Powered By Blogger

الاثنين، يناير 23، 2012

علي عبد القيوم ، أسامره الليلة !

- علي عبد القيوم -
( إشتهاءك الموت، ومذاق فمه ،
الحُزن العميق في مرحك البطولى.
سيمُرْ زمن طويل قبل أن يُولد
- إِن وُلد –
من هو نبيل مثلك
غنىُ بالمغامرةِ مثلك
نُغنى لجمال وجهك
بكلماتٍ كألأنين
ونتذكرك، نسيماً جميلاً
تسرى بيننا ).
- لوركا -

يبدو أن الشعراء هم أكثر الناس الذين يحصلون على الهبات المكتشفة كُلها، وفى ذات الوقت، يكتشفون دون نسيان – كما فعل " بودلير " – رقياتهم المؤذية كلها، يفعلون ذلك وهم يعيشون الحياة بكل عنفوانها ويعيشون الشعر! تمر السنون. المرء يُستهللك، يزدهر، يُعانى دوامات الصراع والجدوى، بإشراقٍ شفيف وحساسية تخالطها فيوضات خشنة لواقع الحياة وتجلياتها! والسنون تجلب للمرء الحياة، وأحياناً كثيرة تأخذ منه هذه الحياة نفسها، فتصير " التوديعات " ألِيفة لأنها لصيقة بحياتنا ومعاشنا، يدخل الأصدقاء السجون أو يخرجون منها، يذهبون إلى المنافى البعيدات أو هم يعيشون الغربة الأليمة في الوطن،، أو هم ببساطة يموتون! وهم بعيدون أو قريبون منا، يبدو لنا أنهم يموتون أقل، ونقول أنهم يستمرون يحيون في دواخلنا كما كانوا! ولكننا – بسببٍ غامض – نمسك عن الكتابة عنهم، ربما خوفاً من رتوب وتراكم الألم الإنسانى تجاه الموت! إِذ أن المرء عادةً – لا يحب أن يصبح فهرساً للمتوفين، وهم الذين كانوا أكثر الناس قُرباً وحُباً إلى قلوبنا!
بهذه الروح الأسيانة، ووخزات الرحيل تؤلم القلب وتعصر الفؤاد نكتب عن الصديق الحبيب، الإنسان الرائع الجميل، الشاعر الكبير على عبد القيوم. وفى كل عام، عندما تحل ذكراه المجيدة، نردد مع محجوب شريف:
، (هَادئاً كان أوَانْ المَوْتِ
وَعَادِيّاً تَمامَاً
وَتَمامَاً كالذِّى يَمْشِى بِخَطوٍ مُطْمَئِنٍ
كِى يَنَامَا
وَكَشَمْسٍ عَبَرتهَا لَحْظةٌ كفُ غَمَامَةْ
قَالَ: "مَعَ السَّلاَمَةْ "
وَلَوَّحَ بِإبْتِسامَةْ
غَارقَاً في دًمِهْ
وًاسْمُنَا في فَمِه
واَرْتَمىَ ثُمِّ تَسَامى وَتَسَامى وَتَسَامى
مَالئاً كُلَّ زَمَانٍ وَمَكانٍ في بٍلاَدِى
نَاهٍضاً في كُلَّ عَيْنٍ وفُؤَادْ
والأسَى حْزمَةُ كبرْيتٍ رًمًاهَا
فى مَلايِيِنِ الأيَادِى
وَغدَا الجَّلاَّدُ وَالموتُ أسيَرينِ
كََسِيريْنِِ، حَقيَريْنِ
ضَرِيرينِ أَمَامَه
وسَيبْقى رَغَمَ سِجْنِ المَوت يَبَقى
غَيْرَ محْدُودِ الإقَامةَ! ).
على عبد القيوم كان مُقِلاً في كتابة الشعر، تمتلئ نفسه بالرؤيا الحارقة للشعر، لكنه قليلاً ما يرتاح عنها على الورق. هو نفسه كان يدرك ذلك، قال في مفتتح ديوانه الوحيد الذى نشره في حياته بالقاهرة: " الخيل والحواجز "، تحت عنوان: " تَعِلةْ المُقِلْ ":

، (قد كنت دوماً ضنيناً
بالشعرٍِ
دوماً مُقِلاً
أفوقُ صحبِى هياماً
وأعتليهم تِعلة
ياتاجَ رأسى سلاماً
يأتيك فوق التجلة
من الجنوب بروقاً
من الشمال أهلهْ
يَاتاج رأسى سلاماً
يأتيك فوق التجلة! ).
بضع وأربعون قصيدة هى جملة ما بين أيدينا من شعره المنشور، وهو كمُ جد محدود بالنسبة لشاعر كبير في قامة على عبد القيوم! وشعره، هذا القليل، قد ذاع في الناس وأشهره شاعراً كبيراً يُعد من شعراؤنا المُجيدون، لقد تمتع شعره بالجودة والصناعة في صوره ورؤياه ومعانيه ذات الدلالات والإحالات التى تستمد بريقها وتوهجها من الحياة الصاخبة من حوله. ولكن، أيكون هذا هو كل شعره أم أن هنالك أشعاراً أُخرى مُبعثرة تنتظر اليد التى تمتد إليها فتجمعها وتعدها للنشر؟! نحن نرجح أن هنالك بعضاً كثيراً من القصائد لدى بعض الأصدقاء وأُسرته، فقد عرفت أنه قد كتب في أُخريات سنينه شعراً وقصائد تنتظر هى الأُخرى تلك السانحة التى تُقيِض لها النشر والزيوع!
حُب جارف عنيد، ولكنه رائع وشفيف في ذات الوقت، تمتزج فيه المرأة مع الأرض والإنسان، ذلك هو ماطبع شعر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى،، الحُب، أصبح – وقتذاك – جزءً من صلابة التحدى والصمود! ذلك كان أحد أهم سمات المرحلة وتوهجها النبيل، وكان أن جعل في قصائده التوليد المستمر للصور والرموز الضاجة بأصواتها وإِنفعالاتها وإصدائها، جعل من شعره مرايا ملونه للحياة، في أشكالها البديعة وتجلياتها الناضجة. كان يدرك، ببصيرته النفاذة ووعيه المُتقد، أنه ينتمى إلى أُمةٍ تعتز بأن مخيلتها، ماتزال تقدم الدليل تلو الدليل على أن الشعر من أهم ميزاتها الإبداعيه، ولهذا نجده قد حافظ – بحرصٍ وإصرارٍ أكيد –على ذلك الإنتماء في تجلياته المتنوعه في الحياة. وشعره كله تجده يتصف بالتصاعد، تصاعد في قوته ونفسََِهََِْ ورؤياه، تصاعد جرأة وتفرع من داخله أساليب في كتابة القصيدة، ولكنها هى أساليبه هو بالذات! أن شعره نحسه بين أيدينا، في الساحات وفى الشوارع، ويملأ علينا كل النوافذ، أنه شعر يُدخلنا بهزاتٍ وتواتر عنيف إلى حيث الأُتون، أتون الأخيلة والصور، يُدخلنا إلى حيث المساحة ذات اللهيب، إلى حيث جحيم التجربة وجنة الخلق:
، (هذا المساء لو يُباع
تنهشه الخرطوم من عيونكم
حتى تبل ريقها
ويستجم السادة الكبار
تحت أذرعه
وتستحم في ندائه الشوارع المُرصعه
لكنه يِقرْ في براءة الرمال
يستفزه توهج الأسفلت والحديد،
، لا يُباعْ!
وهذه الخرطوم – بنت دار الصبح –
لصة الذراعْ
تسرقكم نداوة الرذاذ
كى تَقِرْ في بيوت السادة الكبار
بعد الخريف، ذهباً وجُلنار
ومركباتٍ حافلاتٍ بالعويّن والخدم
وأنتم هنا،
لا شئ غير رنة الجِرداق
غناؤكم ألم
خريفكم ألم
ربيعكم ألم
لكنما ربيعنا، ربيعكم
لو تبغضونه، يجيئكم
مزدهر الكفين، راقص الهشاب
بعد الخريف الواعد السحاب! ).
دائماً في شعره يُمكنك أن تُلاحظ ذلك الإلتماع الثمين للمعانى والصور، يُرصع القصيدة كُلها فيجعلها مزهوةً وفاتنه كما العروس في ليلة عُرسها! أنه يستغل طاقته الشعرية المبذولة بأفياضٍ غزيرة في مخيلته ويسيطر عليها بإرادة وقوة، فيجمع نثار اللأعقلانى – أحياناً – في قصيدته بوعىٍ ملحوظ، وعلى أساس ذلك ينتقى الألفاظ، يفعل ذلك في قصيدته، ولكنه في ذات الوقت يرفض كل ماهو رخو أو مُتهدل منها. فالألفاظ لديه تخدم صورها خدمةً بارعة، أنه يجعل من قصيدته وحدة متراصة ومتماسكة كجوهرة منفصلة عن غيرها،، " فالقصيدة الفذة هى في النهاية كناية واحدة مُطوله، قائمة بنفسها " كما يقول جبرا.
أن في الجوهر من القصائد ظلال واضحة لعشقٍ أشبه بتجربة موتٍ عنيف، يتفجر شموساً وكواكباً، حمماً وينابيع، جراحات وخوارق:
، (صدرها، ياصدرها، ياصدرها
موسم اللذة أيام الخريف ،
الندى والشهد والظل الوريف ،
ردفها، يا ردفها، يا ردفها
وهج النوار تحت الشمسِ، في بطن المراعى
وإنسياب الماء،،
فى البلور،
من سطحٍ لقاعِ
أى شلال من الشهوة يرتج ويغرى، ثملا!
أى نهدين إستجارا بشبابى ثم لم يتحملا
ألم الهصرِ وأوجاعَ الرضاعِ!
أنفضى أيتها الأمطار عن ليلاتنا العار الغبارا
أفصدى تُربتنا ينزلق الستر وتنحل
التلافيف
إزاراً فإِزارا!
وأنثرى فوق جراح الزمن الماضى البهارا!
ثرثرى،
ينهشم الصمت وتصطك الصحارى،
تحت برد الرعشة الكبرى
تُناغيك، تُغنى:
أزرعى الغابات ظلاً ودثاراً
وأرفعى ألوية العشق الهلامى شعارا! ).
لا، ليس الشاعر وحده هو الذى نضج وتغيَّر، بل المدينة أيضاً قد نضجت وتغيَّرت، وأصبحت الحياة فيها " فولاذية " صلدة، مزدحمة بالحيوات والأشياء والصراعات والمتناقضات،، ولكنها تعتمل فيها قوىٍ جديدة ورموز جديدة. والحُب يُهدده ويُطارده الشبق، والشبق عابر، لا يستهدف شخصاً معيناً بقدر ما يستهدف الجسد دونما تعيين! ولهذا نراه يخرج من قصيدته " شبق " ليدخل إلى رحاب المرأة، التى تتداخل في أُفقه الشعرى وتجاريب حياته نفسها مع الوطن والحياة، حياته التى يعيشها كما يعيش رؤيا الشعر وتصوراته، يجدهما إمرأتان أمامه، الأولى: " أُنثى منافقة ":
، (كانت ولم تزل منافقة
يختال مثلها الطاؤوس
لكنها تختال بين الرفضِ والموافقة!
لذا هجرتها،
هجرتها كما عشقتها، إلى الأبد
ياقُدرتى على الصمود
ياتماسكى
مدد، مدد، مدد!
أما الأُخرى، فهى التى يتفيأ ظلالها ويلتجى إليها، ليجد عندها الحضن والمهد الرحيم،
هى أذن " أُنثى ظليلة ":
، (غيمة أنتِ؟
لا.
ولست أنا شاعراً
يطمس الواقع بالمفرداتِ النبيلة
ربما تحت وهج الظهيرة
ظللتنى رؤاكِ
ولكن،
لم تكونى غمامة
كُنتِ أُنثى ظليلة! ).
أحيانا كثيرة – ونحن نتحدث عن تلك المرحلة بالذات تجد أن الأرصفة، ونعن أرصفة الشعر وقتذاك، كانت مكتظة بحقائب كثيرة، لرجال ونساء لانعرف منهم إلا أنهم مسافرون في إثر شهوة يُراد لها أن تكتمل وتبلغ ذراها وتخومها في تلاحم الجسد بالجسد واللذة باللذة في تلازمهم في الحميم! ولكن عبدالقيوم يبحث – وهو يُعانى من جراء دواماتها وإرتعاشاتها وتوتراتها عن (النبالة) والعشق النبيل أبداً ما عرفت شاعراً يقترب – هكذا – من المرأة وهى في تجليات (الشهوة) و(الجسد) ثم يبتعد ليطلب فيها ذاتها وجوه النبالة والقيم الجديدة الفاضلة التى يطلبها ويلح في طلبها – عادة – طلائع الثوار وحداة المجتمع! وتلك رؤية مغايرة تماماً لتوجهات الشعر في تلك المرحلة ، ثم أن علياً يعُتبر – أيضاً – من شعراء بلادنا القلائل الذين كتبوا شعراً جميلاً في الحواس وعندما كتب عنها، تناولها بإعتبارها من فعاليات الجسد الإنسانى والإدراك الحسى، وبقدرة شعرية مبصرة، وظفها لخدمة الشعر والحياة ... يقول في (قصائد الحواس ):
1-اللسان:
ياويحه
يلجمه الصمت
فهل ألومه وقد قُطع؟!!
ينبؤنى لساني
بأن ما أقوله
ليس هو المعانى ،
وإنما الأصوات
وأن ما إعتراني
من أرق الليل
ومن تعثُر البيان
هو الذى – إذا صبرت
قد يعصمنى
من ذلة اللسان!
(وربما أسلمنى للصمت والموات )!
* * *
يا أنت يا لسانى
يلجمك الصمت
فما جدواك؟؟
ومن يُكرس إحتجاجاتي وغصبي سواك؟؟
* * *
يأيها الطويل ما أقصرك!!
2-البصر:
قمر أحمر
يتلألأ فوق رمال حمراء
فوق الرمل الأحمر
أزهار فاقعة الحُمر
بين الأزهار الحمراء
شاهد قبرٍ منقوش
بالكلمات الحمراء
****
سَطَع البرق الأحمر
لهب النيران الحمراء
يتوهج ملء عيون البنت السمراء
ذات الفستان الأسود
والأحلام الحمراء!!
3-قصيدة السمع
أنى أسمع في ملكوت البُعد تحاياكم
أستنشق دفء وصاياكم
أسمع إيقاع خُطاكم
إيقاع خُطاكم
إيقاع خُطاكم
نحو الشمس الحمراء! )
هكذا: اللسان والبصـــــــر والسمع، الحواس التى بها يحيا بها الإنسان ويعيش، وعن طريقهما تتحد المصائر، وبقاءً نبيلاً وجســـوراً في الحياة، او زوال، اواضمحلال وتلاش! حقاً، ياعزيزى على، ان اللسان الصامت يستحق ان يُقطع، والبصر الذى لايعاين العسف والجـــــــــــــور والدماء، عليه ان يُكف ان يرى، لانه حقاً لايرى ، لان البنت، التى هى الحبيبة والوطن ترى البرق الاحمر والنيران الحمراء ، هى ذات فستان اسود جميل ولكن أحلامها حمراء حمراء، فهى مبصرة، ترى ما يحدث حولها، ترى الدماء والجراح النازفة وسوف (تسمع) نداءات الثورة القادمة! فأنظر كيف في (قصيدة السمع) يسمع الشاعر تحايا الشعوب ويستنشق دفْ الوصايا ، يسمع إيقاع الخُطى فيملاً عليه سمعه ونفسه كلها وسوف تقترن في مسيرها نحو الشمس الحمراء بجماهير الشعب التى كانت في ضمير عبدالقيوم قلادة وجوهرة، الله، الله يا على:
( ياعلًَى المُعلى
يارحاب المودة
ياطفل عصير الفضاء الرحيب
وياتاجنا قد تججلى
ياعلًى المُعلى ).
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* علي عبد القيوم ، الشاعر اليساري السوداني الراحل ... له ديوان طبع قبل وفاته مباشرة " الخيل والحواجز " صدر العام 1994م عن " دار قضايا فكرية للنشر والتوزيع " بالقاهرة ، وله أشعار وطنية وثورية أنشدها في الناس الفنان السوداني الكبير محمد وردي !

ليست هناك تعليقات: