Powered By Blogger

الأحد، يناير 14، 2018

عزاءا عركي، صبرا وسلاما يا وطن!



في رحيل عفاف الصادق:
 عزاءا عركي،صبرا وسلاما يا وطن!

-------------------------------------------------------------

عركي،
لأنا نحبك يجرحنا الماء
والموت،
موتها ...
يكاد يقتلنا!
ولأنا نحبك،
نحب الحياة وشعبنا...
نعلو عليها المحن
ولأجل عينيك يا حبيبنا،
نحب الوطن!

في الحب، وفي عشق البلد!

عندما أشتد عليهما، عفاف وعركي، عسف الجلاد وقمعه، وضيق عليهما الحصار، حد أن منعت أغانيهما، وعز عليهم توفير متطلبات أسرتهما الضرورية، لكنهما ظلا في الثبات وفي مقارعة يوميات حياتهما، تماما مثلما يقارعان الجلاد، فيعلنان عليه الحب، سبيل المقاومة لدي المبدعين الكبار! هكذا، ذهبت عفاف إلي السعودية برفقة أبنهما يزن، فأستقر بها الحال أستاذة بجامعة جازان، رئيسة قسم التربية وعلم النفس فيها. في ليلة الجمعة، في هدوء الليل الرحيم، قضيا، عفاف وعركي، الليل كله وبعضا من فجر يوم رحيلها في مهاتفة طويلة، لكأنهما كانا يحسانها أنها الأخيرة بينهما، فتحدثا طويلا عن الذي هناك وهنا، عن حال أسرتهما والبلد، وبالطبع عن مشروعهما، الذي هو بعضا جوهريا في حياتهما، عن الأغاني والموسيقي والأناشيد، وعن الشعر الذي يتوسلان عبره رحيق الحياة وبهجتها، كانا سعيدان، فالأمل والأحلام يزحمان إليهما قلباهما ووعيهما. لا شك أخبرته، فرحة والشوق ينال منها، أنها ستأتيهم، هو والأولاد والمعارف والبلد، يوم الأربعاء العاشر من يناير الجاري، وسيكون لقاء، ويكون فرح، ويكون حب! عند الفجر، والصباح يبدأ إنبثاقه بالضوء والسكينة، أنتهت مهاتفتهما، ونامت عليها عفاف! في الصباح الذي تلي تلك المهاتفة، لم تصحو عفاف كعادتها لتلحق بعملها، وكم كانت تحب عملها وتحرص كثيرا عليه، طلعت شمس السبت
6/ يناير/ 2018م والعالم يصحو، لكنها لم تعد تود أن تستيقظ لتري وجه ذلك الصباح، رحلت عفاف، هكذا، في هدوء ولطف وسماحة، رحلت عفاف! حتي الآن لم يعرف أحد، بعد، متي بالضبط كان رحيلها وكيف كان الذي كان!
في معهد الموسيقي والمسرح، ذلك المهد الأثير للثقافة والأدب والفنون، كان لقاءهماالأول، الأول الذي سيكون الأبد. الحب هو الذي جمع بينهما، بين قلبيهما ووعيهما، ولأجل ما يؤشر إليه المعهد من ثقافة وفنون وإبداع، قصداه كليهما، بدافع من روحيهما وعشقهما للمعرفة. عاشا قصة حب لطيفة، تداولها مجتمع المعهد وقتذاك، لكنه مضي بهما سريعا إلي الزواج والأسرة ومشوار الحياة يخوضان براحاتها فرحا وموسيقي وغناء، لم يحدث قط أن انطفأت في دواخلهما جذوة الإبداع والخلق، لكأنهما، كانا يعيشان برفقة مقولة باكونين، ( الإنسان ليس مخلوقا ، بل خالقا )، والمجاز هنا، للبصير والواعي، يضئ جمال المعني. فقد شرعا في الخلق الفني والأدبي كلاهما، فيوضات من الشعر والموسيقي والغناء والحب، ومع كل لحظة من لحظات الخلق تلك، تتوشج وتتوثق، أكثر وأكثر، وشائج الحب فيما بينهما، لعله الصدق في العواطف التي عبرها يكون الإبداع، قد جعلهما في ذلك التوهج البهيج، فيجعلانه، أملا ورؤيات، في وجدان شعبنا. وفي تاريخ الغناء عندنا كله، لم أعرف من هو مثلهما، كليهما معطي للآخر، بسخاء وحب ونبالة.

كيف هي، وكيف هو العطاء؟ّ!

شاءت لهما أقدارهما أن يلتقيا، عفاف وعركي، لقاء وأي لقاء، لكأنه من هبات الآلهة، عطية الله إليهما، كما يقولان. إلتقاء ضرورتين، إلتقاء حب الشعر والفن والموسيقي والغناء، وإلتقاء في حب الوطن والشعب معا، إلتقاء لم يتبني أبدا المواقف المأزومة في مظاهر الثقافة، بل يري في الفنون، علي تنوعها، قاعدة جديدة مغايرة لنظام القيم السائد، ينقل العمل الإنساني إلي الجمال وإلي التعبير النموذجي للجماعة التي لا يمكن اضعافها دون اضعاف الجماعة وعدالتها وحريتها. يمكننا، بسهولة ويسر، أن نري ونلاحظ، ذلك جليا في الطابع الشعبي لأعمالهما، دفاعا حارا ومستمرا عن المخيلة والإبداع الواعي، هكذا، يشتغلان علي المجدي والضروري للشعب وللوطن، يقدمان العمل تاركين للفن نفسه أن يبرر، من بعد، وجوده وزيوعه. عفاف، ربيبة الضوء والحكمة والشعر في سمته المناضلة بالحب والغناء، عملت لسنوات مخرجة أذاعية ومقدمة برامج تلفزيوية وترأست قسم الدراما بالإذاعة. وأشتغلت محاضرة في جامعات الأحفاد وأمدرمان الأهلية. عملت مديرا عاما والعضوة المنتدبة رئيسة مجلس أدارة شركة الأشقاء للطباعة والنشر والتوزيع ( 1998م/2002م ). وهي أيضا، صحفية وكاتبة في صحف، الأضواء
الأيام الرأي العام الخرطوم والصحافة. وكانت، إلي جانب ذلك، قد تخصصت وأهتمت جدا بمشاريع الأطفال وبالمسرح، نقدا وملاحظات، وبالدراما التي في سمت المسرح. وهي، أيضا وأيضا، شاعرة، يكتبها فتكتبه، تجعلة في تلازمه الطبيعي للإيقاع، فتدندن به راقصا مثما لحن الأغنية، تفعل ذلك بنفسها وأمام عركي، الأسطي في اللحن والغناء، فيطلع علي الملأ، منهما، ذلك الدفق الغنائي الخلاق.

الكتابات، وتلك المراسلات:
أن تكتب حديث قلبك، شعرا كان أو نثرا، للقريب جسديا إليك، مثلما الزوجين عفاف وعركي، فذلك مما يعد إمتدادا فسيحا لما في القلب، يمنح، كما باقات الورد المعطرة، لمن يشغل مكانا حميما في القلب، نعم، حديثا هو، لكنه البوح بمكنون القلب وعواطفه. هكذا، بتلاقي الروح للروح، والنفس بقرينها، وبالإلفة التي في عراها ملامح الحب والعشق وفرح الحياة، شرعت عفاف تكتب إليه، شعرا ونثرا، لمناسبات شخصية، عائلية أو عامة، وأحيانا بلا مناسبة، ومن ثم، غدا هو الآخر، يبادلها الكتابة أيضا، نثرا وشعرا، لقد شرع عركي، جراء هذه المحبات والتجليات، يكتب شعرا، غناها بعضا كثيرا من شعرها، وكانت تنتظره، بكامل ولع الشوق، لتري منه كتابته، فتبادله المودات، وأبدا، لم تخلوا أيا من تلك الكتابات والمراسلات بينهما من تمجيد الوطن وحضه علي الصمود، علي المقاومة والإنتصار، لكأن الوطن هو كلمتهما معا، فهو الحياة. مرة، عند سفرته الأولي للخارج بعدما ضاق إحتماله جراء ما يتعرض له من حصار ومضايقات والتضييق عليه في معاشه وحراكه، كانت تلك سانحة مواتية للشعر، كتبت عفاف إليه:

وين تسافر مني تمشي
وين تقبل مني تبري
ياني فيك أنا أمتزجت
بمزج النفس البيطلع
مرة شهقة... ومرة زفرة
أكون الدم في عروقك
وأمشي في شريانك أبري
مسلك الحب في وريدك
فيه بغرق ومنه بروي
ياني ندك.. وليك نديدك
عنك أكتب ومنك أقرأ !

أعجبته الكلمات، ضج في ثناياها الإيقاع، لحظة الموسيقي تأتيه سافرة، مفكوكة ضفائرها، مثلما الجميلات الصبايا، وترقص، لحنها عركي وغناها، فتراقصت جميلة وسط رصيفاتها، مآثرة وأي مآثره هذا الثنائي الجميل. عفاف عرفت جيدا أفكار عركي ورؤاه، عرفت مواقفه تجاه الحياة، حياتهما وفنهما، عرفت عنه كبرياءه وثباته علي قناعاته، فغدت، منذ مبتدأ أمرهما، في تلك المؤازرة الرحيمة إليه، لتفاصيل حياته وأسرتهما ولمشروعه الفني، وكم ظل يردد في الملأ، أنه لولاها وحبها، وتلك المؤازرة، لم يكن! تعرفه، بأعمق ما يكون التعارف بين أثنين، سر التكوين الذي جعلهما في العديد وفي الخلق البديع، جراء هذي المعرفة به، كتبت:

وإلتزاما بالقضية
والتمسك بالمبادئ 
والمبادئ هي الحقيقة 
والحقيقة العندي هي
لا مساومة لا مساومة
في المقاومة
بي مداومة
وإلتزاما حق تماما
أنا البريدك
أنا البريدك
وين بتمشي بلايا دربا 
وكل دربا تمشي فيه
لي بيودي 
وكل حدود الدنيا عندك
هي حدي
وين ماقبلت تلقي
أنك انت مني لي
وإنك.. أنت 
كل ما عندي!
وفي عيد زواجهما الأخير في 24 فبراير الماضي كتبت عفاف لـ "أبو عركي" في صفحتها الرسمية بـ "فيسبوك" كلمات ليست كالكلمات وقالت: "الشكر لله على نعمة عركي.. وشكري لأيام وهبتني من براحاتها ألواناً نديةً.. طعماً شهي المذاق.. ندي الملمس.. حفي العطاء.. لأيامي معك مَذاقٌ مُتفرِّد.. وطعمٌ له لون الماء وانسياب ضفائر السحب حين يمشط جدائلها رذاذ المَطر فيغني وقعها أغنية لقصة سطّرناها ولم تكتمل.. كان احتفاء لا بانقضاء أيامه يحسب.. ولا بمرور السنين تطفئ شُمُوعه.. مضيئة هي أيامنا.. رائعة هي أيامنا.. شمعاتها فلذاتنا وإحساس لن تمسه عواصف الزمان.. وكأنه لم تستوعب سره العقول.. كل عام أنت متكئ وملاذي ورجائي.. وكل أقوالي أمام الله".
وردّ عليها عركي بقوله:
من قبل أكون وإنتي تكوني
في رحم الغيب كنا أجنة
ربنا بارك في أرواحنا
وبمبدأ حبنا شكلنا
غصنين يانعات من الخُضرة
من شجر الجنة اتفرّعنا...
كل سنة ونحن أكثر تماسكاً
في هذا الزمن
وإلى الأبد.


كم كان صادقا عركي، عندما وعي كلماتها، مكنونات قلبها النبيل، فقال عنها:
"عفاف.. امرأة بقامة وطن.. إنسانة.. أبسط ما يُقال عنها، إنّها من أعز النساوين الرجال، أنثى ولا دستة رجال"..! ذلك المنحي، عميق الدلالة في تجربتهما، أعني هذا التلازم الحميم في الشعر والموسيقي والغناء، وفي الحياة، سيكون، بلا شك، مجالا لدرس كثير سيأتي، لكيما تغدو الحياة والحب أكثر أشراقا ونورا وبهاء.


و... ماذا بعد الرحيل؟!

عركي،
بالله عليك...
مد إيدك بالفرح
يطرح قلبك زهور
وبتكون عفاف ...
بتشوفها نور!

نعلم، مثلما قد علمت، كم هو مؤلم رحيلها، فقد كانت عماد البيت والأسرة وعماد الفن الذي كرستما له حياتكما بأكملها، لكننا، والحق يقال هنا، نعلم جيدا، من أنت، تماسكك وقدرتك الهائلة علي الصمود والثبات، فتمثل، ببسالة الفرسان، يا فارسها، مقولة  صاحبك علي عبد القيوم، وقم فينا بقدرة الغناء والحب في دواخلك:
( يا قدرتي علي الصمود/
يا تماسكي/
مدد.. مدد.. مدد ).
كنت، يا حبيبنا، تعلم منذ شرعت تكون في عشق الوطن والفن والحياة، تنادي، عبر فنك العظيم، في الملأ ( تعالوا )، للفنانين المستعدين للانضواء إلي قضايا الشعب والوطن، وبسلطة الغناء، كم ناشدتهم أن قبلوا المجئ، أن لا يأتوا ( أسيادا )، بل رفاق نضال بالفن، لا ليقدموا المواعظ من عل، بل ليستلهموا معك بيئة جديدة ويعرفوا تطلعات الجماهير فيفهموها ويترجمونها ثم يشتغلوا عليها، بلا توقف، فيدخلوا، من ثم، الفن إلي براحات الحياة! تلك الرسالة، النبواءات، يجب أن تستمر في حياتنا، رؤي تؤشر، مثلما قد جعلتموها، أنت وعفاف، أناشيدا تحضنا للنضال، وأغاني تجعلنا في فرح الحياة وآمالنا في الغد. نعلم، مثلما تعلم أنت جيدا، أن كل شئ يمضي، والعالم يفني منه الكثير، لكن الفن العظيم هو الذي يبقي فلا يموت. أن هنالك الكثير الذي تعلمناه منك ومن عفاف، أن الإنسان الذي تهدده السلطة الغاشمة الظالمة، وحده الفن يظهر له صورة الاكتمال الذي سرق منه، فتعود عليه معاني الحياة وإلينا. علمتمونا، أن الفن، الفن الإنساني في جواهره، يمحو الفوارق فيما بين الفن والحياة، والآن، عليك أن تنهض يا عركي، وأن تدع الحياة تمحو الفرق بينها والفن، بينها والذي يحزننا ليهزمنا، لقد أعطيتمونا، عفاف وأنت، حساسية جديدة، خصبة وثرية، وعرفنا، عبر عطاياكم، أن الفن ما زال يفيق علي مصيره الحقيقي: الحياة!

إليكم، إلي عفاف وعركي، والبنات والأولاد ...

الآن، وقد رحلت عنا عفاف، سكنت إلي حضن رحيم ورؤيا، ما الذي رأيناه ذلك الصباح، والذي نود قوله، وهي ترحل، في البلد الأشد غربة علي قلبها، الأشد شراسة وهي بعيدة، في الجغرافيا ليس في وعيها، كنت يا عركي، بعد تلك المهاتفة الطويلة، ترسم أصابعك النحيلة نشيد المقتلة العابثة وأنت تنادي في ذلك الغمر حشود الأغاني وأجنحة الطير، لكننا، مثلما رأيناها، رأيناك، ورأيناها حكايتك، التي أنتهت، لا لشئ أو ضياع، بل لتبدأ في النمو، في الصعود وفي الحياة.
عفاف، شكرا جميلا كثيرا لما أهديتنا، شكرا عميقا للذي جعلتنا فيه، أملا وحلما وحبا، لما أعطيتنا من بهجة وفرحا ومآثرا. عزاءا عركي، نعم، إنها قد أخذت معها بعضا أثيرا من قلبك ورؤاك، لكنك يا حبيبنا، من بين كل من عرفنا، تمتلك تماسكا وصمودا ينجيك ويجعلك تعرف كيف تدجنها الأحزان والقسوة والألم، تفعل بمحض قلبك ووعيك، ألم تكن، كل عمرك، تشتغل علي مقولة أن الواقعية في الفن ينبغي أن تتخذ لها بعدا أسمي، واحداثيات الحياة الواقعية نفسها، أيا ما كانت، عليها أن تخضع لهدف نبيل وللحب، تلك هي حياتك الآن، حياتكم، لا مفر!
العزاء في رحيلها إلي شعبنا وبلادنا، للأبناء: محمد المجتبي، ذو يزن، سيبويه، وللجميلات البنات، سيزار، نيلوفر، سماهر وسيرام. وطبت مقاما في الخالدين يا عفاف!






ليست هناك تعليقات: