Powered By Blogger

الجمعة، يناير 09، 2015

ود المكي وكت نزل مدني ...

                                           
 
                                               * ود المكي في غرفته بقصر الضيافة بمدني *


   

ود المكي وقت نزل مدني ...
---------------------------

" يحب بلادا ، ويرحل عنها
( هل المستحيل بعيد؟ )
يحب الرحيل إلي أي شئ
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد كافية للجميع .
هنا هامش يتقدم . أو مركز يتراجع
لا الشرق شرق تماما
ولا الغرب غرب تماما
لأن الهوية مفتوحة للتعدد
لا قلعة أو خنادق /
كان المجاز ينام علي ضفة النهر ،
لولا التلوث ،
لاحتضن الضفة الثانية ! " ...
                                       - محمود درويش -

مجذوبا من يومو ...

محمد المكي إبراهيم ، ساح في الدنيا وفي الملكوت و ... عاد . عاد للبلاد التي كم عشقها وتغني بها ، غناها في ذات مواجدها ، وجعل جل شعره جدائلا وتاجا عليها ، فقد ظل " مجذوبا " إليها ، متيما بها حد يأتيها وأن كانت في خبائها وفي ليلها ، قد أسماها العامرية حين دخل إليها خباءها ليجعلها في الضوء فيراها أكثر ! ومنذ مبتدأ شعره أعلن في الملأ عشقه وجنونه بها وبشعبها . فكان ديوانه الأول " أمتي " الذي صدر العام 1968 معبرا عن ذلك العشق الكبير ، تجلله " الأكتوبريات " ، ذلك الغناء العذب في حب الوطن . أما تجلياته في الشعر فقد سارت مساراتها بالذات ، لا تشبه إلا نفسها وإلا نفسه هو ، نفسه الشاعرة التي درجت تكون في صحبته وهو يعيش الحياة ملء قلبه هنا أو هناك ، لقد عاش مجد الشعر وهو يتشكل في دواخله حتي أصبح رؤيا حياته ورؤياه . تخرج في كلية القانون بجامعة الخرطوم وإلتحق العام 1966 بوزارة الخارجية ، أصبح ، من بعد ، معدودا من رعيل الدبلماسية السودانية المرموقين ، فشرع يجوب العالم و ينثر شعره من حيث يكون : " بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت " 1972 ، " يختبئ البستان في الوردة " 1984 ، " في خباء العامرية " 1988 .  وجميعها تم جمعها ونشرت في مجلد واحد بالقاهرة عام 2000م . يعد أحد مؤسسي تيار " الغابة والصحراء " ، وقريبا جدا من " أبادماك " ، فأشاع عنه بعض النقد أن شعره تطغي عليه ملامح " الأفروعربية " . لكنني أراهم لم  ينصفونه بذلك القول ، ففي شعره تنوع مثير وتأملات عميقة في الحياة والعشق وفي حب الوطن ، بل تري عنده شذرات تشي بصوفية رائقة ، صوفية " أرضية " علي قول البياتي عن متأخر شعره ، شيئا ما مثلما عند التجاني يوسف بشير ، مع الفارق الذي بين شعرهما بطبيعة الحال . ثم جاء وقت كتب فيه في غير الشعر وإن لم يبتعد عن وجهته ، كتب مثلا : " ظلال وأفيال " ، و " في ذكري الغابة والصحراء " ، و " الفكر السوداني أصوله وتطوره " ، " كتابات عن ثورة أكتوبر 1964م " . كان الخليل يختلس الفرح فيغني " روحي ليه مشتهيه ود مدني / جيت أزور أبويا ود مدني " ،  ثم يهرع إليها ، إلي المدينة وإلي أهلها ، وإلي تلك الرائحة التي تخالط قلب المحب كالعافية . ود المكي فعل شيئا كثيرا من ذلك ، فما أن بعثنا إليه ندعوه ليكون في مدني ويلقي فيها شعره حتي هرع إليها ، لكأنه النسيم قد سري في تلك المسافة تقصر عنه رويدا رويدا وينقصها رحيلا ، حتي كان فيها ، ومنها في فؤاده رحيق الأغنية .

في مدني حلولا ثانيا ...

قال أنه زارها برهة قصيرة ، هي بعض يوم حين جاءها محاميا أول عهده بالمحاماة ، فمثل أمام المحكمة ثم أسرع ليغادرها إلي الخرطوم التي أتي منها ، وهذه هي زيارته الثانية برغم حبه لها ، ولكن أين كان شاعرنا وهي التي لم تكن إليه في خبائها ؟ قال ، أيضا ، إنها جميلة ، خضراء ويحيط بها النيل ، توقعها تمتلئ زحاما بالسيارات والضجيج و الدخان والغبار ، مثيرات الغبار والدخان التي " غزت " السودان ، لكنها الحسناء مجلوة في جمالها ، رأيتها ، يقول ، جميلة جدا وأهلها طيبون ورائعون ، سأكون دائم الصلة بها و ... في حبها ، وحين يشتد بي الشوق سأهرع إليها ! فود المكي يرغب ويود أن يتنقل في أرض السودان ولسوف يزور بورتسودان التي أعلن عنها حبه أيضا ، سيكون ، إذن ، في ذلك السفر الحر بين الثقافات ، في وطنه الذي جاء إليه منه ليكون فيه ، حتي آوان عودة عائلته إليهما من أمريكا .  كنت والأستاذ مبر محمود في إستقباله أمام قصر الضيافة قرب النهر ، حيث شغل الغرفة رقم (1) في الطابق الأول ، وياللمفارقة ، هي نفس الغرفة التي حل بها وردي لدي آخر زيارة له لمدني عام 2008م . كنا قد جلسنا معه حوالي ثلاثة ساعات أو نحوها ، نحتسي القهوة التي يتناولها بلا سكر ، وتذكرنا درويشا وقصيدته البديعة عن القهوة ، ثم شرعنا نأتنس . شرعنا نسأله وهو يسترسل في الحديث ، بفرح ظل يبرق من خلال عيناه ويلون نبرات صوته إلفة ومحبة . قلنا له أن هنالك تغيرا جوهريا قد طرأ علي راهن شعرنا ، في لغته وصوره وفي مضمونه وتنوع اشكاله ، لكنه  تغيرا صوب الأفضل ، علي غير مألوفنا الشعري كما في شعر الستينيات التي فيه جل شعره في مرحلته الأولي تلك ، لكن – كما رأيناه – أن شعره المتأخر الآن يكاد يكون ، في العديد من وجوهه ، في ذلك المنحي " الجديد " الذي درج علي انتاجه شباب الشعراء اليوم .  قال ود الوكي أنه أيضا يري ذلك التحول قد طرأ علي قصيدته فصارت في السمات نفسها والتوجه نفسه ، فهنالك قصيدة له تسمي " شئ " قال أن الشباب قد وجدوا فيها شيئا جديدا ومغايرا لشعره في مرحلته الأولي و ... أنهم معجبون بها . مثلما في قصيدته البديعة " قتل الجنجويد غزالي :

( قال لي فارس الجنجويد:

هاتها

قلت :اسورتي؟

قال لي هاتها

كنت وحدي

كنت خائفة ً،

والمخيَّم كان بعيداً

والبنات اختفين وراء السياجِ ،

واصبحت وحدي

قلت:

خذها

وبسطت يدي

سطع البرق من يدهِ،

ورأيت يدي وهي تسقط في الرمْل هامدةً،

ورأيت غزالاً يوليّ

ودمٌ احمرٌ يصبغ الرمل حولي

قال لي فارس الجنجويد:

ارفعيها ! ) ...

و أضاف ، حين أشار مبر محمود لضعف النقد في تناول الشعر ، أن قصيدة " في خباء العامرية " لم تقرأ نقديا بعد ، وتعجب كيف لم يتناولها النقد ،  حيث إن " العامرية " فيها هي الوطن في جمال تجلياته فينا ، لهذا فهو يسعي لطباعتها ونشرها من جديد مع إجراء بعض الحذف لما لا يشابهها في الديوان لأجل أن تكون أمام الناس من جديد وعلي واجهات النقد فيراها. وعلي نفس المنحي رأي أن " معلقة الإشارات " لعبد الحي هي أيضا لم تنال حظها من النقد ، لم تقرأ أيضا علي حد قوله ، ولأجل ذلك فهو قد كتب عنها مقالا أسماه " القصيدة الضوئية " ، فقد رأي فيها ، كما أشار ، النار والهواء والطين والماء و ... الضوء . لهذا فهو يري أن نقدنا يجب عليه أن يغوص عميقا في ذلك المنحي ، لأجل الكشف عن الجواهر في الشعر .  وفي الغرفة ، بعد أن وضع أشياءه في مواضعها علي المنضدة ، أتكي علي السرير وشرع يقرأ لنا قصيدته العجيبة " مناغاة أكتوبرية " ، قال أن عمرها شهر واحد ، لعلها آخر ما كتب ، فقد بدت في طفولتها زاهية ومشرقة وتحلق عاليا في أجواء الثورة وفرح أكتوبر :

( هي خمسون عاما مضت
  مثلما يؤمض البرق مرت .
  وها أنت لازلت خضراء ، زهراء ، حسناء
  أثواب عرسك زاهية
  وطوالع سعدك أكتوبرية .
  أخرجي ياجميلة من ظلمة القبة
  سيري إلي البهو ... ) ...
  ...   ...   ...
( إننا الآن أقوي وأكثر
  إننا الآن أجدر .
  فهبي علينا لينتفض القلب ياغالية
  ويخلع أثوابه البالية
  وتجلس أرواحنا في المكان المخصص للروح
  أو نشتعل مرة ثانية . ) ...

هي في الروح " الأكتوبرية " ، والشاعر لا يزال في رؤيا الثورة ، ويري الرياح مواتية والأناشيد تراقص القلب وتعلو راية عالية ، أليس محقا شعبنا حين أطلق عليه " شاعر الأكتوبريات " ؟

في رحاب الشعر في الأمسية ...

الأمسية كانت إحتفاء بذكري عيد الإستقلال في القاعة الكبري لقصر الثقافة أمسية الثلاثاء 30 ديسمبر الماضي ، نظمها " منتدي الخريجين " بالتعاون مع وزارة الثقافة بولاية الجزيرة ، وبيد ممدودة للترحاب والمحبة من المهندس الفاتح أحمد الفكي وزير الثقافة ، وكان الحضور بهيا كما هي عادة ود مدني السني في السماحة وحب الأدب ، فقد حضرها د . محمد يوسف علي والي الولاية ، والأستاذ الأمين الهندي وزير الثقافة الأسبق ومستشار الوالي ، والأستاذ عبد الرحمن عامر رئيس المؤتمر الشعبي بالولاية ، والأدباء من رابطة الجزيرة للأداب والفنون ومنتدي كنار و منتدي الخريجين . القاص والروائي مبارك الصادق و. الطيب علي ، والأستاذ الأمين وداعة مدير الإذاعة والتلفزيون بالولاية واللواء شرطة م جعفر بري ، ود . مدني ، والمهندس علي خليفة ، ومحمد المبارك ، وخليفة النوحي ولفيف من وجهاء المدينة ومن الناشطات من النساء . وحده الشاعر الكبير محمد محي الدين هو الذي لم يكن حاضرا ، ولست أدري ، بعد ، دواعي تخلفه رغم أنه كان قد وعدني بالحضور باكرا ليكون معي علي المنصة فنتولي إدارة الندوة معا ومن ثم يلقي بعض شعره ! بدأ ود المكي مرحبا بالحضور ، ومعبرا عن سعادته بكونه الآن في مدني المدينة التي يحبها ، وإنسجاما مع أجواء المولد النبوي الشريف وذكري الإستقلال فقد بدأ بقراءة قصيدة " مدينتك الهدي والنور " والتي سبق ونظمها بعد زيارة له للأراضي المقدسة . ثم قرأ " بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت " ، ثم " الخلاسية " من ذات المجموعة . ثم أخذه ، وهو المجذوب ، إليها ، إلي الإكتوبريات أعني ، فقرأ منها النشيد الثالث " أحمد القرشي " وتلاه ب " للإنتصار " : بأسمك الشعب إنتصر ...  ، توقف برهة بسبب من دخول الوالي للقاعة ، ثم واصل ليقرأ قصيدة " واحة " ، وطفلته البهية " مناغاة إكتوبرية " . كنت قد سألته عن علاقته بوردي ، كيف إلتقياء فكانت تلك الثمرات الناضجة في الأناشيد ، فقال : " كان صديقي ، يبدو أنه قرأ شعري فقد تعرفت إليه عبر أحد الأصدقاء ، وحين إلتقينا في الأبيض بفندق " هوتيل لبنان " الذي حل فيه ، وجدته عارفا لشعري . فكان أن أخذ يتصفح جريدة " الأيام " فوجد قصيدة " للإنتصار " فأخذها وقال لي دي قصيدة ملحنة جاهزة .  من يومها صرنا أصدقاء ونلتقي كلما سمحت لنا الحياة . ثم إلتقينا في كلفورنيا حين أتاها للعلاج قبل اجراء العملية . " . ومنهما ، الشاعر والفنان معا ، طلعت أجمل الأغاني والأناشيد .

و ... كان في الناس الوطن ...

توقف الشاعر برهة ، نظر مليا إلي الحضور ، في هدوء المساء وإنتباهات مستمعيعه جميعهم ، ثم إلي والي الولاية ووزير الثقافة وهم جلوسا أمامه ، ظننته سيختم الأمسية شاكرا ومحييا المدينة والحضور ، لكنه أطلق في الملأ النداء :

نداء ود المكي لإطلاق سراح فاروق وأمين مكي :

ليلة الثلاثاء 30/ /12/2014 ، في قصر الثقافة بمدني ، أشاع الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم طقسا من الفرح والمحبة والتفاؤل وعبق الذكريات الحافلة في إحتفالات الولاية بذكري الإستقلال . تلي من قصائد الإكتوبريات وفي تذكر الشهيد القرشي ثم نادي إليها ، للبلاد الحبيبة ، بالرحيق وزهر البرتقال ثم أزاح الخباء عن وجه العامرية فبدت في الناس وطنا ورؤيا وحلم . كان والي الولاية حاضرا ووزير الثقافة المهندس الفاتح الفكي ، ووسط غلالات الشعر وبهجته المشاعة ، طلب ود المكي ، برجاء وأمل  مخاطبا الوالي والحكومة عبره أن يتم إطلاق سراح إبني مدني من الحبس : فاروق أبو عيسي و د . أمين مكي مدني . كانت بادرة مضيئة من شاعر الأكتوبريات الكبير ، وأملا تقدم به تحت أجواء الذكري المجيدة للإستقلال .
بعده النداء مباشرة ، قرأ قصيدة " الرحيل " التي طوف فيها فيما بين المفازات في أدغالها ، حيث العتمة والضوء وحلم البشارات و ... التمني ، هي قصيدة في عشق الخرطوم كما وصفها ، وكان قد أعلنها قصيدة ختام الأمسية ، لكن الأستاذ عبد الرحمن عامر صاح فيه ملحا أن يقرأ " من غيرنا يعطي لهذا الشعب معني أن يعيش وينتصر " ، فإستجاب الشاعر إليه وتلي القصيدة التي تجاوب مع إيقاعها ومعناها كل الحضور ، فكانت خاتمة أمسية مدني السني في حضرة الشاعر الكبير .
محمد المكي إبراهيم ، كن ، كما رأيناك ، راية عالية في الوطن ، و ... بوركت أيها المجيد في أبناء شعبنا ، شاعرا تعانق في الأناشيد الوطن .