(خُذي النُّعاس وخبَّئيني في الرواية والمساء العاطفيّ،
وخبَّئيني تحت إحدى النخلتين،
وعلميني الشعر، قد أتعلَّمُ التجوال في أنحاء (هومير)
قد أُضيفُ إلى الحكاية وصفَ عكا، أقدم المدن الجميلة،
أجمل المدن القديمة، علبةً حجريةً
يتحرَّك الأحياء والأمواتُ في صلصالها كخلية النحل السجين،
ويُضرِبُون عن الزهور ويسألون البحر عن باب الطوارئ كلما اشتَدَّ الحصار.
وعلميني الشعر؛
قد تحتاج بنتٌ ما إلى أغنيةٍ لبعيدها:
(خذني ولو قََسْراً إليكَ،
وضَع منامي في يديكَ).
ويذهبان إلى الصدى متعانقين
كأنني زوجت ظبياً شارداً لغزالةٍ
وفتحتُ أبواب الكنيسة للحمام).
(من جدارية محمود درويش)
إلى الجنوب من وادي حلفا، في أحضان النيل والجروف والنخيل، حيث الهواء نسمات رقيقة كالغلالة ترتمي على وجه المكان، في ذلك الملكوت الأرضي عاش الفنان وردي؛ في ذلك المكان تجد أن للعصافير لغةً، وللنهر لغة، وللجروف والنخيل والعشب لغةً وشذىً، والليالي تحتضنُ تلك الحيوات فتضعُ إنسانها في عمقِ أحضانها الدافئة، فتحميه من البرد والزمهرير. للمكان هنالك لغة الجذور الأولى؛ للمكان رائحة النوبيا، وله شَجَوِيَّة الأغاني مشرقةَ البهاء في الروح! يكاد الإنسان أن يلتحم بالمكان؛ بترابه وتاريخه في جميع أوقاته وأيامه بلا إنقطاع! المكان والتراب والتاريخ تجدهما في الناس أجمعين: تراهما في العيون والملامح، في السحنات السمراء، وفي الشعر الأسود اللامع الطويل، الناعم كما الحرير ـ ملمساً ورؤية!.
وتجدهما أيضاً وأيضاً في العشق الخرافيّ المجنون الذي يحتويه وجدان الإنسان النوبي وفؤاده السمح السمات. أيكون ذلك بسبب من صفاء المنبع ورقَّتِه وسماحته ونبله، أم هو تراكمات الأزمات السحيقة وذوبانها في الروح ذاتها؛ تراثاً ومعنىً وذاكرةً حافلة بالطلاوة وندى الأيام وبهجتها؟ أم يكون هو بسبب من السلالة نفسها تحتضن هذا العبق الفواح؟.
هو شيئاً من ذاك كلّه يسكن أفئدة النوبة ويَسِمُها بميسَمِ الغموض والسحر فتبدوا كالماس (النوبيا): سحرٌ يدخل في عمق الروح، في جوهرها، يطلع منها عبق التاريخ ورائحته وشذاه الغامض كالنيران المقدسة في المعابد القديمة. هي رؤيةٌ مُكتَمِلةٌ في الحياة ولكنها مضمَّخةٌ ونديانةٌ بالعبير في شجوية الروح الأخيرة! لعلها هذه الجذور العَفِيَّة في التربة هي التي تمسك بالروح النوبية وتشدّها إلى التراب والأرض! ومنها هي بالذات ـ من هذه الينابيع العميقة الغور في الوجدان الإنساني ـ يطلع الشَذَى والحب والدفء ودفق الحنان المُزهر في إحتفالية البهاء النوبي!.
(النوبيا) هي هذا الجوهر؛ جوهر المكان وروحه، وهي، كذلك أيضاً، جوهر الإنسان النوبي وروحه!. يقول الشاعر النوبي كمال عبد الحليم، ابن أرقين العظيم، في قصيدته (مقاطع على جدار الوطن) (1):
(تَعَلَّمتُ أسعدُ في صحوة الآخرين،
فكلّ النساء مرافئ، وكل الرجال شجر!
ولكنني الآن شِعرٌ حزين.
فالعَرَاجِيْن نوبية،
والعَصَافير نوبية،
والطريق إلى عاشق في الفؤاد الحزين؛
فوق جسرٍ مِن الرَّاح ينكرني بعد حين،
لغةٌ صَلَبَت شِعرَها فوق زيف المديح،
الهجاءُ / النسيب،
كيف تُكمل مشوارها نحو طابية الشمس،
نحو صريح مرايا الوطن؟.
عَرَبٌ ساعةَ الحَصْد
نوبيةٌ والسهام قَلَم
يا حقول الألَم
أورقي في شراييننا فرحةً لا تَتِم
بيننا وطنٌ يستطيل،
بأغنية تستحيل،
وعاصفةٌ من عَجَم؛
لغةٌ يا وطن!).
هي النوبيا، هي النوبيا! نقول (النوبة) ونعني بها تلك الهوية التي تتلازم فيها وتكتنِزُ داخلها دلالات عديدة: العِرق واللغة والجغرافيا والحضارة معاً. ولعله من المعلوم، وفق الحيثيات العلمية التاريخية، أن النوبة هم أهل السودان الأصليون، وأن لهم في التاريخ حضارات عظيمة وعميقة الدلالة، وتُشكّل هذه الحضارة والتاريخ المهد الطبيعي لتاريخ السودان القديم. ولقد جاء أقدم ذكرٍ للإسم (نوبي) أو (نوبيين) في رواية ذكرها المؤرخ أرتو تينس (275- 194 ق.م)؛ حيث ذكر، كما تقول د. سامية بشير دفع الله، (أنها قبيلة كبيرة تسكن غرب النيل، بين مروي القديمة وبين إنحناءة النيل في الدبّة ودنقلا) (1).
والنوبة حاميِّون، كالمصريين القدماء والأثيوبيين والبجا، ويتكونون من أربعة عناصر رئيسية هي: الكنوز والفاديجا والمحس والدناقلة. وكانت أرض النوبة ضيّقة تُحيطُ بها الصحراء الكبرى شرقاً وغرباً، وتحاصرها صحراء العتمور جنوباً، فتعزلها هذه الصحارى عن بقية العالم عزلاً تاماً. كما أن الجزء الذي تحتلّه أرض النوبة من نهر النيل تبرز فيه حواجز صخرية عديدة تُعرَف بالشلالات. وقد مرت على أرضهم حضارات عديدة؛ كالفرعونية والإغريقية والرومانية والإثيوبية والعربية والتركية. والنوبة هم أكثر الأعراق حُضورَاً في تاريخ السودان، وأكثرهم إثارةً للجدل، خاصة في أبعاد حضارتهم وعلاقتهم (بالنوبا) في جنوبي كردفان ودارفور من غرب السودان. ومن المعلوم أن النوبة ينقسمون اليوم، من حيث لغاتهم، وبحسب الأحكام العامة لعلم الأصوات، إلى ستة أقسامٍ هي: الدناقلة والمحس والسكوت وأرض الحجر والفاديجا والكنوز. (ويستطيع المحس والسكوت وأرض الحجر والفاديجا التواصل اللغوي، في حين لا يستطيعون ذلك التواصل مع الدناقلة والكنوز الذين تكاد تتطابق لغتهما) (1). وعلى التأكيد أنه توجد أيضاً بعض الفروق اللغوية بينهما هنا وهناك!.
كانت الهجرة النوبية الكبرى إذن في بداية الستينات من القرن الماضي خَضَّةً عنيفةً للإنسان النوبي؛ مسَّت منه شِغَاف الروح ذاتها، فسَكَتَ صوت المُغني النوبي ردحاً من الزمان، وعاد المُغني مرةً أخرى يفتح في دروب الإبداع النوبي دروباً شاقَّة، عسيرة في تقدمها وخشنة، إذ هي تنهض بشرف محاولة تعبيد تلك الدروب والمسارب المضيئة. أما فعل الهجرة فقد امتدَّ تأثيره ليُحَوِّل الغناء النوبي برمَّته إلى غناءٍ باكٍ حزين، يُذَكِّر بالأرض والتراب ويحنُّ إلى العودة إلى تلك الديار؛ حيث التاريخ النوبي كله يرقد فوق التراب وتحته وتختلط فيه، ويذمّ الأرض الجديدة التي هاجر النوبة إليها. وقد أصبح ذلك الفعل تحوّلاً في (موضوع) الغناء النوبي، ولا يزال حتى اليوم الغناء في موضوع الهجرة من أحبّ الغناء إلى نفوس النوبة!.
لقد عرف النوبة الغناء (كيرى Kere) منذ أَمَدٍ بعيد، وكان غرض الشعر نفسه هو غناؤه، حتى إننا نجد إن الشعر المُنشأ في اللغة النوبية كان يتقيَّد بأبعادِ قوالبِ الغناءِ المستقرَّةِ من ألحانٍ وإيقاعٍ على أساس أن دور الشعر هو أن يُغنَّى وفق مضامينٍ بعينها، حتى لقد غلب شأن الُحب وأحزان الهجرة على ذلك الشعر. ولكن، إلى وقتٍ معلوم، سيأتي فيه المجددون بمضامين وأساليب وتراكيب وصور جديدة مبتكرة. يقول محمد وردي في بعض شعره النوبي الذي يغنيه:
الوطن (1)
أيّها الحزين يا وطن، كم أحبك؛
ماثلاً أمامي حتى الموت،
شَكَّةُ الشوك فيك، حتى صهدك
باردٌ إذ أسير أيها الحزين.
وطني، يا ذا الرائحة الذكية،
يا ذا الماء الزلال،
يا ذا الليل الأعمى ـ بشمسك الساعية،
يتذكرك البعيد عنك، ويقاتل الباقي فيك كي يبقى،
أيها الحزين،
ينام فيك ملء الجفن،
ويُطعَمُ الطيب.
الخيرُ بين يديك،
والشرُّ يُنسَى فيك؛
تخفّ أحمالنا، همومنا عنَّا فيك!.
لا شئ غالٍ إذا أردته،
هذي روحي
أيها الحزين.
مُحبك الذي يتغنَّى بك
من يَتَمَرَّغُ في ترابك
ولدك!.
ها هو قد جاء فأتِهِ ساعياً أيها الجبل،
وأنت يا طين الجزيرة أَشْرِق بالفرح،
يا (سَاب)، الذي يتوسَّطُ البلد، اشهَق قمحاً،
ويا مُضغَةَ الحزن الخاثرة في الجوف
اجترحي حُزنك!.
كونى لوناً آخر في الأحشاء،
وثَبجَاً على وجه (نلوه)،
أبيضاً متضاحكاً.
أيها المركب: تداعَ شرقاً وغرباً،
وابدأ غناءك أيها العاشق،
واضبط الإيقاع أيها الفتى،
ويا صبية: ابتَدِعي الاندلاق في الرقص.
أيها الحزين ـ يا من كالجلكوز في عروقي،
النابت في القلب،
أذكرك؛
أذكر حتى بطن نَخلِكَ،
وطينك المشقوق.
أذكر طيورك الرائحة الغادية،
ونباتك طَيِّبَاً وخبيثاً،
أيها الحزين).
هذا إذن هو بعضاً من حديث الفنان عن الوطن؛ دخولٌ مضيءٌ إلى ذاكرة الوطن عبر تاريخه وقيمه وثقافته ولسانه أيضاً، ومن هنا يستطيع وردي أن يؤكد أنه قد أتى في الخمسينيات للإذاعة وكان غرضه هو (نشر الأغنية النوبية لا احتراف الغناء العربي)(1). إن أول أعمال الفنان كانت نوبية (سَكُوتِيَّة) ألَّفها في العام 1958م؛ استخدم فيها ذلك اللحن النوبي مُضَافاً إلى نَظمها النوبي أصلاً فكانت (ملاك):
(لِيْل اللِّيْل، لِيْل اللِّيْل
يَا مَلاَك الله لِيْل الليل، وآي أنا).
ولكنه يمضي في تجاربه البديعة فيُدخِلُ روح هذه الأغنية ـ الروح النوبية للغناء ـ في ملامح وسِمَات أغنية (بلدي يا حبوب) العربية.
نقول ذلك ونرمي لنؤكد، بجلاءٍ، أن كل أغاني وردي العربية فيها تداخلات وأنفاس النوبيا؛ إن النوبيا هي مهد أغاني الفنان جميعها؛ مُلتحمةٌ في نسيجها الإبداعي ذاته. نعتقد أن جوهر إبداع الفنان يطلع من هذه البؤرة النوبية المتوهجة. يقول وردي: (إذا المسؤولين عن الثقافات، رِضُوا أم أَبُو، يستمعون لوردي في أغانيه العربية والنوبية ـ فموسيقاه لا يمكن أن تكون خالية من الثقافة النوبية ـ كما يسمعون إبراهيم موسى أَبَّا وعبد القادر سالم من الغرب، وفي الشرق أغنية (الجبنة يا بنية) وفي الفنون الشعبية ورقصاتها. بمعنى أن هذا هو واقع الشعب، وهو مستعدٌّ لتقبُّل هذا الواقع ويتجاوب معه. ولكن السياسيين العنصريين اللي بيؤمنوا بالإستعلاء العرقي والديني ده لازم ينتهي. نحن بنقول إن السودانيين لهم أديان متمسكين بها، وناس على خُلق ودين ومحبة وأصول. فالناس المتوترين اللِّي عَايزِيْن، قسراً، يِخَلُّوا الأبيض أسود حَقُّوا يِسكُتُوا) (1).
ويمضي الفنان العظيم ليُطالب ويؤكد أنه لا يُعدّ ـ كفنان ـ مع العرب. لأن أغنيته، في عمومياتها وإطارها الإبداعي وفي اتساع دلالتها ومعناها، ليست عربيةً خالصة، لهذا فهو قد رفض دراسة الموسيقى العربية باعتباره نوبياً، ويُعدّ جزءاً من التراث الإنساني والثقافة العالمية في كليتها (2).
ولننظر إلى المسألة في عمومياتها جميعاً وفي اتساع المعنى والدلالة أيضاً: فهو قد امتلك اللغة العربية، وتحدث بها لسانه بطلاقة وإتقان، وبذلك يكون متأثراً بالثقافة العربية ولكن في جدلية اللغة والثقافة لديه؛ إن في روحه ووجدانه هذا المزيج الثقافي المبهر، هذا على مستوى الثقافة. أما على صعيد الموسيقى، فإن مهده الموسيقي كله هو الحضن النوبي الدافئ. إن صفاء الينابيع النوبية في الموسيقى يلوِّن أغانيه وأناشيده جميعاً؛ امتلك الفنان رحيق النوبيا كله كقفير النحل، ومنه يطلع هذا العسل المصفى في أغانيه؛ الموسيقى ترتدي الأزياء النوبية وتمشي في خيلاءٍ بين الناس. ولكن وردي يمضي ليقول (، لكن المقامات الداخلة في الأغنية الكردفانية لا تؤكد عروبتها بل تؤكد حَاجَة سودانية متفردة. فإثيوبيا، مثلاً، عندها سلالم مع الخماسي تُمثل إضافات ـ فالأغنية الكردفانية بها أحياناً سلالم خماسية، وأحياناً سداسية متطورة ـ ولكن ليست هنالك سلالم سباعية، وعلى لساني قل: أنه ليست هنالك مقامات عربية إطلاقاً في أية أغنية سودانية! وليس هناك مقام مثل الكرد Kard والعشيران Isheran والنهاوند. هل في السودان لدينا مقامات مثل هذه؟ ومن هو الذي غنى بهذه المقامات؟ ونحن عندما نقول هناك مقام عربي في أغنية ما، فذلك معناه أن يُسيطر المقام من أول الأغنية إلى آخرها)(1).
بهذه الكلمات، وبهذه المواقف، وعملياً بالأغاني وبمدى اتساع تجربته ذاتها، وكخلاصةٍ مُركَّزةٍ لها؛ فإن وردي يُريد أن يقول لنا جميعاً: إنني، في مشواري الفني وتجربتي كلها، وقفتُ، ومنذ البداية، أمام سؤال الهوية بكل جلاله وعمقه وتوهّجه ولمعانه! وأتكئت على نوبيتي حيث جذوري ما تزال حية وعفية، وحيث وجدت تراثي مكتنزٌ بالحيوية والخصوبة والثراء؛ أبدعت أغانيَّ وموسيقايَ كلها وأنا مستلقٍ على هذا المهد الوثير الفخيم، ودونكم تجربتي بكليتها أمامكم وخلفكم، فهل نجحت؟.
نحن نقول له: نعم يا مُحبّنا العظيم، وإنه لنجاحٌ باهرٌ يسطع كما النجوم في دنيانا وأحلامنا كلها. لقد دَخَلَت النوبيا إلى وجدان أمتنا وأخرى مجاورة لنا وبعيدة كذلك، وستكون هذه التجربة العميقة في الفن مدرسةً كاملةً وميداناً فسيحاً لدرسٍ كثيرٍ سيأتي و... يكون!. ولكن، ماذا عن هذه الروح النوبية التي تسكن أغاني وردي، وكيف تبدو ملامحها وسيمائها؟.
عند النوبة النيليين (من النوبة المصرية إلى دنقلا) ينقسم إيقاع الغناء إلى قسمين إثنين:
1. إيقاع نَقْشَبَنْدِي (إيقاع الطَّار)، ويُستعمل عند الفادِيجَّا (من دِغِيْم إلى كُوْرْسَكُّو المصرية) والكنوز (من كُوْرْسَكُّو إلى شمال نهاية أرض النوبة). ويمتاز هذا الإيقاع بسرعته.
2. إيقاع (الصفقة)، ويوجد عند بطن الحجر (من أبكا حتى سركمتو)، والسكوت والمحس ودنقلا. وهذا الإيقاع يكاد يكون ذات إيقاع الطار، إلا أنه يمتاز بأنه أكثر بطئاً. ونجد عند الدناقلة إيقاع الدليب، وهو ذات النغم المُستخدم حالياً عند الشايقية.
والجدير بالملاحظة هنا ، أن معظم أغاني وردي تقع في إطار أغنية (الصفقة)، خاصة في المراحل الأولى لاحترافه الغناء، وقد فَطِنَ وردي، مؤخراً، إلى أنه لا يُمكن أن يُخاطب بغنائه سائر النوبة النيليين. ويمكننا أن نقول في هذا المقام، وباطمئنان، أنه استخدم إيقاع النقشبندي (إيقاع الطار) منذ أغنية (1) (Kudud dollattitotta) في بداية الثمانينات، ثم استفاد من بعد هذا الإيقاع في غنائه العربي. وكمثال لذلك نشيد (وَطَنَّا) للشاعر العظيم محجوب شريف. ونرى ذلك في المقدمة الموسيقية لأغنيته (يا أعزَّ الناس)؛ فاستفاد من إيقاع الطار للصياغة ووضع مقدمتها الموسيقية.
أما إيقاع الدليب، كإيقاعٍ نوبيٍّ (من دُنقلا)، فنلاحظ أن وردي قد استفاد منه ـ منذ منتصف الستينيات ـ في أغنية (الرِّيْلَة)، كذلك استفاد من إيقاع (الصفقة) منذ وقتٍ مُبكِّرٍ جداً يعودُ إلى بداية الستينيات في أغنية (الرِّيلَة)، كذلك، وفي ذات الوقت استفاد من إيقاع (الصَّفقَة) في أغنية (القمر بوبا). وتنويعاً على إيقاع (الصفقة) ذاته استفاد منه وردي وأدخله في علاقةٍ حميمةٍ ودافئةٍ في أغنية (بلدي يا حبوب) للشاعر سيد أحمد الحاردلو (من الشايقية) خاصة في نهاية الأغنية: (يا نيل ونِيْلِيَّة)، لتُمسِكَ نهايةُ الأغنيةِ ـ فجأةً ـ بالبداية منها؛ تأتي بها النوبيا من عنقها لتحتويها في ساعديها! نغماً ومعنىً!.
العام 1965م، ترشح الأستاذ حسن عبد الماجد عن الحزب الشيوعي السوداني إبان انتخابات الجمعية التأسيسية في دائرة السكوت والمحس، وقد لازمه وقتذاك وردي في التعبئة الجماهيرية بأغنية: (سيشرق قمرنا لا محالة):
(طَالَمَا كُنَّا أبناء مزارعين فقراء
نَتَعَشَّى (بالبَلِيْلَةِ) وننام؛
وطالما كنَّا كادِحِين
فسيشرِقُ قَمَرُنَا لا مُحَالَة) (1)
وقد كانت هذه الأغنية بمثابة (المنفستو) الثوري، إذ رددتها منطقة النوبة بأثرها. فالأغنية تخطت مجال ترشيح الأستاذ حسن عبد الماجد بالسَكوت والمحس إلى الشمال والجنوب، ويرددها الناس حتى اليوم رغم مرور أكثر من (35) سنة على غنائها، وقد أنشأها وردي مُنَوِّعاً على أغنيةٍ سابقةٍ عليها كانت سائدةً ومتداولةً في المنطقة مستفيداً جداً من لحنها.
أتاحَ وردي لبعض الفنانين فرصةً عظيمة للغناء بالرطانة، وبلسان غير العربية، فمثلاً عثمان مصطفى، الذس تبناه وردي في أغنية (والله مشتاقين) وفي أغنيةٍ أخرى بالصومالية، وأيضاً زكي عبد الكريم الذي غنى بلسان الدَنَاقلة وإسماعيل حسب الدائم. ولكن هذه نافذة كبيرة، جعلها وردي مفتوحة ومشرعة على أفق الأغنية السودانية. والتجربة ما تزال ثرَّةً وخصبة وعميقة في أبعادها