Powered By Blogger

الجمعة، ديسمبر 09، 2011

الأناشيد السماويات ، من مخطوطة كتاب : " كلمة في تبجيل الفنان وردي " !

إضاءة للمشهدفي جوانبه كلها
في المشهد العاشر من مسرحية (جاليليو)، تعرض الجوقة أُغنية جديدة منتشرة عنوانها: النظام الرهيب والأفكار المخيفة الخاصة بالسينيور (جاليليو) عالم الطبيعة. يقول مُنشد الجوقة في بعض مقاطعها:
(لما انتهى الربُّ القدير من خلق الدنيا
على الشمس نادى وإليها أصدرَ أمراً
بأن ترسل ضوءها حولنا وهي تدور
وهكذا جعل منها خادماً مُطيعاً!
* * *
وهكذا بدأت تدور الكائنات الصغيرة حول الكبيرة،
في السماء كما في الأرض.
فحول البابا يدور الكرادلة.
وحول الكرادلة يدور الأساقفة.
وحول الأساقفة يدور الأُمناء.
وحول الأُمناء يدور الآباء.
وحول الآباء يدور الصناع.
وحول الصناع يدور الخدم.
وحول الخدم تدور الكلاب والدواجن والشحاذون.
هكذا أيها السادة الطيبون هو النظام، النظام الإلهي العظيم!
ولكن ماذا حدث بعد ذلك أيها السادة الطيبون؟.
جاء الدكتور (جاليليو)،
فألقى بعيداً بالكتاب المقدس،
ثم صَوَّب منظاره
وألقى على الكون العظيم نظرةً
وللشمس قال: ابقي في مكانِك،
سيُدبِّر الإله الخالق
كل شيءٍ على خلاف ما فعل!
آهٍ، أيتها السيدة:
حول خادمتِكِ
ستدورين منذ الآن!). (1)
إن العديد من المثقفين والفنانين أصبحو اليوم ـ بوعيٍ أو بدونه ـ من جوقة البلاط، وُعَّاظ سلاطين وأدوات تبرير و (تمرير) وترشيد لسياسات وأوضاع النظام، وإضفاء مشروعية زائفة عليها، سواء كانوا داخل بنية السلطة أو خارجها. وأصبحت النُظُم نفسها تحتاج، أكثر فأكثر، إلى إخضاعِ الثقافيّ المعرفي للسياسي الآيديلوجي، وتسطيح المثقفين والفنانين داخل السلطة وخارجها، وتفريغهم من الرؤية الاجتماعية الشاملة، والوعي السياسي الموضوعي؛ معزولين عن الفعل السياسي التجديدي، ويُجرَى خنق العقلانية وروح النقد فيهم، وبالتالي تتعطل الطاقات والقدرات العلمية والإبداعية لديهم!.
انفَكَّ وردي باكراً جداً من مثل هذا الإسار! قابضاً، بكلتا يديه، على "الجمر"؛ تمسكاً بوعيه ومعارفه العلمية والفنية، ومبادئه الوطنية والثورية، فانخَرَطَ بمستويات متفاوتة، وعبر مواقع مختلفة، في النضال بالفكر والإبداع والفن الجميل من أجل تغيير أوضاع بلاده المتردية نحو الأفضل، وظل مرتبطاً ـ وبأوثق رباط ـ بقضايا جماهير شعبه وحركتها العامة في الحياة، متعرِّفاً على همومها وخبراتها؛ مُشَارِكَاً في نضالاتها، مُتَعَرِّفاً ـ أيضاً ـ على الأسئلة العلمية الكبيرة التي يحتدم ويمور بها الواقع، ويحاول ـ عبر الأناشيد ـ أن يُقدِّمَ لها الحلول العلمية الشاملة، وفي الحياة الواقعية نفسها. هذا هو معنى العمل السياسى كضرورة حاسمة لإحداث التغيير والتجديد الثقافي والإجتماعي، هذا هو العمل الجليل الذى قدمه وردي بإبداعٍ عميق لا يُبارى!.
دائماً ما تأتي الحياة السياسية كما يجيء الرعد، لتهُزَّ وتُجلجل الوجدان العام، وجدان الفنان بالأحرى، فيهتز منه القلب، قلبه الكبير الشفيف، فينفعل انفعالاً بهذا الطارئ المجلجل، فيأخذه إلى حيث مهده؛ حيث شعبه وجماهيريه وناسه، عند ذاك تهدأ ـ قليلاً ـ منه الدواخل ليطلع ـ من بعد ـ الإبداع الجميل: الأناشيد!.
وعندما انطَلَقَت الرصاصات الأولى فاختَرَمَت أجساد أبناء الوطن، انبثقت منها، بدل الألحان، فوَّارَات دمٍ، توقفت لبرهةٍ أناشيده، ثم سرعان ما أخذت تتسرب إليها تيارات عفية من الجذور والدماء، منذ ذلك الحين اتَّحد دربه المُضيء بدرب شعبه وأمته؛ فعبر البلد كُلها، من أقصاها إلى أقصاها، إلى حيث يكون الشعب، الشعب الذى أراد لأناشيده أن تصبح له سيفاً ومنديلاً يُجفِّف به العرق جراء آلامه الكبيرة، ويُعطيه آمالاً عراضاً، بيارقاً وأسلحة يجابه بها معركة الخبز والحرية! إذَّاك اتسع المدى، فغدا كبيراً وعميقاً و.. أبدياً، وها نحن نقف الآن في أرضه ونريد أن نحوز العالم وكل ما هو موجود!.
لم يكن في تراث حب الوطن السوداني مثل هذا الوَلَهِ قط، ولا نشأت أبداً مثل هذه الحميمية الودودة بين الوطن وإنسانه؛ هي في اللغةِ سيماء جديدة، وفي عشق الوطن مفردات وقاموساً كاملاً جديداً في مفردة الحب، ولكن في صيغة الجمع، للشعب السوداني قاطبة! أعطانا وردي تشابك الحياة والأغاني، التاريخ والأغاني، الزمن والأغاني، وأعطانا تلك التوتُّرات ذات الحساسية العالية بين الواجب والموسيقى، بين الوطن والظل، بين الحُب والألم!.
وحدها الأناشيد لا تهدأ أبداً، تعيش الصراع كله والصخب كله وتوترات الحياة وعنفوانها اليومي، تهبط من السلالم الحجرية وتتسكع على الأرصفة، وبهدوءٍ تنسلُّ مارةً بالبيوت، باباً باباً، وثقباً ثقباً، بقرب الحوائط الطينية للمنازل الشعبية وأزقتها الضيقة، غير أنها، إذ تسمع صافرات العسس، تستدير إلى أول منعطف نحو الأزقة الفرعية، خائضة حتى ركبتيها بالأوحال التى نساها الشتاء، وتقترب ـ رويداً رويداً ـ من شباك الغرفة الفقيرة، تدخل الغرفة وترقد فوق الوسادة التي تعلو السرير الوحيد، تُضيء الغرفة كلها بالضوء الذي أتى في معيتها، آهٍ، من أين للأناشيد كل هذه القدرة الملائكية للتنوير والضوء؟ أيتها الأناشيد المقدسة احذري عيني الصياد، اهربي في فضاء البلاد الشاسع لتصبحي غزالة المعنى الفاتنة في أفئدة الناس، كل الناس!.
بدأ وردي يقرأ كتاب الوطن الكبير، ويبحث فيه عن (الكلام) الجميل، عميق المعاني، غزير الدروس، تلك مهمة ما فتر عنها أبداً، ولا غابت عن رؤياه الذكية لحظة واحدة:
(اليوم نرفع راية استقلالنا
ويُسَطِّرُ التاريخ مَولِدَ شعبنا
يا إخوتي: غَنُّو لنا،
يا نيلنا،
يا أرضنا الخضراء يا حقل السنا
يا مهد أجدادي،
ويا كنزي العزيز المقتنا
غَنُّو لَنَا!). (2)
غنى للاستقلال، للمجد والسُوّدد، في كرري التى احتشدت بالرجال الذين كانوا (كالأسود الضارية) في مواجهة (الغزاة الباغية)، وللتاريخ بصفحاته النابضة بالبطولات والمآثر الخالدة:
(وليذكر التاريخ أبطالاً لنا
عبد اللطيف وصحبه
غرسو النواة الطاهرة،
ونفوسهم فاضت حماساً كالبحار الزاخرة،
من أجل نرتاد المنون،
ولمثل هذا اليوم كانوا يعملون،
غنو لهم يا إخوتي،
ولتحيا ذكرى الثائرين).
وبدأت تطلع الأناشيد في سماوات بلادنا؛ تطلع لتصعد إلى الذُرَى العاليات السامقات، بمعانٍ جديدة وقيم هي الأخرى جديدة، وبدأ الفنان يرتب كتاب إبداعه الكبير ومأثرته الخالدة: قاموس مكتمل البهاء في عشق الوطن وحبه:
(حَدَقَ العُيون لِيْك يا وطن
أصبح مقر وأصبح سَكَن
إنتَ الملاذ ساعة المِحَن
وانْتَ الشموخ عبر الزمن
والليلة يا وهج الشموس،
لابس شرف اسمك وِسَام،
أباهي بيك بين الشعوب،
رافع شعار مجدك سلام
عَلِّمنْا كيف نبني ونعيد
كل اللي ضاع من غير محال
زي ما قبيل وريتنا كيف،
ننسف قلاع كانت وثن!) (3).
في شعره بالنوبية، يُعتبر وردي (وصافاً) كبيراً تمتلئ قصائده بالصور الشعرية البديعة، لا تكاد تخلو أيّاً من قصائده من لوحة وصفية، بديعة وساحرة، تلامس الوجدان بحساسيةٍ شفافةٍ وتسكن في الفؤاد لتبقى، وتزدهر فيه من بعد! لهذا، واستناداً إلى هذه الذائقة الجمالية التي تلازمه، نجده ينتقي تلك الكلمات التى تُشكِّل (صورة) مشرقة للوطن (المحبوب):
( عَشَانَك بَكَاتْلَ الرِّيح
!) (4). عشانك فؤادي جريح
عشانك يا حزنِ نَبِيْل
عشانك يا حلم جميل
عشانك يا بلد،
يا نيل،
يا ليل،
يا سمح يا زين!
يا وجه مَلْيَان غُنا
مَلْيَان عِشِق وحَنِيْن

يا غَابَة قمحية
مَشْرُورَة فُوْقَ البُلُوْد
زيَّ الصباحية
يا مقطعين دُوْبَاي،
نَازلِيْن على الدنيا،
أشواق وحنية.
يا ليل ولِيْلِيَّة
يا نِيْل ونِيْلِيَّة
يا مَرْمِي تحت الشمس،
للقَيَلة ضُلية
وجدته أحياناً يتوقف عند المعاني، وعندما يجدها مشرقة وبهية يرتاح لديها، يقف أمامها ليحاورها وينصت إلى نداءاتها العميقة التي تبدأ تُداعب وجدانه الشفيف؛ يخفق قلب الفنان، ولكنه يبدأ يطمئن إلى (المعنى) فأخذه إليه، وأمسك بلحظة الخلق العصية، ليبدأ يطلع اللحن الشجي للنشيد، ويتصاعد إلى فوق؛ فوق الجسد والهامة إلى الفضاء الرحيب الفسيح! أمسكت موهبة الفنان الضخمة (بالمعنى) كاملاً ونَسَجَ عليه هو عمارة (النشيد):
(أنت عشقي
يا شُرفَة التاريخ
يا رَايَةً منسوجةً
من شموخ النساء وكبرياء الرجال) (5).
هذه القصيدة ـ في اعتقادنا ـ ضعيفة في مبناها وفي كلماتها، وأيضاً في صورها، ولكن موهبة الفنان الفذة وقدراته اللحنية الضخمة استطاعت أن تركن وتطمئن إلى (المعنى) الكامن – كالبذرة – في أحشاء الكلمات، فيطلع هذا النشيد البديع عبر روح الفنان ومقدراته الفنية واللحنية، وهنا بالضبط تكمن القدرات الأسطورية للخلق في تجربة الفنان الكبير، وهكذا هو يُضفي على الكلمات الروح العتيقة للأناشيد.
لقد بدأت تُفتحُ بوابات التاريخ أمام مسيرة هذه الأناشيد السماويات. إننا الآن أمام مؤلف الأساطير الخالدة، هذا الفنان الكبير، مُبدع الأناشيد، أمير الأغاني كلها، الذي يملأ قلب بلادنا الكبير بهذا الفرح النبيل والعشق العميق للوطن! وفي احتفالية (يوبيله الذهبي) شَرَعَت اللجنة القومية في تشييد أبراجِ الاحتفالية العالية، حجراً حجراً، وقطعة قطعة، من بين الأنقاض الكثيرة والأحزان المبرحة ومِحنْ الوطن ذات النزيف، شيدت ـ بإصرارٍ عجيب أَخَّاذ ـ من جديدٍ النوافذ الزجاجية الملونة البراقة، والوشاحات المُطرَّزَة، وتيجان العواميد المُزهرة، في تلك الليلة المشرقة التي لا تُنسى بالمسرح القومي، تكريماً له وتخليداً! وشرع الفنان يُغني، غنَّى الأغاني كلها، والأناشيد كلها بملء حنجرته، الأناشيد العظيمة لشعبه، التي رافقت نضالاته وسعيه الذي لم يفتر أبداً في طلب الحياة؛ الحياة الجديرة بأن تُعاش، وها نحن جميعاً قد علمنا متى يجب علينا أن نبدأ الغناء!.
كانت الأُكتوبريّات مرحلة مهمة في تطور الأناشيد. فالثورة كانت ذاتها فتحاً ظافراً في مسيرة شعبنا الجبارة صوب الحرية والديمقراطية، اهتزت لها أرجاء الوطن الفسيحة من أقصاها إلى أطرافها جميعها، وأبانت للعالم أجمع أن شعبنا يقف سدّاً منيعاً أمام الديكتاتورية؛ رفضاً لها، وتجاوزاً جسوراً صوب الحرية ورحابها الفسيحة. كانت الثورة ملحمة جبارة لشعبنا، ومأثرة خالدة في تاريخه الوطني، أَحْيَت في التربة الخصيبة البذور الكامنة فيها فطَلَعَت وازدَهَرَت واستوى عودها، وكانت شعارات الثورة براياتها البراقة تسطع في سماوات الوطن: تَدَفَّقَ الدم الحار في الجسد الكبير، فأكسبه فتوةً واقتداراً! فأصبحت الأناشيد في آفق الثورة كالشموس المضيئات بالبريق الآخاذ والسحر العميق، أصبحت في طليعة الثورة وفي قلبها:
باسمك الظافر ينمو
في ضمير الشعب ايماناً وبشرى
وعلى الغابة والصحرا
وبأيدينا توهجْتَ ضياءاً وسلاحاً
وتسلّحنا بأكتوبر؛
لن نرجع شبراً!
سندق الصخر حتى يُخرِجَ لنا زرعاً وخضرة ،

ليست هناك تعليقات: