-------------------------------------------------
أضاءة شعرية بشأن المرأة التي تجلت في تاجوج ، المرأة لا الأحدوثة :
( هذه رسالةٌ إلى
المرأة المكتوب عنها. قد تقرأها وقد لا. وإذا قرأتْها فمن غير المستبعد أن تقول: «مَن
هذه؟». ولن تجانب الصواب. فالسطح منها لم يظهر هنا، لأنّ جماله ليس موضع بحث. أمّا
دخائلها وقد حاولتُ النظر إليها، فأنّى لي، وقد فارقني العزم على الكشف، أن أسبر غورها،
فلا يبقى سرّ إلّا جاءني؟
وستقولين في نهاية المقال: حتّى
أنت لا تعرفني." ...
وكم ظل يصرخ أنسي ، لأجل الروح والجسد ، لأجل تلك
التي عانقته في الفضاء الأثير الجميل :
إسألني يا الله ماذا تريد أن تعرف؟
أنا أقول لك:
كلُّ اللعنات تغسلها أعجوبة اللقاء!
وجمْرُ عينيكِ يا حبيبتي يُعانق شياطيني.
تُنزلينني الى ما وراء الماء
وتُصعدينني أعلى من الحريّة.
أُغمض عليكِ عمري وقمري فلا تخونني أحلام.
يا نبعَ الغابات الداخليّة
يا نعجةَ ذئبي الكاسرة
مَن يخاف على الحياة وملاكُ الرغبةِ
ساهرٌ يَضحك؟
لا يولد كلَّ يوم أحدٌ في العالم
لا يولد غيرُ عيونٍ تفتِنُ العيون!
نظرةٌ واحدة
نظرة
وعيناكِ الحاملتان سلامَ الخطيئة
تمحوان ذاكرة الخوف
وتُسيّجان سهولة الحصول بزوبعة
السهولة!) *...
ستظل المرأة أحد أهم الهبات البشرية وأكثرها مدعاة للتأمل والدرس والتناول الأدبي والفني في مسيرة البشرية ، فهي الحيوية والجمال الذي يبهج أيامها كلها ، ويجعلها في هذه الرفقة الحميمة لهذا الكائن البهي في سحره وفتنته وعذوبته ، في نعومته اللينة الهينة ، وفي صلابته وشراسته ومشاكساته في اليومي من حياتنا . والمرأة ، هي أيضا ، الأكثر تناولا وتأملا في الأدب والفنون علي إتساعهما وشمولهما وتنوعهما في كل وقت وحين . ولا أظن إن هنالك إبداعا ما ، أيا ما كان ، استطاع أن يفلت من تناول شأن المرأة بهذا القدر أو ذاك ، فهي ، أيضا ، في الجوهر من الإبداع ، مصدره وينبوعه وأضواء تألقه حين يجيئه التألق وتفيض الموهبة فتسوح سوحها في الثقافة والناس . تاجوج ، بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق ، تعد أجمل النساء في زمانها ، .... ، جميلة الجميلات و ... أجملهن علي ما تقول به " الأحدوثة " ، تنتمي إلي قبيلة " الحمران " في شرق السودان بالقرب من مدينة كسلا ، وعاشقها الذي أخذ بجمالها هو أبن عمها ، وزوجها فيما بعد ، الشاعر المحلق بن علي . أختلف الناس في أمرها ، تماما مثلما أختلف المبدعون في شأنها : الكتاب والشعراء والمسرحيون وحتي المؤرخون ، كل يري الأحدوثة بما يعن له ويطمئن إليه قلبه . لكنهم جميعا علي اتساع تناولهم وتنوع رؤاهم واختلافهم حول تاريخية وتفاصيل مجريات الأحدوثة ، لم يأت أحدا من بينهم – فيما أري – برؤية جديدة مبتكرة لهذه الأحدوثة الخالدة في شأن تاجوج الجميلة بنت الحمران وفي شأن النظر إلي المرأة ، فلم يخرجوا عن جوهرها وأن أضافوا إلي وقائعها ما شاء لهم أن يضيفوا وحذفوا ما عن لهم أن يحذفوا ، لكن الجوهر من الأحدوثة نفسها فقد ظل ثابتا عندهم بلا استثناء ، ما عدا تلك الرؤية الذكية اللامعة للقاص والمسرحي الراحل مبارك أزرق في مسرحيته البديعة " لغز تاجوج " * حين رأي كيف أن المجتمع هو الذي أطر جسد المرأة فجعله سلعة قابلة للترويج ، وشرعت الشركات التي تصنع أمجادها وأرباحها تتسع وتمتد وتتكاثر عن طريق العروض وأشياء الجمال التي تجريها علي جسدها ، ثم جعلت هذه " النظرة " التي تشوه حقيقة المرأة وقيمتها في مقدمة برامج الميديا وإعلاناتها فساهمت بقدر كبير في جعل منظورها الشائه في عقول وقلوب جل الناس ، فنهضت المجتمعات تحت هذا التأثير نفسه تحاكم جسد المرأة ليكون محطا للشهوات والنزوات الجنسية فحسب ، ليس إلي قيمتها الإنسانية ولا إلي وعيها وسعيها الجميل في الحياة جنبا إلي جنب مع الرجل .
وممن كتبوا عنها أو تناولوها بشئ من التعليق ، نعوم شقير في كتابه " جغرافيا وتاريخ السودان " ، ومحمد عثمان هاشم الذي جعلها في رواية علق عليها الدكتور عبد المجيد عابدين و الدكتور إبراهيم عبده ، والدكتور خالد المبارك الذي كتب عنها كتاب " تاجوج " ، ثم خالد أبو الروس الذي مسرح الأحدوثة فجعلها بالشعر العامي العام 1934 ، ثم تلاه عبد الله سابو الذي جعلها مسرحية حيث نظر إليها في اطار الحكاية الشعبية وأضاف إليها ما من شأنه أن يأخذ بالعقل والذاكرة الشعبية ، حين جعل دافع المحلق لطلبها عارية هو بسبب من ما سمعه من ضاربة الودع من أن لتاجوج " شامة " في موضع من جسدها ، فداخلته الهواجس فأراد أن يستوثق من قولها ، مما يعني ، في واقع الأمر ، أنه قد داخله الشك ، الذي هو من مفسدات الحب كما هو معلوم ! كذلك تناولها الدكتور عبد الله الطيب في كتابة " الأحاجي السودانية .وكان الشاعر الكبير الراحل صلاح أحمد إبراهيم قد كتب مجموعة قصصية " تاجوج وحكايات آخري " نشرتها دار أبنوس للنشر والتوزيع بأمدرمان العام 2007 ، تناولها صلاح نثرا سرديا ولم يري فيها أيضا سوي جوهر الأحدوثة . وكتب الراحل مجدي النور عنها نصا مسرحيا أسماه " تاجوج في الخرطوم " فلم يفعل فيه أكثر من استداء تاجوج للعاصمة الخرطوم ثم أتي بالمحلق أيضا فجعلهما في الحوار والدراما بمنطق ولسان أهل الخرطوم ورؤاهم في الحب والجمال ، فلم أري عنده جديدا أيضا سوي جوهر الأحدوثة ! وتناولها أيضا المؤرخ محمد صالح ضرار فأضاف إليها مشهدا تأباه الفطرة السليمة عند السودانيين ، فقد روي أن النور أبن عم المحلق قد طلب منه أن يكف عن قول الشعر والتشبب في تاجوج حتي لا يسوء حالهما أكثر مما صار إليه ، لكنه بادره بأن قال له ، لو رأيتها لما عاتبتني ، تعال لأريك إياها . ثم ثقب الخباء ليري من خلاله تاجوج التي طلبها ترقص عارية أمامه بينما النور ينظرها من ذلك الثقب ! ثم أنشأ السينمائي الراحل جاد الله جباره فيلم " تاجوج " الذي راح يعرض في شتي بقاع السودان وفي الدول العربية ، لكنه لم يخرج عن معالجة الأحدوثة في جوهرها المتواتر بلا أية رؤيا جديدة . وهنالك العديد العديد من اللوحات قد جعلها التشكيليون في تبيان الجسد الأنثوي لتاجوج ، فهي قد حازت علي هذا القدر الكبير في المخيلة الجمعية للمبدعين في شتي ضروب الإبداع . ففي الشعر – علي سبيل المثال – وهو الذي أعول عليه كثيرا بأمل أن يتناوله بطاقته وقدراته الكبيرة في سبر وتبيان الأعماق ، قال عنها الشاعر الراحل كجراي في معرض حديثة عن قصيدته " تاجوج " التي تغني بها محمد وردي : ( لست أدري هل يحق لي التعليق علي عمل فني انتجته ؟ كنت في الواقع أرجو أن يأتي التعليق من المستمع المتذوق ... ولكن يمكنني أن أقول أن تاجوج الجميلة ، الأسطورة ، تاجوج المرأة ، التاريخ ، لا تهمني كثيرا ، لأنني لم أعايشها عبر أمتدادها الزمني ... إذن فتاجوج هنا تاجوج معاصرة تعيش في نبضات قلوبنا وتتسلل في غابات مشاعرنا ، تسري في دواخلنا حتي النخاع ... وقد تكون تاجوج هذه مثل ليلي عند المتصوفة يشترك في حبها الجميع ، ولست إلا شاعرا يحاول بالكلمة والنغم أن يملأ فراغ الوجدان بالعاطفة والحب والإعتزاز والشموخ فأن وفقت فيها نعمت وإلا فحسبي شرف المحاولة ! . ) *
وكان كجراي قد قال في بعضها :
ستظل المرأة أحد أهم الهبات البشرية وأكثرها مدعاة للتأمل والدرس والتناول الأدبي والفني في مسيرة البشرية ، فهي الحيوية والجمال الذي يبهج أيامها كلها ، ويجعلها في هذه الرفقة الحميمة لهذا الكائن البهي في سحره وفتنته وعذوبته ، في نعومته اللينة الهينة ، وفي صلابته وشراسته ومشاكساته في اليومي من حياتنا . والمرأة ، هي أيضا ، الأكثر تناولا وتأملا في الأدب والفنون علي إتساعهما وشمولهما وتنوعهما في كل وقت وحين . ولا أظن إن هنالك إبداعا ما ، أيا ما كان ، استطاع أن يفلت من تناول شأن المرأة بهذا القدر أو ذاك ، فهي ، أيضا ، في الجوهر من الإبداع ، مصدره وينبوعه وأضواء تألقه حين يجيئه التألق وتفيض الموهبة فتسوح سوحها في الثقافة والناس . تاجوج ، بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق ، تعد أجمل النساء في زمانها ، .... ، جميلة الجميلات و ... أجملهن علي ما تقول به " الأحدوثة " ، تنتمي إلي قبيلة " الحمران " في شرق السودان بالقرب من مدينة كسلا ، وعاشقها الذي أخذ بجمالها هو أبن عمها ، وزوجها فيما بعد ، الشاعر المحلق بن علي . أختلف الناس في أمرها ، تماما مثلما أختلف المبدعون في شأنها : الكتاب والشعراء والمسرحيون وحتي المؤرخون ، كل يري الأحدوثة بما يعن له ويطمئن إليه قلبه . لكنهم جميعا علي اتساع تناولهم وتنوع رؤاهم واختلافهم حول تاريخية وتفاصيل مجريات الأحدوثة ، لم يأت أحدا من بينهم – فيما أري – برؤية جديدة مبتكرة لهذه الأحدوثة الخالدة في شأن تاجوج الجميلة بنت الحمران وفي شأن النظر إلي المرأة ، فلم يخرجوا عن جوهرها وأن أضافوا إلي وقائعها ما شاء لهم أن يضيفوا وحذفوا ما عن لهم أن يحذفوا ، لكن الجوهر من الأحدوثة نفسها فقد ظل ثابتا عندهم بلا استثناء ، ما عدا تلك الرؤية الذكية اللامعة للقاص والمسرحي الراحل مبارك أزرق في مسرحيته البديعة " لغز تاجوج " * حين رأي كيف أن المجتمع هو الذي أطر جسد المرأة فجعله سلعة قابلة للترويج ، وشرعت الشركات التي تصنع أمجادها وأرباحها تتسع وتمتد وتتكاثر عن طريق العروض وأشياء الجمال التي تجريها علي جسدها ، ثم جعلت هذه " النظرة " التي تشوه حقيقة المرأة وقيمتها في مقدمة برامج الميديا وإعلاناتها فساهمت بقدر كبير في جعل منظورها الشائه في عقول وقلوب جل الناس ، فنهضت المجتمعات تحت هذا التأثير نفسه تحاكم جسد المرأة ليكون محطا للشهوات والنزوات الجنسية فحسب ، ليس إلي قيمتها الإنسانية ولا إلي وعيها وسعيها الجميل في الحياة جنبا إلي جنب مع الرجل .
وممن كتبوا عنها أو تناولوها بشئ من التعليق ، نعوم شقير في كتابه " جغرافيا وتاريخ السودان " ، ومحمد عثمان هاشم الذي جعلها في رواية علق عليها الدكتور عبد المجيد عابدين و الدكتور إبراهيم عبده ، والدكتور خالد المبارك الذي كتب عنها كتاب " تاجوج " ، ثم خالد أبو الروس الذي مسرح الأحدوثة فجعلها بالشعر العامي العام 1934 ، ثم تلاه عبد الله سابو الذي جعلها مسرحية حيث نظر إليها في اطار الحكاية الشعبية وأضاف إليها ما من شأنه أن يأخذ بالعقل والذاكرة الشعبية ، حين جعل دافع المحلق لطلبها عارية هو بسبب من ما سمعه من ضاربة الودع من أن لتاجوج " شامة " في موضع من جسدها ، فداخلته الهواجس فأراد أن يستوثق من قولها ، مما يعني ، في واقع الأمر ، أنه قد داخله الشك ، الذي هو من مفسدات الحب كما هو معلوم ! كذلك تناولها الدكتور عبد الله الطيب في كتابة " الأحاجي السودانية .وكان الشاعر الكبير الراحل صلاح أحمد إبراهيم قد كتب مجموعة قصصية " تاجوج وحكايات آخري " نشرتها دار أبنوس للنشر والتوزيع بأمدرمان العام 2007 ، تناولها صلاح نثرا سرديا ولم يري فيها أيضا سوي جوهر الأحدوثة . وكتب الراحل مجدي النور عنها نصا مسرحيا أسماه " تاجوج في الخرطوم " فلم يفعل فيه أكثر من استداء تاجوج للعاصمة الخرطوم ثم أتي بالمحلق أيضا فجعلهما في الحوار والدراما بمنطق ولسان أهل الخرطوم ورؤاهم في الحب والجمال ، فلم أري عنده جديدا أيضا سوي جوهر الأحدوثة ! وتناولها أيضا المؤرخ محمد صالح ضرار فأضاف إليها مشهدا تأباه الفطرة السليمة عند السودانيين ، فقد روي أن النور أبن عم المحلق قد طلب منه أن يكف عن قول الشعر والتشبب في تاجوج حتي لا يسوء حالهما أكثر مما صار إليه ، لكنه بادره بأن قال له ، لو رأيتها لما عاتبتني ، تعال لأريك إياها . ثم ثقب الخباء ليري من خلاله تاجوج التي طلبها ترقص عارية أمامه بينما النور ينظرها من ذلك الثقب ! ثم أنشأ السينمائي الراحل جاد الله جباره فيلم " تاجوج " الذي راح يعرض في شتي بقاع السودان وفي الدول العربية ، لكنه لم يخرج عن معالجة الأحدوثة في جوهرها المتواتر بلا أية رؤيا جديدة . وهنالك العديد العديد من اللوحات قد جعلها التشكيليون في تبيان الجسد الأنثوي لتاجوج ، فهي قد حازت علي هذا القدر الكبير في المخيلة الجمعية للمبدعين في شتي ضروب الإبداع . ففي الشعر – علي سبيل المثال – وهو الذي أعول عليه كثيرا بأمل أن يتناوله بطاقته وقدراته الكبيرة في سبر وتبيان الأعماق ، قال عنها الشاعر الراحل كجراي في معرض حديثة عن قصيدته " تاجوج " التي تغني بها محمد وردي : ( لست أدري هل يحق لي التعليق علي عمل فني انتجته ؟ كنت في الواقع أرجو أن يأتي التعليق من المستمع المتذوق ... ولكن يمكنني أن أقول أن تاجوج الجميلة ، الأسطورة ، تاجوج المرأة ، التاريخ ، لا تهمني كثيرا ، لأنني لم أعايشها عبر أمتدادها الزمني ... إذن فتاجوج هنا تاجوج معاصرة تعيش في نبضات قلوبنا وتتسلل في غابات مشاعرنا ، تسري في دواخلنا حتي النخاع ... وقد تكون تاجوج هذه مثل ليلي عند المتصوفة يشترك في حبها الجميع ، ولست إلا شاعرا يحاول بالكلمة والنغم أن يملأ فراغ الوجدان بالعاطفة والحب والإعتزاز والشموخ فأن وفقت فيها نعمت وإلا فحسبي شرف المحاولة ! . ) *
وكان كجراي قد قال في بعضها :
( تمر المحنة زي ضل السحابة
حروف اسمك نغم يسقي الغلابة
حروف اسمك بشارة خير حبابة
حروف اسمك حليفة وغنا الصبابة
... ... ...
مع الأيام يزيد حسنك نضارة
عشان نروي ... تخضر الصحارى
بوصف ليكي ألحان العذارى
نعيش باقي العمر في الريد سكارى
... ... ...
نخوض بحر الهموم نبحر نعدي
نقابل بالثبات موج التحدي
سنين العمر تاخد وما بتدي
ودربك لشاطي النور يودي . ) ...
الجدير بالملاحظة هنا ، أن كجراي برغم أنه أراد لتاجوج أن تكون معاصرة ، أمرأة تخوض دروب الحياة والنضال بإعتبارها صنوا وندا للرجل وهما معا يقودان طلائع التغيير والتقدم والحياة العفية ، لكنه – كما أري – قد تجنب أن يتناول قضية الجسد الأنثوي في الأحدوثة وكيف نظر إليها المحلق وحاكمها وفقا لها وهو في ذلك متسق مع نظرة المجتمع لها ، فالمحلق هو أبن بيئته ووعيها السائد علي أية حال ! الشاعر الراحل جيلي عبد الرحمن كان قد سبق كجراي في قصيدته " تاجوج " في ديوانه المشهور " الجواد والسيف المكسور " ، يقول جيلي في بعضها مخاطبا تاجوج :
( عريان
ها أنذا بلا سيف يطيش ولا فخار
وقبيلتي عيناك،
موج فيهما يبكي الكنار
إن كان ينصب كل يوم في شوارعنا قتيل
في عينه الخضراء ...
يا عيني تناوحت الحقول
نواح " دوبيت " يغني الهجر
والأيام غول
تاجوج ...
فتانا الشوق يصحو في الأصيل
نهارنا زيت وأزميل
تعاسات ...
ذهول !
فمن أين للحب المرجي أن يجئ
وعلي العيون غمامة تبكي
وأشواق تضئ ؟
و جوادنا المسكين يكبو
فوق أشلاء النهار
عريان ...
ها أنذا بلا سيف ييش ولا فخار
وقبيلتي عيناك
مرج فيهما يبكي الكنار ! ) ...
وكما هو ملاحظ في هذا المجتزأ الصغير من قصيدته فأن جيلي أسقط أوجاع الواقع الخشن في بؤرة الأحدوثة حيث توجد تاجوج فظل يناجيها لكنه جعل الرمز منها يشي بالوطن ، فجعلها حضنا إليه وإلي المتعبين في وطنه وملاذا للكادحين وأملا مأمول في رؤاهم ، ودربا سالكا للمناضلين في سبيل الحرية والإنعتاق والتحرر ، لكنه ، أيضا ، لم يري في تاجوج غير هذا الرمز الذي قال به ، فلم يري تلك " النظرة " الشائهة للمرأة التي سادت في ذلك المجتمع التي لا تري فيها سوي جسدها ، تلك النظرة التي أودت بتاجوج والمحلق إلي مصيرهما المأساوي فقضي علي مسار قصة عشق جميل بالدم والجنون و ... الموت !
معاصرنا الجميل عمر الطيب الدوش في قصيدته " تاجوج " من ديوانه " ليل المغنين " قد ألبسها ثوب الفتاة المعاصرة ، التي تحمل هم الوطن والغلابة ، وتعرف أين يكمن جرح الوطن ، بل وتعرف كيف يكون إيقاف النزيف وشفاء الجرح ، لكنه جعلها في ذات بيئتها وسط الأبل والشجر والوديان ، تقول بذلك القول الجميل من ذات موقعها ذاك ، ونعرف أن الدوش قد امتلك القدرة علي جعل اللغة تنصاع للرشاقة واللطافة والرهافة ، فقصيدته تجنح وتجمح في إيقاعها حد تشبه أن تكون أغنية جميلة راقصة ... لكنه ، وهو الرائي المدهشنا برؤياته لم يري محنة المرأة التي تتجلي في النظرة الشهوانية إلي جسدها ، وإلا لكانت قد أتت في قصيدته الجميلة ، يقول :
( تاجوج بتكتب بالشمال
الجدير بالملاحظة هنا ، أن كجراي برغم أنه أراد لتاجوج أن تكون معاصرة ، أمرأة تخوض دروب الحياة والنضال بإعتبارها صنوا وندا للرجل وهما معا يقودان طلائع التغيير والتقدم والحياة العفية ، لكنه – كما أري – قد تجنب أن يتناول قضية الجسد الأنثوي في الأحدوثة وكيف نظر إليها المحلق وحاكمها وفقا لها وهو في ذلك متسق مع نظرة المجتمع لها ، فالمحلق هو أبن بيئته ووعيها السائد علي أية حال ! الشاعر الراحل جيلي عبد الرحمن كان قد سبق كجراي في قصيدته " تاجوج " في ديوانه المشهور " الجواد والسيف المكسور " ، يقول جيلي في بعضها مخاطبا تاجوج :
( عريان
ها أنذا بلا سيف يطيش ولا فخار
وقبيلتي عيناك،
موج فيهما يبكي الكنار
إن كان ينصب كل يوم في شوارعنا قتيل
في عينه الخضراء ...
يا عيني تناوحت الحقول
نواح " دوبيت " يغني الهجر
والأيام غول
تاجوج ...
فتانا الشوق يصحو في الأصيل
نهارنا زيت وأزميل
تعاسات ...
ذهول !
فمن أين للحب المرجي أن يجئ
وعلي العيون غمامة تبكي
وأشواق تضئ ؟
و جوادنا المسكين يكبو
فوق أشلاء النهار
عريان ...
ها أنذا بلا سيف ييش ولا فخار
وقبيلتي عيناك
مرج فيهما يبكي الكنار ! ) ...
وكما هو ملاحظ في هذا المجتزأ الصغير من قصيدته فأن جيلي أسقط أوجاع الواقع الخشن في بؤرة الأحدوثة حيث توجد تاجوج فظل يناجيها لكنه جعل الرمز منها يشي بالوطن ، فجعلها حضنا إليه وإلي المتعبين في وطنه وملاذا للكادحين وأملا مأمول في رؤاهم ، ودربا سالكا للمناضلين في سبيل الحرية والإنعتاق والتحرر ، لكنه ، أيضا ، لم يري في تاجوج غير هذا الرمز الذي قال به ، فلم يري تلك " النظرة " الشائهة للمرأة التي سادت في ذلك المجتمع التي لا تري فيها سوي جسدها ، تلك النظرة التي أودت بتاجوج والمحلق إلي مصيرهما المأساوي فقضي علي مسار قصة عشق جميل بالدم والجنون و ... الموت !
معاصرنا الجميل عمر الطيب الدوش في قصيدته " تاجوج " من ديوانه " ليل المغنين " قد ألبسها ثوب الفتاة المعاصرة ، التي تحمل هم الوطن والغلابة ، وتعرف أين يكمن جرح الوطن ، بل وتعرف كيف يكون إيقاف النزيف وشفاء الجرح ، لكنه جعلها في ذات بيئتها وسط الأبل والشجر والوديان ، تقول بذلك القول الجميل من ذات موقعها ذاك ، ونعرف أن الدوش قد امتلك القدرة علي جعل اللغة تنصاع للرشاقة واللطافة والرهافة ، فقصيدته تجنح وتجمح في إيقاعها حد تشبه أن تكون أغنية جميلة راقصة ... لكنه ، وهو الرائي المدهشنا برؤياته لم يري محنة المرأة التي تتجلي في النظرة الشهوانية إلي جسدها ، وإلا لكانت قد أتت في قصيدته الجميلة ، يقول :
( تاجوج بتكتب بالشمال
منحوتة فى شكل اكتئاب
بتكحل الإبل النحيلة بالمشاوير
النبيلة
وتعشى ضيفان القبيلة بالأناشيد
الطويلة
موهوبة زى كل البنات
فى الأسى المنسوج خيال
تاجوج بتحلب من غيوم كسلا ... المطر
وتوزع القش والشجر
بتعرف الهم والكدر
حفيانة تجرى ورا السراب
تاجوج بتكتب بالحراب
تاجوج بتكتب بالشمال
وبترتق الثوب والنعال
وتمرق الهم الموكّر من قلوب كل
الرجال
تاجوج سؤال .. تاجوج غزال ..
تاجوج محال .. تاجوج خيال
إتخيلت انو المحلق ساكها بى طريق
شاقى الغمام :
يا يتامى .. يا غلابة .. شوفوا
لى تاجوج زمام ! . ) ...
التشكيلي والشاعر والكاتب الصحفي ، أبن كسلا وأحد مؤسسي " رابطة أولوس الأدبية بكسلا " أحمد طه الجنرال ، وهو ما هو عليه من عشق لتاجوج وسيرتها فقد قال عنها في قصيدته " سمت نفسها تاجوج " :
( نزلت غزالة القمر الحزينة
التشكيلي والشاعر والكاتب الصحفي ، أبن كسلا وأحد مؤسسي " رابطة أولوس الأدبية بكسلا " أحمد طه الجنرال ، وهو ما هو عليه من عشق لتاجوج وسيرتها فقد قال عنها في قصيدته " سمت نفسها تاجوج " :
( نزلت غزالة القمر الحزينة
و تخطرت في الأرض
سمت نفسها ... ( تاجوج )
عادت بعد أسبوعين .... لم تجد المكان
رحلوا جميعاً
الشمس .. والأقمار .. والأنجم المتوهجات
ونضارة الأيام خط الشيب
مشتعلاً على مفارقها ...
رحلت مياه الغيم من كل السحاب
ونضبت بحيرات السراب
والخاطر المشبوب .... شاب !
فهاتوا رثاء العاشق المقتول
مصلوباً على كل الجهات
فالقلب غنى آخر اللحظات ... محزوناً . . ومات
... ) * ...
ونري الجنرال هنا قد تحسرها ملء قلبه حد صار في وجع الفجيعة جراء موتهما معا : " العاشق المقتول " و العشيقة ، وبموتهما رحلت الأغنيات و ... " آخر اللحظات " التي كانت في القلب العاشق ، لكأن في الموت الموات لا الحياة ، والحسرات تصيب من القلوب العاشقات مواطن مواجدها لا شك ، ولكني – والحق يقال – قد بحثت عن وجه المرأة في القصيدة فوجدته ، وجها جميلا لأنثي مزهرة وضاجة بالحياة و ... قد رحلت ، فخلفت الحسرات الكثار من بعدها ، ولم تسير القصيدة إلي أعماق الأحدوثة ! لكنني وجدت أن أحمد طه قد قد أوردها في قصيدة آخري : " تاجوج ولطعة الكركار علي ثوب الشيفون " * . فقد صورتها القصيدة عاشقة للحياة ، تضج أعطافها وعواطفها " فرحا وحبا ... واشتهاء " ، مجدتها أيضا حين جعلتها أميرة علي عرش العفاف ، فقد كانت عفيفة ولذا أعطتها القصيدة زمام الملك أيضا . لكن ، في ذات عين جمالها ، أورثتها القصيدة بعضا من الخوف الذي يخالط الوعد فيجعله موشحا بالنزيف ... ، تري ، أيكون ذلك إرهاصا لما سيأتي ويكون من تداعيات الأحدوثة في مصائر شخوصها الداميات ؟ . لكن القصيدة سرعان ما تنتقل ، بنقلة واحدة ، ولكنها ممعنة في جدتها كامل بيئة الأحدوثة : " تاجوج ، ونحن ، والشرق المغني والمكان " إلي حيث المدينة التي ارتدت ذلك الثوب " البنقالي "* السودانوي الشهير و ... نامت . ولعلها كانت في الحلم لذا تحضنا أن لا نوقظها !
نري ، هنا ، تاجوج وقد فكت ضفائرها واختلطت في المدينة وناسها ، فشرعت تعيد كتابة التاريخ الذي ، حقا ، يحتاج للنظر إليه وإعادة كتابته ، و ... تغني . وستكون في رقص الغناء والأناشيد ، هي في الفرح إذن حد جعلت لقلبها واحدا دون الآخرين جميعا فجعلته محلقها " الجديد " ، الذي كان واقفا إلي بابها ينتظرها ، ليؤازرها ويكون في معية فرحها الجديد . جعلته القصيدة في هيئة شاب بشعره الأفرو * وبنطلون الجينز و ... الجيتار ويغني ، تماما مثلما هو شأن شباب تلك الأيام ، أيام ثورات الشباب والنهوض التحرري ، وتشرع الموسيقي تصدح ، تعلو طبول وإيقاعات الأغاني فتشيع في المكان والناس الفرح والأماني المزهرات . الشاعر جعل تاجوج هنا معاصرة أيضا ، وادخلها في صلب المعاصرة مع إيقاع وتواتر الزمن في القصيدة . لكنه ، أيضا ، لم يقترب – كما الآخرين – من المرأة / الجسد ، الذي هو جوهر الأحدوثة كما هو معروف . تقول قصيدة أحمد طه " تاجوج ولطعة الكركار * علي ثوب الشيفون * " * :
( كانت علي عرش العفاف أميرة
ملفوفة ...
بوشاح من عشق الحياة ...
التاج كان مرصعا فرحا وحبا ... واشتهاء .
هذي الضفاف ... والملك لك
نحن الرهاف ...
وكلما ملكت سواعدنا ،
إحتضان ...
الشعر ... أبيات القصيد ،
وكل أمجاد الزمان
الوعد الموشح بالنزيف
والدوحة المبحوحة الصوت ... مخيف !
تاجوج ، ونحن ، والشرق المغني والمكان
علي قلبي " تلفحت "* المدينة ثوب " بنقالي "* ونامت !
لا توقظوها فهي تحلم .
أن تاجوج الحزينة
فكت ضفائرها وهامت في خيالات المدينة
تعيد كتابة التاريخ بالحرف المرمد بالحقيقة
وتغني ...
أن تاجوج الحديقة
أوصدت أبوابها قسرا لكل الزائرين ...
عدا المحلق !
كان المحلق واقفا بالباب ،
الرأس " أفرو "* ...
ويلبس بنطالا من الجينز الممزق
يداعب الجيتار :
صول . لا ... سي دو ... لا
لا ... لا ...لا ... لا ...
علي قلبي تفتحت المدينة ،
ثوب شيفون و ... نامت ! ) .
الشاعر اسحق الحلنقي يعد في شعرنا واحدا من أجمل شعراء الأغنية السودانوية ، بعاميته الفصيحة في اناقتها الرشيقة وصورها الوجدانية التي تلامس القلوب وتقول بما في قلوب المحبين والعشاق . يقول الحلنقي في قصيدته " كسلا " :
( اليوم عدت إليك يا كسلا وبمقلتي تعاسة المتغرب
في كل شبر ضجة وتأسف أنكرت بعدي ... جفوتي وتغربي
أنا إن رجعت إلي غد لا تأسفي فالمجد بعضا من فضائل مذهبي
هذي الجبال عبادتي في صمتها شمخت كمحبوب عزيز الملب
وبقبر تاجوج اصطحبت عبادتي صليت في قبر جريح متعب
والقاش ممتد بعيني هائم بسط الذراع يضم لون المغرب . ) *
المعروف عن الحلنقي أنه شاعر عامية عظيم القدر ، رشيق العبارة وموغل في الوجدان الجمالي الذي يطلع مزهوا في شعره الشفيف ، لكننا نراه هنا نراه يكتب شعرا بالفصحي لا يقل عن جودة ما في قصيدته العامية الغنائية ، وهذا ما أشار لي به الصديق أحمد طه في معرض حديثنا عن أحدوثة تاجوج . الحلنقي أبن كسلا وعاشقها وكم تغني بها ، بالطبيعة منها وبالحبيبة والمواجد التي توحي بها لعاشقيها ، نراه في قصيدته هذه قد جعل " يتعبد " في قبر تاجوج ، إذ اتخذه ضريحا يحب وموضعا للخشوع والتوله ، وهو إذ يفعل ذلك يستعيد لا شك أحدوثة تاجوج ويستشعر جرحها و ... تعبها ، تعب الروح والجسد الذي أودي بها ، بعشقها الجميل وعاشقها ، هذا الرؤية لدي الحلنقي أتكون هي بعضا من نبع الحنان الذي يسري في قصائده الفاتنات فيكسبها عذوبة وألقا ومحبات ؟
أما الدكتور مبارك حسن خليفة ، ذلك الشاعر المعلم والمنورالكبير فلديه – كما اظن – قصيدة كاملة عن تاجوج لكنني لم أجدها بين مجموعات شعره التي بحوزتي . يقول عن تاجوج في قصيدة له كتبها في تحية مدينة كسلا :
( أحببتك يا مثوي تاجوج السمحة
أه ... لو أني شهدت محاسنها لمحة
تمنحها لأبن العم العاشق فرحة
وتداري خجل الأنثي ...
خلف الطرحة ! ) ...
ولقد رأيت مبارك يراها هنا بذات رؤية المحلق لها ، جسدا يعوي بالجمال والفتنة والإثارة ، فلم يراها في حقيقة أمرها ، أو لنقل أنه لربما رأي ولم يتناولها وهي في ذلك المنحي ! و لكن ، كما ذكرنا في غير هذا الموضع ، أن مبارك الآخر ، وأعني الراحل مبارك أزرق هو الوحيد بين من تناولوا أحدوثة تاجوح من رأها برؤية مختلفة في مسرحيته " لغز تاجوج " ، فقد رأي فيها شيئا من اللغز فسعي في معالجته الرائدة أن يكتشف ما في لغزها ، ومن بعد ، يريه للناس في مسرحيته . ولأن رؤيته تلك تكاد تتماهي مع ما نرأه بصدد النظر للمرأة باعتبارها ليست جسدا فحسب بل هي إنسان تتمتع بقدرات ذهنية ونفسية وأخلاقية وبمبادرات خلاقة في الحياة ثم أن لها إحساسها العميق بكينونتها الإنسانية وذات كبرياء وقوة في نفسها ومآلات حياتها كلها وسيدة لمصيرها فقد رأيت أن نوضح هذا المنحي في مسرحية مبارك أزرق الذي نعده قد أرتاد حقلا بكرا وقتذاك بجسارة جعلته يشيعه في الناس . يقول مبارك في شأن رؤيته: ( ومهما يكن من أمر فأن قصة تاجوج ، حقيقة كانت أو غير حقيقة ، فأننا واجدون فيها ومضة من فن الشعب وفكره . إذا كان قد اصطنعها من خياله ، وأخذ يعجب بها ويتأملها ، أو تلقفها من الحقيقة وأخذ يرويها ويسمعها . ولهذا فلابد أن يستخلص الرمز من جوهر القصة ، أسطوريا كان أو غير أسطوري . ولهذا السبب نفسه نري أن جميع من تناولوها قد اتفقوا حول جوهرها : طلب المحلق إلي تاجوج أن تخلع ملابسها وتمشي أمامه عارية . وألح في الطلب ، فاستجابت له مشترطة الوفاء بما تطلب ، فوافق ، فكان له ما رغب فيه ، وكان لها ما أرادت ، وكان طلاق وفراق ! هنا الجوهر الذي أغراني ، وهنا النقطة التي أردت أن أنطلق منها ، وأبني عليه هيكل المسرحية ، ولا يهمني من الأمر فوق ذلك هم ، أأسطورة هذه القصة أم حقيقة ؟ ذلك لأن الرمز هو جوهرها الحقيقي إن كان مستخلصا من التاريخ أو منبثقا عن الخيال . وهو أهم ما فيها . ولابد أنه يحمل في صلبه مدلولا ومعني . وأما قصة تاجوج كحدث تاريخي محض فأمر لا قيمة له البتة ، فوق أنه لا يقوم علي منطق مقنع ! ولعل هذا ما دعا الكتاب إلي اختلاف ، علي الرغم من أنها بلسان الشعب تروي باتفاق !! ) ...* ثم مضي مبارك ليعقد في متن المسرحية مقاربة مبتكرة إذ جعل لتاجوج مثيلة لها ، في الجسد وفي واقعة الموت جراء النظرة المؤلمة للمجتمع في الجسد ، نفس الجسد الجميل الشهي الذي فتن الناس واستوجب الانشغال به من حيث هو غواية أنثوية طاغية ليس للناس قبل بها ولا احتمال : بين تاجوج و مارلين مونورو ، يقول مبارك : ( ... وتاجوج قتلت بطعنة الخنجر ، ولكنها في الواقع انتحرت هاربة من تخلف مزر . ومارلين مونورو ، الممثلة الأميريكية العالمية الشهيرة ، انتحرت بتعاطي العقار ، ولكنها في الواقع قتلت مطاردة من كابوس مادي . ومن عجب أنهما لاذتا بحمي الفن في الوقت العصيب . فمارلين تزوجت ميللر الكاتب ، وتاجوج تزوجت المحلق الشاعر ، ثم انتهي زواجهما بطلاق وفراق ! مارلين ولدت عارية ، وفقيرة ، وبلا أب . وعاشت عارية في المراسم والمخادع وهي صبية . ثم شبه عارية في أغلفة المجلات بعدئذ ، ثم تغطي هذا اللحم العاري شيئا حين غدت أعظم ممثلة إغراء في العالم كله . هكذا خلقها العالم ، وهكذا أرادها أن تحيا ، وحين وصلت إلي أقصي ما تطمح إليه من مال ، وجاه ، وسلطان ، وصيت ، نبذت هذا العري . ولكنها أيقنت أن العالم لا يري فيها سوي الأنثي العارية . فأصابها يأس ، وحاولت غسله بالخمر ، ثم بالعقار ، ولم تصب من أيهما نفعا ! وإذ مسها الضر مسا شديدا لاذت بميللر ، الذي يكبرها بسنوات ذوات عدد ، فتزوجته. لعله يكون الدثار السميك الذي يغطي عريها . ولكنه انمحي بجانبها ... إذ بقي هو زوجها ، زوج ملكة الإغراء الطاغي ، المغمور بعبق صيتها وأنوثتها الطاغية . وإذن فقد ضاق الدثار العريض عن جسمها الفضفاض ، فضاقت نفسها ، ولم تري في العالم والناس إلا عيونا تنهش في سطحها ، فبرمت بالحياة ، وبرمت بنفسها ، ونبذت كل هذا المجد الذي صنع منها دمية من لحم شهي ! وللنظر الآن بأبصارنا إلي هذه المفارقة : حياة في أمريكا ، وفي هوليود وفي القرن العشرين ، وحياة في السودان ، وفي الريف ، وفي القرن التاسع عشر . ولكنه جدير بنا أن ننظر ببصائرنا إلي هذه الموافقة : البشر ولد خصيصة واحدة منذ بدء الحياة . يفترقون في عيش، ومسكن ، وملبس ، ولغة وطبيعة . ويتفقون في نزعات ونزوات وطبع . وليرو الرواة ما يروون . ولكني باختلاف روايات الرواة ، واختلافهم في تفسير أحدوثة تاجوج ، لا أحسبها إلا من نزعة واحدة عند المرأة : تلك الصرخة الداوية بفم مارلين المصبوغ بالأحمر وبالقلم ، أو فم تاجوج المدقوق بالأخضر وبالابرة * . نزعة المرأة ذكية الفؤاد والعقل والروح . والتي تنفر أن تشبه الدمية ، وتسعي لأن يجل قدرها ، ويعلي شأنها ، لا لجمال وجه ، وقد ، وخصر ، وأرداف ، ولكن لإنسانية وكرامة . وفي هذا ما أحسب إلا تاجوج ومارلين صنوين : الأولي انتحرت مقتولة ، والثانية قتلت منتحرة ! ) * .
تلك – في ظني – هي النظرة المبتكرة التي اهتدي إليها مبارك أزرق فاستخلصها وحرص أن يجعلها في المسرح . وهي – كما رأينا – قد لامست بشكل مبتكر القيمة الإنسانية للمرأة المعاصرة ، حيث لا ينبغي أن ينظر إليها كجسد للمتاع فقط بل كإنسانة لها قيمتها ووعيها وعقلها وروحها اللطيفة تسعي بها في الحياة ، ومبارك بهذا التناول الذكي أعده الرائد في النظر والتأمل الموضوعي في أحدوثة تاجوج فقد رآها كما لم يراها الآخرون ، رأي أن هنالك " تسليعا " مريعا يتم لجسدها حد يحولها إلي مسخ يجلب المال للإحتكارات والشركات العالمية العملاقة ذوات النفوذ المشتغلة علي جسد المرأة واشياء الجمال التي يجعلون جسدها فيها ، تلك الأدوات والمواد التي يصنعونها صنعا ويسوقونها عبر جسد المرأة وعلي حساب كرامتها وإنسانيتها !
تفكرات في الجسد الأنثوي أثارتها الأحدوثة :
كينونة الجسد في المغايرة ، وفي شعرية المعني ، فالجسدي ، هو البلوري في موضوعاته ومراميه ، ذلك الذي يهرب من كل ميتافيزيقيا ، هو نفسه الذي تتجدد أنفاسه برفقة هذا الهروب ولا ترتاح لنداءات الأحياء / الأموات ، أصحاب التابوهات والمحرمات والنواهي والإشتراطات البالية ، تلك التشوهات الدمامل التي لا توافق التراكم الخلاق كما لا توافق الفكر الحي ! هذا الجسدي ، إذن ، هو الكائن الذي فينا و نحيا به ، وبه نخوض كل معاركنا وصراعاتنا المعرفية ونكون في شعرية مستحدثة تحدس بجديده و ... جديدها معا ! ولكن :
ونري الجنرال هنا قد تحسرها ملء قلبه حد صار في وجع الفجيعة جراء موتهما معا : " العاشق المقتول " و العشيقة ، وبموتهما رحلت الأغنيات و ... " آخر اللحظات " التي كانت في القلب العاشق ، لكأن في الموت الموات لا الحياة ، والحسرات تصيب من القلوب العاشقات مواطن مواجدها لا شك ، ولكني – والحق يقال – قد بحثت عن وجه المرأة في القصيدة فوجدته ، وجها جميلا لأنثي مزهرة وضاجة بالحياة و ... قد رحلت ، فخلفت الحسرات الكثار من بعدها ، ولم تسير القصيدة إلي أعماق الأحدوثة ! لكنني وجدت أن أحمد طه قد قد أوردها في قصيدة آخري : " تاجوج ولطعة الكركار علي ثوب الشيفون " * . فقد صورتها القصيدة عاشقة للحياة ، تضج أعطافها وعواطفها " فرحا وحبا ... واشتهاء " ، مجدتها أيضا حين جعلتها أميرة علي عرش العفاف ، فقد كانت عفيفة ولذا أعطتها القصيدة زمام الملك أيضا . لكن ، في ذات عين جمالها ، أورثتها القصيدة بعضا من الخوف الذي يخالط الوعد فيجعله موشحا بالنزيف ... ، تري ، أيكون ذلك إرهاصا لما سيأتي ويكون من تداعيات الأحدوثة في مصائر شخوصها الداميات ؟ . لكن القصيدة سرعان ما تنتقل ، بنقلة واحدة ، ولكنها ممعنة في جدتها كامل بيئة الأحدوثة : " تاجوج ، ونحن ، والشرق المغني والمكان " إلي حيث المدينة التي ارتدت ذلك الثوب " البنقالي "* السودانوي الشهير و ... نامت . ولعلها كانت في الحلم لذا تحضنا أن لا نوقظها !
نري ، هنا ، تاجوج وقد فكت ضفائرها واختلطت في المدينة وناسها ، فشرعت تعيد كتابة التاريخ الذي ، حقا ، يحتاج للنظر إليه وإعادة كتابته ، و ... تغني . وستكون في رقص الغناء والأناشيد ، هي في الفرح إذن حد جعلت لقلبها واحدا دون الآخرين جميعا فجعلته محلقها " الجديد " ، الذي كان واقفا إلي بابها ينتظرها ، ليؤازرها ويكون في معية فرحها الجديد . جعلته القصيدة في هيئة شاب بشعره الأفرو * وبنطلون الجينز و ... الجيتار ويغني ، تماما مثلما هو شأن شباب تلك الأيام ، أيام ثورات الشباب والنهوض التحرري ، وتشرع الموسيقي تصدح ، تعلو طبول وإيقاعات الأغاني فتشيع في المكان والناس الفرح والأماني المزهرات . الشاعر جعل تاجوج هنا معاصرة أيضا ، وادخلها في صلب المعاصرة مع إيقاع وتواتر الزمن في القصيدة . لكنه ، أيضا ، لم يقترب – كما الآخرين – من المرأة / الجسد ، الذي هو جوهر الأحدوثة كما هو معروف . تقول قصيدة أحمد طه " تاجوج ولطعة الكركار * علي ثوب الشيفون * " * :
( كانت علي عرش العفاف أميرة
ملفوفة ...
بوشاح من عشق الحياة ...
التاج كان مرصعا فرحا وحبا ... واشتهاء .
هذي الضفاف ... والملك لك
نحن الرهاف ...
وكلما ملكت سواعدنا ،
إحتضان ...
الشعر ... أبيات القصيد ،
وكل أمجاد الزمان
الوعد الموشح بالنزيف
والدوحة المبحوحة الصوت ... مخيف !
تاجوج ، ونحن ، والشرق المغني والمكان
علي قلبي " تلفحت "* المدينة ثوب " بنقالي "* ونامت !
لا توقظوها فهي تحلم .
أن تاجوج الحزينة
فكت ضفائرها وهامت في خيالات المدينة
تعيد كتابة التاريخ بالحرف المرمد بالحقيقة
وتغني ...
أن تاجوج الحديقة
أوصدت أبوابها قسرا لكل الزائرين ...
عدا المحلق !
كان المحلق واقفا بالباب ،
الرأس " أفرو "* ...
ويلبس بنطالا من الجينز الممزق
يداعب الجيتار :
صول . لا ... سي دو ... لا
لا ... لا ...لا ... لا ...
علي قلبي تفتحت المدينة ،
ثوب شيفون و ... نامت ! ) .
الشاعر اسحق الحلنقي يعد في شعرنا واحدا من أجمل شعراء الأغنية السودانوية ، بعاميته الفصيحة في اناقتها الرشيقة وصورها الوجدانية التي تلامس القلوب وتقول بما في قلوب المحبين والعشاق . يقول الحلنقي في قصيدته " كسلا " :
( اليوم عدت إليك يا كسلا وبمقلتي تعاسة المتغرب
في كل شبر ضجة وتأسف أنكرت بعدي ... جفوتي وتغربي
أنا إن رجعت إلي غد لا تأسفي فالمجد بعضا من فضائل مذهبي
هذي الجبال عبادتي في صمتها شمخت كمحبوب عزيز الملب
وبقبر تاجوج اصطحبت عبادتي صليت في قبر جريح متعب
والقاش ممتد بعيني هائم بسط الذراع يضم لون المغرب . ) *
المعروف عن الحلنقي أنه شاعر عامية عظيم القدر ، رشيق العبارة وموغل في الوجدان الجمالي الذي يطلع مزهوا في شعره الشفيف ، لكننا نراه هنا نراه يكتب شعرا بالفصحي لا يقل عن جودة ما في قصيدته العامية الغنائية ، وهذا ما أشار لي به الصديق أحمد طه في معرض حديثنا عن أحدوثة تاجوج . الحلنقي أبن كسلا وعاشقها وكم تغني بها ، بالطبيعة منها وبالحبيبة والمواجد التي توحي بها لعاشقيها ، نراه في قصيدته هذه قد جعل " يتعبد " في قبر تاجوج ، إذ اتخذه ضريحا يحب وموضعا للخشوع والتوله ، وهو إذ يفعل ذلك يستعيد لا شك أحدوثة تاجوج ويستشعر جرحها و ... تعبها ، تعب الروح والجسد الذي أودي بها ، بعشقها الجميل وعاشقها ، هذا الرؤية لدي الحلنقي أتكون هي بعضا من نبع الحنان الذي يسري في قصائده الفاتنات فيكسبها عذوبة وألقا ومحبات ؟
أما الدكتور مبارك حسن خليفة ، ذلك الشاعر المعلم والمنورالكبير فلديه – كما اظن – قصيدة كاملة عن تاجوج لكنني لم أجدها بين مجموعات شعره التي بحوزتي . يقول عن تاجوج في قصيدة له كتبها في تحية مدينة كسلا :
( أحببتك يا مثوي تاجوج السمحة
أه ... لو أني شهدت محاسنها لمحة
تمنحها لأبن العم العاشق فرحة
وتداري خجل الأنثي ...
خلف الطرحة ! ) ...
ولقد رأيت مبارك يراها هنا بذات رؤية المحلق لها ، جسدا يعوي بالجمال والفتنة والإثارة ، فلم يراها في حقيقة أمرها ، أو لنقل أنه لربما رأي ولم يتناولها وهي في ذلك المنحي ! و لكن ، كما ذكرنا في غير هذا الموضع ، أن مبارك الآخر ، وأعني الراحل مبارك أزرق هو الوحيد بين من تناولوا أحدوثة تاجوح من رأها برؤية مختلفة في مسرحيته " لغز تاجوج " ، فقد رأي فيها شيئا من اللغز فسعي في معالجته الرائدة أن يكتشف ما في لغزها ، ومن بعد ، يريه للناس في مسرحيته . ولأن رؤيته تلك تكاد تتماهي مع ما نرأه بصدد النظر للمرأة باعتبارها ليست جسدا فحسب بل هي إنسان تتمتع بقدرات ذهنية ونفسية وأخلاقية وبمبادرات خلاقة في الحياة ثم أن لها إحساسها العميق بكينونتها الإنسانية وذات كبرياء وقوة في نفسها ومآلات حياتها كلها وسيدة لمصيرها فقد رأيت أن نوضح هذا المنحي في مسرحية مبارك أزرق الذي نعده قد أرتاد حقلا بكرا وقتذاك بجسارة جعلته يشيعه في الناس . يقول مبارك في شأن رؤيته: ( ومهما يكن من أمر فأن قصة تاجوج ، حقيقة كانت أو غير حقيقة ، فأننا واجدون فيها ومضة من فن الشعب وفكره . إذا كان قد اصطنعها من خياله ، وأخذ يعجب بها ويتأملها ، أو تلقفها من الحقيقة وأخذ يرويها ويسمعها . ولهذا فلابد أن يستخلص الرمز من جوهر القصة ، أسطوريا كان أو غير أسطوري . ولهذا السبب نفسه نري أن جميع من تناولوها قد اتفقوا حول جوهرها : طلب المحلق إلي تاجوج أن تخلع ملابسها وتمشي أمامه عارية . وألح في الطلب ، فاستجابت له مشترطة الوفاء بما تطلب ، فوافق ، فكان له ما رغب فيه ، وكان لها ما أرادت ، وكان طلاق وفراق ! هنا الجوهر الذي أغراني ، وهنا النقطة التي أردت أن أنطلق منها ، وأبني عليه هيكل المسرحية ، ولا يهمني من الأمر فوق ذلك هم ، أأسطورة هذه القصة أم حقيقة ؟ ذلك لأن الرمز هو جوهرها الحقيقي إن كان مستخلصا من التاريخ أو منبثقا عن الخيال . وهو أهم ما فيها . ولابد أنه يحمل في صلبه مدلولا ومعني . وأما قصة تاجوج كحدث تاريخي محض فأمر لا قيمة له البتة ، فوق أنه لا يقوم علي منطق مقنع ! ولعل هذا ما دعا الكتاب إلي اختلاف ، علي الرغم من أنها بلسان الشعب تروي باتفاق !! ) ...* ثم مضي مبارك ليعقد في متن المسرحية مقاربة مبتكرة إذ جعل لتاجوج مثيلة لها ، في الجسد وفي واقعة الموت جراء النظرة المؤلمة للمجتمع في الجسد ، نفس الجسد الجميل الشهي الذي فتن الناس واستوجب الانشغال به من حيث هو غواية أنثوية طاغية ليس للناس قبل بها ولا احتمال : بين تاجوج و مارلين مونورو ، يقول مبارك : ( ... وتاجوج قتلت بطعنة الخنجر ، ولكنها في الواقع انتحرت هاربة من تخلف مزر . ومارلين مونورو ، الممثلة الأميريكية العالمية الشهيرة ، انتحرت بتعاطي العقار ، ولكنها في الواقع قتلت مطاردة من كابوس مادي . ومن عجب أنهما لاذتا بحمي الفن في الوقت العصيب . فمارلين تزوجت ميللر الكاتب ، وتاجوج تزوجت المحلق الشاعر ، ثم انتهي زواجهما بطلاق وفراق ! مارلين ولدت عارية ، وفقيرة ، وبلا أب . وعاشت عارية في المراسم والمخادع وهي صبية . ثم شبه عارية في أغلفة المجلات بعدئذ ، ثم تغطي هذا اللحم العاري شيئا حين غدت أعظم ممثلة إغراء في العالم كله . هكذا خلقها العالم ، وهكذا أرادها أن تحيا ، وحين وصلت إلي أقصي ما تطمح إليه من مال ، وجاه ، وسلطان ، وصيت ، نبذت هذا العري . ولكنها أيقنت أن العالم لا يري فيها سوي الأنثي العارية . فأصابها يأس ، وحاولت غسله بالخمر ، ثم بالعقار ، ولم تصب من أيهما نفعا ! وإذ مسها الضر مسا شديدا لاذت بميللر ، الذي يكبرها بسنوات ذوات عدد ، فتزوجته. لعله يكون الدثار السميك الذي يغطي عريها . ولكنه انمحي بجانبها ... إذ بقي هو زوجها ، زوج ملكة الإغراء الطاغي ، المغمور بعبق صيتها وأنوثتها الطاغية . وإذن فقد ضاق الدثار العريض عن جسمها الفضفاض ، فضاقت نفسها ، ولم تري في العالم والناس إلا عيونا تنهش في سطحها ، فبرمت بالحياة ، وبرمت بنفسها ، ونبذت كل هذا المجد الذي صنع منها دمية من لحم شهي ! وللنظر الآن بأبصارنا إلي هذه المفارقة : حياة في أمريكا ، وفي هوليود وفي القرن العشرين ، وحياة في السودان ، وفي الريف ، وفي القرن التاسع عشر . ولكنه جدير بنا أن ننظر ببصائرنا إلي هذه الموافقة : البشر ولد خصيصة واحدة منذ بدء الحياة . يفترقون في عيش، ومسكن ، وملبس ، ولغة وطبيعة . ويتفقون في نزعات ونزوات وطبع . وليرو الرواة ما يروون . ولكني باختلاف روايات الرواة ، واختلافهم في تفسير أحدوثة تاجوج ، لا أحسبها إلا من نزعة واحدة عند المرأة : تلك الصرخة الداوية بفم مارلين المصبوغ بالأحمر وبالقلم ، أو فم تاجوج المدقوق بالأخضر وبالابرة * . نزعة المرأة ذكية الفؤاد والعقل والروح . والتي تنفر أن تشبه الدمية ، وتسعي لأن يجل قدرها ، ويعلي شأنها ، لا لجمال وجه ، وقد ، وخصر ، وأرداف ، ولكن لإنسانية وكرامة . وفي هذا ما أحسب إلا تاجوج ومارلين صنوين : الأولي انتحرت مقتولة ، والثانية قتلت منتحرة ! ) * .
تلك – في ظني – هي النظرة المبتكرة التي اهتدي إليها مبارك أزرق فاستخلصها وحرص أن يجعلها في المسرح . وهي – كما رأينا – قد لامست بشكل مبتكر القيمة الإنسانية للمرأة المعاصرة ، حيث لا ينبغي أن ينظر إليها كجسد للمتاع فقط بل كإنسانة لها قيمتها ووعيها وعقلها وروحها اللطيفة تسعي بها في الحياة ، ومبارك بهذا التناول الذكي أعده الرائد في النظر والتأمل الموضوعي في أحدوثة تاجوج فقد رآها كما لم يراها الآخرون ، رأي أن هنالك " تسليعا " مريعا يتم لجسدها حد يحولها إلي مسخ يجلب المال للإحتكارات والشركات العالمية العملاقة ذوات النفوذ المشتغلة علي جسد المرأة واشياء الجمال التي يجعلون جسدها فيها ، تلك الأدوات والمواد التي يصنعونها صنعا ويسوقونها عبر جسد المرأة وعلي حساب كرامتها وإنسانيتها !
تفكرات في الجسد الأنثوي أثارتها الأحدوثة :
كينونة الجسد في المغايرة ، وفي شعرية المعني ، فالجسدي ، هو البلوري في موضوعاته ومراميه ، ذلك الذي يهرب من كل ميتافيزيقيا ، هو نفسه الذي تتجدد أنفاسه برفقة هذا الهروب ولا ترتاح لنداءات الأحياء / الأموات ، أصحاب التابوهات والمحرمات والنواهي والإشتراطات البالية ، تلك التشوهات الدمامل التي لا توافق التراكم الخلاق كما لا توافق الفكر الحي ! هذا الجسدي ، إذن ، هو الكائن الذي فينا و نحيا به ، وبه نخوض كل معاركنا وصراعاتنا المعرفية ونكون في شعرية مستحدثة تحدس بجديده و ... جديدها معا ! ولكن :
" فوق جسدك المجزأ
نرسم حلقة طائرة ،
الإيقاع الأدق ...
يوح باليمين وباليسار
والسكرة المنعشة تدمر كل مركز "! .
كما قال " الخطيبي " ... ، إذن ، ليس
الجسد غرفة ولا سقفا ، أنه نافذة ، طبيعة حرة وشهوانية ، بعيدا عن " الرهانية
" وعن تجسرات " الصفقات " ، يكون الجسد بذاته خارج عنوانه ، لكنه في
عناوينه الكثيرة ، غير مزهوا بذاته . هنا ، عند النظر إلي الجسد ، تبدوا البداية بهذا
الطرح العام كأنها غير واقفة علي مسندات ، والكلام هنا مرادف للإطلاقية أو هي
" للاندهاشية " ، في ما يشبه الفخاخ ، إذ تتميز المغايرة – المطلوبة بالحاح
– بهذا الإيقاع نفسه ، وفي الآن نفسه لا يراد للجسد أن يكون غاية في ذاته ، لأن المغايرة
محسوبة علي مايأتي ، ما ينبثق ، ولها في رقصها حالات الجسد ! ليس هنالك من جسد غير
قابل لأن يكون موضوع تفكير ، بل قصدية الموضوع ، موضوع الجسد أعني ، هي أن تكون هذه
الأولية هي نفسها جوهر التفكير في الجسد ، هي قلبه ، هي دمه ، وبهما تكون مشروعيته
، تفكراته كلها وأشاراته النورانية ، لأنها لا تدل علي حيويته فقط ، بل علي فاعليته
أيضا ولا من تقصير في حق ، إذن ، سوي من جهة التوحد أو النرجسية !
أهو زيغ أم وهم أن نتفكر في الجسد وموضوعاته ، وأن
نسعي التأمل في مبادئه ؟ لربما ، إذ نعمل علي ذلك ، نبلغ أساس الفكرة ذاتها ، كما يقول
" هيدغر " ! هذا المدي ، إذن ، هذا الجسد الشاسع الوضئ ، مشرعا أمام المسعي
، أيا ما كان ذلك المسعي ، فكن – أيها الفكر الحر – في هذا المدي الممتد ، كن علي مقربة
من البئر لا من المستنقع ، أجعل " حفرياتك " وشعرياتك ، كتاباتك كلها
وفنونك هنا حيث وجود الفكر هو وجودك ، متاخما للجسد ، فمعناه هو معناك ، وليس البحث
والدرس فيه سوي الترحيب الفرح بهذه المحاولات الجسورة للأقتراب من تخومه الفارهات
... أبدأ في " حفرياتك " ولا تخش شيئا ، فليس صاحب الغابة السوداء داعية
جنون ، صاحب هذا الذي يخرج " الحي من الميت " بلا رهبة أو رهبانية ، بل بإنسانية
جسدية حيث هي أعصار المخيلة ، التي هي المبتغي و ... هي شعرية التفكرات في أقترابها
من الجسد الحي ، ذلك يكون هو " شقا " للمجال الأكثر خطورة وغموضا علي تخوم
الكائن فينا ، أنخراطا في رسم حركة شعرية / جسدية لا تتطابق وتنهزم أمام السائد المهترئ
ولا تتعالي ، فالأرض ، في برهة مقامنا عليها ، بمباهجها وفتنتها ، هي عند نهاية الأمر
، هي أرض الجسد ، وهو سيدها المبجل بلا منازع !
لكأنني سأخاطب سيدة الأحدوثة تاجوج فأنتبه إليها ، و ... إلي الجسد في آن ، وكليهما في كينونة المرأة ، في جمالها الإنساني كأمرأة:
فوق جسدك الشهي
أرسم خارطة لوعيك
للتفكرات في الجسد الأنيق
و ... فيك
حلقة مجسدة أيضا
ذات إيقاع
أبدأ معها من القاع ،
ثم أصعد ...
أصعد حتي دوالي العنب
ومذاق السكر
ستجدينه حاضرا هنا ،
في الجسد
الإيقاع ناصعا بهيا ...
إيقاع الجسد !
ليس الجسد غرفة ولا سقفا ، أنه نافذة ، طبيعة ملتاعة ، هجرة في الدواخل الحميمة ... وفي ذات الجسد ، هجرة إلي حيز آخر ، بعيدا عن الرهانية ، وبعيدا عن " الصفقات " . يكون الجسد أحيانا خارج عنوانه ، لكنه يظل مزهوا بذاته ، وهو الثيمة العظمي ، بالغة الثراء والموجدة ، في الحوار السري بين الإنسان المعافي وعوالمه ، وبين الإنسان نفسه والوجود والألوهة ... هو مع ، وهو أيضا ضد ، وهو المغايرة ، لكنه في الذات التي هي ذاته نفسها ، هو نفسه ، وقد أضحي بفضل المنورين العظام غاية أحيانا وسلما لبلوغ الأعالي ! هو ، إذن ، محسوب علي ما يأتي ويسقط علي الراهن فيكون فيه ، راهننا في علاقاته المتنوعة المعقدة ، فيكون هو ما ينبثق ، ما لا يسكن بعد الآن . تلك البرهة من قصيدة الجسد لها ، أيضا ، في الرقص حالات ، حالات الجسد نفسه في أطواره وتجلياته وهو يعيش الحياة . حقا ، كل روح ظهر في جسم ، هو ناري أو نوري ، هكذا كما رأه أبن عربي .
وبعد ، وبما أننا في حضرة أحدوثة تاجوج ، حيث أفضي جمال الجسد إلي الموت ، فلنا أن نتأمل كثيرا في الجسد ، لنري كيف للمرأة أن تكون – وإن تجلت من داخله – أجمل الكائنات وأكثرهن فعالية في الحياة وأملا في الغد الجميل . أنني ، أتطلع ، وكلي أمل ، أن نفتح ، لمناسبة هذه التفكرات في أحدوثة تاجوج ، نافذة للحوار و ... مزيدا من التفكر اليانع في شأن المرأة والجسد ، المرأة التي نحبها ولا نعيش الحياة إلا برفقتها الحميمة ، والجسد الذي نوده يكون في إنعتاقه وتحرره و ... جماله الذي يهب الحياة لا أن يقتلها !
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
* من آخر كتابات الشاعر اللبناني الكبير الراحل أنسي الحاج التي أتجه إليها أخريات حياته .
* " لغز تاجوج " – مبارك أزرق . الناشر مؤسسة إشراقه للنشر والتوزيع والإعلان بالخرطوم ، طباعة مطبعة نهضة مصر بالفجالة بالقاهرة ط أولي 1987 .
* " كجراي عاشق الحرية والقول الفصيح / دراسات في حياته وشعره " – جابر حسين ، الشركة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة ط أولي 2007 ص ( 260 ) .
*لغز تاجوج ص ( 68/69 ) .
* كانت النساء السودانيات إلي وقت قريب يتجملن بوخز شفتهن السفلي بالإبر بعد غمر سن مقدمتها بالكحل فتتشرب وتمتص مواطن الوخز ماء الكحل فتصطبغ – من بعد – باللون الأزرق فتغدو الشفة زرقاء كحلية اللون ، وكان فاشيا في الناس وقتذاك أن ذلك أحدي جماليات الشفاه في وجه النساء التي تظهرهن في جمالهن وأنوثتهن !
* " لغز تاجوج " ص ( 60/61/62 ) .
* مكتبة أحمد طه : Sudanese On Line
* " تاجوج ولطعة الكركار علي ثوب الشيفون " لأحمد طه الجنرال من كتاب :" قصائد من الشرق " اعداد وتقديم حسان أبوعاقلة أبو سن – شركة كسلا للطباعة والنشر ، بدون تاريخ اصدار ، ص ( 97/98 ).
* " الكركار " ، خليط من شحم الضأن وزيت السمسم والقرنفل والمحلب والصندل وغيرها من اليب ذوات الروائح الطيبة ، وتستخدم النساء هذا الخلي فيمسحن ويدلكن به أجسادهن ويتبخرن بدخانه ورائحته فينعم ويرطب الجسد .
* " ثوب الشيفون " ثوب سوداني كان موضة مرغوبة لدي النساء وقتذاك .
* " تلفحت " أي أحاطت جسدها به فارتدته .
*" بنقالي " ثوب رجالي منسوج يدويا كان موضة في الرجال أيضا ، ولرما رمز به الشاعر هنا للمعاصرة لدي المحلق .
* " أفرو " تسريحة رجالية في تسريحة شعر الرأس لدي الشباب وقتذاك وابتدرته بعض النساء أيضا كما عند انجيلا ديفز !
* قصيدة " كسلا " – اسحق الحلنقي ، كتاب " قصائد من الشرق " ص ( 125 ) . وكان قد أشار إلي بقصيدة الحلنقي الصديق أحمد طه الجنرال موضحا أن للحلنقي شعرا جميلا بالفصحي ولا يقتصر إبداعه الشعري علي العامية في الشعر الغنائي .
لكأنني سأخاطب سيدة الأحدوثة تاجوج فأنتبه إليها ، و ... إلي الجسد في آن ، وكليهما في كينونة المرأة ، في جمالها الإنساني كأمرأة:
فوق جسدك الشهي
أرسم خارطة لوعيك
للتفكرات في الجسد الأنيق
و ... فيك
حلقة مجسدة أيضا
ذات إيقاع
أبدأ معها من القاع ،
ثم أصعد ...
أصعد حتي دوالي العنب
ومذاق السكر
ستجدينه حاضرا هنا ،
في الجسد
الإيقاع ناصعا بهيا ...
إيقاع الجسد !
ليس الجسد غرفة ولا سقفا ، أنه نافذة ، طبيعة ملتاعة ، هجرة في الدواخل الحميمة ... وفي ذات الجسد ، هجرة إلي حيز آخر ، بعيدا عن الرهانية ، وبعيدا عن " الصفقات " . يكون الجسد أحيانا خارج عنوانه ، لكنه يظل مزهوا بذاته ، وهو الثيمة العظمي ، بالغة الثراء والموجدة ، في الحوار السري بين الإنسان المعافي وعوالمه ، وبين الإنسان نفسه والوجود والألوهة ... هو مع ، وهو أيضا ضد ، وهو المغايرة ، لكنه في الذات التي هي ذاته نفسها ، هو نفسه ، وقد أضحي بفضل المنورين العظام غاية أحيانا وسلما لبلوغ الأعالي ! هو ، إذن ، محسوب علي ما يأتي ويسقط علي الراهن فيكون فيه ، راهننا في علاقاته المتنوعة المعقدة ، فيكون هو ما ينبثق ، ما لا يسكن بعد الآن . تلك البرهة من قصيدة الجسد لها ، أيضا ، في الرقص حالات ، حالات الجسد نفسه في أطواره وتجلياته وهو يعيش الحياة . حقا ، كل روح ظهر في جسم ، هو ناري أو نوري ، هكذا كما رأه أبن عربي .
وبعد ، وبما أننا في حضرة أحدوثة تاجوج ، حيث أفضي جمال الجسد إلي الموت ، فلنا أن نتأمل كثيرا في الجسد ، لنري كيف للمرأة أن تكون – وإن تجلت من داخله – أجمل الكائنات وأكثرهن فعالية في الحياة وأملا في الغد الجميل . أنني ، أتطلع ، وكلي أمل ، أن نفتح ، لمناسبة هذه التفكرات في أحدوثة تاجوج ، نافذة للحوار و ... مزيدا من التفكر اليانع في شأن المرأة والجسد ، المرأة التي نحبها ولا نعيش الحياة إلا برفقتها الحميمة ، والجسد الذي نوده يكون في إنعتاقه وتحرره و ... جماله الذي يهب الحياة لا أن يقتلها !
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
* من آخر كتابات الشاعر اللبناني الكبير الراحل أنسي الحاج التي أتجه إليها أخريات حياته .
* " لغز تاجوج " – مبارك أزرق . الناشر مؤسسة إشراقه للنشر والتوزيع والإعلان بالخرطوم ، طباعة مطبعة نهضة مصر بالفجالة بالقاهرة ط أولي 1987 .
* " كجراي عاشق الحرية والقول الفصيح / دراسات في حياته وشعره " – جابر حسين ، الشركة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة ط أولي 2007 ص ( 260 ) .
*لغز تاجوج ص ( 68/69 ) .
* كانت النساء السودانيات إلي وقت قريب يتجملن بوخز شفتهن السفلي بالإبر بعد غمر سن مقدمتها بالكحل فتتشرب وتمتص مواطن الوخز ماء الكحل فتصطبغ – من بعد – باللون الأزرق فتغدو الشفة زرقاء كحلية اللون ، وكان فاشيا في الناس وقتذاك أن ذلك أحدي جماليات الشفاه في وجه النساء التي تظهرهن في جمالهن وأنوثتهن !
* " لغز تاجوج " ص ( 60/61/62 ) .
* مكتبة أحمد طه : Sudanese On Line
* " تاجوج ولطعة الكركار علي ثوب الشيفون " لأحمد طه الجنرال من كتاب :" قصائد من الشرق " اعداد وتقديم حسان أبوعاقلة أبو سن – شركة كسلا للطباعة والنشر ، بدون تاريخ اصدار ، ص ( 97/98 ).
* " الكركار " ، خليط من شحم الضأن وزيت السمسم والقرنفل والمحلب والصندل وغيرها من اليب ذوات الروائح الطيبة ، وتستخدم النساء هذا الخلي فيمسحن ويدلكن به أجسادهن ويتبخرن بدخانه ورائحته فينعم ويرطب الجسد .
* " ثوب الشيفون " ثوب سوداني كان موضة مرغوبة لدي النساء وقتذاك .
* " تلفحت " أي أحاطت جسدها به فارتدته .
*" بنقالي " ثوب رجالي منسوج يدويا كان موضة في الرجال أيضا ، ولرما رمز به الشاعر هنا للمعاصرة لدي المحلق .
* " أفرو " تسريحة رجالية في تسريحة شعر الرأس لدي الشباب وقتذاك وابتدرته بعض النساء أيضا كما عند انجيلا ديفز !
* قصيدة " كسلا " – اسحق الحلنقي ، كتاب " قصائد من الشرق " ص ( 125 ) . وكان قد أشار إلي بقصيدة الحلنقي الصديق أحمد طه الجنرال موضحا أن للحلنقي شعرا جميلا بالفصحي ولا يقتصر إبداعه الشعري علي العامية في الشعر الغنائي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق