Powered By Blogger

الأحد، يناير 15، 2012

كيف عاد كجراي من المنفي !

إضـــــــــــــــــــــــــاءة :
" قل للحياة ،
كما يليق بشاعر متمرس ؛
سيري ببطء
كالأناث الواثقات بسحرهن وكيدهن ...
لكل واحدة نداء ما خفي
هيت لك / ما أجملك !
سيري ببطء ياحياة ،
لكي أراك بكامل النقصان حولي .
كم نسيتك في خضمك
باحثا عني وعنك .
وكلما أدركت سرا منك قلت بقسوة :
ما أجهلك !
قل للغياب ، نقصتني ،
وأنا حضرت ... لأكملك !".

- محمود درويش -

حوالي منتصف شهر سبتمبر 1989 م ، ذهب كجراي إلي منفاه ألإختياري في أسمرا، المدينة التي أحبها وأحبته ! لقد أدرك بحسه العميق ، وحدسه الصادق الشفيف ، أن الأنقلاب الذي حدث في نهاية يونيو 1989 م قد أعدته وخططت له ونفذته الجبهة القومية الأسلامية ! ولانه قد تعود أن يتعايش بصدق ونقاء مع أحداثيات الحياة جميعها ، فقد أدرك ... بوعي الشاعر العميق في دواخله ، أستحالة أن " يعيش " مرة أخري تحت معطف الديكتاتورية الغليظ ، وهو الذي تجاوز الستين من عمره ! هكذا ، إذن ، قرر " شخصيا " أن يذهب إلي حيث الحرية متاحة كمناخ عام لقوي التقدم والأشتراكية ... وتحت ظلالها سوف يمارس الحياة كما يشاء ويمارس عمله المهني كأختصاصي في التعليم واللغة العربية ! هكذا ذهب إلي المنفي وبقي فيه ! ولأن غيابه الجسدي عنا أصابنا بالجروح النازفات ، وبالشعور الممض " بالفقد " العظيم الذي لم نستطيع تحمل وطأته الباهظة ، ولأن الساحة الثقافية في كسلا وفي الوطن ، أصبحت وقتذاك ، باهتة الملامح وشحيحة العطاء ، تحتاج فعليا لقامة ثقافية ضخمة بحجم " كجراي " ، تستطيع عبره أن تقف ... وأن تنهض ! بسبب من ذلك كله ، كانت هذه " الرسالة " التي كتبتها وأرسلتها إليه عبر " البريد " النضالي المأمون للمناضلين الأريتريين ، تلح عليه في العودة ! وبثقة وضمير مطمئن ، أستطيع أ ن أقول : أن الشاعر الكبير قد أستجاب للنداء وعاد بالفعل في يوليو 1999 م ، إلي وطنه السودان و ... مدينته " كسلا " في شرق السودان !
الرســــــــــــــالة :
العزيز الغالي كجراي ... ، ياقامتنا الثقافية العالية ، ونخلتنا الباذخة الطلوع ، شموخا وكبرياءا في ساحة الشعر والأبداع ... نشتاقك جدا ، أن تكون بيننا ، كما النيزك في سماواتنا التي لاتحد ، قمرا كبيرا ومضيئا في ليلنا الطويل المدلهم ، الحامض كما الملح والليمون ... المر الخشن كمذاق الرمل علي العطش ، أنه يدهمنا بين الفينة والأخري، كالموت المفاجئ ، يطالعنا بغتة ويمضي عنا - كألتماع الشهاب - سريعا ، ويأخذ بعضنا و ... كثيرا من ملامحنا ، هي الدنيا ... هي الدنيا ياعزيزي ! دعني أصدقك القول : المؤكد الآن ، هو ، أن الواقع الراهن مزرئ قمئ و ... شاذ ! وتعلم جيدا ياعزيزنا _ للأسف العميق - بأننا نعيش إنهيارا كاملا ، أقتصاديا وأجتماعيا وثقافيا ... وقبل ذلك كله ، دمارا وعبثا سياسيا كبيرا ! ونعلم - يقينا - أكثر من ذلك ، أن هذا الواقع المفجع يؤثر تأثيرا عميقا جدا في العملية الأبداعية أولا ، وفي الذات المبدعة ثانيا ! ثم - أيضا وأيضا - وبقدر رهافة حس الأديب وعمق أدراكه لهذا الواقع ، يتكون وعي الأديب ويتضخم أحساسه بالفاجعة التي يعيشها أنسان بلادنا ! فهنالك - وكما تعلم ياعزيزنا العظيم - أن هنالك أرتباط لا يكاد ينفصل البتة بين الأبداع والتاريخ نفسه ... وأن هذه الرابطة " الجوهرية " هي التي تساهم بإيجابية كاملة في تشكيل وجدان الأنسان المبدع ! لهذه الأسباب جميعها ، كنت - شخصيا - مدركا بوعي كامل لجملة الأسباب التي دعتك للرحيل بعيدا عن الوقت / قريبا من الوطن في ذات الوقت ، إلي حيث الحرية التي تعشقها وتتوق إليها عمرك كله وأبداعك الشعري كله ... وكنت أراها ، وقتذاك ، موضوعية جدا ، تكاد تنسجم وتفكير وقناعات شاعر كبير مثلك ! ولكنها ، هي هجرة ، وهي - أيضا - منفي ! وهل يوجد في الدنيا قاطبة منفي جميل ؟ أحيانا كثيرة ظلت تخايلني تلك الصورة المرعبة التي كانت تعيشها بيروت المناضلة وهي تحت الحصار، حتي أودت بالشاعر الكبير خليل حاوي إلي الأنتحار ، ثم دفعت بالكثيرين إلي المنافي والشتات ! يقول درويش :
"بيروت فجرا
الشاعر أفتضحت قصيدته تماما !
وثلاثة خانوه :
تموز وإقاع وأمرأة
فناما !
لا يستطيع الصوت أن يعلو علي الغارات
في هذا المدي
لكنه يصغي لموجته الخصوصية ...
مو ت وحرية !"
وهذا الضبط - ياعزيزي - ما يصيبني بالفزع ! ظل هذا هو هاجسي الذي لايكاد يبرح مخيلتي عندما أعيش اللحظات الجميلة مع كلماتك وقصائدك الرائعات وأجتماعياتك ، وأخوانياتك المترعة بالحب والود والتقدير الجليل للأنسان ... ويبدأ شوقنا إليك يتنامي ويزدهر ويتكاثر . وكنت قد عودتنا كثيرا عليك وجعلتنا - جميعا -نعيش ونتنفس تحت معطفك ... شوق غزير ولوعة لا توصف بإتجاهك ، أن تكون بشخصك بيننا ! في ليلة أختلسناها ، تحت ليل القهر والعسف ، تذكرناك وتمثلناك بيننا . فقلت للأصدقاء من حولي : ليكن " كجراي " بيننا ، هذا هو الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه في الوطن ، فوق ترابه ووسط شعبه ! في ذات الليلة قرأت عليهم كلمات عفيفي مطر :
الناس نيام ،
فاذا ماتوا أنتبهوا !
كانت أقفية مدبوغةبالصمغ ...
وكان الرأس حذاء للأقدام ،
لو أفلت صوت الموتي من بوابتنا الليلية
لعرفنا كيف نموت معتدلي القامة !".
ثم ، ومن بعد ذلك كله ، ظللت ولعدة سنوات مضت ، أفكر في الكتابة عنك ، عن سيرة حياتك وشعرك ... وقد وجدت لدي ديوانك الآخير " الليل عبر غابة النيون " وأصداء في الذاكرة من " الصمت والرماد " ... أضافة إلي العديد من القصائد منشورة هنا أو هناك ، والعديد أيضا من مخطوطات قصائدك التي لم تنشر من قبل ، وتوفر لدي ، أيضا ، الوقت ، فأعددت دراسة طويلة عن أشعارك ومسيرتك الشعرية ، ولجأت ، مرات ومرات ، للأسرة بكسلا لتجميع بعضا من التفاصيل التي أعتقدت أنها ستكون ذات جدوي لمثل هذه الدراسة ! الدراسة الآن جاهزة تحت يدي ، وقد تحدثت مع مجذوب عيدروس الذي يحرر ثلاثة صفحات كاملة أسبوعيا بصحيفة " الشارع السياسي " ... ووعدني بأن ينشرها علي حلقات ! تلك ، ياعزيزنا ، أمنية يبدوا أنها قد تحققت ! أما أمنيتي الكبيرة الآخري ، فهي أنجاز مشروع للكتابة عن مبدعي " أولوس " ، خاصة أن لدي الآن دراسة عن الشاعر كمال عبد الحليم ومخطوطة دراسة عن ديشاب ... وربما ، لو أمتد بنا العمر ، وتوفر الوقت ، فستطال الكتابة لتشمل الآخرين الذين تعلمهم ! اليوم بعد عودتي من منزلكم ، بمعية حسن عثمان فضل ، فكرت أن أطلق في الناس النداء : ضرورة أن يعود كجراي للوطن ... النبع إلي المصب والنهر إلي البحر ! أنني أكتب إليك هذه الرسالة ليلا ... وسوف أغادر بعد غد إلي رفاعة ، حاضرة البطانة وتاجها ، حيث مقر عملي بها الآن ، ربما أكتب النداء وأنشره بالصحف ، أقول ، ربما ... ! ولكن ما لست أدريه هو : هل ستصلك هذه الرسالة ، أم تضيع في الدنيا فلا تصلك ثم لا تخلف أثرا يشير إليها ! فهل يصل الصوت أم يصل الموت ؟ ولكني سوف أرسلها علي أية حال عن طريق " البريد الآمن " للمناضلين ... ورجائي أن تكتب إلي وبذات الوسيلة أن كانت قد وصلتك ... فلعل رسالة منك تأتينا فتجعلنا سعداء ، وتكون هي بذاتها ، زادا لنا حتي تكون بيننا في الوطن ، حيث مكانك السامق شاغرا و ... لايزال ينتظرك ! ودعني ، أصدقك القول ، أن الوطن ينتظرك ، ينتظرك بشوق كثير ، مفتوح الذراعين لأحتضان شاعره الكبير ! وثمة أمر آخير مهم ،: أنه بحكم المؤكد - ياعزيزي - أن أجهزة السلطة بأكملها لن تستطيع أن تمس منك شعرة ... فقد أصبحت رمزا كبيرا في الوطن ، وصوتا شعريا معروفا علي مستوي العالم العربي ومحيطنا الأفريقي ! والنظام الآن محاصرا بالرأي العالمي والمحلي ... فلا يستطيع أن يطالك ، علي الأقل في هذه المرحلة ، وهذه هي قناعتي ! ثم ، أنني ، وبجهد شخصي ، وإلتزام أستطيع أن أؤكده ، تحصلت علي الوعد المكتوب من المسئول الأول بالولاية ، وأرفقه إليك مع هذه الرسالة ! * أفعل ذلك وعد ياصديقي ، وأنا الذي يعرف عنك صلابتك ووعيك ، وهما كافيان ، ليدفعانك كي تعود ! هذه - إذن - قناعتي ... وهذه أيضا رؤياي ! فدعنا نناديك ملء حناجرنا وقلوبنا : تعال ... تعال ! وكن دائما بكامل صحتك وعافيتك و ... بالخصب في الأبداع ! وحتي الملتقي القريب ، ساظل مخلصك جابر حسين !
كسلا / حي العمال10 / مايو / 1999 م
* الرسالة كتبها بخط يده ووقعها علي ورق مكتبه ، والي كسلا وزير الداخلية الحالي المهندس أبراهيم محمود وهو من مواطني مدينة كسلا ولي معه صلات شخصية يحترمها ، ويعرف قدر الشاعر ، وقد دعاه في الرسالة للعودة بضمان أن لا تقترب منه عناصر الأمن ... وللحقيقة ، فقد كنت أنا من أملي عليه الرسالة فكتبها بخط يده !
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------* " كجراي " هو الشاعر السوداني الكبير الراحل محمد عثمان صالح و " كجراي " كنيته التي أختارها بنفسه فأصبح معروفا بها في الثقافة والحياة ! وهو شاعر كبير كان مطلوبا لدي سلطات الأمن وهو في منفاه الاختياري بأسمرا ! وأصدرت ، من بعد ، كتابي : " كجراي " عاشق الحرية والقول الفصيح " دراسة في عن حياته وشعره !
* " أولوس " هي الرابطة الأدبية المعروفة التي كان كجراي أحد أبرز مؤسسيها بمدينة كسلا عاصمة شرق السودان !
" كمال عبد الحليم " شاعر نوبي كبير يكتب شعره بالعربية ومن مؤسسي " رابطة أولوس الأدبية " .

ليست هناك تعليقات: