Powered By Blogger

السبت، ديسمبر 24، 2011

الرفيقة عطا أو ... المرأة التي أحببتها !

إلي عاشقة الطمي والحبو الجميل : الأستاذة حكمة أحمد !
-----------------------------------------------------
عبد الرحمن وعطيات الأبنودي ، أمل دنقل ، ويحيي الطاهر عبد الله ، نجيب سرور ، وزكي مراد ومحمد خليل قاسم ، جميعهم من الصعيد في جنوب مصر ( جاءوا القاهرة مطلع الستينيات من القرن الماضي ... حضروا للمدينة الكبيرة تدفعهم حمي الثقافة وقلق وتوتر الأبداع . الأحلام وقتذاك كانت كبيرة، تحفها الطموحات – كالهالة تحيط بالقمر – فتجعل الحياة أحلي وأنضر ، وتستحق أن تعاش ، بكامل حيويتها وفاعلية الوجد والعنفوان الأنساني .
وقتذاك – في ذلك الزمن الذهبي الجميل – كتب أمل ديوانه الأول " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " ، وكتب نجيب سرور " ياسين وبهية " ، و " الشمندورة " تألقت في سماء الثقافة أبداعا جميلا لمحمد خليل قاسم ، زكي مراد كان يكتب أشعارا جميلة ، يعلقها علي صدور العمال والفقراء والمثقفين ، نياشينا وأوسمة لامعة تجمل صدورهم وقاماتهم ، ويسعي هو ، في ليالي القاهرة ونهاراتها ذوات الضجيج، مناضلا سياسيا وقانونيا مديد القامة ومدافعا صلبا عن الحريات والحقوق والحب والعافية . يحيي الطاهر عبدالله بزغ – كما النيزك المتوهج – قصاصا عظيما بقامة النخيل ، ناهضا بأبداع مدهش بحجم الدنيا والناس قاطبة !
عطيات عوض محمود خليل ، تخرجت في كلية القانون ، تهوي التمثيل والرقص والفنون ... لكنها ، أيضا ، درست وتخصصت في الأخراج السينمائي للأفلام التسجيلية ، حتي غدت من أكبر مخرجي الأفلام التسجيلية في مصر والعالم العربي . كات تود أن تكون راقصة ، ولكنها أسبعدت بعد المعاينة الأولي ، فذهبت لعالم السينما وتخرجت العام 1972م في معهد السينما في مصر وذهبت لانجلترا فدرست تقنيات السينما التسجيلية ، وعادت لمصر فعملت في حقل السينما الذي أصبح مجالها الحيوي ودنياها !
عبد الرحمن الابنودي وعطيات تزوجا .أصبح عبد الرحمن شاعرا كبيرا في العامية المصرية ، ولمع نجمه فتألق ، وظل يكتب أشعارا جميلة تقف في صف الفقراء والكادحين ، أشتهرت قصائده جدا ، وعرف في الناس شاعرا كبيرا وصعيديا تقدميا ، يحقق بأشعاره أحلاما وطموحات نبيلة تسعي بينهم وتبشرهم بغد جميل ورائع سيأتي ! عطيات ، هي الأخري ، أصبحت مشهورة أيضا : كاتبة ومخرجة سينمائية وتقدمية كبيرة ، حملت الهم اليومي للفقراء في سويداء قلبها ، داخل حقيبة يدها النسائية ، وسارت في الحياة بنبل وشرف ووعي كثير ! عطيات وعبد الرحمن تزوجا إذن ، ولكنهما ، والسنوات تمضي بهما ، لم ينجبا ! ولم يكن ذلك يشكل لديهما مأزقا أو أزمة من أية نوع ، الحياة من حولهما كانت جميلة ، وصورا بديعة ملونة تزحم عليهما مخيلتهما ، فقد كان التأمل في الحب عن كثب :
جسدي ريشة والمدي شاطئ
طريق الصواب
طريق الخطأ !
لعلني أخطأت ...
لكنها تجربة !
كانت الأحلام – وقتذاك – صادقة صدقا كليا ، والواقع أخضر ، والطموحات كبيرة ونبيلة ، ولهذا ظلت جمرة الأبداع لديهما متوهجة ، ساطعة لاتكاد تنطفئ !
أوائل سبتمبر العام 1979م ، في ذات عام زواجه ، يصيب السرطان أمل ! كان في ذروة توهجه الشعري وعطاؤه الخصب ، كان يخطو بشعره وتجربته الأبداعية خطوات نوعية جبارة صوب الأكتمال ، كان يكتب :
أيها السادة : ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف
وفي الظهر : الجدار !
آه ... ما أقسي الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر... مرة !
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !
   إلتجأ أمل وزوجه الكاتبة الصحفية عبلة الرويني للغرفة رقم " 8 " في الدور السابع بالمعهد القومي للأورام بالقاهرة ! وفي تلك الغرفة العجيبة ، قاوم أمل هجمات السرطان قرابة العام والنصف! عالم الغرفة كان عالما مدهشا يفيض بالحياة ، علي الجدران صورا ملونة بديعة وتنبض بالحياة وتعلو فوق الموت ! لوحات كاريكاتورية وقصائد شعر جميلة ، صورة يحيي الطاهر عبد الله معلقة علي الحائط المواجه ، وعلي الجدار المجاور علقت بطاقة من ياسر عرفات ، ثم رسم كاريكاتوري لجورج البهجوري حاملا باقة من الزهور الندية المتفتحة للحياة إلي أمل في سريره ، أرسلها إليه من باريس حيث يقيم منذ سنوات عديدة ! قصيدة حسن طلب " زبرجدة إلي أمل دنقل " التي نشرتها مجلة الدوحة القطرية معلقة إلي جوارها ، ثم قصيدة أمل البديعة الأخيرة " ضد من " تجالسهما ، أو بالأحري ، تجالس أملا نفسه ! بالغرفة – أيضا – مزهرية كبيرة ملونة تطل منها الورود دائمة الصحو ... ومن تلك الورود ، كانت " أسماء " أبنة يحيي الطاهر عبد الله ، تأخذ منها واحدة تضعها في شعرها عند كل زيارة تأتي فيها أمل ، كانت تفرح بتلك الورود والأزاهير الندية ! " أسماء " – فجأة – تنظر إلي قدمي أمل ، تنظر إليهما مليا وتقول مخاطبة عبلة : " أنه لا يحرك رجليه " ! ، فتقول عبلة ، معزية لنفسها وليطمئن قلب الصغيرة ذات الأعوام الستة : " نعم يا أسماء ... أنها توجعه قليلا " ! وفي اليوم التالي مباشرة ، كانت " أسماء " تحمل معها رسما ملونا لأمل وهو خارج السرير، بأرجل معافاة، في حديقة مليئة بالزهور ، طليقا كما العصفور في مواجهة الحياة والكون بأسره ! يأخذ أمل تلك الرسوم ويعلقها علي الحائط بجواره ، ويواصل – بأصرار عنيد وأبداع عميق – كتابة الأشعار الجميلة ... أبدا لم يتوقف ذهنه المتوقد عن الكتابة المبدعة والشعر العظيم حتي آخر رمق من حياته الخصبة !
زار يحيي أمل في مستشفي العجوزة عند أجراء الجراحة الأولي العام 1979م... ولكنه لم يحتمل فكرة أن أملا يمكن أن يموت ! عذبته فكرة رحيل أمل عن هذه الدنيا الجميلة الرائعة ... وكان أمل أحد أجمل وجوه الدنيا الجميلة تلك ... قال لعبلة متسائلا بمرارة قاسية : " لماذا يموت أمل بينما أولاد الكلاب أحياء ؟ " ... وبكي بحرقة مست وجدانه كله ، وزلزلت كيانه الأدبي الخلاق ... ولم يأت أبدا لزيارته من بعد !
نجيب سرور يصاب – فجأة – بالذهول عن الحياة والناس ، ويموت سريعا كالومضة ! وزكي مراد يموت في حادث سيارة عبثي ، وهو يقود عربته الفلوكسواجن ، كان يود اللحاق بأجتماع سياسي ! ومحمد خليل قاسم يموت فجأة ، يرحل كما النزوة ويغيب ! والعام 1980م لم يبلغ منتصفه بعد يموت يحيي الطاهر عبد الله في حادث سيارة كان يقودها بنفسه ، وهو الذي حزن لفكرة موت أمل المتوقع ! يرفض أمل الأشتراك في كل مراحل غيابه ... لم يسأل عن الأسباب ، ولم يتكلم قط في تفصيلات موته ، ولم يثرثر بشكل عاطفي حول أبداع يحيي القصصي ، كان يقول : " أن يحيي خاص بي وحدي " ! قالها وبكي ... تقول عبلة بشأن هذا الموقف : " كانت المرة الأولي التي أري فيها دموع أمل " ! ولكن ، لماذا لم يكتب أمل عن يحيي ؟ تقول عبلة : " كان وجه القاص يحيي الطاهر عبد الله أحد وجوه قصيدة الجنوبي ... ولقد عذبت أمل كثيرا محاولة أستحضار يحيي داخل قصيدة ! ففي كل مرة يحاول أستحضاره شعريا ، يهرب يحيي وتهرب القصيدة ! ونسي أمل القصيدة ، حتي أطل يحيي في الورقة الأخيرة " ...:
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصبا ، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد
ليت " أسماء " تعرف أن أباها الذي ...
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود
ليت " أسماء " تعرف أن البنات الجميلات ...
خبأنه بين أوراقهن
وعلمنه أن يسير ...ولا يلتقي بأحد !
رحلوا ، وما تركوا سوي الذكري ، وإبداعات عميقة ومضيئة تعيش دورات حياتها معنا ، ومن بعدنا أيضا !
عبد الرحمن وعطيات يواصلان الحياة ، يعيشان سويا ويناضلان ، في الكتابة والأبداع والحياة اليومية ... يواجهان – معا – مظاهر الموت والذبول بالمزيد من الإبداع ، وبمقدرات عالية للصمود وتحدي الصعاب :
ويا قدرتي علي الصمود
ياتماسكي
مدد ... مدد ... مدد !
كان لويس عوض ويوسف أدريس حاضرين معهم ، وجابر عصفور يزورهما بشكل يومي ... وأحمد عبد المعطي حجازي يراسلهما بصورة منتظمة من منفاه الأختياري في باريس ، وكذلك كان يفعل الرسام جورج البهجوري ... وأمل لايزال صامدا ، وبأرادة فولاذية يكتب أجمل أشعاره !
عطيات وعبد الرحمن لايزالان سويا ، ولكن الدنيا بدأت تذهب عنها بهجتها المعهودة : أنفصلوا – عبد الرحمن وعطيات – عن تلك المشاركة الحميمة في الحياة وفي النضال وفي الإبداع ، أنفض زواجهما العام 1989م ... فكتبت عطيات كتابها الرائع " أيام لم تكن معه " ، ويلجأ عبد الرحمن للمخاكم والقضاء يطالبها بالتخلي عن لقب " الأبنودي " الذي ألتصق بأسمها ، فرفضت ، وكانت تصرخ : " هل هنالك في الدنيا أحدا يمكن أن يلغي تاريخه ؟" ، وظلت تجتفظ به حتي يوم الناس هذا ! وتبدأ تجري تحولات عميقة تطال وجهة الإبداع نفسها فتظهر في عيون الكثيرين مخيفة ومحبطة : صنع الله أبراهيم يبدأ في الكتابة المتخصصة للأطفال ! وتظل " نجمة أغسطس " و " اللجنة " علامتان بارزتان في مسيرة إبداعة وفي أفق الثقافة نفسها ! جمال الغيطاني يذهب بإبداعه كله – مرة واحدة – إلي كهف التصوف المعتم الداكن ويكتب " كتاب التجليات " ! أحمد فؤاد نجم يتخلي عن المغني والمناضل العظيم الشيخ أمام ، ويبدأ يجتر ذكريات النضال والشعر ، ويصبح وجها مالوفا لدي الفضائيات الحديثة ! ويموت الشيخ أمام كمدا وحسرة ومن جراء هذا التحول الرهيب ! وعبد الرحمن الأبنودي يتفرغ عشرة سنوات كاملة ليكتب ويحقق " سيرة بني هلال " ! وياللهول العظيم : ينفصل عن علاقته الزوجية بعطيات ! أيكون ذلك بسبب من التحولات العميقة في أساس الوجدان المبدع لشاعر العامية الكبير ، أم يكون ذلك بسبب من عدم الأنجاب ، أم يكون بسبب من " أسماء " ؟
في تلك اللحظات المترعة بمعايشة الأحداث الكبيرة والتحولات العميقة ، يطلب أمل – وهو ينازع الموت القريب – أن يستمع إلي كلمات الآبنودي عبد الرحمن ويغنيها محمد قنديل ، فيسمعها ويسمعها ويسمعها من جهاز تسجيل في غرفته :
يا ناعسة لا ، لا ، لا لا
خلصت مني القوالة
والسهم اللي رماني
هالكني لامحالة !
عند الرابعة من صباح السبت 21 مايو1983م مات أمل دنقل ! مات ولم تكتمل رحلة أبداعه ولا قصائده ، فظلت محاولته الشعرية الضخمة " أقوال جديدة عن حرب البسوس " غير مكتملة ، فقد رحل عنها وتركها تنشد الأكتمال في ذاكرة الأجيال المبدعة من بعد !
عبد الرحمن ذهب بعيدا في التراث ، ذهب ولم يرجع ، كما فعل من قبله محمد عمارة وحسن حنفي ! وبقيت عطيات : أبنودية ، صعيدية ، تقدمية ، تحيا حياتها بتواز حميم وعميق مع أفكارها في الحياة والناس معا ... فبقلبها الكبير الجميل ، كانت قد تبنت " أسماء " إبنة يحيي الطاهروأتخذتها أبنة لها ورفيقة حياة ... عطيات الآن ، طفلة تعيش ملء قلبها الحياة ، ولكنها في الحادية والسبعين ، فرحة جدا بالأنتفاضة وتقول : " عملوها أولاد الأيه ! أنتفضوا في 25 يناير ، العاديون ، أبناء العابرين ، بناة الأهرام ! قلبي أنخلع من الأنبهار ، وعاد ! " لقد عرفت التشرد والمطاردة والفصل من العمل والسجن ، فظلت سامقة كصنوبرة ، تقف عالية وتتحدي الرياح ! أخرجت ونفذت أكثر من خمسين فيلما تسجيليا نالت عليها جوائز عديدة في مصر وفي مهرجانات غالمية ! تقول عن وجهة عملها السينمائية : أسعي للتأثير علي وجهة النظر الذكورية وتغيير الأفكار البالية والعادات الموروثة التي تنال من حقوق المرأة ومن حريتها ... وعانيت في حياتي من القهر الواقع علي النساء ، ومؤمنة تماما بالمساواة بين الجنسين ". لقد صنعت أبطالا في أفلامها ، وسرعان ما نزلوا للشوارع وعمدوا بدمائهم أنتفاضة الشعب !
عطيات وأسماء ، أصبحتا نخلتان باسقتان ، بسمات ونبل الحياة ونضارتها الأولي ، وصدقها العذب ، علي شاطئ الحياة اليومية ... هما الآن يعيشان معا ، يعيشان كما ينبغي أن تعاش الحياة برفقة الشعب الغزال كما يقول درويش ... يبشراننا بالبراءة والأقحوان ... التحية العميقة من الجنوب لجدل الحياة وخصبها وعنفوانها الفوار ...هي الدنيا ... هي الدنيا وعليها السلام !

ليست هناك تعليقات: