علي عبد القيوم : لا نتذكره ، فأبدا ما نسيناه حتي نتذكره ،
معكم ، نسامره الليلة ، هذا الجميل !
------------------------------------------------------
" إشتهاءك الموت، ومذاق فمه ،
الحُزن العميق في مرحك
البطولى.
سيمُرْ زمن طويل قبل أن
يُولد
-
إِن وُلد
–
من هو نبيل مثلك
غنىُ بالمغامرةِ مثلك
نُغنى لجمال وجهك
بكلماتٍ كالأنين
ونتذكرك، نسيماً جميلاً
تسرى بيننا.. " .
-
لوركا
-
يبدو أن الشعراء هم أكثر
الناس الذين يحصلون على الهبات المكتشفة كُلها، وفى ذات الوقت، يكتشفون دون نسيان
– كما فعل " بودلير " – رقياتهم المؤذية كلها، يفعلون ذلك وهم يعيشون
الحياة بكل عنفوانها ويعيشون الشعر! تمر السنون تلو السنون ، المرء يُستهلك،
يزدهر، يُعانى دوامات الصراع والجدوى، بإشراقٍ شفيف وحساسية تخالطها فيوضات خشنة
لواقع الحياة وتجلياتها! والسنون تجلب للمرء الحياة، وأحياناً كثيرة تأخذ منه هذه
الحياة نفسها، فتصير " التوديعات " ألِيفة لأنها لصيقة بحياتنا ومعاشنا،
يدخل الأصدقاء السجون أو يخرجون منها، يذهبون إلى المنافى البعيدات أو هم يعيشون
الغربة الأليمة في الوطن ، أو هم ببساطة يموتون ! وهم بعيدون أو قريبون منا، يبدو
لنا أنهم يموتون أقل، ونقول أنهم يستمرون يحيون في دواخلنا كما كانوا ! ولكننا –
بسببٍ غامض – نمسك عن الكتابة عنهم، ربما خوفاً من رتوب وتراكم الألم الإنسانى
تجاه الموت ! إِذ أن المرء - عادةً – لا يحب أن يصبح فهرساً للمتوفين، وهم الذين كانوا
أكثر الناس قُرباً وحُباً إلى قلوبنا !
بهذه الروح
الأسيانة، ووخزات الرحيل تؤلم القلب وتعصر الفؤاد ، نسامره الليلة ، هذا الصديق
الحبيب، الإنسان الرائع الجميل، الشاعر الكبير على عبد القيوم. وفى كل عام، عندما
تحل ذكراه المجيدة، نردد شعره الذي نكاد نحفظه ملء قلوبنا ويعيش الحياة في صحبتنا
... لكأني أسمعه الآن ، بوجهه السمح ووسامة ابتسامته ، يقول لنا ، هذا المساء :
يا لتلك العيون المريبة :
من أين هذه الفداحة في اللغة ...
وفي الشعر ؟
لماذا العيون ترتاب لشعري
وتنسي الظلاما ؟
ألم أكن آوي إلي شهرزادي / البلاد ،
فتمنحني قهوة مرة ...
ساعدا وراية ،
لا كلاما ؟
والكلام الآن – أيها الجميلون- -
في " علي الزين " ،
بهيا أراه .
حسنا ...
سابتاع منكم كتابا للمرحلة
وأسرق منكم سلاما
فمن ذا الذي يراني سهاما
وذاك الذي يراني مناما ...
وذلك الذي يراني في سماء الشعر
وردا وغماما !
يا لتلك العيون المريبة :
من أين هذه الفداحة في اللغة ...
وفي الشعر ؟
لماذا العيون ترتاب لشعري
وتنسي الظلاما ؟
ألم أكن آوي إلي شهرزادي / البلاد ،
فتمنحني قهوة مرة ...
ساعدا وراية ،
لا كلاما ؟
والكلام الآن – أيها الجميلون- -
في " علي الزين " ،
بهيا أراه .
حسنا ...
سابتاع منكم كتابا للمرحلة
وأسرق منكم سلاما
فمن ذا الذي يراني سهاما
وذاك الذي يراني مناما ...
وذلك الذي يراني في سماء الشعر
وردا وغماما !
على عبد القيوم كان
مُقِلاً في كتابة الشعر، تمتلئ نفسه بالرؤيا الحارقة للشعر، لكنه قليلاً ما يرتاح
عنها على الورق. هو نفسه كان يدرك ذلك، قال في مفتتح ديوانه الوحيد الذى نشره في
أخريات حياته بالقاهرة: " الخيل والحواجز "، تحت عنوان: " تَعِلةْ
المُقِلْ ":
" قد كنت
دوماً ضنيناً
بالشعرٍِ
دوماً مُقِلاً
أفوقُ صحبِى هياماً
وأعتليهم تِعلة !
ياتاجَ رأسى سلاماً
يأتيك فوق التجلة
من الجنوب بروقاً
من الشمال أهلهْ
يَاتاج رأسى سلاماً
يأتيك فوق التجلة " .
بضع وأربعون قصيدة هى
جملة ما بين أيدينا من شعره المنشور، وهو كمُ جد محدود بالنسبة لشاعر كبير في قامة
على عبد القيوم! وشعره، هذا القليل، قد ذاع في الناس وأشهره شاعراً شعركبيراً يُعد
من شعراؤنا المُجيدون، لقد تمتع شعره بالجودة والنصاعة ، في صوره ورؤياه ومعانيه
ذات الدلالات والإحالات التى تستمد بريقها وتوهجها من الحياة الصاخبة من حوله.
ولكن، أيكون هذا هو كل شعره أم أن هنالك أشعاراً أُخرى مُبعثرة تنتظر اليد التى
تمتد إليها فتجمعها وتعدها للنشر؟! نحن نرجح أن هنالك بعضاً كثيراً من القصائد لدى
بعض الأصدقاء وأُسرته، فقد عرفت أنه قد كتب في أُخريات سنينه شعراً وقصائد تنتظر هى
الأُخرى تلك السانحة التى تُقيِض لها النشر والزيوع!
أما ما يمكنها أن تؤشر إليه بأصبع الشعر ذاتها ، في التجربة ممكنة الوسع والفهم والتصورات ، في تجربة عبد القيوم الشعرية والحياتية ، في وجهة شعريتها وفي مواقفها من العالم ومن الحياة ، في الاطارالعام لحالة الشعر عندنا الآن ، هي ، علي التحديد ، تكمن في بانوراما السؤال المثير بحق للقلق والتساؤل هنا ، هي علاقة المكتوب الشعري لديه بالآخر الشعري الحادث بيننا بملامحه كلها الآن في شعرنا وذاك الذي من حولنا من التجارب الآخري، من التراث الشعري نفسه والمصائر الشعرية في حلمية رؤاها ووجودها بالذات . لعل صعوبة السؤال تتجلي في عدم الاتفاق – بعد – علي أفضلية ما ، لشعر ما ، خارج هذا الواقع الملتبس الذي بحاصرنا ! أنني أنظر إلي تجربة علي عبد القيوم الشعرية عبر هذه الرؤية ، فأراه عاشقا للبلاد الكبيرة : للحبيبة والوطن معا ، الحبيبة المرأة ، والحبيبة الوطن ، بل ما يعتمل داخلهما من اضاءات ورؤيات وملامح يشئ الشعر بها و... يقول ، يحاورهما ويناجيهما ، ثم يناديهما
- بعشق كثير كبير – في أوقاته وأزمنته كلها ... الشاعر الآن ، هو هذا الوجه الجميل فينا ، وعلي عبد القيوم ليس صارخا ومناديا بشعارات المرحلة ، معنيا بالثبات في وجه المشانق والشروق فحسب ، بل هو حالم وعاشق كبير للغد في تجلياته المحرقة في الشعروفي أعماقه النقية المضيئة بنورها ، وإن كان كامنا يتخفي ، أحيانا ، بين ركام الغوايات الكثيرة المحيطة بنا !
لأجل التذكر فقط ، للذكري كي تكون ضوءا رحيما في قلوبنا ، نقول : أن كل حاضر هو أساسا امتداد لماضي ما ، وفي ذات الوقت ، هو ارهاص بمستقبل آت ، فالحاضر في راهننا الثقافي / الشعري ، هو جسر لاتصال ولانفصال أيضا ، وأرض لصراع يجري بنسق متعدد ومتنوع لكنه لا ينقطع بين ثوابت هنا ومتغيرات هناك . لكننا نلاحظ بحذر أن الماضي قد يرتمي بوطء كثير علي الحاضر حتي ليكاد يخنقه ، كما قد يلح المستقبل علي الماضي/الحاضر فيملؤه بالتوتر والتأزم والصراع ، مفجرا ومبشرا بحاضر / مستقبل جديد ، يبزغ كما الفسيل ، في تربة واقعنا الثقافي نفسه ، لامعا ويانعا ، وفي ملامح وسمات جميلة مدهشة . لعلي أراكم من المؤيدون حين أقول أننا نعيش الآن مرحلة من أخطر المراحل في تاريخنا الإنساني كله ، فمعاول المستقبل تضرب بعنف في أرض راهننا ، مبشرة بغرس إنساني جديد وفريد ومبتكر ... أنظروا إلي وجوه الثقافة عندنا الآن ، وعند غيرنا ، سترونها هذه الملامح الثقافية الجديدة مزهرة ، تطلع في بهاء مولدها المباغت ، باصرار عنيد مبتكر ، وفي تجليات الشعر تجدونها أوضح ، أكثر تألقا وفتنة ... في تجديد القصة والرواية ، في التشكيل والمسرح ، وفي الغناء والموسيقي ، ترونها بجلاء تلك الوجوه باشراق حساسيتها الجديدة العالية في الأدب والفن والشعر ... والصراع الذي قلنا به ، تجده يحتدم بين دعاة التجديد والتحديث والتقدم ، ودعاة الجمود والتشبث بالثوابت والمسلمات والمطلقات ... هو صراع أصبح مرئيا ومسموعا ، لكنه ، أحيانا ، يتخذ له اشكالا وأقنعة مختلفة ومتنوعة ، ولربما غامضة حامضة أيضا ، لكنها ، في كل أحوالها وأطوارها ، مغايرة ، تصادم السائد ، تهدم نهجه واساسياته ، وتضع لبنات البنايات الجديدة قيد الانشاء ، التي سرعان ما تراها في الصدارة ، وفي اللمعان والتوهج ، تلك الشعرية الطالعة . لقد أطلت ، حتي أتيح فهما أفضل لتجربة علي عبد القيوم ، من ملامح شعرية سابقة عليه ، ومن راهنه ذاك ، وبيئته ، بيئة الوطن وحاله ، طلعت أشعاره ، وبشغف مواجده لامس المستقبل ، الذي هو حاضرنا الآن ، فهل شاركنا ، في يوم الناس هذا ، رؤانا للغد ؟
أما ما يمكنها أن تؤشر إليه بأصبع الشعر ذاتها ، في التجربة ممكنة الوسع والفهم والتصورات ، في تجربة عبد القيوم الشعرية والحياتية ، في وجهة شعريتها وفي مواقفها من العالم ومن الحياة ، في الاطارالعام لحالة الشعر عندنا الآن ، هي ، علي التحديد ، تكمن في بانوراما السؤال المثير بحق للقلق والتساؤل هنا ، هي علاقة المكتوب الشعري لديه بالآخر الشعري الحادث بيننا بملامحه كلها الآن في شعرنا وذاك الذي من حولنا من التجارب الآخري، من التراث الشعري نفسه والمصائر الشعرية في حلمية رؤاها ووجودها بالذات . لعل صعوبة السؤال تتجلي في عدم الاتفاق – بعد – علي أفضلية ما ، لشعر ما ، خارج هذا الواقع الملتبس الذي بحاصرنا ! أنني أنظر إلي تجربة علي عبد القيوم الشعرية عبر هذه الرؤية ، فأراه عاشقا للبلاد الكبيرة : للحبيبة والوطن معا ، الحبيبة المرأة ، والحبيبة الوطن ، بل ما يعتمل داخلهما من اضاءات ورؤيات وملامح يشئ الشعر بها و... يقول ، يحاورهما ويناجيهما ، ثم يناديهما
- بعشق كثير كبير – في أوقاته وأزمنته كلها ... الشاعر الآن ، هو هذا الوجه الجميل فينا ، وعلي عبد القيوم ليس صارخا ومناديا بشعارات المرحلة ، معنيا بالثبات في وجه المشانق والشروق فحسب ، بل هو حالم وعاشق كبير للغد في تجلياته المحرقة في الشعروفي أعماقه النقية المضيئة بنورها ، وإن كان كامنا يتخفي ، أحيانا ، بين ركام الغوايات الكثيرة المحيطة بنا !
لأجل التذكر فقط ، للذكري كي تكون ضوءا رحيما في قلوبنا ، نقول : أن كل حاضر هو أساسا امتداد لماضي ما ، وفي ذات الوقت ، هو ارهاص بمستقبل آت ، فالحاضر في راهننا الثقافي / الشعري ، هو جسر لاتصال ولانفصال أيضا ، وأرض لصراع يجري بنسق متعدد ومتنوع لكنه لا ينقطع بين ثوابت هنا ومتغيرات هناك . لكننا نلاحظ بحذر أن الماضي قد يرتمي بوطء كثير علي الحاضر حتي ليكاد يخنقه ، كما قد يلح المستقبل علي الماضي/الحاضر فيملؤه بالتوتر والتأزم والصراع ، مفجرا ومبشرا بحاضر / مستقبل جديد ، يبزغ كما الفسيل ، في تربة واقعنا الثقافي نفسه ، لامعا ويانعا ، وفي ملامح وسمات جميلة مدهشة . لعلي أراكم من المؤيدون حين أقول أننا نعيش الآن مرحلة من أخطر المراحل في تاريخنا الإنساني كله ، فمعاول المستقبل تضرب بعنف في أرض راهننا ، مبشرة بغرس إنساني جديد وفريد ومبتكر ... أنظروا إلي وجوه الثقافة عندنا الآن ، وعند غيرنا ، سترونها هذه الملامح الثقافية الجديدة مزهرة ، تطلع في بهاء مولدها المباغت ، باصرار عنيد مبتكر ، وفي تجليات الشعر تجدونها أوضح ، أكثر تألقا وفتنة ... في تجديد القصة والرواية ، في التشكيل والمسرح ، وفي الغناء والموسيقي ، ترونها بجلاء تلك الوجوه باشراق حساسيتها الجديدة العالية في الأدب والفن والشعر ... والصراع الذي قلنا به ، تجده يحتدم بين دعاة التجديد والتحديث والتقدم ، ودعاة الجمود والتشبث بالثوابت والمسلمات والمطلقات ... هو صراع أصبح مرئيا ومسموعا ، لكنه ، أحيانا ، يتخذ له اشكالا وأقنعة مختلفة ومتنوعة ، ولربما غامضة حامضة أيضا ، لكنها ، في كل أحوالها وأطوارها ، مغايرة ، تصادم السائد ، تهدم نهجه واساسياته ، وتضع لبنات البنايات الجديدة قيد الانشاء ، التي سرعان ما تراها في الصدارة ، وفي اللمعان والتوهج ، تلك الشعرية الطالعة . لقد أطلت ، حتي أتيح فهما أفضل لتجربة علي عبد القيوم ، من ملامح شعرية سابقة عليه ، ومن راهنه ذاك ، وبيئته ، بيئة الوطن وحاله ، طلعت أشعاره ، وبشغف مواجده لامس المستقبل ، الذي هو حاضرنا الآن ، فهل شاركنا ، في يوم الناس هذا ، رؤانا للغد ؟
حُب جارف عنيد، ولكنه
رائع وشفيف في ذات الوقت، تمتزج فيه المرأة مع الأرض والإنسان، ذلك هو ماطبع شعر
الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى،، الحُب، أصبح – وقتذاك – جزءً من صلابة
التحدى والصمود! ذلك كان أحد أهم سمات المرحلة وتوهجها النبيل، فكان أن جعل عبد
القيوم الوسامة نفسها في قصائده ، التوليد المستمر للصور والرموز الضاجة بأصواتها
وإِنفعالاتها وإصدائها، جعل من شعره مرايا ملونه للحياة، في أشكالها البديعة
وتجلياتها الناضجة. كان يدرك، ببصيرته النفاذة ووعيه المُتقد، أنه ينتمى إلى أُمةٍ
تعتز بأن مخيلتها، ماتزال تقدم الدليل تلو الدليل على أن الشعر من أهم ميزاتها
الإبداعيه، ولهذا نجده قد حافظ – بحرصٍ وإصرارٍ أكيد –على ذلك الإنتماء في تجلياته
المتنوعه في الحياة. وشعره كله تجده يتصف بالتصاعد، تصاعد في قوته ونفسَهَ ورؤياه
، تصاعد جرأة وتفرع من داخله أساليب في كتابة القصيدة، ولكنها هى أساليبه هو
بالذات! أن شعره نحسه بين أيدينا، في الساحات وفى الشوارع، ويملأ علينا كل
النوافذ، أنه شعر يُدخلنا بهزاتٍ وتواتر عنيف إلى حيث الأُتون، أتون الأخيلة
والصور، يُدخلنا إلى حيث المساحة ذات اللهيب، إلى حيث جحيم التجربة وجنة الخلق:
" هذا المساء لو
يُباع
تنهشه الخرطوم من عيونكم
حتى تبل ريقها
ويستجم السادة الكبار
تحت أذرعه
وتستحم في ندائه الشوارع
المُرصعة ...
لكنه يِقرْ في براءة
الرمال
يستفزه توهج الأسفلت
والحديد،
، لا يُباعْ!
وهذه الخرطوم – بنت دار
الصبح –
لصة الذراعْ
تسرقكم نداوة الرذاذ
كى تَقِرْ في بيوت السادة
الكبار ،
بعد الخريف، ذهباً
وجُلنار
ومركباتٍ حافلاتٍ
بالعويّن والخدم
وأنتم هنا،
لا شئ غير رنة الجِرداق
غناؤكم ألم
خريفكم ألم
ربيعكم ألم
لكنما ربيعنا، ربيعكم
لو تبغضونه، يجيئكم
مزدهر الكفين، راقص
الهشاب
بعد الخريف الواعد السحاب
" ...
دائماً ، في شعره ،
يُمكنك أن تُلاحظ ذلك الإلتماع الثمين للمعانى والصور، يُرصع القصيدة كُلها
فيجعلها مزهوةً وفاتنه ، كما العروس في ليلة عُرسها ! أنه يستغل طاقته الشعرية
المبذولة بافياضٍ غزيرة في مخيلته ويسيطر عليها بإرادة وقوة، فيجمع نثار
اللأعقلانى – أحياناً – في قصيدته بوعىٍ ملحوظ ، وعلى أساس ذلك ينتقى الألفاظ،
يفعل ذلك في قصيدته، ولكنه في ذات الوقت يرفض كل ماهو رخو أو مُتهدل منها.
فالألفاظ لديه تخدم صورها خدمةً بارعة، أنه يجعل من قصيدته وحدة متراصة ومتماسكة
كجوهرة منفصلة عن غيرها،، " فالقصيدة الفذة هى في النهاية كناية واحدة
مُطوله، قائمة بنفسها " كما يقول جبرا.
أن في الجوهر من القصائد
ظلال واضحة لعشقٍ أشبه بتجربة موتٍ عنيف، يتفجر شموساً وكواكباً، حمماً وينابيع،
جراحات وخوارق:
" صدرها، يا
صدرها، يا صدرها ...
موسم اللذة أيام الخريف ،
الندى والشهد والظل
الوريف ،
ردفها، يا ردفها، يا
ردفها ...
وهج النوار تحت الشمسِ،
في بطن المراعى
في بطن المراعى
وإنسياب الماء ،
فى البلور،
من سطحٍ لقاعِ ...
أى شلال من الشهوة يرتج
ويغرى، ثملا !
أى نهدين إستجارا بشبابى
ثم لم يتحملا
ألم الهصرِ وأوجاعَ
الرضاعِ !
أنفضى أيتها الأمطار عن
ليلاتنا العار/ الغبارا
أفصدى تُربتنا ينزلق
الستر وتنحل
التلافيف
إزاراً فإِزارا!
وأنثرى فوق جراح الزمن
الماضى البهارا !
ثرثرى ،
ينهشم الصمت وتصطك
الصحارى،
تحت برد الرعشة الكبرى
تُناغيك، تُغنى:
أزرعى الغابات ظلاً
ودثاراً
وأرفعى ألوية العشق
الهلامى شعارا " ...
لا، ليس الشاعر وحده هو
الذى نضج وتغيَّر، بل المدينة أيضاً قد نضجت وتغيَّرت، وأصبحت الحياة فيها "
فولاذية " صلدة، مزدحمة بالحيوات والأشياء والصراعات والمتناقضات،، ولكنها
تعتمل فيها قوىٍ جديدة ورموز جديدة. والحُب يُهدده ويُطارده الشبق، والشبق عابر،
لا يستهدف شخصاً معيناً بقدر ما يستهدف الجسد دونما تعيين! ولهذا نراه يخرج من
قصيدته " شبق " ليدخل إلى رحاب المرأة، التى تتداخل في أُفقه الشعرى
وتجاريب حياته نفسها مع الوطن والحياة، حياته التى يعيشها كما يعيش رؤيا الشعر
وتصوراته، يجدهما إمرأتان أمامه، الأولى: " أُنثى منافقة ":
" كانت ولم
تزل منافقة
يختال مثلها الطاؤوس ...
لكنها تختال بين الرفضِ
والموافقة!
لذا هجرتها،
هجرتها كما عشقتها، إلى
الأبد
ياقُدرتى على الصمود
يا تماسكى
مدد، مدد، مدد ! "
...
أما الأُخرى، فهى التى
يتفيأ ظلالها ويلتجئ إليها، ليجد عندها الحضن والمهد الرحيم،
هى أذن " أُنثى
ظليلة ":
" غيمة أنتِ؟
لا.
ولست أنا شاعراً
يطمس الواقع بالمفرداتِ
النبيلة
ربما تحت وهج
الظهيرة
ظللتنى رؤاكِ
ولكن،
لم تكونى غمامة ...
كُنتِ أُنثى ظليلة "
...
أحيانا كثيرة ، ونحن
نتحدث عن تلك المرحلة بالذات ، تجد أن الأرصفة، ونعني أرصفة الشعر وقتذاك، كانت
مكتظة بحقائب كثيرة، لرجال ونساء لانعرف منهم إلا أنهم مسافرون في إثر شهوة يُراد
لها أن تكتمل وتبلغ ذراها وتخومها في تلاحم الجسد بالجسد واللذة باللذة في تلازمهم
الحميم! ولكن عبدالقيوم يبحث ، وهو يُعانى من جراء دواماتها وإرتعاشاتها وتوتراتها
عن (النبالة) والعشق النبيل ... أبداً ما عرفت شاعراً يقترب – هكذا – من
المرأة وهى في تجليات (الشهوة) و(الجسد) ثم يبتعد ليعود يطلبها هي ذاتها ،
وجوه النبالة والقيم الجديدة الفاضلة التى يطلبها ويلح في طلبها – عادة – طلائع
الثوار وحداة المجتمع! تلك رؤية مغايرة تماماً لتوجهات الشعر في تلك المرحلة ، ثم
أن علياً يعُتبر – أيضاً – من شعراء بلادنا القلائل الذين كتبوا شعراً جميلاً في
الحواس ، وعندما كتب عنها، تناولها بإعتبارها من فعاليات الجسد الإنسانى
والإدراك الحسى، وبقدرة شعرية مبصرة، وظفها لخدمة الشعر والحياة ... يقول في
(قصائد الحواس:
1 - اللسان:
ياويحه ...
يلجمه الصمت ،
فهل ألومه وقد قُطع؟!!
ينبؤنى لساني
بأن ما أقوله
ليس هو المعانى ،
وإنما الأصوات ...
وأن ما إعتراني
من أرق الليل
ومن تعثُر البيان ،
هو الذى – إذا صبرت
قد يعصمنى
من ذلة اللسان!
وربما أسلمنى للصمت
والموات!
*
* *
يا أنت يا لسانى،
يلجمك الصمت ...
فما جدواك؟؟
ومن يُكرس إحتجاجاتي
وغضبي سواك؟؟
وغضبي سواك؟؟
*
* *
يأيها الطويل ما أقصرك!! " ...
3 - قصيدة البصر:
" قمر أحمر
يتلألأ فوق رمال حمراء
فوق الرمل الأحمر
أزهار فاقعة الحُمر
بين الأزهار الحمراء
شاهد قبرٍ منقوش
بالكلمات الحمراء
****
سَطَع البرق الأحمر
لهب النيران الحمراء
يتوهج ملء عيون البنت
السمراء
ذات الفستان الأسود
والأحلام الحمراء!!" ...
3 - قصيدة السمع :
" أنى أسمع في ملكوت
البُعد تحاياكم
أستنشق دفء وصاياكم
أسمع إيقاع خُطاكم
إيقاع خُطاكم
إيقاع خُطاكم
نحو الشمس الحمراء
"...
هكذا: اللسان
والبصـــــــر والسمع، الحواس التى بها يحيا الإنسان ويعيش، وعن طريقها تتحد
المصائر، بقاءً نبيلاً وجســـوراً في الحياة، او زوال، وإضمحلال وتلاش! حقاً،
ياعزيزنا على، ان اللسان الصامت يستحق ان يُقطع، والبصر الذى لايعاين العسف
والجـــــــــــــور والدماء، عليه ان يُكف ان يرى، لانه حقاً لايرى ، لان البنت،
التى هى الحبيبة والوطن ترى البرق الاحمر والنيران الحمراء ، هى ذات فستان اسود
جميل ولكن أحلامها حمراء حمراء، فهى مبصرة، ترى ما يحدث حولها، ترى الدماء والجراح
النازفة وسوف (تسمع) نداءات الثورة القادمة! فأنظر كيف في (قصيدة السمع) يسمع
الشاعر تحايا الشعوب ويستنشق دفْ الوصايا ، يسمع إيقاع الخُطى فيملاً عليه سمعه
ونفسه كلها وسوف تقترن في مسيرها نحو الشمس الحمراء بجماهير الشعب التى كانت في ضمير
عبد القيوم قلادة وجوهرة .
ولحسن طالع الشعر في هذه الأمسية ، لربما بسبب من روح علي التي تحوم الآن من حولنا ، أنني وجدت هذا الصباح نصا شعريا بملامح ما كان يرهص به شعر علي عبد القيوم ، وهو – في ظني – يعد من ملامح هذا الوجه الجديد الذي تحدثنا عنه ، ثم إن النص يرهص ، علي طريقته ونسقه بالطبع ، بالغد الجميل ، والحال كذلك نعده من استقبالات ما كان يهجس به شاعرنا عبد القيوم ، يقول النص الجميل لبابكر الوسيلة :
" أصدقائي
كلكم عاشق ...
والإنسان دوما ،
عن عشيقته أمام الغربة البيضاء
يسأل عن طريقته !
... ... ...
أصدقائي
هل تحبون الوطن ؟
فلماذا تنسون إذن
دمعة الأرض الوحيدة
والنداءات البعيدة
لنشيد في الزمن ؟ " ...
هو السؤال المحرق ، لوجه الشعر والجسد معا : لماذا ننسي دمعة الأرض الوحيدة و ... النداءات ، حقا ، لماذا ؟ ونحن المعدودون في حب الوطن ، لماذا ؟ هو العشق إذن ، أيا ما كان ذلك العشق ، في ملامحه وتنوعها ، في مواجده المحرقات ، باللوعات الكثار ، في وجه القصيدة وجسدها ، لكننا نراه عشقا محضا علي أية حال ! في قصيدته البديعة : " ما أشبه العشاق بالأنهار والأسري " ، يدلف عبد القيوم إلي ذلك الفردوس نفسه : حديقة العشاق ، ليجعلنا في أسئلة الشعر المجيدة ، أتكون هي الحبيبة أم الوطن ، الحديقة أم ورودها اليانعات ، أم هي " الوردة في مشارقها " يا وسيلة ؟ هي بعضا كثيرا من ذلك كله ، ولا مندوحة لنا هنا من التأويل أيضا ! يقول علي عبد القيوم فيها :
" في آخر الليل الذي أسري
دلف الجنود بجثتين إلي
الجبانة الكبري ... " ...
نتوقف هنا برهة لنلاحظ : إنهما جثتان لا واحدة ، وقد أتي بهما جنود ، علي خلاف من يحضرون بالجنازة عادة ، هم جنود إذن علي غير مألوف المقابر ، ثم هي " جبانة " ليست مقبرة ، والكلمة هنا مقصودة لذاتها وما تحيل إليه ، فكم من " جبانة هايصة " في حياتنا وفي واقعنا المأزوم ... يمضي فيقول :
" جسد نحيل خلته جسدي
فوجدته بلدي ...
لا فرق يا مولاي بين النهر والمجري "...
متتالية ، متلازمة حد الالتصاق الحميم الرحيم : البلد / الجسد ، الجسد / البلد ، هما وجها واحدا في جثتين ، وهذا النحول ، لا شك تعرفون ، كيف يغدو جسدنا نحيلا حين تطال النحالة جسد الوطن ووجهه ، فلا فرق هنا بينهما ، هما واحد ، النهر والمجري ... هما في رؤيا الشاعر واحد ، جسد واحد ، لكنه في التثني كما نراه ! هما جثتان ، هذه الأولي أما الثانية :
" جسد نحيل خلته ولدي
فوجدته جسدي ...
لا فرق يا مولاي بين الموت
والميلاد والمسري " ...
علي قلب مطمئن أقول : أن هنالك أصوات مديدة ، سرية غامضة حينا ، وأحيانا جهيرة ناصعة تنعقد في قصيدة عبد القيوم ، بكامل حركاتها ومساراتها أيضا حول الجسد ، لا ... لا أبتعد بكم عن رؤياه التي تحبون ، بل أودكم في هذه الوشائج عنده بمهل بصير ما استطعتم : الجسد / البلاد ، الجسد / الآخر ، الجسد الأنثي ، الجسد / النهوض ، بتنوعه وتعدده في تجلياته ، في ايحاءاته ورموزه ودلالاته ، في قاراته المعروفة ومجاهله ، في مغامراته واحباطاته ... هذه المسيرة الضاجة ، التي تتقدم عنده في ملامح عديدة ، فتكون هنا وهناك في آن ، فتكون في الألم وفي الوجع الكثير أحيانا ، لكنها – في كل تجلياتها – تضئ وتذهب في الغد !
وإن يكن الموت نفسه ما يخايله ويراوده ، فهي ليست نهاية ما علي أية حال . حقا ، هي مسيرة عاصفة ... لكأنه كان يتأسي بقول فوكو : " إنني إذ أتكلم لا اتحاشي موتي ، وإنما أوسسه " ! ...
يقول علي :
" الجنازة تضحك في اللحد :
هل يعلمون بفرحتي الغامرة
بممات أفاء لي الظل والمرتجي ؟
وهل يعلمون بأني أغادر كونا
سينحرهم أجمعين ؟
الجنازة تبكي عليهم " !! ..
ليس الفرح في مواجهة الموت فحسب هو الذي يجعله في هذه الرؤيا البهيجة التي تجمع الجسد بالوعي ، بوعيه نفسه ، معرفة صاحية تتقدم علي بعضها وتهمس أسئلتها وسط الليل ، وتتحلق حول كائنات القصيدة ، حول أجسادها أيضا ، بل يمضي إلي الأضرحة ، تلك الشاهدة علي موتنا ووجودنا كله منذ مبتدأ أمره حتي يوم الناس هذا ، فتطلع من روحه ، ومن روح شعره ، تلك الأسئلة الباذخة ، أسئلة في كنف الشعر ، لكنها في كنه الحياة والموت والقيامة ، قيامة الجسد في تجلياته :
" هل يحيط الضريح بما فيك من لهف
للحياة الجميلة ؟
هل تحيط المقابر بالنهر يركض منتعشا
ناشرا في فضاء البلاد الجريحة أشرعة ...
ناشرا فوق كل الضفاف خميلة ؟ " ...
هذ الرؤيا تهاجسه ، تجدها عنده ، كما لحظة الشعر في وهجه المباغت ، وقد وجدتها في ملامح شاعرة تعيش بيننا الآن ، لكأنها هي نفسها رؤياه وقد تسللت كالغمام الرحيم إلي رؤاها ، فبدت يانعة مزهرة في شعرها ، تقول نجلاء عثمان التوم وجعها الذي أسمته " منزلة الرمق ... مذهب في كمال النحول " ، تقول :
" أعرف العتمة في قلب العاشق
أعرف خرائب هناك !
قصورا تتسيد الموت
بجروح نبيلة
أخضلت وخفتت .
أعرف مذلتي وسلطاني
آه ،
سلالة فاتنة من الحيل
أمراضا حبيبة ومحبات
تجهش عند قدمي . ياشعبي الجائع الخجول
قرابينك شمس تأكل الرحمة وطيور النعاس.
ياشعبي القليل
ما أكثرنا علي
جسدي بلاد ثملة
عبرت عليها طفلة
لن أنجبها لي
ونزوعي شبح ضامر يشبه البيت " ! ...
هي نفسها رؤياه ، تسري فينا ، ولا فرق هنا أيضا ، بين النهر و ... المسري !
كثيرا جدا تسألت : كيف للشاعر أن يقصر رؤاه في البلاد / الوطن ، فيجعلها من ثم ، في أنثاه بالذات ، وهي نفسها البلاد ؟ مرة هي السيدة الواحدة التي يقدم بين يديها الصلوات لأنها ، كما يقول علي :
" الفعل ، أنت يا سيدتي
والفكر أنت يا سيدتي
الفعل يا سيدتي والفكر والانجاز والجديد " ...
وأبدا لا تخونه هي ولا يخونها ، فهو يبصر اللحظة الحبلي بآلاف القرون تومض وتتوهج عبر الزمن ، فلا تخذله :
" تومض في البعيد لا تخذلنا
وقد يخون خائن
لكننا حين نخون يا سيدتي ،
ندخل في سيوفنا
قبيل أن تدخلنا
نموت ميتة المحارب المنهزم النبيل .
سيدتي :
لك انهزامنا
لك انتصارنا الظليل
لك الخضوع ،
والتمرد الجليل
لك الكثير ...
لك الكثير والقليل " ! ...
ذاك من يسامرنا الليلة ويبهجنا ، علي عبد القيوم الذي رحل عنا في الثلاثاء 29/سبتمبر/1998 ... فله منا الكثير الكثير ، لكنه القليل ياعلي :
ولحسن طالع الشعر في هذه الأمسية ، لربما بسبب من روح علي التي تحوم الآن من حولنا ، أنني وجدت هذا الصباح نصا شعريا بملامح ما كان يرهص به شعر علي عبد القيوم ، وهو – في ظني – يعد من ملامح هذا الوجه الجديد الذي تحدثنا عنه ، ثم إن النص يرهص ، علي طريقته ونسقه بالطبع ، بالغد الجميل ، والحال كذلك نعده من استقبالات ما كان يهجس به شاعرنا عبد القيوم ، يقول النص الجميل لبابكر الوسيلة :
" أصدقائي
كلكم عاشق ...
والإنسان دوما ،
عن عشيقته أمام الغربة البيضاء
يسأل عن طريقته !
... ... ...
أصدقائي
هل تحبون الوطن ؟
فلماذا تنسون إذن
دمعة الأرض الوحيدة
والنداءات البعيدة
لنشيد في الزمن ؟ " ...
هو السؤال المحرق ، لوجه الشعر والجسد معا : لماذا ننسي دمعة الأرض الوحيدة و ... النداءات ، حقا ، لماذا ؟ ونحن المعدودون في حب الوطن ، لماذا ؟ هو العشق إذن ، أيا ما كان ذلك العشق ، في ملامحه وتنوعها ، في مواجده المحرقات ، باللوعات الكثار ، في وجه القصيدة وجسدها ، لكننا نراه عشقا محضا علي أية حال ! في قصيدته البديعة : " ما أشبه العشاق بالأنهار والأسري " ، يدلف عبد القيوم إلي ذلك الفردوس نفسه : حديقة العشاق ، ليجعلنا في أسئلة الشعر المجيدة ، أتكون هي الحبيبة أم الوطن ، الحديقة أم ورودها اليانعات ، أم هي " الوردة في مشارقها " يا وسيلة ؟ هي بعضا كثيرا من ذلك كله ، ولا مندوحة لنا هنا من التأويل أيضا ! يقول علي عبد القيوم فيها :
" في آخر الليل الذي أسري
دلف الجنود بجثتين إلي
الجبانة الكبري ... " ...
نتوقف هنا برهة لنلاحظ : إنهما جثتان لا واحدة ، وقد أتي بهما جنود ، علي خلاف من يحضرون بالجنازة عادة ، هم جنود إذن علي غير مألوف المقابر ، ثم هي " جبانة " ليست مقبرة ، والكلمة هنا مقصودة لذاتها وما تحيل إليه ، فكم من " جبانة هايصة " في حياتنا وفي واقعنا المأزوم ... يمضي فيقول :
" جسد نحيل خلته جسدي
فوجدته بلدي ...
لا فرق يا مولاي بين النهر والمجري "...
متتالية ، متلازمة حد الالتصاق الحميم الرحيم : البلد / الجسد ، الجسد / البلد ، هما وجها واحدا في جثتين ، وهذا النحول ، لا شك تعرفون ، كيف يغدو جسدنا نحيلا حين تطال النحالة جسد الوطن ووجهه ، فلا فرق هنا بينهما ، هما واحد ، النهر والمجري ... هما في رؤيا الشاعر واحد ، جسد واحد ، لكنه في التثني كما نراه ! هما جثتان ، هذه الأولي أما الثانية :
" جسد نحيل خلته ولدي
فوجدته جسدي ...
لا فرق يا مولاي بين الموت
والميلاد والمسري " ...
علي قلب مطمئن أقول : أن هنالك أصوات مديدة ، سرية غامضة حينا ، وأحيانا جهيرة ناصعة تنعقد في قصيدة عبد القيوم ، بكامل حركاتها ومساراتها أيضا حول الجسد ، لا ... لا أبتعد بكم عن رؤياه التي تحبون ، بل أودكم في هذه الوشائج عنده بمهل بصير ما استطعتم : الجسد / البلاد ، الجسد / الآخر ، الجسد الأنثي ، الجسد / النهوض ، بتنوعه وتعدده في تجلياته ، في ايحاءاته ورموزه ودلالاته ، في قاراته المعروفة ومجاهله ، في مغامراته واحباطاته ... هذه المسيرة الضاجة ، التي تتقدم عنده في ملامح عديدة ، فتكون هنا وهناك في آن ، فتكون في الألم وفي الوجع الكثير أحيانا ، لكنها – في كل تجلياتها – تضئ وتذهب في الغد !
وإن يكن الموت نفسه ما يخايله ويراوده ، فهي ليست نهاية ما علي أية حال . حقا ، هي مسيرة عاصفة ... لكأنه كان يتأسي بقول فوكو : " إنني إذ أتكلم لا اتحاشي موتي ، وإنما أوسسه " ! ...
يقول علي :
" الجنازة تضحك في اللحد :
هل يعلمون بفرحتي الغامرة
بممات أفاء لي الظل والمرتجي ؟
وهل يعلمون بأني أغادر كونا
سينحرهم أجمعين ؟
الجنازة تبكي عليهم " !! ..
ليس الفرح في مواجهة الموت فحسب هو الذي يجعله في هذه الرؤيا البهيجة التي تجمع الجسد بالوعي ، بوعيه نفسه ، معرفة صاحية تتقدم علي بعضها وتهمس أسئلتها وسط الليل ، وتتحلق حول كائنات القصيدة ، حول أجسادها أيضا ، بل يمضي إلي الأضرحة ، تلك الشاهدة علي موتنا ووجودنا كله منذ مبتدأ أمره حتي يوم الناس هذا ، فتطلع من روحه ، ومن روح شعره ، تلك الأسئلة الباذخة ، أسئلة في كنف الشعر ، لكنها في كنه الحياة والموت والقيامة ، قيامة الجسد في تجلياته :
" هل يحيط الضريح بما فيك من لهف
للحياة الجميلة ؟
هل تحيط المقابر بالنهر يركض منتعشا
ناشرا في فضاء البلاد الجريحة أشرعة ...
ناشرا فوق كل الضفاف خميلة ؟ " ...
هذ الرؤيا تهاجسه ، تجدها عنده ، كما لحظة الشعر في وهجه المباغت ، وقد وجدتها في ملامح شاعرة تعيش بيننا الآن ، لكأنها هي نفسها رؤياه وقد تسللت كالغمام الرحيم إلي رؤاها ، فبدت يانعة مزهرة في شعرها ، تقول نجلاء عثمان التوم وجعها الذي أسمته " منزلة الرمق ... مذهب في كمال النحول " ، تقول :
" أعرف العتمة في قلب العاشق
أعرف خرائب هناك !
قصورا تتسيد الموت
بجروح نبيلة
أخضلت وخفتت .
أعرف مذلتي وسلطاني
آه ،
سلالة فاتنة من الحيل
أمراضا حبيبة ومحبات
تجهش عند قدمي . ياشعبي الجائع الخجول
قرابينك شمس تأكل الرحمة وطيور النعاس.
ياشعبي القليل
ما أكثرنا علي
جسدي بلاد ثملة
عبرت عليها طفلة
لن أنجبها لي
ونزوعي شبح ضامر يشبه البيت " ! ...
هي نفسها رؤياه ، تسري فينا ، ولا فرق هنا أيضا ، بين النهر و ... المسري !
كثيرا جدا تسألت : كيف للشاعر أن يقصر رؤاه في البلاد / الوطن ، فيجعلها من ثم ، في أنثاه بالذات ، وهي نفسها البلاد ؟ مرة هي السيدة الواحدة التي يقدم بين يديها الصلوات لأنها ، كما يقول علي :
" الفعل ، أنت يا سيدتي
والفكر أنت يا سيدتي
الفعل يا سيدتي والفكر والانجاز والجديد " ...
وأبدا لا تخونه هي ولا يخونها ، فهو يبصر اللحظة الحبلي بآلاف القرون تومض وتتوهج عبر الزمن ، فلا تخذله :
" تومض في البعيد لا تخذلنا
وقد يخون خائن
لكننا حين نخون يا سيدتي ،
ندخل في سيوفنا
قبيل أن تدخلنا
نموت ميتة المحارب المنهزم النبيل .
سيدتي :
لك انهزامنا
لك انتصارنا الظليل
لك الخضوع ،
والتمرد الجليل
لك الكثير ...
لك الكثير والقليل " ! ...
ذاك من يسامرنا الليلة ويبهجنا ، علي عبد القيوم الذي رحل عنا في الثلاثاء 29/سبتمبر/1998 ... فله منا الكثير الكثير ، لكنه القليل ياعلي :
( يا عليَ المُعلى
يا رحاب المودة
يا طفل عصر الفضاء الرحيب
و يا تاجنا قد تجلى ،
يا علًى المُعلى) .
و يا سلمي عبدالله إليك المحبات في تذكره جميلنا ، أجملنا يا سلمي ، وإلي غسان وأحمد ،
والعزيزة مني ، إليكم من سامر " علي الزين " و" عبد الكريم ميرغني " المحبات الكثار ،
ونحن في ظلاله الوارفات ... إليكم جميعا ، التحية والسلام !
------------------------------------------------------------------
* علي عبد القيوم ، شاعر سوداني راحل ، جمعت أعماله الشعرية في أصدارة صدرت بعد وفاته مباشرة : " الخيل والحواجز " .
* أعدت كمشاركة بالأحتفاء بذكري الشاعر الذي أخير ليكون وجه أحتفالات السودان بيوم الشعر العالمي في مارس الماضي ، وقرأ الشاعر السوداني بابكر الوسيلة أجزاء منها في الليلة التي أقيمت بمركز علي الزين بالخرطوم بعد تعذر أقامتها بمركز عبد الكريم ميرغني جراء تعسف السلطات الأمنية ، بسبب من ظروف طارئة أستدعت غيابي عن الليلة !
* سلمي عبد الله هي أرملة الشاعر ، غسان وأحمد أبناء الشاعر ، ومني بنته .
* ننشر النص هنا لضرورات التوثيق لتراث الشاعر .
و يا سلمي عبدالله إليك المحبات في تذكره جميلنا ، أجملنا يا سلمي ، وإلي غسان وأحمد ،
والعزيزة مني ، إليكم من سامر " علي الزين " و" عبد الكريم ميرغني " المحبات الكثار ،
ونحن في ظلاله الوارفات ... إليكم جميعا ، التحية والسلام !
------------------------------------------------------------------
* علي عبد القيوم ، شاعر سوداني راحل ، جمعت أعماله الشعرية في أصدارة صدرت بعد وفاته مباشرة : " الخيل والحواجز " .
* أعدت كمشاركة بالأحتفاء بذكري الشاعر الذي أخير ليكون وجه أحتفالات السودان بيوم الشعر العالمي في مارس الماضي ، وقرأ الشاعر السوداني بابكر الوسيلة أجزاء منها في الليلة التي أقيمت بمركز علي الزين بالخرطوم بعد تعذر أقامتها بمركز عبد الكريم ميرغني جراء تعسف السلطات الأمنية ، بسبب من ظروف طارئة أستدعت غيابي عن الليلة !
* سلمي عبد الله هي أرملة الشاعر ، غسان وأحمد أبناء الشاعر ، ومني بنته .
* ننشر النص هنا لضرورات التوثيق لتراث الشاعر .