيةٌ هذه الأرض على الجبال
البحار والمحيطات والأنهار قاسيةٌ على المياه
وحشيٌّّ وجود الألوان أمام المبصرين
وبرقعةُ الجلود شديدةُ البأس على اللحمِ والعظم
الدماءُ، تجترُّ أشلاء ذكرياتها الدورية، تُشوِّهُ القلب
والعضلات لا تفي بمعنى لذَّةِ الضرب والحياة.

أعني أن الكأس مُزوَّدٌ بالحياةِ
إذ تُوجِدُ سبباً لدحر انعدام الأمل
في كلِّ لحظةٍ
أمام اليأس الخلاق؛ التنينُ الأبديُّ الشائخ بحُكمِ أسطوريّتهِ.
الحياةُ تُوجدُ مَنظراً، صورةً، هَبشةُ مَصرَعٍ
لتُقنع الحيوانات العاملين لديها بوجود الأمل.
آهٍ، يا لها من موسيقى
عَزَفتها آلافُ العروق والأنفاس المتلاحقة
لَحَّنتها اللحظات الأخيرة لكل شيءٍ
ولا من مُعترفٍ بوجود نهايةٍ لكل شيء
قاسيةٌ هذه الحياة !

إذن ، قد يصيبك داء الحنين ياصاحبي ؟
هذا النص الجميل أجتزاه ، بحنكته الوريفة ، حبيبي مأمون التلب ، من بين أعمدة كتابه الأنيق " طينيا " ثم أرسله إلي ! مخطوطة الكتاب بأكملها لدي ، لكنني – وأنا الغافل عن أشراق الوجود المخبي بعناية في صدور الصحاب – لم أنتبه لهذا الفيض العذب من جماليات الكتابة ، إلا حين يأتيني ، علي حين غرة من أمري ، فيدخلني في المسام وفي الجوانح حيث الوجد الكثير والرؤيا البريق :
" الحياة توجد منظرا ، صورة ، هبشة مصرع
لتقنع الحيوانات العاملين لديها بوجود الأمل ! "
آه ، يالها من موسيقي :
" عزفتها آلاف العروق والأنفاس المتلاحقة
لحنتها اللحظات الأخيرة لكل شئ 000
قاسية هذه الحياة ! " 0
قاسية ، إذن ، هي الخياة ياحبيبي ،
يا أبن أمي
يا أبن أكثر من أب
كم هي قاسية وعذبة هذه الحياة !
ياصديقي وحبيبي 000
لابد أن تكون في أفضل السماوات
وأن يتفحص نبضك الأختصاصيين
في علم القلوب !
حين تقدم زادا
للذين يتوكأون علي بحر
كي يغازلوا اللغة 000
ويبعدون عنها الحشرات وبغايا الكلام !
منذ متي وأنت تلقي بالتعاليم في حزم المتعبين ؟
وتحمل عنا عدة أصطياد الفراشات
ورسما بيانيا لذبذبات الرقص ؟
ولأنك خبير مودات فقد أذعت :
" واااااي 000
أنقذوا الفراشات التي تفر من البلاد !
ياجماعة السلالات الحديثة :
لقد أبتدأ الزمن الجميل ! "
كنت أسمع الشجن والوجع في دمعة واحدة
ومن وتر واحد مشدود حتي الدواخل 000
كان الإيقاع يندلق علي وجهي
كان الليل رحيما
رطبا وأنيسا
وحين أنتبهت للصباح 000
وجدتك – كطفل الملائكة – تضع سجارتك بجانبي
وترمي بنفسك في حوض السباحة
فيغطيك الكلام
ويراك الغمام !
شاقَّةٌ ضربةُ الروحِ في العين،
دودتها أشقى من تُربةِ عَقلها
من نباتات حريقها
من تدليك جسدٍ بدهونِ النظرة حتَّى تطفر سطحيّةُ الشهوَّةِ كتنينٍ بلا رؤوس.

شاقَّةٌ هذه السحابة على السماء
هذه النجمةُ على ضوء عين القطةِ
قاسيةٌ هذه الأرض على الجبال
البحار والمحيطات والأنهار قاسيةٌ على المياه
وحشيٌّّ وجود الألوان أمام المبصرين
وبرقعةُ الجلود شديدةُ البأس على اللحمِ والعظم
الدماءُ، تجترُّ أشلاء ذكرياتها الدورية، تُشوِّهُ القلب
والعضلات لا تفي بمعنى لذَّةِ الضرب والحياة.

أعني أن الكأس مُزوَّدٌ بالحياةِ
إذ تُوجِدُ سبباً لدحر انعدام الأمل
في كلِّ لحظةٍ
أمام اليأس الخلاق؛ التنينُ الأبديُّ الشائخ بحُكمِ أسطوريّتهِ.
الحياةُ تُوجدُ مَنظراً، صورةً، هَبشةُ مَصرَعٍ
لتُقنع الحيوانات العاملين لديها بوجود الأمل.
آهٍ، يا لها من موسيقى
عَزَفتها آلافُ العروق والأنفاس المتلاحقة
لَحَّنتها اللحظات الأخيرة لكل شيءٍ
ولا من مُعترفٍ بوجود نهايةٍ لكل شيء
قاسيةٌ هذه الحياة !

إذن ، قد يصيبك داء الحنين ياصاحبي ؟
هذا النص الجميل أجتزاه ، بحنكته الوريفة ، حبيبي مأمون التلب ، من بين أعمدة كتابه الأنيق " طينيا " ثم أرسله إلي ! مخطوطة الكتاب بأكملها لدي ، لكنني – وأنا الغافل عن أشراق الوجود المخبي بعناية في صدور الصحاب – لم أنتبه لهذا الفيض العذب من جماليات الكتابة ، إلا حين يأتيني ، علي حين غرة من أمري ، فيدخلني في المسام وفي الجوانح حيث الوجد الكثير والرؤيا البريق :
" الحياة توجد منظرا ، صورة ، هبشة مصرع
لتقنع الحيوانات العاملين لديها بوجود الأمل ! "
آه ، يالها من موسيقي :
" عزفتها آلاف العروق والأنفاس المتلاحقة
لحنتها اللحظات الأخيرة لكل شئ 000
قاسية هذه الحياة ! " 0
قاسية ، إذن ، هي الخياة ياحبيبي ،
يا أبن أمي
يا أبن أكثر من أب
كم هي قاسية وعذبة هذه الحياة !
ياصديقي وحبيبي 000
لابد أن تكون في أفضل السماوات
وأن يتفحص نبضك الأختصاصيين
في علم القلوب !
حين تقدم زادا
للذين يتوكأون علي بحر
كي يغازلوا اللغة 000
ويبعدون عنها الحشرات وبغايا الكلام !
منذ متي وأنت تلقي بالتعاليم في حزم المتعبين ؟
وتحمل عنا عدة أصطياد الفراشات
ورسما بيانيا لذبذبات الرقص ؟
ولأنك خبير مودات فقد أذعت :
" واااااي 000
أنقذوا الفراشات التي تفر من البلاد !
ياجماعة السلالات الحديثة :
لقد أبتدأ الزمن الجميل ! "
كنت أسمع الشجن والوجع في دمعة واحدة
ومن وتر واحد مشدود حتي الدواخل 000
كان الإيقاع يندلق علي وجهي
كان الليل رحيما
رطبا وأنيسا
وحين أنتبهت للصباح 000
وجدتك – كطفل الملائكة – تضع سجارتك بجانبي
وترمي بنفسك في حوض السباحة
فيغطيك الكلام
ويراك الغمام

نوباتيا أو مهد الأغاني ... من مخطوطة كتاب : " كلمة في تبجيل الفنان وردي " !

(خُذي النُّعاس وخبَّئيني في الرواية والمساء العاطفيّ،
وخبَّئيني تحت إحدى النخلتين،
وعلميني الشعر، قد أتعلَّمُ التجوال في أنحاء (هومير)
قد أُضيفُ إلى الحكاية وصفَ عكا، أقدم المدن الجميلة،
أجمل المدن القديمة، علبةً حجريةً
يتحرَّك الأحياء والأمواتُ في صلصالها كخلية النحل السجين،
ويُضرِبُون عن الزهور ويسألون البحر عن باب الطوارئ كلما اشتَدَّ الحصار.
وعلميني الشعر؛
قد تحتاج بنتٌ ما إلى أغنيةٍ لبعيدها:
(خذني ولو قََسْراً إليكَ،
وضَع منامي في يديكَ).
ويذهبان إلى الصدى متعانقين
كأنني زوجت ظبياً شارداً لغزالةٍ
وفتحتُ أبواب الكنيسة للحمام).
(من جدارية محمود درويش)
إلى الجنوب من وادي حلفا، في أحضان النيل والجروف والنخيل، حيث الهواء نسمات رقيقة كالغلالة ترتمي على وجه المكان، في ذلك الملكوت الأرضي عاش الفنان وردي؛ في ذلك المكان تجد أن للعصافير لغةً، وللنهر لغة، وللجروف والنخيل والعشب لغةً وشذىً، والليالي تحتضنُ تلك الحيوات فتضعُ إنسانها في عمقِ أحضانها الدافئة، فتحميه من البرد والزمهرير. للمكان هنالك لغة الجذور الأولى؛ للمكان رائحة النوبيا، وله شَجَوِيَّة الأغاني مشرقةَ البهاء في الروح! يكاد الإنسان أن يلتحم بالمكان؛ بترابه وتاريخه في جميع أوقاته وأيامه بلا إنقطاع! المكان والتراب والتاريخ تجدهما في الناس أجمعين: تراهما في العيون والملامح، في السحنات السمراء، وفي الشعر الأسود اللامع الطويل، الناعم كما الحرير ـ ملمساً ورؤية!.
وتجدهما أيضاً وأيضاً في العشق الخرافيّ المجنون الذي يحتويه وجدان الإنسان النوبي وفؤاده السمح السمات. أيكون ذلك بسبب من صفاء المنبع ورقَّتِه وسماحته ونبله، أم هو تراكمات الأزمات السحيقة وذوبانها في الروح ذاتها؛ تراثاً ومعنىً وذاكرةً حافلة بالطلاوة وندى الأيام وبهجتها؟ أم يكون هو بسبب من السلالة نفسها تحتضن هذا العبق الفواح؟.
هو شيئاً من ذاك كلّه يسكن أفئدة النوبة ويَسِمُها بميسَمِ الغموض والسحر فتبدوا كالماس (النوبيا): سحرٌ يدخل في عمق الروح، في جوهرها، يطلع منها عبق التاريخ ورائحته وشذاه الغامض كالنيران المقدسة في المعابد القديمة. هي رؤيةٌ مُكتَمِلةٌ في الحياة ولكنها مضمَّخةٌ ونديانةٌ بالعبير في شجوية الروح الأخيرة! لعلها هذه الجذور العَفِيَّة في التربة هي التي تمسك بالروح النوبية وتشدّها إلى التراب والأرض! ومنها هي بالذات ـ من هذه الينابيع العميقة الغور في الوجدان الإنساني ـ يطلع الشَذَى والحب والدفء ودفق الحنان المُزهر في إحتفالية البهاء النوبي!.
(النوبيا) هي هذا الجوهر؛ جوهر المكان وروحه، وهي، كذلك أيضاً، جوهر الإنسان النوبي وروحه!. يقول الشاعر النوبي كمال عبد الحليم، ابن أرقين العظيم، في قصيدته (مقاطع على جدار الوطن) (1):
(تَعَلَّمتُ أسعدُ في صحوة الآخرين،
فكلّ النساء مرافئ، وكل الرجال شجر!
ولكنني الآن شِعرٌ حزين.
فالعَرَاجِيْن نوبية،
والعَصَافير نوبية،
والطريق إلى عاشق في الفؤاد الحزين؛
فوق جسرٍ مِن الرَّاح ينكرني بعد حين،
لغةٌ صَلَبَت شِعرَها فوق زيف المديح،
الهجاءُ / النسيب،
كيف تُكمل مشوارها نحو طابية الشمس،
نحو صريح مرايا الوطن؟.
عَرَبٌ ساعةَ الحَصْد
نوبيةٌ والسهام قَلَم
يا حقول الألَم
أورقي في شراييننا فرحةً لا تَتِم
بيننا وطنٌ يستطيل،
بأغنية تستحيل،
وعاصفةٌ من عَجَم؛
لغةٌ يا وطن!).
هي النوبيا، هي النوبيا! نقول (النوبة) ونعني بها تلك الهوية التي تتلازم فيها وتكتنِزُ داخلها دلالات عديدة: العِرق واللغة والجغرافيا والحضارة معاً. ولعله من المعلوم، وفق الحيثيات العلمية التاريخية، أن النوبة هم أهل السودان الأصليون، وأن لهم في التاريخ حضارات عظيمة وعميقة الدلالة، وتُشكّل هذه الحضارة والتاريخ المهد الطبيعي لتاريخ السودان القديم. ولقد جاء أقدم ذكرٍ للإسم (نوبي) أو (نوبيين) في رواية ذكرها المؤرخ أرتو تينس (275- 194 ق.م)؛ حيث ذكر، كما تقول د. سامية بشير دفع الله، (أنها قبيلة كبيرة تسكن غرب النيل، بين مروي القديمة وبين إنحناءة النيل في الدبّة ودنقلا) (1).
والنوبة حاميِّون، كالمصريين القدماء والأثيوبيين والبجا، ويتكونون من أربعة عناصر رئيسية هي: الكنوز والفاديجا والمحس والدناقلة. وكانت أرض النوبة ضيّقة تُحيطُ بها الصحراء الكبرى شرقاً وغرباً، وتحاصرها صحراء العتمور جنوباً، فتعزلها هذه الصحارى عن بقية العالم عزلاً تاماً. كما أن الجزء الذي تحتلّه أرض النوبة من نهر النيل تبرز فيه حواجز صخرية عديدة تُعرَف بالشلالات. وقد مرت على أرضهم حضارات عديدة؛ كالفرعونية والإغريقية والرومانية والإثيوبية والعربية والتركية. والنوبة هم أكثر الأعراق حُضورَاً في تاريخ السودان، وأكثرهم إثارةً للجدل، خاصة في أبعاد حضارتهم وعلاقتهم (بالنوبا) في جنوبي كردفان ودارفور من غرب السودان. ومن المعلوم أن النوبة ينقسمون اليوم، من حيث لغاتهم، وبحسب الأحكام العامة لعلم الأصوات، إلى ستة أقسامٍ هي: الدناقلة والمحس والسكوت وأرض الحجر والفاديجا والكنوز. (ويستطيع المحس والسكوت وأرض الحجر والفاديجا التواصل اللغوي، في حين لا يستطيعون ذلك التواصل مع الدناقلة والكنوز الذين تكاد تتطابق لغتهما) (1). وعلى التأكيد أنه توجد أيضاً بعض الفروق اللغوية بينهما هنا وهناك!.
كانت الهجرة النوبية الكبرى إذن في بداية الستينات من القرن الماضي خَضَّةً عنيفةً للإنسان النوبي؛ مسَّت منه شِغَاف الروح ذاتها، فسَكَتَ صوت المُغني النوبي ردحاً من الزمان، وعاد المُغني مرةً أخرى يفتح في دروب الإبداع النوبي دروباً شاقَّة، عسيرة في تقدمها وخشنة، إذ هي تنهض بشرف محاولة تعبيد تلك الدروب والمسارب المضيئة. أما فعل الهجرة فقد امتدَّ تأثيره ليُحَوِّل الغناء النوبي برمَّته إلى غناءٍ باكٍ حزين، يُذَكِّر بالأرض والتراب ويحنُّ إلى العودة إلى تلك الديار؛ حيث التاريخ النوبي كله يرقد فوق التراب وتحته وتختلط فيه، ويذمّ الأرض الجديدة التي هاجر النوبة إليها. وقد أصبح ذلك الفعل تحوّلاً في (موضوع) الغناء النوبي، ولا يزال حتى اليوم الغناء في موضوع الهجرة من أحبّ الغناء إلى نفوس النوبة!.
لقد عرف النوبة الغناء (كيرى Kere) منذ أَمَدٍ بعيد، وكان غرض الشعر نفسه هو غناؤه، حتى إننا نجد إن الشعر المُنشأ في اللغة النوبية كان يتقيَّد بأبعادِ قوالبِ الغناءِ المستقرَّةِ من ألحانٍ وإيقاعٍ على أساس أن دور الشعر هو أن يُغنَّى وفق مضامينٍ بعينها، حتى لقد غلب شأن الُحب وأحزان الهجرة على ذلك الشعر. ولكن، إلى وقتٍ معلوم، سيأتي فيه المجددون بمضامين وأساليب وتراكيب وصور جديدة مبتكرة. يقول محمد وردي في بعض شعره النوبي الذي يغنيه:
الوطن (1)
أيّها الحزين يا وطن، كم أحبك؛
ماثلاً أمامي حتى الموت،
شَكَّةُ الشوك فيك، حتى صهدك
باردٌ إذ أسير أيها الحزين.
وطني، يا ذا الرائحة الذكية،
يا ذا الماء الزلال،
يا ذا الليل الأعمى ـ بشمسك الساعية،
يتذكرك البعيد عنك، ويقاتل الباقي فيك كي يبقى،
أيها الحزين،
ينام فيك ملء الجفن،
ويُطعَمُ الطيب.
الخيرُ بين يديك،
والشرُّ يُنسَى فيك؛
تخفّ أحمالنا، همومنا عنَّا فيك!.
لا شئ غالٍ إذا أردته،
هذي روحي
أيها الحزين.
مُحبك الذي يتغنَّى بك
من يَتَمَرَّغُ في ترابك
ولدك!.
ها هو قد جاء فأتِهِ ساعياً أيها الجبل،
وأنت يا طين الجزيرة أَشْرِق بالفرح،
يا (سَاب)، الذي يتوسَّطُ البلد، اشهَق قمحاً،
ويا مُضغَةَ الحزن الخاثرة في الجوف
اجترحي حُزنك!.
كونى لوناً آخر في الأحشاء،
وثَبجَاً على وجه (نلوه)،
أبيضاً متضاحكاً.
أيها المركب: تداعَ شرقاً وغرباً،
وابدأ غناءك أيها العاشق،
واضبط الإيقاع أيها الفتى،
ويا صبية: ابتَدِعي الاندلاق في الرقص.
أيها الحزين ـ يا من كالجلكوز في عروقي،
النابت في القلب،
أذكرك؛
أذكر حتى بطن نَخلِكَ،
وطينك المشقوق.
أذكر طيورك الرائحة الغادية،
ونباتك طَيِّبَاً وخبيثاً،
أيها الحزين).

هذا إذن هو بعضاً من حديث الفنان عن الوطن؛ دخولٌ مضيءٌ إلى ذاكرة الوطن عبر تاريخه وقيمه وثقافته ولسانه أيضاً، ومن هنا يستطيع وردي أن يؤكد أنه قد أتى في الخمسينيات للإذاعة وكان غرضه هو (نشر الأغنية النوبية لا احتراف الغناء العربي)(1). إن أول أعمال الفنان كانت نوبية (سَكُوتِيَّة) ألَّفها في العام 1958م؛ استخدم فيها ذلك اللحن النوبي مُضَافاً إلى نَظمها النوبي أصلاً فكانت (ملاك):
(لِيْل اللِّيْل، لِيْل اللِّيْل
يَا مَلاَك الله لِيْل الليل، وآي أنا).
ولكنه يمضي في تجاربه البديعة فيُدخِلُ روح هذه الأغنية ـ الروح النوبية للغناء ـ في ملامح وسِمَات أغنية (بلدي يا حبوب) العربية.
نقول ذلك ونرمي لنؤكد، بجلاءٍ، أن كل أغاني وردي العربية فيها تداخلات وأنفاس النوبيا؛ إن النوبيا هي مهد أغاني الفنان جميعها؛ مُلتحمةٌ في نسيجها الإبداعي ذاته. نعتقد أن جوهر إبداع الفنان يطلع من هذه البؤرة النوبية المتوهجة. يقول وردي: (إذا المسؤولين عن الثقافات، رِضُوا أم أَبُو، يستمعون لوردي في أغانيه العربية والنوبية ـ فموسيقاه لا يمكن أن تكون خالية من الثقافة النوبية ـ كما يسمعون إبراهيم موسى أَبَّا وعبد القادر سالم من الغرب، وفي الشرق أغنية (الجبنة يا بنية) وفي الفنون الشعبية ورقصاتها. بمعنى أن هذا هو واقع الشعب، وهو مستعدٌّ لتقبُّل هذا الواقع ويتجاوب معه. ولكن السياسيين العنصريين اللي بيؤمنوا بالإستعلاء العرقي والديني ده لازم ينتهي. نحن بنقول إن السودانيين لهم أديان متمسكين بها، وناس على خُلق ودين ومحبة وأصول. فالناس المتوترين اللِّي عَايزِيْن، قسراً، يِخَلُّوا الأبيض أسود حَقُّوا يِسكُتُوا) (1).
ويمضي الفنان العظيم ليُطالب ويؤكد أنه لا يُعدّ ـ كفنان ـ مع العرب. لأن أغنيته، في عمومياتها وإطارها الإبداعي وفي اتساع دلالتها ومعناها، ليست عربيةً خالصة، لهذا فهو قد رفض دراسة الموسيقى العربية باعتباره نوبياً، ويُعدّ جزءاً من التراث الإنساني والثقافة العالمية في كليتها (2).
ولننظر إلى المسألة في عمومياتها جميعاً وفي اتساع المعنى والدلالة أيضاً: فهو قد امتلك اللغة العربية، وتحدث بها لسانه بطلاقة وإتقان، وبذلك يكون متأثراً بالثقافة العربية ولكن في جدلية اللغة والثقافة لديه؛ إن في روحه ووجدانه هذا المزيج الثقافي المبهر، هذا على مستوى الثقافة. أما على صعيد الموسيقى، فإن مهده الموسيقي كله هو الحضن النوبي الدافئ. إن صفاء الينابيع النوبية في الموسيقى يلوِّن أغانيه وأناشيده جميعاً؛ امتلك الفنان رحيق النوبيا كله كقفير النحل، ومنه يطلع هذا العسل المصفى في أغانيه؛ الموسيقى ترتدي الأزياء النوبية وتمشي في خيلاءٍ بين الناس. ولكن وردي يمضي ليقول (، لكن المقامات الداخلة في الأغنية الكردفانية لا تؤكد عروبتها بل تؤكد حَاجَة سودانية متفردة. فإثيوبيا، مثلاً، عندها سلالم مع الخماسي تُمثل إضافات ـ فالأغنية الكردفانية بها أحياناً سلالم خماسية، وأحياناً سداسية متطورة ـ ولكن ليست هنالك سلالم سباعية، وعلى لساني قل: أنه ليست هنالك مقامات عربية إطلاقاً في أية أغنية سودانية! وليس هناك مقام مثل الكرد Kard والعشيران Isheran والنهاوند. هل في السودان لدينا مقامات مثل هذه؟ ومن هو الذي غنى بهذه المقامات؟ ونحن عندما نقول هناك مقام عربي في أغنية ما، فذلك معناه أن يُسيطر المقام من أول الأغنية إلى آخرها)(1).
بهذه الكلمات، وبهذه المواقف، وعملياً بالأغاني وبمدى اتساع تجربته ذاتها، وكخلاصةٍ مُركَّزةٍ لها؛ فإن وردي يُريد أن يقول لنا جميعاً: إنني، في مشواري الفني وتجربتي كلها، وقفتُ، ومنذ البداية، أمام سؤال الهوية بكل جلاله وعمقه وتوهّجه ولمعانه! وأتكئت على نوبيتي حيث جذوري ما تزال حية وعفية، وحيث وجدت تراثي مكتنزٌ بالحيوية والخصوبة والثراء؛ أبدعت أغانيَّ وموسيقايَ كلها وأنا مستلقٍ على هذا المهد الوثير الفخيم، ودونكم تجربتي بكليتها أمامكم وخلفكم، فهل نجحت؟.
نحن نقول له: نعم يا مُحبّنا العظيم، وإنه لنجاحٌ باهرٌ يسطع كما النجوم في دنيانا وأحلامنا كلها. لقد دَخَلَت النوبيا إلى وجدان أمتنا وأخرى مجاورة لنا وبعيدة كذلك، وستكون هذه التجربة العميقة في الفن مدرسةً كاملةً وميداناً فسيحاً لدرسٍ كثيرٍ سيأتي و... يكون!. ولكن، ماذا عن هذه الروح النوبية التي تسكن أغاني وردي، وكيف تبدو ملامحها وسيمائها؟.
عند النوبة النيليين (من النوبة المصرية إلى دنقلا) ينقسم إيقاع الغناء إلى قسمين إثنين:
1. إيقاع نَقْشَبَنْدِي (إيقاع الطَّار)، ويُستعمل عند الفادِيجَّا (من دِغِيْم إلى كُوْرْسَكُّو المصرية) والكنوز (من كُوْرْسَكُّو إلى شمال نهاية أرض النوبة). ويمتاز هذا الإيقاع بسرعته.
2. إيقاع (الصفقة)، ويوجد عند بطن الحجر (من أبكا حتى سركمتو)، والسكوت والمحس ودنقلا. وهذا الإيقاع يكاد يكون ذات إيقاع الطار، إلا أنه يمتاز بأنه أكثر بطئاً. ونجد عند الدناقلة إيقاع الدليب، وهو ذات النغم المُستخدم حالياً عند الشايقية.
والجدير بالملاحظة هنا ، أن معظم أغاني وردي تقع في إطار أغنية (الصفقة)، خاصة في المراحل الأولى لاحترافه الغناء، وقد فَطِنَ وردي، مؤخراً، إلى أنه لا يُمكن أن يُخاطب بغنائه سائر النوبة النيليين. ويمكننا أن نقول في هذا المقام، وباطمئنان، أنه استخدم إيقاع النقشبندي (إيقاع الطار) منذ أغنية (1) (Kudud dollattitotta) في بداية الثمانينات، ثم استفاد من بعد هذا الإيقاع في غنائه العربي. وكمثال لذلك نشيد (وَطَنَّا) للشاعر العظيم محجوب شريف. ونرى ذلك في المقدمة الموسيقية لأغنيته (يا أعزَّ الناس)؛ فاستفاد من إيقاع الطار للصياغة ووضع مقدمتها الموسيقية.
أما إيقاع الدليب، كإيقاعٍ نوبيٍّ (من دُنقلا)، فنلاحظ أن وردي قد استفاد منه ـ منذ منتصف الستينيات ـ في أغنية (الرِّيْلَة)، كذلك استفاد من إيقاع (الصفقة) منذ وقتٍ مُبكِّرٍ جداً يعودُ إلى بداية الستينيات في أغنية (الرِّيلَة)، كذلك، وفي ذات الوقت استفاد من إيقاع (الصَّفقَة) في أغنية (القمر بوبا). وتنويعاً على إيقاع (الصفقة) ذاته استفاد منه وردي وأدخله في علاقةٍ حميمةٍ ودافئةٍ في أغنية (بلدي يا حبوب) للشاعر سيد أحمد الحاردلو (من الشايقية) خاصة في نهاية الأغنية: (يا نيل ونِيْلِيَّة)، لتُمسِكَ نهايةُ الأغنيةِ ـ فجأةً ـ بالبداية منها؛ تأتي بها النوبيا من عنقها لتحتويها في ساعديها! نغماً ومعنىً!.
العام 1965م، ترشح الأستاذ حسن عبد الماجد عن الحزب الشيوعي السوداني إبان انتخابات الجمعية التأسيسية في دائرة السكوت والمحس، وقد لازمه وقتذاك وردي في التعبئة الجماهيرية بأغنية: (سيشرق قمرنا لا محالة):
(طَالَمَا كُنَّا أبناء مزارعين فقراء
نَتَعَشَّى (بالبَلِيْلَةِ) وننام؛
وطالما كنَّا كادِحِين
فسيشرِقُ قَمَرُنَا لا مُحَالَة) (1)
وقد كانت هذه الأغنية بمثابة (المنفستو) الثوري، إذ رددتها منطقة النوبة بأثرها. فالأغنية تخطت مجال ترشيح الأستاذ حسن عبد الماجد بالسَكوت والمحس إلى الشمال والجنوب، ويرددها الناس حتى اليوم رغم مرور أكثر من (35) سنة على غنائها، وقد أنشأها وردي مُنَوِّعاً على أغنيةٍ سابقةٍ عليها كانت سائدةً ومتداولةً في المنطقة مستفيداً جداً من لحنها.
أتاحَ وردي لبعض الفنانين فرصةً عظيمة للغناء بالرطانة، وبلسان غير العربية، فمثلاً عثمان مصطفى، الذس تبناه وردي في أغنية (والله مشتاقين) وفي أغنيةٍ أخرى بالصومالية، وأيضاً زكي عبد الكريم الذي غنى بلسان الدَنَاقلة وإسماعيل حسب الدائم. ولكن هذه نافذة كبيرة، جعلها وردي مفتوحة ومشرعة على أفق الأغنية السودانية. والتجربة ما تزال ثرَّةً وخصبة وعميقة في أبعادها

الأغاني أو شجوية الطرب البديع ، من مخطوطة كتاب : " كلمة في تبجيل الفنان وردي " !

وردي هذا صنفٌ فريدٌ وشامخٌ في خارطة الغناء السوداني، نسيج وحده، مكتمل التكوين والحضور البهيء، مجبولٌ على فنّ الغناء بروحٍ عميقة الإبداع، رائعة الصفاء والإشراق، إنه خالق حقيقي للفن الجميل بسماتٍ وملامح إنسانية توَّاقة للعُلا؛ إلى الذرى وإلى فوق. مُحبٌّ عظيمٌ للوطن: للأرض والناس معاً!.
يقول وردي: (فتحتُ عينيَّ على الدنيا في بيئةٍ امتزجَ فيها الحرمان بالعطف المتدفق، تَمَثَّل جانب الحرمان في فقدان والدتي: بتول أحمد بدري وأنا رضيع؛ كان عمري حوالي عام تقريباً، لَحِقَ والدي بوالدتي فتوفي في 4/3/1941م. كان كل ذلك في صَوَارْدَة التي ترعرعت فيها وتواصل فيها أيضاً مشوار الطفولة والوعي، وبين كل هذا وذاك حدث أن تعلّمت فيها العزف على الطمبور) (1).
جاء وردي إلى عاصمة البلاد، يدفع به توقٌ جبَّارٌ لأن يكون متميزاً في الغناء، وفي الموسيقى، ولكن بطموحٍ واعٍ أن ينشر الأغنية النوبية؛ أتى هكذا، لا ليحترف الغناء العربي، جاء وبدأ يؤلف الأغاني، هو أحد أفذاذ شعراء اللغة النوبية، يكتب الشعر ويغنيه، في الشعر والغناء، وهما صنوان، توأمان لدى هذه الموهبة الكبيرة العبقرية النوبية باذخة الشموخ!.
يقول وردي: (أول أغنية سكوتية أنا ألّفتها سنة 1985م، مشيت لقيت لحن شائع جاهز اسمه (يا ملاك)، ودي عَمَلَهَا واحد اسمه سيد إدريس، من عَبُود بلد حسين آلا لا، ولكن ما كَان في كلام، أنا العجبني اللحن ده جداً، فأول نظم ابتديته كانت "ملاك")(2)
( ليل الليل ليل الليل، يا ملاك الله
ليل الليل وآي أنا
أنتود أنتود أني أبر بلا منجى
تودتي
شورتن قيري تودتي
يا ولونتو شوشا سفوشو
مشكن أدتونا تافكا تيموسو
أسركن كجى سيروسا سموسو
أجلى بابا أرقا بايا بايا بايا
بيروسوا) (3)
هـــذه الأغنية في نهايات أُغنية (بلدي يا حبوب العربية). أَدخَلَ اللحن والإيقاع النوبى فيها، وبعد ذلك توالت الأغنيات (بالرطانة)، أغنية (نيلو دلقدتا)، و (مسونكيل) و (كرولى نقولو).
وتُضيف سعاد: (أكا أدي جل أكا مسكا)؟
- لا. (أكا جل أك مسكا) سابقة، أَبْدَر حتى من (ملاك)، لأنها اتغنت في أَوَّل جَيَّتِي للخرطوم، حيث كنت متأثراً (بأسمر اللونا) وأغاني الشمال (منطقة حلفا)، وبعد كِدَه جاءت أغنية (نايقا أيا نايدن مقي) وهي أغنية طويلة جداً، وجَات أغنية خفيفة اسمها (كدود دو لتشو)، وهي جميلة بيحبوها العازفين برضو، وجاءت أغنية تادلي) (4).
شاعر نوبي كبير، وَصَّافٌ بقامَةٍ مديدة، مُشَرَّبٌ ومُكتَنِزٌ باللحن النوبي والإيقاع الطروب، يمتلك وعياً واضح المعالم لدوره كفنان نوبي، صاحب مبادئ ورسالة في الفن، جاء ملء وجدانه الذكى بالبذور لينثرها في تربة الوطن الولود:
(لَو هَزَّ نَخلِك يا بشورق
مَا فَارَقَت تَمْرَة السَّبِيْط
ومَا سَاوَرَ الطُّورِيَّة شَك
أنُّو الأَرِض أُنثَى وبْتَحْمَل بالحَلال
وبَلقَاكِي بينَاتْنَا الثَّبَات
وبينَاتنَا شَمِس البُكرَة في لَحَظَات مَخَاض
طُولَ الوَجَع رَشَّح مَوَاطْنَ العَافيَة فِيْك
خَلاَّنِي أَرْجَع وابْتَدِيْك
واقْرَاكِي مِن كُلَّ الجِهَات) (5).
هكذا جاء إذن، بهذا الوعي الناصع وبوجدانٍ سليمٍ عفيّ، تُضيء دواخله بأحلامٍ كبيرةٍ وطموحاتٍ غزيرة؛ جاء الخرطوم العام 1957م، متزوِّجاً من إبنة عمه (ثريا صالح حسن وردي)، وكان قد نَشَأ وتَربَّى معها وهما في منزلٍ واحد، اقتَرَن بها في يونيو 1953م، ثم، وفي بداية السبعينات، اقترن بزوجته الثانية علوية رشيدي وكان البذار الجميل: عبد الوهاب، حسن، حافظ، مظفر، صباح، جوليا.
والده: عثمان حسن وردي توفي العام 1941م.
والدته: بتول أحمد بدري (بت العُمدة)، أنجبته في: 19/يوليو 1932م، وتوفيت بعد عامٍ تقريباً من ميلاده العام 1933م، ويا للمصادفة! يُولد في: 19/يوليو ويكون أول دخوله الإذاعة في: 19/يوليو 1957م، ويُطلِق أجمل أناشيده الوطنية بعد: 19/يوليو 1971م، ثم يكون يوبيله الذهبي في: 19/يوليو 2007م.
الحرمان المُبكر من الأبوين؛ غياب دفء علاقة الطفل بأمه وأبيه، غياب الكنف الإنساني والمهد الحنون، نقول: من هذا النبع الإنساني بالذات طلعت تلك الروح الشديدة الظمأ، والمشرئبة بإشراقٍ شفيفٍ للحنان والحب والمودة، وبدأت موهبته تتفتح كبراعم الورود، وتبزغ، يلاحظها الناس من حوله ويرونها تمشي بينهم مع الصباحات النديات، تومض كالتماعات البروق، وتذهب في الناس صوب وجداناتهم الظامئة لمثل هذا الرحيق المعتق.
التَحَقَ الصبيُّ الفنان، وهو يتَدَرَّج في مراقي المجد والوصول، أوَّل أمرِهِ بمدرسة عَبْرِي الابتدائية في العام 1942م، ثم بعد بالمدرسة الوسطى بوادي حلفا العام 1945م، وسرعان ما تَعَيَّن معلماً بالمرحلة الابتدائية بمدرسة (أُوشية)، وهي قرية صغيرة جنوب صواردة. وكشأن المعلمين وقتذاك يذهب في (كورس) تدريب المعلمين بمدينة عطبرة، ويعود مرةً أخرى لوادي حلفا، التي كانت بمثابة العاصمة الحاضنة لتلك المناطق والقُرى كلها!. تَنَقَّل ما بين مدارسها: (سفرنقتي) و (أشكيت) حوالي العام 1945م، ثم أخذته الوظيفة إلى معهد المعلمين بشندي. ومن ثم ـ أيضاً ـ انتقل العام 1958م ليعمل مُدرِّساً بمدرسة الديم شرق الابتدائية بالعاصمة الخرطوم! وكأني به، وهو يَسلُك في الوظيفة، ترقُدُ في قرارةِ روحه وفؤاده كلمات درويش:
(لا ترسلوه إلى الوظيفة،
لا تأخذوه من النَّدَى
فهو البنفسج و(الحقيقة).
تراه ينتظم فيها ولكنه ـ في ذات الوقت ـ يبتعد عنها! فعل ذلك بسببٍ من أن بذرة الفن في دواخله قد بدأت في الطلوع، بدأت تنمو وتزدهر، تلك سنوات تفتح الموهبة وبزوغها الباكر في نفس الصبي الفنان. في العام 1954م تعلَّم العزف على العود، وفى العام 1948م تعلم العزف على الطمبور، الله الله، اعتلى الصبيُّ سُلُّمَ المجد، وبدأ يسلك في مدارج الفن وهو بعد يافع كالثمرة التى استوى مذاقها صوب النضوج!.
أول دخوله الإذاعة كان في: 19/ يوليو 1957م؛ بدأ مُقلِّداً لحسن عطية وإبراهيم عوض، وكانت الأغنية الأولى التي بثّتها الإذاعة له: (هل تدري يا نعسان). ثم رعاه الفنان خليل أحمد لتطلع أغنيات: (يا طير يا طائر) و (الليلة يا سمرا) و (الحب والورود) (6).
جاء إذن إلى حيث العاصمة وهي ما هي عليه؛ بؤرةٌ ذات حراكٍ ثقافيٍّ وإجتماعيٍّ وإقتصاديٍّ وفني، ثم أنها مركز الثقافة والفنون؛ بها الإذاعة الوليدة، وسيأتيها التلفزيون من بعد (الأبيض وأسود)، وبها الصحف ووسائل الإتصال وأدواته، هي المدينة (الحديثة) التي بدأت ـ هي الأخرى ـ تنمو وتتطور وتتسع لتكبر.
استقرَّ بها وقلبه ووجدانه يهفوان لكيما يطلع في الناس عبر (الإعلام المركزي)، ذلك كان الحلم الأول للفنان، فبدأ ينتقل في أحياء المدينة الكبيرة: سَكَن في البداية مع صديق عمره الموسيقار الراحل علي ميرغني بالخرطوم (3)، ثم انتقل إلى بُري وإلى السجانة فالعمارات شارع (53). كان يسكن بالإيجار حتى استطاع ـ فيما بعد ـ أن يُشيِّد منزله الخاص بالكلاكلة ويستقر وأسرته به حتى يوم الناس هذا.
التطريب كان هو المقصود، كمحصلة نهائية للأغنية السودانية وقت أن جاء وردي ساحة الغناء بالخرطوم، وذلك كان المفهوم السائد، وأغاني الطرب هي سيدة الساحة وفاتنتها المثيرة. أما سادتها ـ تلك الساحة ـ فقد كانوا كوكبة من أساطين الغناء والطرب: إبراهيم الكاشف، أحمد المصطفى، حسن عطية، عثمان الشفيع، إبراهيم عوض، عثمان حسين، والعطبراوي. كان الزمان يبدو زمانهم، والأغاني جُلّها كانت أيضاً مكرَّسَةً لذات ذلك الزمان، دون أن يجرؤ أحدٌ أن يلامس تلك الرؤى ويُغَايرها، شعراً وألحاناً وأداءً، كانت ـ وقتذاك ـ الأغاني جميعها، إلا الوطنيات بأحجامها وسماتها الفقيرة، تدور وتدور وتدور في ركاب أغاني الحقيبة، وتكاد تلامس أجساد النساء وأشياء الجمال الشائعة عندهنَّ أيضاً؛ فتتغنى بجسد المرأة بتفاصيلها ومواصفاتها الجسدية الحسية بلا انقطاع!. وهكذا، كان التطريب يُمسِكُ بأعناق الأغاني وكلماتها من أعناقها الخضر، ويظل يدور ويدور، ويدور!.
الوطن كان قد نال إستقلاله حديثاً، وحركات التحرر في العالم، وفي إفريقيا والعالم العربي، تلتَمِعُ في آفاقها الرحيبة نداءات عظيمة وتوق إنساني كبير للتحرر والسيادة والعدالة الاجتماعية، وكان لابد أن تدخل تلك القيم الإنسانية الجديدة إلى بلادنا وتتغلغل ـ كشعاع الضوء ـ إلى الجسد والنسيج الإجتماعي؛ تَحتَرِقُ القِيم والمعاني والأغاني والأناشيد القديمة، وتطرح في دنيا الناس البذور الجديدة، وتُلِحُّ في طلب ثمارها، للتوّ وفي الحين، بترسيخها في الوجدان العام. كانت مرحلة جديدة قد بدأت إرهاصاً جديداً يتسلل ـ كالدم ـ في جسد أغاني تلك المرحلة، والرومانسية نفسها قد بدأت ـ هي أيضاً ـ في الأفول. نقول: بَدَأت في الأفول، لكنها كانت مطلوبة وقتذاك؛ مطلوبة على مستوى طرح الأغاني، ومطلوبة أيضاً لدى الجماهير المستمعة والمتذوقة للأغاني.
جاء وردي ليمسك بهذا الشعاع الشفيف، ليطور فيه ويُدخل إليه القيم الجديدة والأنفاس التي تلامس الوجدان، فتجعله يهتزّ ويطرب للجديد! والفنان تمتلئ نفسه ووعيه ووجدانه كله بهذا الذي يرهص ويتململ، ينشد الطلوع والبزوغ، قلنا: إن (التطريب) كان هو المقصود كمحصلة نهائية للأغنية، وذلك كان هو (المفهوم) السائد وقتذاك عن الأغنية. جاء وردي بتصور جديد وهام، وسوف يغدو ـ عما قريب ـ إحدى أهم مكونات التجربة الجديدة لوردي التي أدخلها في خارطة الغناء السودانى بأسره!.
أَدخَلَ وردي إلى عنصر (التطريب) عناصر جديدة، دماء مخصبة جديدة: (الشعر الجميل وقدرات في التلحين بكفاءة عالية جداً، وبأشكال ورؤى موسيقية مستحدثة تحتصن في دواخلها ذاتها كل عناصر ومكونات (التطريب) والغناء المسؤول أمام ضمير الفنان والضمير الجماعى لأمتنا السودانية. فعل وردي كل ذلك وفق خطةٍ ووعيٍ كبير تكاد تلمسه لمساً وأنت تنظر ملامح مخلوقاته الغنائية: الأغاني!.
يالروعة الفنان! منذ بداياته يهدف لخلق الأغنية الخالدة وفق جماليات من الغناء الثرّ الخصيب، غزير التنوع، ولكنه ينشد اكتماله في الوحدة، جميلة الجميلات