Powered By Blogger

الثلاثاء، ديسمبر 31، 2013

أبكتني شاعرة !





  • حين أبكتني الشاعرة فرات أسبر ...
    -----------------------------------

    أيها الشعراء / الشاعرات ، كفوا قليلا عنا الحزن في العام الجديد !

    هذا المساء كنت في تأمل هذا العام الذي يتأهب للرحيل عن عالمنا ، كنت ، أيضا ، أتوجس خشية من عمره الباقي القصير ، ولست حزينا لرحيله ، فقد أدمي قلبي بكوارثه الكثيرة وبالدم الذي سال فيه والمباغتات المرعبة التي نثرها في أيامنا ، أسعي السعي كله أن أكون في الفرح إذ أدلف للعام الجديد ! قلت ، لأدخل فأري ماذا في " الفيس " هذا المساء ، وأعترف ، تجولت وأنا " أتصيد الشعر " ، أكثر ما يعنيني هنا . وجدت أمامي نصا للشاعرة فرات أسبر التي أحب شعرها ويعجبني ، ولا أخفي أعجابي بشخصيتها الهادئة الوقورة في جمال فطنتها وإنتباهتها للحظات الشعر في حياتنا ، فشرعت – بحب – أقرأ النص القصير ، قصير لكنه عميق الدلالة ومبهر في صورته ولغته :

    " شبح الموت يؤرّقني
    فيا سماء اطلقي سراح النجوم
    عابرةٌ أنا بين الكواكب
    ألمُّ جراحها . " ....

    بكيت ! لقد أصابني بالخوف والرعب ، فبكيت .
    لماذا يداهمني الخوف والحزن وأنا أتقمصني فرحا برحيل عام الأحزان ، لماذا يافرات العزيزة ؟
    رحت ، مذهولا راعش القلب ، أتأمل – رغما عني – النص العجيب . في تفكر الموت ، وحين يحضر في الذاكرة يلامس القلب و" يؤرقه " ، فمن ذا هو الذي يألفه ويؤانسه ، من هو الذي لا يبالي بسهامه المسمومات وينسي جراحه وآلامه القاتلة والفقدانات فيجرؤ علي مجالسته أو حتي مجرد النظر إليه ولو من بعيد ، ومتي ، في هذه البرهة النادرة في ما بين رحيل عام ملئ بالفواجع والتأهب لرؤية ومعايشة فرح قادم نأمله ونوده ؟ تأخذنا الصورة الشعرية في النص إلي الذري " المهلكات " ، إلي السماء في أعلي أعاليها ، وهي تناديها ، لا تتوسلها بل لتكاد تأمرها ، لفرط ثقتها إنها ستجيبها إلي صيغتها " المرعبة ":
    " ... أطلقي سراح النجوم " ، لتكون تلك النجوم في سوحها فتواكب ذلك المشهد الذي أرعبني ، لتكون الشاهدة وفي ذكر ما سيجري ... ستكون " أنا " الشاعرة حاضرة في قلب المشهد التراجيدي ، في حرارة الدوامة الفضائية : " ... عابرة أنا بين الكواكب
    ألم جراحها " ! ...
    هي الجراح إذن ، هنا لدي الكواكب التي نحبها ويبادلها الشعر الحب والنجوي ، لكنها الآن مجرحة وفي نزيفها ، فهل ستفلح في " لملمة جراحها " ، أم – وهذا علي الأرجح – ستدور معها في الفلك العظيم مجرحة هي الآخري وفي نزيفها ... فيذهبوا ، معا ، في البياض اللانهائي ؟
    تذكرت للتو – جراء هذا المشهد – الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكري ، الذي ، كثيرا جدا ما هام في خلاء الفضاء في جل شعره الجميل ، ولديه فضائيات " مرعبة " ظلت علي الدوام تشئ بنهايته الشخصية وإن لم يلتفت إليها أحد وهي في دورانها بين الناس ! أبو ذكري كأن أستاذا في جامعة الخرطوم ، مختصا في اللغات والترجمة ، ثم أبتعث إلي موسكو لنيل الدكتوراه ، يقول أبو ذكري في بعض شعره :
    " لي سماء غريبة
    أتأملها في الخفاء
    وأهدهدها ساهما في المساء
    وأغني لها أجمل الأغنيات
    بصوتي الأجش الذي لا يجيد الغناء
    وأقول لها وأتمتم :
    آه ... ملاذي من القيظ والزمهرير !
    أنت يا مركبات الشروق التي تتحرك
    بين السهول الغريبة
    والسهوب الفساح التي لا يراها سوانا ! " ...
    ثم يمضي أبعد و ... أعلي :
    " يا سمائي الدخان الدخان
    صار سقفا لنبضي ونبضك
    حائطا خامسا في المكان
    جيفة في الرياح تفوح ...
    السماوات والحب ليست هنا
    والهواء المعطر ليس هنا
    أنظري !
    كلما نمنح الأرض من قلبنا
    تصبح الأرض منفي لنا
    ولاشواقنا " ! ...

    تطلع للفضاء ، نظر إليه وتأمله في حضوره اللانهائي المهيب ، وتاق إليه ، تطلع أن يغادر المنفي الذي هو كائن في الأرض وبدأ برنو إلي السماء ، ليكون في صحبة الكواكب كلها ونجومها اللامعات الفاتنات !
    أبو ذكري ( 1943 / 1989 ) ، طار إلي حلمه – حين حان الحين - في الفضاء ، فقذف نفسه من نافذة غرفته في الطابق 13 من مبني الأكاديمية الروسية للدراسات العليا بموسكو ذات ليلة شتوية في 16 أكتوبر 1989 بعد أن أكمل وحاز الدكتوراه بمرتبة الشرف في فقه اللغة ، هبط من ذلك العلو الشاهق كما طائر اسطوري يشق عباب الهواء ويقتحمه اقتحاما مندفعا ، بقوي هائلة ، ليرتطم برصيف الشارع لكأنه يعانق الأرض ، منفاه ، ويعمدها بالدم الحار !
    يااااااااه ، لم كل ذلك ونحن في التطلع إلي فرح مرتجي ؟
    فرات العزيزة ، لقد أمتعتني شيئا ، لكنك – أيضا – أرعبتني فأبكيتني هذا المساء !
    وإن كانت تبقت لي كلمة ، فأنني أجعلها في صيغة " الأرانب " ، برجاء أبلغ به حد التوسل لمن يكتبون الشعر ، أن يبتعدوا قليلا– لأجل هذا القادم الجديد ولأجل نقاء الشعر – عن الفواجع والحزن والجروح النازفة ، وأن يجعلوا من الموت نفسه وجها جميلا في الحياة ، أليست جميلة هي الحياة ، و " تستحق أن تعاش " علي قول الحبيب درويش ؟
    فرات ، شاعرتنا المبدعة ، شكرا جميلا إليك ، لكنني – بسبب من هذا النص – بت أخافك / أخاف ، أيضا إليك ، عليك السلام أيتها العزيزة !
    -------------------------------------------------------
    * من أجمل ما كتب عن فضائيات أبو ذكري وحيثيات وتداعيات حياته ، كتابان لصديقه ورفيقه هنا وهناك الشاعر والكاتب والقانوني والسياسي اليساري الكبير كمال الجزولي هما : " أبو ذكري ، نهاية العالم خلف النافذة " و " تذكارية في جدل التوهج والإنتحار " !
    * الصور : الشاعرة فرات / أبو ذكري / كمال الجزولي في مقدمة الصورة وبجانبه أبو ذكري في موسكو.

 

ليست هناك تعليقات: