Powered By Blogger

الاثنين، أبريل 07، 2014

محجوب شريف مات مقتولا !





-----------------------------

" ياحبيبي ،
نقوم الآن إليك
يخالطنا الشوق ،
حتي سماؤك ساهرة للغياب !
كأن لقاؤك هذا فراق
ولم يبق فينا سوي الجرح
شبابة للعناق !
فلا شئ يجمعنا غير صوتك
ولا شئ يقتلنا كالوطن
لاشئ يقتلنا كالوطن !
"
                                 - ديشاب -

عند الساعة الثانية بعد ظهر الأربعاء 2 أبريل الجاري رحل عن عالمنا الشاعر الكبير محجوب شريف ، لكنه لم يرحل في صمت المشرفون علي الموت ، فقد كان ضاجا بالحياة فرحل في صخب و ... عنفوان يطلع في الناس حتي آخر أنفاس حياته !  الفن ليس ترفا ، ولا تهويمات هلامية ، بل أنه حاجة ملحة وضرورة . وهو أيضا أمنية وإجتراح ، أمنية اللاموجود ، وفي ذات الوقت – هو الوسيلة لتحقيق تلك الأمنية وإجتراحاتها المختلفة والمتنوعة . و الثورة نفسها ، في مبتدأ أمرها ، هي أيضا شعر ، والإنسان الكامل شاعر . ونقصد بالشعر هنا المزيد من الواقع ، من المعايشة الحميمة للشعب وقضايا الوطن ، من النور ، من الشعور المفرط بالوجود الإنسائي ، من الخيال المبدع المحلق ، خيال الشعب المبدع ، الشعب المعلم علي قول محجوب ، ذلك الخيال الذي يستمد منه الشاعر مادته الأساسية وجوهر إبداعه الحي . فالشعر سلاح لا مرئي ، أشبه ما يكون بحرب العصابات في أزمنة النهوض الثوري ، لكنها تأخذ ميدانها ومجال معاركها في النفس الإنسانية ، حرب مستعرة ومتقدة ، بل محرقة ، وشديدة العنفوان تشن ، كل لحظة وفي تواتر متوهج علي الأعراف والمصالح الذاتية المصطنعة والرياء في النقد الذاتي ، حرب علي الأفكار المبتذلة البالية ، ثم تكون – مثلما كتائب المقاتلين الثوريين – حشود تمشي بإصرار في سبيل الذكاء المبدع . في بلادنا بدأت في الظهور ملامح قضية جليلة السمات ، وفي ظني أنه يجب التوقف قليلا أمامها وتفحصها بجدية ومسئولية كاملة ثم نبدأ ، جميعنا ، في تشريحها ومعرفة جميع وجوهها ...وهي قضية  " السعادة الذاتية " ، وأعني بها راحة الضمير والاطمئنان في الحياة ، وهي نفسها قضية الإبداع الذاتي وكيف يكون في تجلياته المتنوعة الكثيرة التي ترتبط ، بأوثق رباط ، مع قضية شعبنا المركزية : قضية الحرية والديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان . لهذا كله ، وبسبب منه أيضا ، فأننا نري أنه لابد من عودة الشعر – مجددا – إلي وظيفته الحقيقية ، كعنصر ثوري خلاق ، مؤكدا علي قيمة الإنسان / الشاعر ، خالقا وثوريا وسيدا لمصيره كله ، حيث يتحد لديه الرمز الذاتي بالرمز الجماعي ... ويصبح الشكل والمضمون في قصيدته وحدة عضوية واحدة تمسك بجسد القصيدة وملامحها ، فتصبح هي نفسها مصهرا حقيقيا وانفعالا داخليا ونسغا حيا ...  هكذا تغدو وقد حلت فيها بوضوح جلي ملامح وروح الزمن الإنساني . وعند ذلك ستجد – لا مندوحة – الروح الكلية للعالم وللكون وقد تجللت وتزينت بها القصيدة كلها ، ثم أن الشاعر نفسه – عند نهاية أمره – ستجده غارق حتي أذنيه في بلبال هذا العالم ، في بلبال الثورة والإنسان ، تلك بعضا كثيرا من محارق محجوب شريف ، التي أمسكت به من الروح والدم والعصب الحي في المخيلة و ... في الجسد ، تلك – في ظني – هي محارقه التي أودت به : الوطن !
الوطن تكاثرت عليه النصال ، وأمتد فيه النزيف وفاضت منه الدماء ، وسادت عليه الديكتاتوريات ، تذهب واحدة لتأتي بغيرها ، وفشت فيه الذئاب والثعالب و ... الكلاب ، غدا ساحة نتنة تلغ فيها الضواري والدم يساقط من أشداقها ، ذهب الجنوب ولم يتوقف القتل يوما واحدا لا في الغرب ولا في الشرق ، أستشري الفساد وطغي وأستبد ، والضعف فينا قد أمتد وأمتد ، فلا صحة في بدن الشعب ولا تعليم لأطفاله ولا رعاية من أي نوع ، وزاد علي الناس وطء الفقر والمسغبة ، وطال القمع والاضطهاد والظلم والقتل والسجن أوسع قطات الشعب علي امتداد الوطن " الحدادي مدادي " علي قول شريف أيضا ، أصبحت الحياة جحيما لا يطاق ، فتحركت المحارق لتنال من القلوب ، توهن الجسد حتي تضمحل منه الحياة فتسلمه إلي الموت ! فكيف لمحجوب شريف أن لا يموت وتلك المحارق كلها تتناهشه من كل أطرافه ودواخله ؟ وسط هذا المعمعان الصاخب المرعب ظل محجوب شريف يعيش قصيدته ، فنه وقضيته ومواقفه كلها ، يكون ، يوميا ، مشدودا بين طرفي توتر لابد أن يفضي إلي فعل ما ، إلي قصيدة أو أغنية مكتملة التكوين والبهاء والجدوي ، أو إلي نشيد صاخب مدوي يشد من أذر أمته ويحفزها للنضال وللصراع ... يكون في أتون الخلق الفني بالجسد العاري والقلب العامر بحب الناس ولا يستقر أبدا علي حال ساكنة ، ولا هو يركن ، ولو لبرهة واحدة ، للهدوء المخالف لنواميس الفن ووجدان الفنان ، فتراه أينما وليت وجهك ، خائضا في الساحة تلو الساحة ، جهير الصوت ، شامخ القامة ، مترعة نفسه بالتفاؤل والأمل والأغنيات ويصدح بالأناشيد مبشرا بالغد الجميل الذي يجئ لا محالة ، وساخطا السخط كله ضد ديكتاتورية الحاكم الظالم وأجهزة أمنه وأدوات قمعه وناسه ومشايعوه من الكذبة والمنافقون . كأنه وهو يفعل ذلك كله مثله مثل " بروفروك " في قصيدة اليوت حين يتساءل في جسارة وثقة عالية بالنفس لكي يحفز نفسه ذاتها للفعل والصراع : ( أأجرأ علي أن أقلق الكون ؟؟ ) . أعرف تماما أن محجوبا كثيرا جدا ما يناقش نفسه ويحاسبها ، يفعل ذلك بينه وبينها علي بلاطة ، ثم ينزلها منزلتها في قصيدته ... فقد استطاع ، برغم الظلال السوداء للديكتاتورية وخشونتها ، أن يجعل قصيدته تلعب دور النشرة والمطبوعة والمنشور ، دور الصحيفة والأذاعة والتلفزيون ، حين خلق
- بمحض قصيدته ونضاله ومواقفه – أعلاما مرموقا ومسموعا ومشاهدا لشعبه كله وللوطن . شيئا كثيرا وعميقا جدا من ذلك كله قد تحقق فعليا في تجربة محجوب شريف الشعرية ، ومثله قد تحقق في نمط حياته الفقير الفريد وفي مسار نضاله السياسي ثم تضامنه ودعمه الوافر للفقراء والمرضي والأطفال الذين جعلتهم قسوة المجتمع وخشونة الحياة علي الأرصفة و ... إلي المرضي ! تلك محارق يومية مرعبة من صنع الديكتاتوريات ، تصنع بالذين يمتلكون حس الشعر والفن والتزام جانب الشعب والوطن وقضاياه ، لمن يمتلك وعيا عميقا بالحياة كما محجوب و نقاء سريرة وإخلاص يذهب بصاحبه إلي حيث فضاءات اليقين التي يهون لأجلها حتي ماء الحياة ، حد يصيب العطب المواضع الأكثر حساسية ورهافة من الجسد ، تلك المحارق هي التي نالت من رئتي محجوب ، تلك مقاتل الحكومات الديكتاتورية تجعلها في الناس ، ولمثل محجوب أن ينال منها أوفر نصيب فتذهب عنه من جرائها الحياة و ... يكون الموت ، تماما مثلما حدث للإنسان الشيوعي النقي – نقاء المرايا تحت القمر – علي قول لوركا ، مرغني محمد شريف أبو شنب ، الذي أفسدت إليه رئتيه أجهزة أمن الإنقاذ حين أدخلت رأسه داخل جوال " شطة " حارقة  وربطوه عند العنق ليستنشق الموت فقضي بعد حين في القاهرة بينما كان الحزب يسعي لإنقاذ حياته ، فمات مقتولا ، تماما مثلما مات محجوب شريف ، مقتولا علي أيدي الديكتاتوريات التي رزء بها الوطن مرات ومرات وحتي يوم الناس هذا ، مات مقتولا جراء السجن والتعذيب والمطاردة والفصل التعسفي من وظيفته و ... من جراء القمع ثقيل الوطء علي شعبه والوطن ،
مسيرته الشعرية ، واندفاعه الصاخب في الحياة نفسها – في حياته الشخصية والعامة – بذلك التوق الجمالي الشفيف ، والغني الثر والصدق الكلي يخالطه بعضا كثيرا من نبالة الإنسان يحف به ويحيطه الأمل العريض الفسيح الذي أبدا ما فترت همته تجاهه ولا غاب عن ناظريه وقلبه الوسيم أو عن قصيدته لحظة واحدة ، يعتبر ، بمقاييس الإنسانية ونبلها ووعيها الناضج ، وأيضا وأيضا ، بمقاييس الشعر ومتطلباته جميعها ، نقول : تعتبر ، في خريطة شعرنا المعاصر نسيج وحده و ... قل نظيره ، وأنموذجا ساطعا وباهيا لكيف للكلمة أن تكون رؤيا مكتملة في الحياة ، وكيف لها – أيضا – أن تكون هي بذاتها موقفا  متفردا تجاه الحياة بإحداثياتها وتجلياتها اليومية والكونية في إطارها الإنساني العام ... ويمر العام تلو العام والشاعر في خضم الشعر الذي هو نفسه خضم الحياة وقد تحولت قصيدته وإشارات حياته إلي نشيد عام ، موقعا عليه فيما بين الشاعر والناس والأشياء والحياة ، مندغمة – كإنثيال الدم – في جملة الإبداع العام للشاعر ، خالقا لنفسه مساحة مضيئة ودافئة في المجري العظيم ، بالغ الخصب ، للشعر السوداني ، وإذا سأل أحدا عما قدمه للشعب والوطن ، فأنه ، لاشك كان سيقول بذات ما قال به الشهيد عبد الخالق ردا علي السؤال البائس الذي سأله السفاح نميري عما قدمه للشعب السوداني : ( الوعي ، الوعي بقدر ما استطعت ! ) ، لكن الديكتاتوريات قلما تفهم ما تكون عليه الشعوب في شأن الطغاة !
وكم أبكاني حديث مبارك بشير إلي محجوب شريف في قصيدته الجميلة المؤثرة " قصيدة إلي محجوب شريف " * :
( ... كيف ترضي
  يا سمح الأناشيد والغنا
  أزنت الذي
  صارعت كل الأنظمة
  وسرجت خيل
  كل القضايا المتعبة
  نحنا انتصرنا بيكا
  في كل الظروف المؤلمة
  غنينا ليك :
  محجوب زغاريد النساوين
  التعابه  
  محجوب أغاريد الوليدات
  والبنيات الغلابة
  محجوب تباشير الصباحات
  البترجع
  بعد الليالي المدلهمات
  والوجع .
  محجوب حنان طفلا كبير
  لكنو دايما مفتري
  علي كل ظالم ومدعي
  كيف ينحني
  هذا المغني المستحيل
  هذا الذي
  صرع الطواغيت الصغار
  قدام " زيادة سكري " ؟! ) ...

تماما يا مبارك ، " زيادة سكري " هي التي داهمته وهو في الداء الوبيل الذي أصابته الديكتاتورية به وسار به يغني في وجع الحياة ويعيش بأقل من ربع فاعلية رئتيه فيصرع بسلاح الشعر الجبار " الطواغيت الصغار " ، ومثلما قال محمود العالم فقد كان دائما في تذكر ناهض : ( أتذكر : وقفة طويلة أمام حائط معتم ، " كل المساجين وشهم للحيط " . أمر قطعي ملزم ! هل من سبيل لعبور هذا الحائط وتجاوزه ؟ نعم ... سبيل واحد ، إلغاؤه ، كيف ؟ البعض فقد الوعي ، آخرون إنهاروا جسمانيا أو نفسيا ، وآخرون صنعوا نافذة خرجوا منها إلي ذكرياتهم ، إلي المتخيل ... )* . تحت ظلال الديكتاتورية تحول الون إلي زنزانة ضيقة ، خانقة تكاد تقطع الأنفاس ، لكن محجوبا سار – بيقين راسخ في رحلة الخيال المحرر ، إلغاء الزنزانة بضوء فكرة ، بالأمل في الغد الأجمل و ... بالشعر ، قصيدة أثر قصيدة ، أغنية وحلم يشحذ حواس ذاته نفسها وحواس شعبه ، يتابع تغيرات الأيام والليالي بخطوط وكلمات محفورة تتابع ، تحصي التجدد والتغيير عبر الحوائط الصماء في " السجن السميك " ، فكان مسيره العظيم في دروب الحرية المزهرة . كان واعيا جدا بمرضه وحالته حد أن أصبح صديقا له ، يسامره وينادمه ويضاحكه ، يقول :
( ... أغني
  وكم جرح فيني
  وبحلم كنت بالأيام
  تصالحني وتصافيني
  ولمن شفتك اتوهجت
  ظنيتك حتلفيني
  وتعافيني
  حليلو العمر ما انجم
  رجع للحزن والحمي .
  وداعا
  أقولها في اعصابي
  كم إعصار
  هدايانا الصغيرة ... صغيرة
  للتذكار
  خوفي عليها من طول الزمن
  والنار
  وخوفي علي ... آه
  من وحشة المشوار
  حليلو العمر ما انجم
  رجع للحزن والحمي . ) * ...

في اللحظات التي كان الموت يحيط به منتظرا لحظة الخطف ، كان يطمئننا بمرح الإنسان المحب للحياة ويعيش الأمل : ( ... بشكل قاطع المعنويات لم تنزل أبدا ، ولأنها عالية جدا جدا أحاول إنزالها شوية . )* . محجوب عاش جميلا كأجمل ما يكون الإنسان ، نقيا وصاحب ضمير يقظ ، نبيلا وذكي القلب ، شاعرا كبيرا و عاشقا للحياة . و ... الآن وقد تركتنا في الفعل الجميل وحب الوطن ، فقد آن الوقت لنمشي علي ذات دربك ، وقد مهدت لنا دروب المسير ، نمشي ونغني ونناضل ونمشي نحو حلمك / حلمنا في الحياة الجميلة القادمة و ... بذات الحسرة والدمع نسألك :
( محبة البينا ...
  ولأ صداقة ؟
  ولأ بداية فرقة طويلة ؟ ) ...
لا ، ليس فراقا البته ، فستكون في ضمير شعبنا صوتا بهيا وأغنيات في حبه ، و أناشيد ورايات عاليات في نضاله .
العزاء للوطن والشعب وللحزب ، لأميرة الجزولي زوج الشاعر الكبير ورفيقة حياته العامرة ، للجميلات ، مريم ومي ، ولآل الجزولي وشريف معا ، ولمحجوب الخلود والبقاء .
------------------------------------------------
* بعضا من هذه الكتابة من مخطوطتي " حول مسيرة محجوب شريف الشعرية والنضالية " .
* " قصيدة إلي محجوب شريف " لمبارك بشير ، عدد الصحافة الأسبوعي أشراف أحمد طه الجمعة 4 أبريل 2014 .
* " مفاهيم وقضايا اشكالية " محمود أمين العالم – دار الثقافة الجديدة ط أولي 1989 ص(5) .
* " السنبلاية " محجوب شريف ، دار عزة الخرطوم ط أولي 1998 ص ( 32/33 ) .
* المصدر السابق ص(20) .
* من مهاتفة طويلة مع الشاعر لدي عودته من رحلة علاجه الآخيرة بألمانيا .

ليست هناك تعليقات: