Powered By Blogger

الجمعة، مايو 04، 2012

بركة ساكن و ... تمزيق الأقنعة !

                                  - بورتريه لبركة ساكن من أعمال التشكيلية فية أسحق -     
-------------------------------
   إلتفت الآن إليه ، يجمد بيرق الموت ويمحو بعضا كثيرا من شبق اللغة ونزواتها وخياناتها التي لاتزال ترافق الكتابة عندنا ، ثم يراوغ الرؤيات والريبات ليهبط بهما إلي قاع المدينة وبيوت القري القلقة حيث تكثر وجوه الهامش المتشققة كأفرع شجر يابسة ... وهو – هذا الضاج بعنفوان الحياة ولذاذات الواقع الحامضة – يعبر البلاد كل صباح من أقصاها إلي أدناها ، نيزكا طالعا من ليل البازار وخطاه ترن وتقرع الأجراس عند مداخل الأزقة والحارات ، في معية الفقراء ، وسطهم و ... يجترح الكتابة ، كزنبقة وحيدة ، والعسس يطاردونه بهراوات مكهربة وبذاءات دبقة ... وهو ، مثل خنجر حاد ، ينغرس في جسد الدولة التي تشن الحروب وتشعل النيران لتضرم الحرائق في جديد الكتابة وأوجه اللغة !
بدأ بركة كاتبا للقصص القصيرة ، ويعمدهن في الفاتنات ، بقرينة جسد النساء وقلوب الغرانيق . يوقفن الدبابات ويشعلن التظاهرات ... والشرطة بنت " الأنتباهة " واقفة إليهن بالمرصاد ، ناعسة ومتعبة وقليلة الحيلة ، لكنها تطاردهن علي أية حال دون أن تظفر منهن بأعتراف أو أنكسار ، أنهن نساء " البلاد الكبيرة " ، حبيبات بركة ساكن وملهماته الفارهات ! أقام مع " الجنقو " ، فوق الأرض وتحت أحضان الليالي العاريات ...
العام 1963 م ولد عبد العزيز بركة ساكن في كسلا ، أنه الآن علي مشارف الخمسين ، لكنه كان في أربعينياته أيضا حين نشر مجموعته القصصية الأولي " علي هامش الأرصفة " العام 2005 م ! أصدر حتي الآن :
- علي هامش الأرصفة : مجموعة قصصية .
- أمرأة من كمبو كديس : مجموعة قصصية .
- ثلاثية البلاد الكبيرة ، رواية :
   * الطواحين .
   * رماد الماء .
   * زوج أمرأة الرصاص وأبنته الجميلة .
- الجنقو مسامير الأرض : رواية .
لا ،
ليست لكتابته أسم !
واقعية ،
لكنها مراوغة ،
من يد واحدة
وذاكرة وبشربة محبوبة ...
ظل يداوم في رفقته النهار
رغيف كل يوم ،
وحلوي للصغلر

كتابة ليلية ،
لكنها مقذوفة  في رحم أيامنا
أخلاط من أصوات ودموع
من خطايا وصلوات ،
ومن حجارة و قبل !
رأيته يفصل بين المبارك
والملعون
لكنها تنثر بذارا كثيرا
وتقيم حوائطا تصرخ
ساكنة مثل أسمه ،
لكنها تصرخ
ضد البناءون الكذبة
والحراس الكذبة
والقواميس الكذبة
ويعلن وجها في الناس
قلما مغموسا في حبر الوجع
اليومي و ... كراس !

   نعم ، أننا نصغي إليه ونقرأه لنراه ، أنه يحدثنا عن كتابة بركة ساكن فماذا قال عن ما يكتبه ورؤاه !
في حواره مع وداد الحاج لصحيفة " الجزائر الجديدة " قال : " ... حيث يظن البعض أن في كتابتي ما يسئ لمشروعاتهم الأيديولوجية ويخترق كتاباتهم المستفزة ، بالطبع لا أقصد ذلك ، كلما أفعله هو أنني إنحاز لمشروعي الإنساني ، أي أكتب عن طبقتي : أحلامها ، آلامها ،طموحاتها المذبوحة و ... سكينتها أيضا التي تذبح بها هي الآخر ! وحتي لا يلتبس الأمر مرة أخري أقصد بطبقتي المنسيين في المكان والزمان : الفقراء ، المرضي ، الشحاذين ، بائعات الخمور البلدية ، الداعرات ، المثليين ، المجانين ، العسكر المساقين إلي مذابح المعارك للدفاع عن سلطة لا يعرفون عنها خيرا ، المشردين ، أولاد وبنات الحرام ، الجنقو العمال الموسميين ، الكتاب الفقراء ، الطلبة المشاكسين ، الأنبياء الكذبة ، وقس علي ذلك من الخيرين والخيرات من أبناء وطني ! إذن أنا كاتب حسن النية و... أخلاقي ، بل داعية للسلم والحرية ، ولكن الرقيب لا يقرأني إلا بعكس ذلك ! " .
ذلك هو عبد العزيز بركة ساكن ، وتلك هي شخوصه وعوالمه ، وكنت قد رأيته قبل ذلك في " رماد الماء " كيف يصور لنا بشاعة الحرب وويلاتها وكيف – في ذات الوقت – يجعل من السلم كيف يكون بهيا ويانعا ومحبوبا مطلوبا في الناس ، ثم كيف كتب الواقع نفسه في " المهمة الأعظم " متدثرا ومختلطا بالخيال المجنح المثير ! ولكن ، هل كتب الشعر و ... بمن ياتري قد أثر عليه فترك بعضا من ملامحه علي كتابته ؟ يقول بركة للصادق الرضي : " نعم ، أحب الشعر جدا " ، ولاحظوا أنه قد كتب " ما يتبقي كل ليلة من الليل " ، قصة تفيض شعرية علي المعني والمبني و ... تكون في القارئين العسل ! يمضي في أفاداته ليقول : " أعجبت بولت ويتمان وجبران خليل جبران ونشيد الأنشاد ، هذا الثلاثي أثر في أسلوبي ولغتي ، وتجدهم ماثلين في رواية " الطواحين " ، ويلوحون لك بأذيالهم في " رماد الماء " ، ولا أدري ما ينجيك من غبرة حوافرهم وأنت تقرأ " علي هامش الأرصفة " ! القراءة والأنغماس الحر في بلبال الحياة ، ذاك مهده الوثير ومعلمه ، ويبدوا أن الكتابة لديه تطلع وتذهر من هذا النبع بالذات . وقد أمتلك ، بجانب ذلك كله ، جسارة في القول والمعني و ... في فعل الحياة نفسه . ذلك في ظني منحي هام في شخصيته المقتحمة المغامرة . ورغم ما ذكره هنا من تأثره ببعض ممن قرأ لهم ، فأنني أراه عديم الشبيه ، في كتابتنا وفي كتابنا أيضا ! أنه أيضا يخوض تجاريب الكتابة غير هياب ، بذات الروح الجسورة المغامرة فيكتب " فارس بلالة " للأطفال ، لكن الوقت – في ظني – لايزال مبكرا ليتيح لنا الحديث عن هذا الوجهة في كتابته ! وثمة ملاحظة أثارت لدي تعجبا و ... تساؤلا : التعجب لما ذكره حين سأله عيسي الحلو " من من النقاد ناصر الكتاب الجدد ؟ " ، فأجاب : " هنالك النقاد الشباب ( ولم يذكر منهم أحد ) وهناك بشري الفاضل فقط " !! تعجبت لقوله هذا ، لكن السؤال " لماذا " ؟ فذلك أتركه له يجيب عليه أن أراد !
  تلك بعضا من ملامح الكتابة عنده : مارس أبداعه الجسور بتمزيق الأقنعة الزائفة أينما وجدها ، بأرادة وجسارة وبلغة عادية تنحو منحي الشعر أحيانا ، لكنها تظل في جوهرها لغة الحياة اليومية لدي الناس العاديون الذين جعل منهم مصادر لكتابته وابداعه ، ومن مصائرهم مداخله البهية لإكساب الحياة حيويتها ونضارتها وجدواها !
و ... دعني – مرة أخري – أسألك يابركة :
ماذا سيحدث لو أن السماء كانت صافية ،
وصادفت المرأة التي شدت
في دماك العصير ...
لو أشتم منك الجسد رائحتها
والتراب وعذابات البشر ،
ماذا كان ينقصك ،
لو شفيت من رؤيا الصباح
وأوجاع الليالي العاريات
وحصار اللغة والتاريخ الدامي
من الرائحة التي سكنت قلبك ،
ماذا كان سيحدث ؟
نعرف أنك قد عايشت موتا
وشهوات ونزوات كثار
ورأيت ما رأيت ...
الرصاص المتناثر في الشوارع ،
والبطالة ،
مذابح العواطف
الوطن المجرح
والدخان في القري والأزقة !
وكنت – ويالحظنا – جاهزا ياعزيزنا
لتكون ضحية الحرب والمسغبة
وتري الأشجار ملطخة بالدم !
لكن ...
كان بك جوع إلي الكتابة والغناء ،
كأس الشراب
و ... صحبة العنقاء !
مذاق الموت في ظهيرة حامضة ،
شهوة ومحبة ،
وجسارة في المعني
ووجها للموت ...
للطفولة والرصاص المألوف في القري
وفي المدن ...
في هواء الأمكنة كلها ياصديقنا
حيث الدبابات والعسس
والسجناء والمفقودون والأرامل !
الجروح النازفات
والجسد الملطخ بالدمامل !
الجنون عناوينك
إلي النهر والعدالة !
والحريق في الغابات والشوارع
والشمس التي غدت حارقة
والمحطات خالية
والنساء في باحة الرقص
يكملن الأناقة
ينثرن عطرهن في اللغة ،
كأن الوطن لم يعد صالحا للإقامة
كأن الزمان قيامة !
لكنك ياحبيبنا
أعطيتنا الآن وجها
وقنديلا
واكليلا
وقامة
أعطيتنا ،
وجها وقلبا بهيا
كثير الوسامة !

وتبقت كلمة : أقرأ أعمال بركة ساكن بغبطة مشوبة بلذة تطال القلب والجسد و ... أتذكرهما معا : جان جينيه  و محمد شكري ! فهو مثلهما ، أتي لعالم الكتابة فجأة في الناس ، في الزمان المسخ و الوقت المأزوم ، أتي ، كما أتوا ، صقيلا ولامعا كنصل حاد ، وشرع لفوره ينظف منا الجروح والقروح ويزيل عن الجسد الصديد ، لكنه ، إذ يفعل ذلك ، يربي – في ذات الوقت – الأمل ويطلق في الحدائق الفراشات الملونة وعطر الكتابة ، برؤيا الجسارة حين تغدوا لغة تؤشر وتعري سوءاتنا كلها ونفاقنا الكثير الكثير ...
عبد العزيز بركة ساكن ، الليلة أعطيك صوتي وباقة ورد وأنت في المجدد و ... المنور في أفقنا القصصي والروائي ، فكن ياحبيبنا في الضوء البهيج في دروب التغيير والثورة القادمة لأجل أبناء وبنات شعبك برفقة أدبك وأبداعك الجميل !

ليست هناك تعليقات: