" يا صوتها فينا كن كما أنت وتوجد مثلما شئت توجد لك في قلبي وقلوب الناس مهد فتوجد و ... توجد "!
الاثنين، فبراير 27، 2012
و. ب. ييتس يكتب عن أوسكار وايلد !
- Wilde -
و. ب. ييتس[i] يكتب عن أوسكار وايلد
مقدمة مضافة إلى المجلد الثالث من الأعمال الكاملة لأوسكار وايلد (نيو يورك 1923)
ت: أمير زكي
فبراير 2012
عن كتاب "التراث النقدي المتعلق بوايلد Oscar Wilde - The Critical Heritage"
-------------------------------------------------------------------------------------
***
عندما كنت ألقي المحاضرات في بوسطن قبل الحرب[ii] بقليل أخبرني لاجيء عربي أن أعمال أوسكار وايلد ترجمت إلى العربية وأن مجموعة "الأمير السعيد وقصص أخرى" كانت الأكثر شعبية: قال: "إنها أدبنا الخاص". وكنت قد سمعت أن مقال "روح الإنسان تحت الاشتراكية" هو الأكثر قراءة في حزب شباب الصين. وبعد ذلك بفترة بدأت أفكر في المصير الغريب لكتب بعينها. ذهني عاد إلى نهاية الثمانينيات عندما كنت قد وصلت لتوي إلى لندن ومعي مسودة كتابي الشعري الأول، وعندما لم يكن وايلد قد نشر سوى أشعاره ومجموعة "الأمير السعيد". أذكر أن المقالات النقدية كانت عموما معادية جدا لأعماله، فحركة وايلد الاستطيقية كانت الحدث المعاصر وصحفيي لندن كانوا لا يزالوا غاضبين من بنطلوناته، أوضاعه أثناء التصوير، وربما من مقولاته الحادة عنهم. في حين أن رجال الأدب لم يجدوا في نثره سوى محاكاة لوالتر بيتر[iii] وفي شعره سوى محاكاة لسوينبرن[iv] وروزيتي[v]. لم يوجد أبدا أي شخص يكتب بحرص إلى أصغر جمهور ممكن بأكثر أسلوب مصطنع ممكن، وهذا الجمهور لم يضم أحدا سوى بضعة نساء مهتمات بالموضة يدعون ضيوفا ليستمعوا إلى حديثه، بالإضافة إلى رسامين أو ثلاثة استمروا على تقليد روزيتي. وأثناء تفكيري كأني سمعته يقول بطريقة كلامه البطيئة الدقيقة المنغّمة: "لديّ جمهور كبير في سمرقند". ربما لا يتكلمون العربية في سمرقند، ولكن أي اسم يختاره هو يختاره لوقعه ولإيحائه الرومانسي. شعبيته في الصين كانت ستؤثر فيه أكثر، وأنا بإمكاني الاستماع لصوته وهو يتكلم عن الطلاء الأنيق والجاف. في الحقيقة فعندما أذكره بلذة فأنا أذكر دوما المتحدث، سواء عندما سمعته في منزل و. ه. هينلي[vi] أو في منزله أو في جزء من مسرحياته، حيث يوجد قدر كبير من البديهة المستمدة مبدئيا أو مستمدة كلها من أحاديث له. هو بالتأكيد كان أعظم متحدث في عصره. قال لي: "نحن الأيرلنديون شاعريون جدا لنكون شعراء، نحن أمة من الفاشلين العظام، ولكنننا أعظم متحدثين من عهد اليونانيين". هو كان يتحدث كما يفعل دوما المتحدثون الأيرلنديون الجيدون – وإن كان بأسلوب وتنغيم مستمد من بيتر وفلوبير – وأفضل من أفضل متحدث إنجليزي بإمكانه التكلم. هو لم يكن لديه اهتمام عملي، ليس لديه قضية ليدافع عنها، لا معلومات ليقدمها، ولا حتى كونه مهرجا مثليا كانت قضيته العملية جدا مصدر لذتنا. خلف كلماته كانت هناك قوى عقلية كبيرة، ولكن عقليته وهبت نفسها للتأمل المجرد. أعرف اثنين أو ثلاثة من هؤلاء الرجال في أيرلندا اليوم، وواحد منهم هو رجل مجهول جاء إلى عربتي في قطار ويكلو من عامين أو ثلاثة: بدأ بالقول "عربة الدرجة الأولى، تذكرة الدرجة الثالثة، افعل ذلك وفقا للترتيب". وبعد ذلك تحدث عن صديق له قُتل في الحرب، وصرخ قائلا: "لم هناك العديد من الموتى المفترض أن يكونوا أحياء، والعديد من الأحياء المفترض أن يكونوا موتى؟". لعشرين دقيقة من الحديث الثمل تحدث مثل شكسبير كما يقول عنه الناس، ولم يتحول للحظة من الموضوعات الأساسية وغير القابلة للحل؛ وقال لي قصة كان من الممكن أن يقولها وايلد ببهجة. ثم فكرت بعد ذلك في طبيب وقس تحدثت إليهما في أماكن عديدة، ولكن بشكل خاص في ساحل كونيمارا البعيد، يوما بعد الآخر يصبح ذهنهما عارفا بشعر العالم أكثر مني، ومكتظان بالخيال الذي يداعب الموضوعات الأساسية والتي لا يمكن حلها.
كلما ابتعد وايلد في كتابته عن طريقته في الحديث، عن الارتجال، عن التعاطف مع بعض الجمهور الخاص، كلما كان أقل أصالة، وأقل إنجازا. أعتقد أن "روح الإنسان تحت الاشتراكية" عميقة إلى حد ما لأن العديد من الاقتباسات متخذة من حواراته؛ و"الأمير السعيد وقصص أخرى" ساحرة ومسلية لأنه وضعها في شكل قصص، (أطفاله كانوا لا يزالوا صغارا في هذا الوقت) و "بيت الرمان" كثيرة الزخارف وأقل تسلية لأنه كتبها في شكل قصص. ولأنه عندما يكتب، باستثناء عندما يكتب للممثلين، لا يفكر في جمهور خاص. في "الأمير السعيد" أو"العملاق الأناني" أو "الصاروخ العجيب"، لا يوجد شيء لا يخدم القصة، في الحقيقة لا شيء غير القصة، ولكن في "عيد ميلاد الإنفانتا" بالكاد هناك قصة تستحق ان تُحكى. "الصياد وروحه" من نفس الكتاب فيها قصة جيدة بما يكفي لجعلي متأكدا أنه حكاها العديد من المرات؛ ولكي أستمتع بها أحاول أن أتخيلها كأن عليه أثناء حكايتها أن يحرص بنصف وعي على أن لا يسبب الضجر - بتكرار التأثير أو الوصف غير الضروري - لطفل أو لصحبة من الرسامين أو الكتاب الشباب. فقط عندما أتخيلها هكذا أكتشف أن فكرة عدم رضا الصياد الشاب بعشيقته الحورية، عندما يستمع إلى وصف فتاة ترقص بقدمين عاريتين، كان هذا ذكيا وساحرا ومختلفا. الصياد الشاب قاوم العديد من الإغواءات، ولكن هذا كان قبل أن يرى بوضوح أنها لا تملك قدمين. في القصة المكتوبة هذه التفصيلة تتوه في الزخارف التي ندعها تمضي بدون أن نلاحظها مع القراءة الأولى، ولكنها ذروة القصة. ولكي أستمتع بها فعليّ أن أستمع للصوت مرة أخرى، وأن أنصت مرة أخرى للمتحدث الذي لا يقارن.
وصلت لندن بعد زيارة طويلة لأيرلندا قبل شهور قليلة من مأساته العظيمة، سألت أحد أصدقاءه "ماذا يفعل وايلد؟" أجاب صديقه: "أوه، هو مكتئب جدا، يستيقظ في الثانية بعد الظهر، لأنه يحاول أن ينام كمية من الحياة بقدر إمكانه، وألف قصة يدّعي أنها أفضل قصة في العالم ويقول إنه يكررها لنفسه بعد كل وجبة وقبل أن يتجه للسرير كل ليلة". وقال لي القصة وأعتقد أنني أثق في ذاكرتي لأستعيد كل كلمة: "المسيح جاء بمظهر أبيض إلى المدينة الأرجوانية وأثناء سيره في الشوارع سمع أصوات فوق رأسه، فنظر ووجد شابا مستلق مخمورا على عتبة النافذة. قال المسيح "لم تهدر روحك في الخمر؟" فيجيب الشاب: "سيدي، لقد كنت أبرص وأنت شفيتني، ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟" وبعد ذلك وجد شابا يتبع داعرة بعينين لامعتين، فقال له "لم تضيع روحك في الزنا؟" فأجاب الشاب "سيدي، لقد كنت أعمى وأنت شفيتني، ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟" وفي منتصف المدينة وجد رجلا عجوزا جالسا على الأرض يبكي فقال له "لم تبكي؟" فأجاب العجوز "سيدي لقد كنت ميتا وأنت أقمتني إلى الحياة، ماذا يمكنني أن أفعل سوى البكاء؟". أنا أيضا أعتقد أنها واحدة من أفضل القصص في العالم، على الرغم من أنه لا يعجبني، ولم تعجبني عندما سمعت للمرة الأولى أوصاف "مظهر أبيض"، "المدينة الأرجوانية"، "عينين لامعتين". القصة فيها تأكيد وبساطة النحت العظيم، إنها تضيف شيئا جديدا لمخيلة العالم، وتواجه فجأة الذهن – كما يفعل كل الفن العظيم – بالأساسي وغير الممكن حله. إنها تضع في أقل كلمات ممكنة كآبة تأتي إلى المرء في لحظة الانتصار، اللحظة الفريدة عندما يسأل المرء بدون الخوف من تحيزات خفية أو حسد أو إحباط أو غيرة عن جدوى الحياة، عندما قابلت وايلد لأول مرة كان رجلا فقيرا تقريبا. قال "الناس يظنون أنني ناجح". أو جملة من هذا القبيل: "ولكن في هذه اللحظة أنا لا أستطيع ان أحصل على بضع شلنات". والآن لديه ثلاث مسرحيات تعرض في وقت واحد مما جعله يحصل على ما قيل أنه عشرة آلاف جنيه في السنة: "سيدى، لقد كنت ميتا وأنت أقمتني إلى الحياة، ماذا يمكننى أن أفعل سوى أن أبكي؟"
مؤخرا وجدت في نهاية واحد من مجلداته، في قسم بعنوان "أشعار في نثريات"، هذه القصة ممتدة إلى 15 أو 16 جملة، وذلك بأوصاف مثل: "أعمدة المرمر الجميلة"، "قاعة العقيق وقاعة اليشب"، "مشاعل الأرز"، "الرجل المزخرف وجهه وملابسه، وقدميه مزدانة باللؤلؤ". تأثير اللوحات على الأدب الإنجليزي بدأ مع شعر كيتس ووصل الآن إلى الذروة، لأن كل إنجلترا المتعلمة تأثرت بويسلر[vii] وبرن جونز[viii] وروزيتي؛ ووايلد – كشخص محلي مثلي – وجد في هذا التأثير شيئا غامضا، شيئا مثيرا، كجماعة دينية، كجماعة تعد باختلاف مستحيل. هذا بالتأكيد لأنه لم يرتبط بذلك بالميلاد وبالصلة المبكرة ليحصل على جمل وصفات من أجلهم، وليس لأنهم جزءا طبيعيا من نشأته، وتحدث بطريقتهم للآخرين كأنه واجبه ليمرر بعض كلمات السر والإشارات والرموز. عندما جاء وقت سقوطه كان قد اكتشف أسلوبه الطبيعي في "أهمية أن تكون جادا"، والتزم بهذا الاكتشاف بسبب تقنية المسرح الصعبة، وكان قد كاد أن يقدم لكوميديا المسرح الإنجليزي ما سيكون لجيلنا ما كانت كوميديات جولدسميث وشيريدان لجيلهم. كان لديه فعليا منافس وحيد – السيد برنارد شو – الذي قادته ثقافته ليس لوالتر بيتر ولكن لكارل ماركس، والذي – رغم حياته الممتدة وخياله الواسع – لم يتخلص أبدا وتماما من الحوادث والقابل للحل.
الخميس، فبراير 23، 2012
كيف كتبت رواية الساعات !
فيرجينيا وولف وأمى وأنا - مايكل كاننجهام
فيرجينيا وولف وأمى وأنا
مقال لمايكل كاننجهام*
ترجمة أمير زكى
يونيو 2011
* مايكل كاننجهام كاتب أمريكى، كتب رواية الساعات (1998) كانت شخصية فيرجينيا وولف من شخصياتها الرئيسية، حصلت الرواية على جائزة البوليتسر وتحولت إلى فيلم سينمائى بنفس العنوان عام 2002
***
فيرجينيا وولف كانت مصدر بهجة كبيرة فى الحفلات. أريد أن أقول هذا فى البداية لأن وولف، التى ماتت من سبعين عاما هذا العام، تمثّل غالبا على أنها السيدة الكئيبة فى الأدب الإنجليزى، فهى دائما حزينة وغاضبة وتنظر بشر من الركن المظلم فى تاريخ الأدب، وبجيوب ممتلئة بالحجارة.
بالطبع كان لديها فتراتها الكئيبة، وسوف نتحدث عن ذلك بعد لحظات. ولكن أولا أريد أن أخبر أى أحد قد يكون لا يعرف، أنها عندما لم تكن تحت وطأة نوبات الاكتئاب المتكررة، كانت شخصا يتمنى المرء أن تحضر إلى حفلته، فهى شخص يستطيع أن يتحدث بمرح عن أى موضوع. شخص يتألق ويسخر. وقد كانت مهتمة بما يقوله الناس (على الرغم من أنها لم تكن تشجع دوما آرائهم.) وهى شخص كان يحب فكرة المستقبل والعجائب التى يمكن أن يجلبها.
ورغم كونها نسوية جريئة إلا أنها كانت تميل لنقد نفسها لأيام إن علق أحدهم بشكل سلبى على ملابسها. كانت لديها صعوبة فى أن تتمالك نفسها، ومثل عدد كبير منا كانت تعانى من مشكلة فى مجاراة الموضة. وهى أيضا كانت مضطربة بشكل كبير بسبب عملها، فقد كانت تميل لأن ترى أن (تجاربها البينة) فى الأدب ستوضع جانبا مع بقية العجائب والغرائب والجهود الصغيرة التى توضع فى الأراشيف والمخازن.
هذه ليست قصة غريبة: الفنان غير المقدر جيدا، والذى يقدر مع الوقت. ولكن تظل وولف المخلوق الجذاب غالبا والضعيف دوما، تميل إلى نوبات الاكتئاب، هى حذرة جنسيا ولا تلبس بشكل مناسب، وغالبا لا يقدرها الكثيرون ككاتبة كبيرة بما يكفى لتقف أمام القوة العاصفة للتاريخ. لا تقارن بشخص مثل جيمس جويس، الحداثى العظيم الآخر، الذى يطنطن بعبقريته لأى أحد يستمع له، والذى يخطط لخلوده بحرص كالمحارب الذى يخطط للهجوم.
من بين الأسباب التى جعلت وولف تغرق نفسها من 70 عاما، فى سن التاسعة والخمسين هو ثقتها فى أن روايتها الأخيرة (بين الفصول) كانت فاشلة تماما. هناك كتاب مهمون قليلون نسبيا كانوا متشككين تماما فى حياتهم من إنجازاتهم.
فى حين نشر روايتى (الساعات) التى ظهرت فيها وولف كشخصية، أصبحت بشكل غير متوقع عارفا إن لم أكن محيطا وخبيرا بحياتها وأعمالها. كنت أندهش حين يتكرر ويأتينى شخص ما ويقول: نعم، وولف رائعة، ولكنها ليست جويس، أليس كذلك؟
هى ليست جويس، هى نفسها، كتبت فقط عن أناس من الطبقة العليا، ولم تكتب أبدا عن الجنس. أعمالها الكاملة لا تحتوى سوى على قبلتين رومانسيتين – واحدة فى (رحلة إلى الخارج) وأخرى فى (السيدة دالواى)، وبعد هذين الكتابين المبكرين نسبيا، لا توجد مشاهد جنسية من أى نوع.
ولكن فى الحقيقة فأنا أعتقد أنه مهما كانت التحفظات التى يطلقها الناس على وولف، فى مواجهة جويس، فعليهم أن يتعاملوا مع حقيقة أنها كانت تكتب عن الناس وعن التفاصيل الصغيرة التى كانت، فى هذا الوقت، تخص النساء وحدهن. جويس كان لديه حسا جيدا فى الكتابة غالبا عن الرجال.
كامرأة كانت وولف تعرف إحساس العجز الذى يمكن أن يصيب المرأة التى ليس لديها الكثير لتفعله. وكانت تعرف، بل كانت تصر، أن الحياة التى تنقضى فى الاهتمام بالمنزل وإقامة الحفلات ليست بالضرورة حياة تافهة تماما. هى جعلتنا نفهم أنه حتى الحياة المتواضعة والداخلية تظل بالنسبة للشخص الذى يعيش فيها رحلة ملحمية، مهما كانت عاديتها بالنسبة لمن يلاحظها من الخارج. وهى رفضت أن تتجاهل الحيوات التى يميل معظم الكتاب الآخرين إلى تجاهلها.
ربما يكون لديهم شىء ليكتبوه عن حالة وولف العقلية المضطربة، وخوفها أن تكون هى نفسها من الشخصيات الأقرب لأن تُنسى ويتم تجاهلها. إن انفعلت أو أستثيرت جدا فهى تقع فى حالة من اليأس تصبح كلمة اكتئاب معها غير كافية. فى فتراتها المستقرة، كانت رائعة فى الحفلات. أما فى الحالة الأخرى فتكون محطمة تماما. فهى تهلوس. وتهاجم أقرب الناس إليها، زوجها ليونارد تحديدا، وبحدة مميتة من تلك المتوفرة عند العباقرة، والتى كانت تتملكها عندما تفقد عقلها. فى هذه الحالة لم تكن فيرجنيا مرحة على الإطلاق !
تلك الفترات السوداء كانت تمر دوما، غالبا فى خلال أسابيع، ولكن وولف لم تكن فقط خائفة من النوبة القادمة، وإنما كان قلقة أيضا من كون عدم استقرارها العقلى سيمنعها من الحفاظ على عملها ككاتبة. خوفها من الجنون قادها، عندما بدأت تكتب الروايات، لتكتب روايتين تقليديتين نسبيا: (رحلة إلى الخارج)، (ليل ونهار). أرادت أن تثبت لنفسها وللآخرين أنها عاقلة بما يكفى (ولمعظم الوقت) لتكتب روايات مثل تلك التى يكتبها الروائيون الآخرون. وليس مجرد هذيان وصراخ امرأة مجنونة. وهى كانت مدفوعة أيضا برغبتها فى أن تظهر بصحة جيدة أمام محرر كتبها جورج داكورث، أخوها من الأم، والذى تحرش بها عندما كانت فى الثانية عشر. وولف أرادت أن تظهر لداكورث أنه لم يسبب لها أى ألم مستمر. وليس من الصعب أن نتخيل أنه لا يوجد كتاب رجال كثيرون مروا بنفس الموقف. بعد نشر رواية (ليل ونهار) وبسبب الرغبة فى تجاوز نوبات وولف وللتقليل من استثارتها، انتقلت هى وليونارد لضاحية هادئة بريتشمند، وأسسا دار نشر فى قبو منزلهما. هنا كان ميلاد دار نشر هوجارث، التى كانت إحدى منشوراتها الأولى رواية وولف غير التقليدية (غرفة جاكوب). نشر كتبها بالاشتراك مع ليونارد أدى لاختلاف حاسم. وولف وبشكل مفاجئ أصبحت لا ترد على أحد، وأظهرت قدرتها على كتابة روايات تشبه بعضها البعض. حتى بدأت فترة كتابة أعمالها العظيمة والتى استمرت حتى موتها. فلم تعد تريد إثبات أى شىء لأى أحد. (غرفة جاكوب) تبعتها بـ (السيدة دالواى)، (إلى المنارة)، (أورلاندو).. إلخ.
هذه الحرية الجديدة كانت محورية لوولف كفنانة، ولكنها لم يكن لها تأثير كبير على وقوعها المتكرر فى نوبات الاكتئاب، التى ابتليت بها طوال حياتها. العلاج النفسى لم يكن حتى قد بلغ طفولته آنذاك – فى هذا الوقت نشرت هوجارث أخيرا الكتب المبكرة لفرويد – ولم يكن هناك علاج متوفر لوولف. فى العشرينيات كان يقال إن الاضطرابات النفسية سببها تلوث الأسنان، هذا الذى يصل بطريقة ما إلى المخ. خلعت عدد من أسنانها، ولكن هذا لم يحل المشكلة.
ورغم ذلك، وإن كانت وولف على علاقة وطيدة بالحزن العميق أكثر من معظم الناس، إلا أنها مع ذلك، بتجل غامض للإرادة، كانت أفضل من الكثيرين فى نقل البهجة الخالصة لكونها حية. اللذة العادية فى الوجود ببساطة فى العالم فى يوم ثلاثاء عادى فى شهر يونيو. وهذا واحد من الأسباب التى تجعلنا نحن الذين نحبها، نحبها بهذا الشغف. فكرة أن الأمور قد تكون أسوأ. ولكنها تظل مصرة على التأكيد على الجمال البسيط والدائم، وإن كان ملاحقا بالفناء كما يلاحق الجمال دوما. إعجاب وولف بالعالم، وتفاؤلها به، هما تأكيدان يمكننا أن نثق فيهما لأنهما أتيا من كاتبة رأت أعماق الأعماق. فى كتبها تظل الحياة عظيمة ورائعة واحتفالية؛ إنها تتجاوز أعمق الإحباطات.
قرأت (السيدة دالاواى) لأول مرة وأنا طالب ثانوى بالمدرسة. كنت بطريقة ما متكاسل عن الدراسة، لم أكن صبيا من النوع الذى يختار كتابا مثل هذا ليقرأه (وأؤكد لك أننى لم أفعل هذا، لقد كان جزءا من المنهج فى مدرستى المتكاسلة بلوس أنجلس). قرأته فى محاولة يائسة لأثير إعجاب الفتاة التى كانت تقرأها فى هذا الوقت. أردت، لأغراض عاطفية تماما، أن أبدو أكثر ثقافة مما أنا عليه.
(السيدة دالواى)، من أجل هؤلاء الذين لا يألفونها، تتعلق بيوم من حياة كلاريسا دالواى، سيدة المجتمع التى تبلغ من العمر 52 عاما. تخرج فى الرواية لتشترى احتياجاتها، وتقابل حبيبا قديما لم تعد مهتمة به، تنام القيلولة وتنظم حفلا. هذه هى الحبكة.
على أى حال، نحن لسنا منحصرين فى الرواية عند وجهة نظر كلاريسا، فتيار الوعى ينتقل من شخصية إلى شخصية كما تنتقل العصا من عداء إلى عداء فى سباق الجرى. فندخل عقل بيتر وولش العاشق القديم، ونذهب فى رحلة التسوق مع إليزابيث ابنة كلاريسا. ونقضى وقتا معقولا مع سبتيموس وارين سميث، المقاتل الذى يعانى عصاب ما بعد الحرب (الحرب العالمية الأولى) وغير المتوازن عقليا. ونحن ندخل أيضا لأوقات قصيرة فى عقول شخصيات عابرة تماما؛ الرجل الذى يمر بكلاريسا فى شارع بوند، المرأة الكبيرة التى تجلس على مقعد بالهايد بارك. نحن نعود دوما لكلاريسا، ولكننا نرى وهى تمضى فى يومها المفرط فى عاديته أنها محاطة بتراجيديات وكوميديات متنوعة حولها. نحن نتفهم أن كلاريسا، وهى أى أحد، أثناء أداءها اليومى هى فى الحقيقة تتحرك داخل العالم الواسع، وتغيره بشكل محدود ببساطة عن طريق الظهور فيه.
فى (السيدة دالواى) تؤكد وولف على أن يوم فى الحياة، حياة أى شخص، يحتوى، إذا نظرت له باهتمام كاف، على الكثير مما يحتاجه المرء ليعرف كل شىء عن الحياة الإنسانية، شىء أشبه بالطريقة التى تظهر لنا فيها خريطة الكائن الحى كله عن طريق شريط الدى إن إيه. فى (السيدة دالواى) والروايات الأخرى لوولف، نعرف أنه لا توجد حيوات تافهة، فقط طرق غير لائقة فى النظر إليها.
لم أكن، وأنا فى الخامسة عشر، أفهم أى من ذلك. لم أفهم (السيدة دالواى) وفشلت تماما فى محاولاتى للظهور ذكيا أمام تلك الفتاة (ليباركها الله أينما كانت الآن.)، ولكن كان بإمكانى أن أرى، حتى وأنا طفل جاهل وكسول، كثافة وسيمترية وقوة جمل وولف. كنت أتعجب، أنها تتعامل باللغة بطريقة أشبه بتعامل جيمى هندريكس مع الجيتار[1]. أعنى بذلك أنها تتخذ طريقا ما بين الفوضى والنظام، هى تعزف، وفقط عندما يبدو أن الجمل ستشط نحو الفوضى، تعيدها مرة أخرى إلى النظام بشكل منسجم ..
كانت خبرتى الوحيدة مع الجمل قبل ذلك منحصرة على الجمل التقريرية. أما جمل وولف فقد كانت موحية. بدا أنه من الممكن أن تكون الكتب الأخرى محتوية على نفس العجائب. وكما اكتشفت فبعض الكتب تحتوى على ذلك بالفعل. قراءة (السيدة دالواى) غيرتنى، شيئا فشيئا، لأصبح قارئا.
بعد عشرات السنوات من القراءة الأولى، التى جعلتنى مرتبكا ومندهشا، والتى غيرتنى، حاولت أن أكتب رواية عن وولف و(السيدة دالواى). وصلت للفكرة وأنا قلق بشكل مفهوم. من جهة فالمرء إذا وقف بالقرب من شخص عبقرى، فيكون أقرب إلى أن ينظر لنفسه كشخص أصغر مما هو عليه فى الحقيقة، ومن جهة أخرى فأنا رجل، ووولف ليست فقط كاتبة عظيمة ولكنها أيقونة نسوية، وهناك تأكيد طويل الأمد لإحساس أنها تنتمى للنساء.
ما زلت أريد أن أكتب كتابا عن قراءة كتاب. (السيدة دالواى) على الرغم من عدم فهمى العام لأغراضه الكبرى، أظهر لى، فى سن مبكرة نسبيا، ما الذى يمكن فعله بالحبر والورق. يبدو أنه بالنسبة لبعضنا فقراءة كتاب بعينه فى وقت معين هو خبرة حياتية جوهرية، تتساوى هنا مع مصادرنا ككتاب بالخبرات الملهمة التى تقدمها الروايات التقليدية مثل الحب الأول وفقدان الأب، والزواج الفاشل.. إلخ.
مع تشككى الكبير، قررت أنه من الأفضل أن تخاطر بالدخول فى نار محرقة من أن تكتب كتابا وأنت تعرف أنك قادر على كتابته. هكذا بدأت.روايتى (الساعات) أساسها هو إعادة سرد معاصرة لـ(السيدة دالواى)، أنا تساءلت كم ستتغير شخصية كلاريسا دالواى عن طريق عالم يكون لدى الناس فيه مدى واسع من الإمكانيات. هذه الفكرة أثبتت أنها مجرد فكرة جيدة ولكنها لم تدفعنى للكتابة، نحن بالفعل لدينا السيدة دالواى، سيدة دالواى الرائعة، من فى العالم يريد واحدة أخرى.
ولكونى مصرا (والإصرار هو ميزة جوهرية لأى روائى) لم أمل لفكرة ترك الكتاب تماما. حاولت أن أكتبه بحبكة مزدوجة، أبدل فيه بين الفصول التى تتحدث عن السيدة دالواى المعاصرة والفصول المتعلقة باليوم الذى فى حياة وولف والذى بدأت فيه كتابة الكتاب؛ عندما بدأت وهى متشككة ومضطربة فى وضع الجمل الافتتاحية للكتاب الذى سيبقى إلى الأبد. أنا حاولت حتى كتابة قصة وولف فى الصفحات ذات الأرقام الفردية وقصة كلاريسا فى الصفحات ذات الأرقام الزوجية، بحيث يقبلان بعضهما فى كل مرة تقلب الصفحة. مثل هذه الأفكار يكون لها معنى أثناء الوحدة وأنت فى مكتبك أكثر مما تظهر للناس .
ولكن رغم تضمين العنصر الثانى ظل الكتاب غير مضبوط. ورفض أن يتلاءم مع الأداء الأدبى. ظل بعناد فكرة رواية أكثر منه رواية بالفعل.
عند هذه النقطة قررت أن أدع الكتاب، وأن أكتب بدلا منه كتابا آخر. وفى صباح أحد الأيام وأنا جالس على جهاز الكمبيوتر سمحت لنفسى أن أتساءل عما تعنيه وولف بالنسبة لى، بما يكفى لأقضى معظم العام فى كتابة رواية منحوسة عنها وعن عملها. بالطبع أنا أحببت (السيدة دالواى)، ولكن كل روائى أحب عددا من الكتب والقليل منهم شعروا بحاجة لكتابة كتب جديد عن تلك القديمة. (المثال الذى يأتى للذهن هو رواية جان ريس بحر سارجاسو الواسع، الذى كان يعيد، كما نعرف، سرد رواية جين إير من منظور بيرثا، زوجة روتشستر الأولى.)
ما مشكلتى إذن؟ جالسا على الكمبيوتر، تخيلت كلاريسا دالواى، وتخيلت وولف صانعتها وهى تجلس خلفها، وتلقائيا تخيلت بعدها أمى وهى جالسة خلف وولف.
كما فكرت فى الأمر، بدأت أتعامل مع أمى على أنها الشخصية المنطقية الثالثة. أمى كانت ربة منزل، من نوع النساء اللواتى دعته وولف بـ "ملاك المنزل"، وهى وهبت، مثل العديد من الملائكة، نفسها لحياة كانت صغيرة جدا عليها. كانت دائما تبدو لى كملكة أمازونية، أُسرت وأحضرت إلى الضواحى، حيث أجبرت على العيش فى سجن لم يكن ليحتويها، ولكنه احتواها جبرا.
أمى كانت تتخلص من مشاعرها الغاضبة بالتركيز على كل تفصيلة ممكنة. كان يمكنها أن تقضى نصف نهارها لتختار مناديل المائدة المناسبة للحفل. كان تحضر كل وجبة بشكل رائع، ولكنها تظل قلقة إن كانت أخفقت. حتى أن الجراثيم قررت فى النهاية عدم دخول المنزل تماما، لأنها عرفت أنها لن تجد مكانا فيه .
جالسا أمام الكمبيوتر، تساءلت؛ إن محوت الهدف الأعظم – بالنسبة لامرأة يكون رواية، وبالنسبة لأخرى يكون منزلا نظمته جيدا وحافظت عليه بحيث منعت التلوث والحزن من الوجود فيه – فأنت تقوم فى الحالتين بنفس الجهد. هذا هو الأمر. الرغبة فى إدراك المثل الأعلى، فى لمس المتعالى، فى خلق شىء أعظم مما يمكن ليد وعقل الإنسان أن تخلقانه، بغض النظر عن مدى موهبة تلك الأيادى والعقول.
بدا بشكل أساسى أن أمى ووولف مرتبطتان بمهمتين متشابهتين؛ الإثنتان تسعيان نحو مثل مستحيلة، والاثنتان لم تشعرا بالرضا، سواء بكتاب أو بكعكة، فى الحالتين لم يرضيا رغبتهما فى الكمال، هذا المعلق بعيدا عن المتناول.
هذا التشابه يبدو حقيقيا من خلال مضمون أعمال وولف، التى أصرت على أنه لا توجد حياة يمكن أن تهجر، وأن حيوات النساء تكون عرضة للرغبة فى الهجران أكثر من حيوات الرجال.
وهكذا أعدت تسمية أمى بلورا براون (وفقال لمقال لوولف معنون بـ "السيد بينيت والسيدة براون")، أصبح الكتاب ذا حبكة ثلاثية، وانطلقت من هنا.
ورغم أن الكاتب العظيم هو أولا وأخيرا كاتب عظيم، بغض النظر عن حياته أو حياتها أو أموره الذاتية، إلا أن وولف ربما تكون أعظم مؤرخة لحيوات النساء. نساءها لسن سيدات شهيرات لديهن سمعة. ومهاراتهن أقرب للمهارات النسائية التقليدية. السيدة دالواى مثل السيدة رمزى فى (نحو المنارة) هى مضيفة مثالية. الاثنتان لديهما موهبة كبيرة فى تنظيم حفل غداء، ويستطيعان مساعدة أى شخص ليشعر بالارتياح، ويتأكدان من كون الطعام وتنظيم الأطباق فى حالة مثالية. لعشرات السنوات بعد هذه الفترة، تحن نزدرى بشكل كبير هذه القدرات. والأفضال، كما يمكن أن يقال، التى للنساء اللواتى يعانون المشكلات العالمية، لا تزال حتى فى 2011 تنسب عموما للرجال.
جزء من عبقرية وولف يكمن فى رفضها النزول متعاطفة مع شخصياتها، ورفضها لتعظيمهن. ولكن الرجال فى رواياتها هم الذين يبدون سخيفين بعض الشىء؛ ريتشارد دالواى وعمله الصغير بالقضاء، السيد رمزى وحاجته المستمرة لإعادة التأكيد على عبقريته وقوته وقدراته. فبينما يعمل الرجال ويعبرون عن قلقهم ويندبون حظوظهم فى العالم، تبث النساء الحياة فى الرجال وفى عائلاتهن وفى بيوتهن. النساء هن التيارات الكهربية التى تسرى فى الغرف. النساء ليسوا فقط مصادر الراحة بل أيضا الحياة والاكتمال. النساء يعرفن أنه فى النهاية، نحن نظل فى حاجة إلى الطعام والحب، حتى بعد أن يأخذ وظائفنا الشباب، وتنتقل أعمالنا الأرضية إلى رفوفهم.
وولف كانت، وهذا لا يفاجئنا، غير واثقة مما تكتب، حتى لو كانت تكتبه بشكل رائع. هى كانت تعتقد أن أختها فانيسا التى كان لديها أطفال وعشاق وشعور عام بالحرية المهملة مع إخلاصها لنفسها ولرسومها هى الفنانة الحقيقية. وولف كانت تعرف أن أختها ربما لا تكون بالضرورة أعظم المثقفات، ولكننها ظلت تشعر بأن فانيسا ذات روح متوهجة فى حين أنها هى الخالة الثقيلة والنحيلة والعقيمة (زواجها بليونارد كان ودودا ولكنه لم يكن مفعما بالعاطفة) التى تقضى حياتها فى كتابة الكتب. هذه المهمة مثيرة للإعجاب ولكنها جافة جدا إن قورنت برعاية أسرة.
كانت تشعر بهذا حتى وهى تكتب (غرفة تخص المرء وحده)، الوصايا النسوية القديمة. التى يبدو أنه ليس من السهل عدم تنفيذها بشكل أكبر مما نتصور. ربما يمكن أن تقول أنه من معايير العظمة هو قدرة الفنان على التعالى على نفسه وعلى شخصيته، على قلقه وعلى خطاياه. وولف كانت تطلب المساواة للنساء، وفى نفس الوقت، كانت قلقة لأن عقمها كان يعنى أن حياتها كانت عبارة عن فشل .
(الساعات)، والذى كان العنوان المبدئى لرواية وولف (السيدة دالواى) فاجئت كاتبها وناشرها ومحررها، لأنها فرت مما كان يبدو المصير الواضح، وهى أن تُقرأ (غالبا بعدم رضا) من عدد قليل من معجبى وولف وبعدها تسير بما جمعته من كرامة نحو أرفف الكتب المهجورة. ولكنها باعت بشكل جيد (وفقا لقواعد الأعلى مبيعا) وبعدها وهى مفاجأة كبرى للجميع، تحولت إلى فيلم من المعروف أنه ناجح. حيث لعبت فيه نيكول كيدمان دور فيرجينيا وميريل ستريب كلاريسا، وجوليان مور دور لورا. عدد من الناس سألنى عما أعتقد أنه سيكون رأى وولف فى الكتاب والفيلم. أنا متأكد أنها كانت ستكره الكتاب، فقد كانت ناقدة حادة. وربما سيكون لديها تحفظات على الفيلم، وإن كنت أعتقد أنه كان سيسرها أن ترى نجمة سينمائية من هوليود تقوم بدورها.
أمى، الشخص الحى الوحيد الذى ظهر فى الكتاب، لم يعجبها الكتاب، وإن كانت ادعت بشجاعة أنها تحبه. أنا، المخلوق الأنانى، اعتقدت أنها ستكون سعيدة لفكرة أننى اعتبرت حياتها مهمة بما يكفى لتوضع فى رواية. ولكن لم يكن يخطر ببالى أنها ستشعر بالاستباحة والخيانة، وأن حياتها لم تفسر بشكل صحيح. أيتها الأمهات، لا تنشئن أولادكن ليصبحوا روائيين.
بعد عدة سنوات من نشر الرواية، وأثناء تصوير الفيلم، أكتشف أن امى مصابة بالسرطان. لم يكن هذا معروفا لمدة طويلة، وحينما عرفناه كان قد مر وقت طويل. عاشت لمدة أقل من عام بعد التشخيص.
كنت فى لوس أنجلس معها، ومع أبى وأختى أثناء أيامها الأخيرة. اتصلت بسكوت رودين، منتج الفيلم، وقلت له: أنا لا أعتقد أن أمى ستكون قادرة على مشاهدة الفيلم، هل يمكن أن ترتب لها رؤية أى شىء جاهز منه؟ رودين كان لديه عشرون دقيقة من المشاهد يمكن أن تعرض على شريط فيديو، أحضره مندوب إلى منزل أسرتى، وضعته فى التلفزيون فى حين انتظر المندوب بهدوء فى غرفة أخرى.
وجدت نفسى جالسا مع أمى المريضة والمحتضرة على أريكة كانت لدينا منذ كنت فى الخامسة عشر، نشاهد جوليان مور وهى تقوم بدورها، وكأن عملية تناسخها قد تمت وهى لا تزال حية.
هذه حادثة صغيرة جدا بالنسبة لطبيعة الأشياء. إنها من مظاهر الرحمة الصغيرة. إلا أنه بعد عشر سنوات، ما زلت مذهولا من طبيعة الأحداث؛ فمن جهة لدينا وولف التى تبدأ روايتها الجديدة، قلقة من كونها لن تكون أكثر من كونها رغبة عن كتابة تجربة فاشلة أخرى لإنسان آخر، مكتوبة بواسطة امرأة غريبة الأطوار أكثر من كونها عبقرية، كاتبة متطلبة تهتم بحيوات نساء عاديات فى عالم محاصر بالمعارك والآلام، ومهدد بأن يفنى كله. ومن جهة أخرى، وبعد 70 عاما، لدينا أمى، المرأة التى ربما ومن الممكن أن تكون قد كتبت عنها، ترى ممثلة متألقة تقوم بدورها، وتعرف (على الأقل أتمنى أن تعرف) أن حياتها تعنى أكثر مما سمحت لنفسها أن تتخيل.
السبت، فبراير 18، 2012
أنثي الشجر !
- الصورة التي أستحضرت الكتابة -
* إلي :Amged Rayan و Elasmaie Bashri و ... هما في ملكوت البهاء الشجري !
أراها هذي الأنثي ،
... أنثي الشجر :
تصغي إلي هديل النسغ
وهو يتصاعد من أعماق التربة
إلي حنجرتها...
يااااه ،
منذ متي سرقت الخفقان
من طفولة الغابات ،
ثم جعلت نبضها في
غصونها ،
في القلب منها والرئات ؟
كأنها تصرخ :
" من يعيد للعالم
أشجاره الفاتنات" ؟
نظرت إلي شعرها الشجري
الطويل طويلا
فتذكرت الجميلة التي كانت
في البنات !
وشلالات بلادي تتساقط علي
دفاتري قصائد حب ،
وبساتين فرح ،
فيزهر في جسدي النبات !
مخضرا ،
بهيا ،
يضئ علي مرايا قلبي
فيزداد الوجد مني
يا" شجري " !
نظرت إليها ثانية ،
لا تزال في عريها تفيض
زرقة هائمة
رغم السحابات البيض
من حولها هاربة !
بدت كأنها تشق السماء نصفين :
نصفها الأول يميل إلي الليل
متدليا كالوشاح
علي أوراقها / فساتينها الخضر
وخصرها
ونهودها
وخواتم عرسها
حتي الصباح !
وتراءي من بعيد قرص الشمس
معلقا كقلادة ،
تحيط منها العنق
فيزيد في عصيرها الشبق
ويصطبغ بالوردي ،
من حولها الأفق !
أما النصف الثاني ،
فلا يزال يشرق في دم الغصون
بكل عذوبة الشجر ،
وبريق العيون .
بعد برهة ،
سيشرق منها السماء
ويذهب عنها الظلام
ليبدأ يصدر عنها
رحيق الكلام :
شجو الشجر ...
أليس " كل شئ شجر "؟!
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* الصورة " العجيبة " كان قد أستعارها الشاعر الصديق الأصمعي باشري من صفحة أمجد ريان ثم نشرها علي صفحتي بالفيسبوك ، فأستدعت - جراء فتنتها البادية - أشعارا وتعليقات جميلة و ... تستحقها !
السبت، فبراير 11، 2012
تأتيني بأزرقها !
- بيكاسو -
تطلق في فضاء مواجدي ،
عصفورها الناري ،
يحف به الندي !
يحط بجانبي ثملا ...
ليغفو ،
لكنني ...
وأنا المسهد / المجرح
بالغياب وبالجوي
أراه !
تتراكض الآهات في خفقاته
فيكاد يوشك أن ينام
ويضيع في سرب الغمام!
يكاد ورد الليل فوق جبينه
يهتز
تبرق في يديه ،
مسافتان لنافذتين
و ... قبلتين
وبعض آه ،
لكني أراه !
فرحا بهبات فتنتها ،
الآن ،
في حلمي أراه !
الجمعة، فبراير 10، 2012
الوحيدة !
أمام باب غرفتها جلست
لكنها تركت نوافذها مشرعة للرياح !
السيدة الوحيدة ،
حدثت عنابها :
" كيف أقسم نفسي بين العاشقين ؟ "
ثم راحت ترقب الغمام
وهو يتسرب من بين أصابعها ،
وأحلامها...
وهي تهرع إلي قلب صبية
تمرح مع صويحباتها قرب النهر،
فلم تعد تجالس فواكهها ...
لا حاجة بها الآن ،
لأنها غدت ،
تقسم نفسها بين العاشقين !
لكنها تركت نوافذها مشرعة للرياح !
السيدة الوحيدة ،
حدثت عنابها :
" كيف أقسم نفسي بين العاشقين ؟ "
ثم راحت ترقب الغمام
وهو يتسرب من بين أصابعها ،
وأحلامها...
وهي تهرع إلي قلب صبية
تمرح مع صويحباتها قرب النهر،
فلم تعد تجالس فواكهها ...
لا حاجة بها الآن ،
لأنها غدت ،
تقسم نفسها بين العاشقين !
الأحد، فبراير 05، 2012
لوركـا ، ريحانة الألفية الثالثة أيضا !
الجزء الأول : قاتل لوركا :
------------------------
------------------------
"أيُّها المسيح السيَّد
بحقِّ الجرح النازف في خاصرتك
بحقِّ قرنفلات دمك الزكيّ
عكِّر الليل على الجنود!"
- لوركا -
أنتونيو فونسيكا:
نكتب عنه، لا لنمجده أو نرفع من شأنه الوضيع أصلاً! ولكنا نكتب لنلعنه في التَّاريخ والحياة والناس! فقد قَبَرته الأقدار في وحل الحياة، فمات وهو بعدُ حيّ! منبوذٌ منطوٍ كخرقةٍ باليةٍ مهترئة، مسحوقاً بين الناس كصرصارٍ تافه! صَنفٌ في الناس وضعته أقداره في موضع السوء والشذوذ والدناءة، فالتصق العار به، بكيانه كله وبجسده أيضاً. فعاش ومات مجللاً به، يتنفسه كالهواء في حياته جميعها، وصاحَبَهُ في ما بعد مماته! لا يذكره أحد إلا ليسقط على ذكراه الخاملة دثاراً كاملاً من الحقارة ليظل محيطاً به لأزمانٍ طويلةٍ قادمة!
لا، لم يكن أندلسياً، ولكنه كاستلياني ولد في (تولاو) في العاشر من تموز عام 1890م. ضابطٌ في سلاح المشاة أُحيلَ للتقاعد بعد الحرب برتبة كولونيل. لم يكن له شكلُ الإسباني أبداً: فقد كان ضخماً، عيناهُ شديدتا الزرقة، وشعره أشقر، وجلده أبيض مليء بالنَمَش، ميَّالٌ إلى العنف وحب الظهور والدخول الطوعي في المشاجرات، يحتقر النساء ويعاملهن كما يروض الخيول بقسوةٍ مخادعةٍ تخفي وراءها دائماً استعداداً للنازلات وربما للتراجع! لا يعرف المواقف الكبيرة، ولا القيم والمبادئ في الحياة، حصاناً يحركه المهماز، يتحرك ويجمح، يبدو مصقولاً وناصعاً من الخارج، وفي داخله تنطوي جوانحه على سمات أحقر الوحوش وخستها!
كان يعمل كالحصان، ويلمع في تلك الأجواء المشحونة بالرهبة والخوف والحذر. وتنهال عليه المكافآت والأوسمة والأنواط العسكرية، ويزداد هو صلفاً وخسةً ونذالة!.
الأبناء ومظاهر اللعنة
(يا سيِّدَ الشهداءِ حمزة
قد غدوتُ ضحيَّتَك،
أنا ما جَنَيْتُ على حياتِكَ
ما جنَاهُ عليَّ موتُكَ
أنا لم يصافحْنِي الرَّسولُ..
أنا لم يكلِّمْنِي الرَّسولُ..
ازْوَرَّ عَنِّي!
نَدَمٌ تطاردُهُ الحَيَاةُ،
قَرحٌ على وَجْهِ الزَّمَان!
وشربتُ خمرَ الأرض لكن ما ارْتَوَيْت!
أيَّاً مَضَيْتُ فَمَا يُفَارِقُنِي الشبح!).
"وحشي قاتل حمزة " من مسرحية " الحسين ثائراً ، الحسين شهيدا ": عبدالرحمن الشرقاوي.
خُدِعَت فيه (ماريا مونتيسنوس) وتزوجته، تزوَّجَت الصَّلَف العسكري والزَّهوَ المخادع، ذهبا معاً في فرقة الحماية إلى إفريقيا، ثم إلى سان تلندر، واستقرَّت بهما الحال في مدريد بوزارة الحرب. أنجبت له ماريا ولدان وثلاث بنات. كان يكره بناته الثلاث بالجملة! فقد كَرِهَ النساء قاطبة، رغم مباذلِهِ وعُهْرِهِ وفُسُوقِهِ!
بيدرو، ابنه الأكبر، هو الوحيد من بين أبنائه الذي كان يحبه، فأقصاه عن دراسةِ الطب التي أرادها الصبي، وألحقه بالجيش، فمات مقتولاً في (تولاد)، خلال حصار (الكاذار)، وهو في ريعان شبابه، وظلَّت ماريا تقول إنه هو من قتل ابنه!، لأنه قد تورط في قتل الشاعر، ولم يَنْصَع لنداءاتها ويبتعد عن آل لوركا، ولهذا، فإن اللعنة ظلت تطارده أينما حلَّ، وكانت هي تطارده بكلماتها الجارحات واصفةً إياه بـ(قاتل بيدرو الحقيقي)!. هكذا ظلت تردد طوال حياتها حتى فارقت الدنيا من بعده!.
علاقة بيدرو بأبيه كانت علاقة ملتبسة، غامضة، يخالطها الإثم والعار والعُهر: في إجازات بيدرو النادرة، كانا يجلسان سوياً منفردين، معزولين عن بقية الأسرة، وفي العَتمَة، بعيداً عن الجميع، كانا يتحدثان: يدخنان السيجار ويعُبَّان الخمر من زجاجات النبيذ الإسباني، وكل مساء يخرجان معاً إلى حيث يقومان ـ معاً أيضاً ـ بخيانة الأم!، يخونانها معاً ومع امرأةٍ واحدة؛ غجرية عاهرة تُدعَى (بيريكا فارول). وتشاء الأقدار أن يموت بيدرو تحت الحصار بعد أسابيع ثلاثة فقط من اغتيال الشاعر! اهتزَّ فونسيكا لموت الابن، اهتزَّ وجدانه كله، واخترقه سهمٌ ملتهبٌ مسموم!، فأصبح يعبُّ الخمر ليلاً ونهاراً، حتى أصبح كالنفاية، وصيحات الزوجة المعتزلة ولعناتها تسقط عليه كالحجارة والأشواك، فتفسد عليه أيامه ولياليه وبقية عُمرِهِ القميء!.
الابن الأصغر لويس، أصبح منطوياً على ذاته كالقنفذ، يبتعد عن الأسرة جميعها وعن بقية الناس، بدأ بدراسة اللاهوت، فأصبح يسوعياً في روما، لا يكاد يتواصل مع أسرته إلا نادراً، ومن بعد، أقام بصورةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ في أحد الأديرة في إسبانيا، بعيداً عن الأسرة وسيرة الأب، مطارداً هو الآخر باللعنة ذاتها ـ فقد نجا من الموت بأعجوبة عندما أَضرَمَت إحدى العصابات النار في الدير الذي يقيم فيه، فعاش بقية عمره قصيَّاً وبعيداً ومنعزلاً حتى الموت!
البنتُ الكبرى ماتت وهي تضع مولودها الأول الذي قضى بعد وفاتها بساعاتٍ قليلة، ولم تكن قط سعيدة بزواجها، كانت حزينة، منكسرة، وزوجها السِّكير يَسُومها العذاب!
البنت الصغرى تزوجت وهي في العقد الثاني من عمرها، وكانت وزوجها في عراكٍ مستمر، منفصلين في واقع الأمر، وقد أوْلَدَها بنتين وولداً، مات الولد عنها صغيراً وهو في السادسة، وذهبت كلا البنتين في الحياة، فلم تعرف الأسرة لهما من سبيل!.
أما البنت الوسطى فأمرها عجب: هَرَبت إلى إحدى إرساليات الأديرة المنتشرة في ذلك الزمان، ولعلها نَشَدَت أن تكفِّر عن خطاياها وخطايا الأسرة المنكوبة المطاردة باللعنة الأبدية، سافرت مع الرَّاهبات في إرساليات التبشير إلى مجاهل إفريقيا! وهناك، وسط الأدغال والأحراش الكثيفة ذات الظلمات، وعلى وَقْعِ ضربات الطبول وصيحات الرعب، داهَمَت مجموعة مقاتلة من الأفارقة البدائيين معسكرهم وقتلوا كل من في المعسكر، وأحرقوا الخيام والمساكن والأمتعة والمبشِّرين! كانت مجزرة بشعة، ولكنها نجت منها، ولكن بعد أن اغتصبها رجل القبيلة القوي، ثم تركها للخُلَّص من أتباعه، وقد فاقوا العشرين، تعاقبوا عليها واحداً بعد الآخر! وتركوها. أتى بعض المبشرين إلى أنقاض المعسكر وأخذوها ـ وهي كالحطام البالي ـ إلى حاضرة الفاتيكان في روما، حيث أُدخِلَت هناك أحد الأديرة وهي حُبلَى، مجللةً بالعارِ والانكسار، ومن بعد، وَضَعَت عنها حملها: طفلاً ذي ملامحَ إفريقيةً، ثمرةَ العنف والاغتصاب الوحشيِّ المجنون!، وأصبحت هي الوحيدة التي بقيت ـ من بعد ـ من أسرة فونسيكا، لتروي، من بين المرارةِ والذهول وظلال الموت والفجيعة القاسية؛ لعنة الشاعر الكبير التي طاردت الأسرة فرداً فرداً حتى الموت!
أهي عدالة السماء، أم هي تجليات الحقارة التي أمسكت برقاب افراد الاسرة المنكوبة فأوردتهم هذا المورد الذرئ الفاجع؟!.
ماريا الزوجة تعتزل الحياة:
اعتزلته؛ ومن بعد هجرته تماماً، بعد أن تأكدت من خيانتِهِ لها مع عاهرات من الدرجة الثالثة؛ يتخذ منهنَّ عشيقات، أدرَكَت ـ بغريزة الأنثى لديها ـ خِسَّة ونذالة من اتخذته لها زوجاً، فقد أسْفَرَ عن سجاياه البشعة كلها أمامها، أصبح أمامها عارياً وواضحاً كالحثالة، فقد وَجَدَتهُ مخادعاً كذاباً وحقيراً، سكيراً، عربيداً وقاتلاً ملطَّخَةٌ أياديهِ وقلبُهُ وملابسُهُ بدماء ضحاياه؛ أصبح لدى حاكم غرناطة المدني (فالدر) منفِّذاً لجرائمِهِ القذرة كلها، يقتلُ ضحيته بدمٍ باردٍ وتلقائيةٍ باردةٍ كالثلج، يفعلها وهو يمسح بأصابعهِ النتنة أطراف جبينه المكلل بالخزي والعار، عاشت معه ماريا انفصالاً كاملاً، كلٌّ منهما في غرفةٍ خاصة، بعيداً عن الآخر، كانت تبتعد عنه بأقصى ما تستطيع
كانت البداية لهذا الوضع الشاذ بين الزوجين حين عرفت بعلاقته الآثمة مع (بيريكا فارول)، فاعتزلته وعَزَلَت نفسها بمحض إرادتها في الطابق الأرضيّ من البيت، واتخذت من الغُرفَة مهداً لها، ومعبداً وكهفاً تأوي إليه، تقبع فيها بين أركانها وأطرافها، تندبُ حظها في الحياة، وتلعن أقدارها التي ربطت بينها وهذا الوحش النتن المجلل بالنذالة والصلف العسكري المسلَّح.
في (لوس فيلز)، منزل الأسرة، أصبح الوضع لا يطاق: مات بيدرو، ورحل لويس عن البيت ليقيم مع أستاذه القديم في الحقوق الكنسية، نأى بنفسه عن البيت والأسرة وذهب في البعيد حتى الأبد، وتفرقت البنات بمصائرهن الفاجعة، وبقيت ماريا الزوجة التعسة معتزلةً في كهفها، وحيدةً كطائرٍ جريحٍ مهيضِ الجناح في قفصٍ كئيبٍ بارد؛ والأب، جالبُ اللعنةِ وبَطَلُها، يعبُّ الخمر، يخرجُ صباحاً ليحضر في الهزيع الأخير من الليل محمولاً على الأيدي، مخموراً كثورٍ ميت، مغموساً بالدم، تتصاعدُ منه روائح مختلطة نتنة: رائحة التبغ والخمر والطعام والعرق والشَعْر، روائحُ عطنة لزجة، خانقة كما الكبريت، حامضة كما الليمون المتخثر، دبقة كالشَّمع الحار المتساقط عن الأيدي، تصدر عنه رائحة الأعشاب المتعفنة وسط مياهٍ راكدةٍ آسنة، ويتكوَّمُ على الأريكة أو الفراش، كومةً من اللحم والدم والعرق، يئنُّ، فتصدرُ عنه حشرجات نازفة كحيوانٍ جريحٍ يتألم بعمقٍ وأبعادٍ مخيفة، وتتصاعد أبخرةُ تنفسهِ في شخيرٍ يتعالى ليملأ الغرفة كلها والردهة والبيت وأطرافه جميعها، كحيوانٍ ذُبِحَ لتوِّه وما اكتمل منه الذبح؛ يتكوَّمُ كجثةٍ متحللةٍ متروكةٍ في الخلاء الفسيح.
في ليلة الأحد، أتى به بعد منتصف الليل حارسان مدنيان، مخموراً بصورةٍ مرعبة، يحملانه كجثة، ملطخاً بالدم، تفوح منه روائحه المختلطة؛ الشديدة اللزوجة كالصمغ، ألقياه على أريكة قديمة في ردهة المنزل.
ـ سيدتي، زوجك ارتكب لتوه جريمة قتل!
كانت ماريا تقف في منتصف الردهة، متلفعةً برداء من الصوف الأسود، شاحبةً كما الأشباح، ولكنها متعالية ومتماسكة كأبراج الكنائس، وفي بريق عينيها تَجَمَّعَ كلُّ احتقارها لهذا المسخ البشري المتكوم كبقايا لحومٍ مهترئةٍ على الأريكة، قالت بعدم اكتراث:
ـ ليست هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا!.
ومَضَت إلى غرفتها. لقد قتل عشيقته (فارول)، رصاصتان في البطن، رصاصتان في العُنق، ورصاصةٌ خامسةٌ في الرأس!. الأخيرة كانت رصاصة الرحمة، التي اختصَّ في إيداعها الرؤوس!؛ قَتَلها في الملهى أمام الملأ، وارتمى عليها يأخذُ الجثةَ إلى أحضانه، مُلطِّخاً نفسه بدمِ الضحيةِ البارد، ويخور فوق الجثة كالثور المذبوح !
غرناطة في الظلام :
في تموز العام 1939م، والجمهورية الفتية تكافح كي توطِّد سلطتها، يعاضدها ويساندها شرفاء العالم أجمع، يتجمع اليمين الإسباني وأصدقاؤه وأذنابه، وينهضون بعبء تقويض الجمهورية وأنصارها، بعنفٍ وحشيٍّ بشعٍ لم يشهد التاريخ الإنساني له مثيلاً، وقد خَلَّدَ بيكاسو تلك الوحشية المرعبة في لوحته الخالدة (جورنيكا)، تلك القرية الإسبانية الوادعة، التي حوَّلَهَا القصفُ اليمينيّ إلى شظايا: الناس والبيوت والحيوانات والطيور والأشجار والعشب وأجمل الورود والزهور، اختلطوا جميعاً كما اختلط الليل فيها بالنهار، هيروشيما الإسبانية، أيَّةُ نذالةٍ تلك وأيُّ حقد؟!.
في مثل هذه الأجواء القاتمة، وجد (فونيسكا) نفسه مغموساً في المؤامرات والدسائس والدم، كان يوقف زملاءَه في السلاح لمجرد الشبهة، ويودي بهم إلى ساحة الإعدام، مزهواً وصاعداً على سلم الترقي والمجد العسكري الزائف، هكذا أوقف رفيق دورته العسكرية الحاكم المدني (فيدال) و(توريس مارتينيز) وتمادى، فأوقف الدكتور فرناندز (مختار غرناطة الاشتراكي)؛ كان المختار صِهراً للشاعر لوركا، وابن عمِّها الشقيق لوالد زوج فونسيكا نفسه!، أودى بهم جميعاً إلى الموت!. كان هو الذي يتقدم ببلاغ الاتهام في مواجهة الضحية، ومن بعد، يقود ثلةً من الجنود ويذهب بهم ليوقف ضحيته ويقفل عليها في زنزانةٍ مظلمة، باردة، رطبة؛ وفي فجر اليوم التالي يكون على رأس فرقة الإعدام. يذهب في الفجر، متلفعاً بالظلام والليل بعرباتٍ مدنيةٍ عاديةٍ إلى الريف، حيث الخلاء الممتد بعيداً عن الناس وعن ضمير العالم، يغتال الضحية بمجموعاتٍ كاملةٍ من الطلقات، على أن تكون الرصاصة الأخيرة في العنق أو الرأس أو كليهما، تكون من غدَّارته هو بالذات، تخرج من بين أصابعه هو، كان حريصاً جداً على هذا الشَّرط، ينفذه بدقةٍ وحرصٍ ومثابرةٍ غريبة، حتى أصبح معروفاً برجل المهمات الخطيرة والقذرة، وهو بهذه المهمات القَذِرة مزهوَّاً؛ يُخالط زهوه الزائف بزجاجاتٍ كاملةٍ من الخمر والعُهر والنَّوم والدم!.
20 تموز 1936م، استولى الجمهوريون على غرناطة، قامت لجانٌ عسكريةٌ ومدنية للطوارئ، ولَمَعَت في أجواء ذلك العنفوان الجمهوري شخصيتان: الحاكم المدني سيزار توريز مارتينيز، والآخر هو هو رئيس بلدية غرناطة الاشتراكي الدكتور مانويل فرناندز مونسينوس، والذي كان في الوقت نفسه نائب رئيس اللجنة التنفيذية لاتحاد العمال، وهو زوج كونشا غارسيا لوركا، أخت الشاعر لوركا، كانوا يعتمدون على قوات كبيرة: 16 ألف عضواً في الاتحاد العام للعمال، و12 ألف عضواً في اتحاد الشَّغيلة القومي، والكثير من الطلاب والكُتَّاب والفنانيين والجنود. ولكن سرعان ما أخذت القوى المضادة للثورة تتجمع بسرعة، وتسترد قواها التي فاجأتها الجمهورية: 600 من الكتائب، و400 ينتسبون للاتحاد الإسباني المستقل، تحركوا ساعة القيلولة: (مينوز وتوماس وفالدز ونستار وفونسيكا)، بالدبابات والمدفعية الثقيلة، طوَّقوا الجنرال كاميان، صادروا سلاحه ثم قتلوه، قَتَلَهُ فونسيكا بالذات، استولوا على المراكز المهمة، وقصفوا حي (البائسين)؛ مركز المقاومة، الحي الذي خلَّده الشاعر (لوركا) في قصائده، قصفوه ببطاريات الميدان واقتحموه، وفي مقبرة (سرو ديل سول)، أعدم رئيس البلدية وأعوانه جميعاً، وتولى فونسيكا تسديد رصاصات الرحمة، مهمته التي يحذقها وينفِّذها بدقةٍ متناهيةٍ وبإصرارٍ غريب!.
عاشت غرناطة خمسة أيام كاملة تحت تهديد السلاح والدم والعار، وتم تنصيب القمندان (فالدز) حاكماً مدنياً لغرناطة الجريحة النازفة، وقام هو على الفور بترحيل مقرِّه الرسمي إلى معتقل وساحة محكمة استثنائية دائمة الانعقاد، القانون كان غائباً، والعصابات المسلحة تجوب الشوارع وتخترق البيوت وتفتش ضمائر الناس، كان القتل يتم سريعاً لمجرد الشبهة، أو لتصفية ثأرات قديمة، أو للهو وتزجيةِ الوقتِ بإهدار الدم والتلذُّذ بسماع أصوات الأنين والاستغاثة تصدر عن الضحايا. كان من بين عصابات الدم في تلك الأيام السود، من تخصص في ذبح النساء بعد اغتصابهن بسكين المطبخ، ومن كان يقطع أجساد الأطفال قطعاً صغيرةً أمام الجميع!!.
كانت أياماً سوداء، مليئةً بالدم والقتل، عاراً عظيماً جلَّلَ وجهَ إسبانيا السَّمح النبيل!.
المؤامرة تبدأ :
في أحد تلك الأيام الحالكة الظلام، تقدَّم (رامون لويز آلونسو) نائب غرناطة في المجلس التشريعي من الحاكم المدني (فالدز)، وفي حضور فونسيكا، وأعلن أمامه في صلفٍ زائف: أن قادة الكتائب يُخفون في بيوتهم شخصيةً حمراء؛ ومن وجهة النظر الرسمية للحاكم المدني، فإن الشخصيات الحمراء جميعها قد تمت تصفيتهم، ولهذا السبب فقد تعجب الحاكم تجاه المعلومةِ المقدمةِ إليه، بل وشكَّلت أمامه تحدياً مباشراً لحسِّه الأمني الطاغي، واستفزازاً في ذات الوقت لقدراته كحاكم!، وطلب رامون لويز آلونسو استصدار مذكرةِ توقيفٍ بحقِّ فيديريكو غارسيا لوركا اللاجئ إلى الطابق الأول من (كال آنجليو)، منزل الأخوة روزال قادة الكتائب!
الإخوة روزال كان منهم: (جوزي روزال) قائد منظمة الكتائب في غرناطة، وأخوه (أنطونيو)، وهو مسؤول المنظمة المالي، وأخوهما الثالث (ميكيل)، منفذ المهام القذرة التي يأمرانه بها، وهم جميعاً من اليمين المتطرف، ويقومون بمساعدة ومؤازرة السلطة!
سأل الحاكم المدني :
- فيديريكو غارسيا لوركا، من يكون؟!
- شاعر!
ولم يكن أيٌّ منهما قد سمع عن الشاعر، لا الحاكم ولا فونسيكا ولا البطانة التافهة من حولهم، فقد كانوا ثلةً من الرعاع، بعيدون كلياً عن الثقافة والأدب والفكر!
- ماهي التهم الموجهة إليه؟! سأل الحاكم !
- مؤلفاته!!.
- كيف ذلك؟!.
- لقد سبب لنا، عن طريق مؤلفاته، شروراً يعجز عن مثلها الآخرون الذين يحملون السلاح!
تعجب الحاكم جداً، ولكنه وافق على إصدار مذكرة التوقيف بحق الشاعر!. وبدأ سيلٌ المعلومات يتدفق فوق منضدة الحاكم المدني. لقد اشتغل فونسيكا ورامون بجدٍّ ونشاطٍ في تجهيز المعلومات المطلوبة.
فيديريكو غارسيا رودريكيز. والد الشاعر كان جمهورياً عريقاً، ومنذ إعلان الجمهورية، أصبح الصديق الحميم لـ(دون فرنادو جيز دي لوس زيوس)، أستاذ الجامعة، وأحد أبرز زعماء الحزب الاشتراكي، امرأته (لوك لوركا) والدة الشاعر، مدرِّسة سابقة، سيدةٌ رصينةٌ بعيدةٌ عن الأضواء. رُزِقَ الزوجان أربعةَ أبناء: (فيدريكو، كونشا، باكو، إيزابيل). ومضت المعلومات حول الشاعر تقول: فيديريكو كتب الكثير من القصائد والمسرحيات، وكتب النثر ومقالات نقدية عديدة، مجموعات أصدقائه وحلقات المثقفين من حوله تقول إنه صاحب قصائد عالية الجودة. إحدى القصائد كتبها الشاعر في رثاء الثائر (روفائيل سانشيز ميجاس)، مع ثلاثة مسرحيات نالت نجاحاً منقطع النظير في مدريد في أوساط المثقفين. إحدى تلك المسرحيات كانت بطلتها (ماغاريتا كسيرغو) الحاذقة جداً في تحريك المشاعر والاستحواذ عليها كلياً، وغرسيا لوركا هو مؤلف مجموعة أشعار بعنوان: (روما نسيرو جتيانو) هاجم فيها الحرس المدني بضراوة!
من كل ذلك الرِّكَام من المعلومات، توصَّلَ فونسيكا للسبب الحقيقي من سَعي المندوب رويز الونسو للايقاع بالشاعر وآل روزال!.
مؤسس حزب الكتائب كان يكنُّ احتقاراً كبيراً لحزب الاتحاد الإسباني اليميني المستقل، ويخصُّ باحتقاره تحديداً رويز ألونسو، ولدى الأخير تجمَّعَ حقدٌ أسودٌ ضدَّ كلِّ ما يَمِتُّ للكتائب بصلة!؛ إذن: الشاعر حُجَّة، مجرد حجة؛ أما المقصود فهو: الاساءة للكتائب والسعي لزوال نفوذهم لدى برجوازية غرناطة!.
عَرِفَ فونسيكا كل ذلك بوضوح وجلاء، ولكنه احتفظ بهذه المعلومات لنفسه، وبدأ يَنْشَط ويُوغِل في تضخيم إضبارة الشاعر، لتكون مكتظة بالمعلومات، أية معلومات، ولكنها يجب أن تكون في نهاية الأمر كافيةً لاستصدار إدانة بحق الشاعر، ولابد لمثل تلك (الإدانة) ـ التي غالباً ما تحدث بسهولةٍ ويُسر ـ أن تقود الضحية إلى جدار مقبرة (سيرو ديل سول)، أو بجوار إحدى المدافن المجهولة فوق تلال (فيزنار)!
محتويات الإضبارة ضدَّ الشاعر
1- فيدريكو غارسيا لوركا أكَّد مراراً، وأمام شهود، تبريره، بل تأييده، لقتل كالفو سويتلو.
2- فيدريكو غارسيا لوركا كان عضوياً مؤسساً لجمعية أصدقاء الاتحاد السوفيتي.
3- فيدريكو غارسيا لوركا كان منذ العام 1934م عامل إثارة لمشاعر الجماهير، لحساب الكرمليين كانت هذه هي قائمة التهم ضد الشاعر التي أدت به إلى الموت، لم تكن هنالك مجرد إشارة إلى مؤلفاته، فلم يكن لهم علمٌ بها حتى ذلك الوقت، وكان الشاعر وقتها ـ أيضاً ـ مشهوراً على نطاقٍ واسعٍ محلياً وعالمياً!
سأل فونسيكا (رويز آلونسو):
- ولكن كيف علمتَ أن فيديريكو غارسيا لوركا يختبئ عند الأخوة روزال؟!.
وبانشراح شاذٍّ ونزقٍ شيطانيّ، بدأ المندوب في شرح الأمر.
- منذ أيام كنت في المقهى مع شلة من الأصدقاء، وإذا بالراديو يعلن نبأ مقتل (دون ما سينتو بينا فانت)!، وهو الحادث الذي ارتكبه التشيكيون في مدريد!.
(بينا فانت) أكبر مؤلفي الدراما المسرحية الأسباني، ذلك الشيخ الجليل الذي لم يؤذ ذبابةً طيلة حياته، وعندئذ فكرتُ بلوركا؛ وأجريت حسابات دقيقة لأصل إلى مبتغاي!
- هل تعلم أنه قد أُعلن رسمياً أن (بينا فانت) لم يمت، وقد طلب اللجؤ إلى إحدى السفارات، وهو سالمٌ معافى؟!
- نعم أعرف، وهذا لا يغير في الأمر البتة؛ فقد ذهبت مع (ديونيزيو) وثلاثة من رجالي إلى (هويرنادي سان فيسانت) حيث آل لوركا يقضون الصيف، وهو يكتب أشعاراً في مقصورته، أو يعزف موسيقى على بيانو خاص، ولكننا لم نجده هناك؛ وجدنا والده، دفعتُهُ بعنفٍ وصرختُ فيه أن يرينا أين نجد ولده، وحاصرناه وضربناه فاستولى الرعب والخوف عليه، وقال أن لوركا ليس مختفياً، ولكنه ذهب لقراءة ودراسة الشعر لدى أحد أصدقائه الشعراء، وضيَّقنا عليه الخناق والعنف، وقلنا له أنه لا يوجد في غرناطة شاعراً سوى (لويس)، رابع الأخوة روزال، اعترف هوريس لوركا الشيخ بأن ولده بالفعل هناك في منزل آل روزال!
وصل الرَّكب التَّعس في مفرزة كاملة من الحرس المدجج بالسلاح والحقد، وهم ـ جميعاً ـ على استعدادٍ كاملٍ لازهاق الروح وإسالة الدم. طرقوا الباب الكبير للمنزل ذي الطوابق الثلاثة، المحاط ببعض الحرس من الكتائب، فتحت الباب سيدة ضخمة، وقالت تخاطبهم:
- أنا (دونا اسبرانزا كاما شودي روزال)، وأنا هنا في بيتي!
- رامون رويز آلونسو المندوب، وهذا السيد الذي يرافقني هو الكابتن فونسيكا الملحق بمكتب حاكم غرناطة المدني. وواصل حديثه مواجِهَاً للسيدة:
- فيديريكو غارسيا لوركا موجودٌ عندكم يا سيدتي؟!
رمقتهما السيدة بنظرات احتقار وغضب، وقالت:
- فيديريكو غارسيا لوركا موجود في هذا البيت وهو ضيف أولادي!.
وبدهاء القَتَلة، بدأ المندوب يوضح للسيدة روزال أن معه مذكرة توقيف بحق الشاعر، وأن عليه أن يذهب لمقابلة الحاكم المدني لغرناطة، وفي الغالب أن في الأمر سوء فهم سوف يزول بمجرد إجراء المقابلة، والكابتن فونسيكا سيكون مسروراً بإعادته بسيارته إليكم. كان يخادع وكان يكذب!.
فزعت ورفضت السيدة الشجاعة ذلك التبرير، وصرَّحت بأن الشاعر لن يبرح المنزل إلا بصحبة أولادها، وهي تعرف بأسهم ومنزلتهم لدى سلطات تلك الايام!
- إنني لا أصدق كلمة واحدة من رواياتكم حول الالتباس وسوء الفهم، لقد جئتم هنا قاصدين قتل غارسيا لوركا. أضافت السيدة في غضبٍ ظاهر.
ومن بين أصداء تلك الوجوه التي يلوِّنها الحقد والحقارة، بألوانٍ جدُّ كئيبة ودَبِقَة، أضافت بحسرةٍ واضحةِ النبرات:
- إسبانيا بلدٌ ينبتُ وينمو فيه الحقد والحسد، كما تنبتُ وتنمو الحشائش الطفيلية الضَّارة بكثرةٍ لا حدَّ لها!!.
والحسد هو من عيوب الإسبان المعروفة، وقد تحدث في ذلك العديد من كتابهم، مثل (أونا مونو)، و (كان خوان رامون خيمينيث، وهو شاعرٌ ذو لَمَعَانٍ كبير؛ هو الذي تكلَّف باخباري عن الحسد الإسباني الخرافي)*. في تلك اللحظات الحذرة، دخل عليهما إبنها ميكيل روزال الذي أبدى احتقاره الواضح لتلك الزمرة البشعة، وهو الذي يعرف أهدافها ومراميها وأعمالها القذرة كلها؛ موجهاً حديثه تجاه رويز آلونسو، سأله مُبَاغِتاً إياه ومهاجماً له:
- ماذا تفعل في بيتي؟!
- جئت بطلب فيديريكو غارسيا لوركا الموجود ضيفاً على أسرتكم منذ عدة أيام، ومعي في جيبي مذكرة توقيف بحقه من الحاكم المدني!.
في الطابق الثاني للمنزل حيث صعدوا جميعاً، وبالقرب من نافذةٍ مفتوحةٍ يغمرها الضوء والنور، كان يقف الشاعر، بوداعةٍ وبراءة الأطفال في عينيه: شاباً مرحاً، قامته فوق الوسط، ولكنه أميل للنحافة، يرتدي بنطالاً أسود، ضيِّقاً لدى الأطراف، وفوقه قميصٌ من القماش الأبيض مفكوك الازرار. هيئته يسودها المرح، ولكنها مرتَّبةٌ وتشي عن رجلٍ فنانٍ كبير. يديه دقيقة وناعمة وبيضاء، وبمرونة ظاهرة يفرك إحداهما بالأخرى بعصبيةٍ ظاهرة، ما أن أبصر الزمرة حتى صاح ولكن بمرح طفولي:
- آه! عسكري؟!.
ثم واصل اندهاشه الغريب:
- أسطح المنازل المحيطة بنا ملأى بعناصر الحرس المدني، وجميع بنادقهم مصوبةٌ نحو نوافذنا؛ وتحت في الشارع، يعجُّ المكان بعناصر من السَفَلَة الرعاع، مسلَّحةٌ بالرشاشات؛ هل تستطيعوا أن تقولوا لي لِمَ كل هذا؟!
وضع ميكيل روزال يده على كتفه وقال:
- أصغ لي يا فيديريكو. لا يرهبنك ذلك المشهد، يجب أن تذهب معي إلى دار الحاكم المدني ـ الحاكم يريد أن يراك!.
- أنا؟!
تغيَّر لونُ وجهِ الشاعر. كانت جبهته عريضة، محدبةٌ تعكس النور الآتي عبر النافذة المفتوحة، وكأنها كرةٌ من الزجاج الصَّافي، عيناه داكنتان، صغيرتان، حادَّتان ووديعتان، تظللهما رموشٌ طويلةٌ سوداء، تغضَّنت شفتاه كطفلٍ يوشكُ على البكاء، ارتعش وقال بألم ويقين جلي:
- إذن، كل هذه الجموع في الشارع، وكل هؤلاء الحراس المدججين بالسلاح والنار على الأسطحة، كلها من أجلي أنا؟!
أجابه ميكيل وهو يود أن يضفي على الشاعر اطمئناناً مستحيلاً:
- أنت تعلم كيف تجري الأمور هذه الأيام، هي إجراءات أمنية بسيطة!.
وكان بالقطع يكذب، وفي ظنه أنه سوف يطمئن الشاعر الذي بدأ يحدس كما يفعل في أشعاره العميقة.
- إنهم سيقتلونني!
قالها الشاعر بيقينٍ كاملٍ وبنبرةِ حزنٍ واضحة، وأضاف:
- ولكن حسناً لنذهب!.
ثم شرع في وداع أفراد الأسرة التي آوته لآخر مرةٍ في حياته، أخذ بيد ميكيل روزال وسارا باتجاه الباب، ولكنه توقف في منتصف الطريق، نظر إلى ما حوله وتفحص محتويات الغرفة: السرير الأندلسي الكبير المصنوع من الحديد من طراز القرن الثامن عشر، ومقاعد الخيزران، وباقة الزهور الكبيرة البديعة التكوين، ورود حمراء وياسمين تتخللها الأوراق الخضاراء والزهور، البراعم المتفتحة من توها للحياة موضوعةٌ بعنايةٍ فائقةٍ قدَّام الشُّباك، وهنالك بيانو بديع الصنع مفتوحٌ على مقطوعةِ كلود ديبيسي، الموسيقار العظيم، أضاف الشاعر بنبرةِ عرفانٍ وأسىً بالغ:
- لقد كنت سعيداً جداً هنا!.
الشاعر، خلال تواجده في بيت آل روزال، أنهى كتابة مسرحيته الحوارية الرائعة (بيت برناردا)، ونقَّح ديواناً كاملاً لقصائد جميلة ورائعة، صدرت فيما بعد في ديوانه (حديقة القصائد).
خيوط المؤامرة تبدأ تتشابك:
(في بلدٍ ما
في سجنٍ ما
في شارعٍ ما.
قد يحدث،
أن يموت الإنسان بلا مشنقة)!!.
- محمود درويش -
بعد اجتيازهم لبوابة الخروج، وكأنما الشاعر قد تذكر أمراً هاماً، توقف فجأة ليقول:
- قد يكون من اللازم أن ألبس سترةً وربطة عنقٍ لمقابلة الحاكم، أليس كذلك؟!.
بادره ميكيل وبسرعة:
- نحن في حالة حرب يا فيديريكو، ثم إننا في عز الصيف، إرم المراسيم للشيطان!.
- معك حق. أنا لا أطيق ربطة العنق. ما لبستها مرة إلا وشعرت أن الحبل يشد على عنقي!.
وبعد برهة أضاف لوركا:
- هذه حماقة قلتها: في إسبانيا لا يشنقون الناس!.
تنهد، وبحزنٍ حقيقي أضاف:
- إنهم يسقطون الناس جثثاً هامدة!!.
أخذوه فيما بينهم، زمرةً مدججةً بالسلاح، متخمةٌ بالجهلِ والحقدِ والحقارة، في مواجهة شاعرٍ كبيرٍ بريءٍ كما الطفل، وحيدٌ ومستسلمٌ لمصيره الغامض؛ حاولوا أن يضعوه في أحد أقسام الشرطة حتى الصباح، ولكنهم في القسم رفضوا استلامه، فقد أحسوا أن في الأمر غموضاً ونذالة تبلغ حدَّ الجريمة؛ كان السلاح وحده سيِّد الساحة وقانونها، والقتل المجاني كان هو وجه إسبانيا في تلك الأيام المظلمة من تاريخها؛ وأصبح الشاعر هو الضحية المعدة للذبح في ذلك المسلخ البشع؛ مسرح الجريمة جرى إعداده بعناية، والقتلة جاهزون، والضحية بين أيديهم.
أما الشاعر نفسه فقد كان من بين جميع الشعراء الإسبان الأكثر محبوباً، الأكثر معشوقاً، الاكثر شبهاً بطفلٍ لما له من بهجةٍ رائعة. من كان يمكن له أن يظن أن ثمة فوق هذه الأرض، وبخاصةٍ فوق أرض إسبانيا، مَرَدَةً مسوخاً قادرةً على اقتراف جريمةٍ غير مفسَّرةٍ مثل هذه)*
الجزء الثاني،
الجزء الثاني،
الموت بعيداً عن ضوء القمر:
الشاعر أحب القمر جداً. كان يخجل منه فيمتلئ بالصدق والوضوح والشاعرية في حضرته، كان يقول مثلاً: (لا، أنا لا أكذب أبداً تحت ضوء القمر). أو هو يقول: (كيف لهذا الموت أن يحدث تحت ضوء القمر؟!) ولكنه في ذات الوقت، كان يبدع الشعر والأغاني والمسرحيات، وأجمل الكتابات تأخذ دائرة اكتمالها وذروة إبداعها دائماً تحت ضوء القمر، ويا للمفارقة!
استجوبه ـ في ذات الليلة المشئومة ـ حاكم غرناطة المدني (فالدر) في مكتبه، كان اللقاء مهزلة كبيرة فاقعة!.
- إذن أنت كاتب قصيدة (الحرس المدني الإسباني)؟!
- نعم، أنا هو! رد عليه الشاعر بصدق.
- أنا يا غارسيا لوركا واحد من قدامى الحرس المدني!!.
صمت الشاعر. وكانت نظرات الطفل في عينيه تكتسي بظلال الحقارة التي بدأ يضفيها على الحاكم.
- هل أنت فخور بتأليفك هذه القصيدة؟!.
- يقولون عنها أنها من أفضل قصائدي.
- ما رأيك أنت بالذات عنها؟! سأل الحاكم بازدراء واضح.
- كتبت أشياء أفضل منها كما أعتقد.
- مثل ماذا؟!.
- أناشيد للصغار مثل (لونا، لونيرا، كاسيا بيليرا)!.
فوجئ الحاكم وفونسيكا معاً! فقد كانت تلك الأغنيات الرائعة يتغنى بها اطفالهما بالمنزل فيمتلئ مرحاً وحباً وروعة، كانوا، حتى لحظات التحقيق تلك، يجهلون مؤلف تلك الأغاني البديعة للاطفال!.
وفجأة قال الحاكم:
- غارسيا لوركا، أقرر إدانتك بالخيانة لبلدك ومسقط رأسك؛ أحكم عليك أن لا تكتب اطلاقاً بعد اليوم!!.
ارتعش الشاعر، انقبض وردد مستفسراً:
- اطلاقاً؟!
- نعم، اطلاقاً!
بحزم وبلا تردد أجاب الشاعر:
- الموت أحبُّ إليّ!.
- هل هذه رحمةٌ تطلبها مني؟!.
- الموت أحبُّ إليَّ، كرر الشاعر عبارتها ذاتها بإصرارٍ غريبٍ مدهش!.
- اتفقنا، حتى لا يقال أنني رجلٌ بلا قلب!!.
تناول الحاكم ورقة خط عليها بسرعة بضع كلمات، وناولها لفونسيكا مضيفاً:
- فونسيكا، هذه أومري، اعمل اللازم!.
وأنهى بذلك الحاكم لفوره تلك المحكمة القصيرة المهزلة!!.
أخذوه لفوره إلى حبسٍ انفراديٍّ في زنزانةٍ معتمةٍ وفقيرةٍ وخَشِنَة، كانت تلك هي المرة الأولى التي تُحجَرُ فيها حريته، وبضمير الشاعر ظل يردد لنفسه: (لو كان الناس يعلمون، لما أقدموا أبداً على وضع الطيور في الأقفاص)، وقد تيقَّن، بحدس الشاعر لديه، أن مصيره أصبح رهيناً بالموت الغريب، فراح يسأل فونسيكا:
- أين سيتم هذا؟!.
- سترى!.
- أحب أن لا يحدث ذلك في المقبرة، فالمقابر لم تكن ليموت الناس فيها، إنها فقط للصمت والأزهار والغيوم!.
وبعد أن سأل عن القمر أضاف الشاعر:
- لا أحب الموت على مشهدٍ من القمر، في قصائدي قلتُ الكثير عن القمر، وأن أموت على مشهدٍ منه، فسيبعثُ فىَّ انطباعاً أن أفضل أصدقائي قد خانني!!.
ولم يكن ـ بالطبع ـ في غرناطة كلها قمرٌ في تلك الليلة؛ كان فيها ظلامٌ فجٌّ وخوفٌ ورعب.
في منتصف ليلة 19 تموز 1936م، أنهضه الحارس وفونسيكا من نومه العميق، فتح عينيه وتثاءب، شأنَ القطط، والعشَّاق، نَهَض. احتسى قدحاً صغيراً من القهوة المرة، وقال:
- أنا جاهز!.
كان البرد شديداً، والليل موبوءاً بالقتل والخوف والحذر والدم؛ والشاعر يمضي إلى مصيره كقديس؛ أخذوه في سيارة مرسيدس سوداء، سيارة خاصة، كانتا في الواقع سيارتين. المرسيدس يقودها صاحبها، وهو من أعيان غرناطة، وفونسيكا وأحد الحراس بكامل أسلحته، وكان الشاعر يجلس في المنتصف بين فونسيكا والحارس!. وخلفهما سيارة ثانية تضم في داخلها فصيل الإعدام؛ المدينة كانت نائمةً تلك الليلة عن شاعرها؛ نامت غرناطة تلك الليلة عن شاعرها الكبير، نامت فزعةً ومرعوبةً، ترتجف بحمى الموت ولكنها، نامت!.
كانت الساعة تقترب من الثانية صباحاً. توقف الركب قدام خرائب مطحنةٍ عربية. نزل الشاعر وهو يرتجف من البرد؛ رفع نظره إلى فوق، إلى السماء وتجلَّل وجهه بالفرح! يا الله، لم يكن في سماء غرناطة قمر!!.
تقدم الشاعر راكضاً هذه المرة ـ بحسب الأوامر ـ باتجاه مصيره، ولكنه توقف فجأة، كانت توجد خلف الأفق الأسود، وراء غابة الحَوْر السوداء (لا فوانت فاكروس)، قرية الشاعر ومسقط رأسه، ظل يتمتم:
- لماذا يا ربي، لماذا؟!.
والركب يقتحم ذلك الدغل المظلم الكئيب، فجأة ظهرت من ركام الأحجار والتراب والحصى ساقُ امرأةٍ عارية، طَلَعَت خارج اللحد، فوق التراب! وأجهش الشاعر بالبكاء! تقدم منه كاهن كان برفقة الركب:
- اعترف.
- بماذا؟! سأل الشاعر!.
- بما تريد!.
وبيديه الرقيقتين أبعد الشاعر عنه وواصل مسيره!.
- اركض!. هكذا أصدر فونسيكا أمره للشاعر!.
- إلى أيّ اتجاه؟!.
- على خط مستقيم، إلى الأمام!.
أطاع الشاعر تماماً، كما يطيع إلهامه الشعري، فركض لأكثر من عشرين متراً.
عندها أصدر فونسيكا أمره المألوف:
- نار!
أطلق الفصيل مجموعات من الرصاص على ظهر الشاعر الذي سقط كالأرنب، وجهه إلى الأرض معفراً بالدم والتراب الأحمر!، عيناه مفتوحتان على فضيحةِ العصر وكل العصور القادمة؛ كان يبتسم، بدا الجسدُ كله هامداً، حقاً (إنهم يُسقطون الناس جثثاً هامدة)! ومن بين الابتسامة كان يقول:
- أنا ما زلت حياً!.
والغدَّارة محشوةٌ بالرصاص، صوبها فونسيكا إلى صدغ الشاعر وأفرغها!، انتفض جسدُ الشاعر واستدار بوجهه إلى السماء، إلى فوق، لم يكن القمر هناك!. كان غائباً عن سماء غرناطة، هَمَد الجسد تماماً وإلى الأبد!، دفنوه قرب جذع شجرة زيتون، وظل قبره مجهولاً تماماً، ولم يُعرَف له أبداً رُفات!.
وقد تنبأ الشاعر بذلك كله يوماً ما، قال لوركا في إحدى قصائده:
(عرفت أني قد قتلت،
فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس..
فتحوا البراميل والخزانات.
استباحوا ثلاثة هياكل ليسلبوا أسنانها الذهب،
لم يجدوني!
أتراهم لن يجدوني أبداً؟!
نعم. لم يجدوني أبداً)*
ومرة أخرى يقول في (أغنية الفارس):
(لن أبلغ قرطبتي..
عبر السهل
وعبر الريح
مهرٌ أسود
قمرٌ أحمر
والموت يراقبني
من أبراج قرطبة
آهٍ، من طول الطريق
آهٍ، يا مهري الشجاع
إن موتي بانتظاري
قبل أن أبلغ، آهٍ، قرطبة
قرطبة: بعيدةٌ ووحيدة!).*
في سونيتة رائعة، مختصرة جداً، ولكنها عميقةٌ بعنوان (وداعاً)، يفضل الشاعر أن تُترَك نافذته مفتوحة بعد موته، ربما ليكتسب شعره ـ جيلاً بعد جيل ـ معانٍ وصوراً وإيحاءاتٍ متجددة. والجدير بالملاحظة أن هذا المعنى العجيب، الذي أشار إليه الشاعر هو الذي طبع كل إبداعه الشعري والمسرحي والنثري أيضاً، ظل حتى يومنا هذا، عصيَّاً على النسيان، مستحيلاً على الانزواء، بعيداً عن حيويَّةِ ونضارةِ وعبقِ التاريخ والمجتمع وجذوةِ الإبداع العالمي، متوهجاً أبداً على مر العصور كما الحقيقة الحاضرة في أفئدة الناس قاطبة.
يقول لوركا في (وداعاً):
(حين أموت
فلتدَعوا الشرفة مفتوحةً
يأكل الطفل برتقالاً
(إني لأراه من الشرفة)
الحاصدُ يحصدُ قمحَهُ.
(أسمعه من هذه الشرفة)
حين أموت
فلتدعوا الشرفة مفتوحةً).*
أتُرَى يريد الشاعر أن تدخل قصائده من خلال شرفات الناس جميعهم إلى حيث قلوبهم وأفئدتهم، وتتعلَّق كالنجوم في سماوات كل العصور حتى الأبد؟!.
(أجمل البلدان إسبانيا
ولوركا يا صبايا
أجمل الفتيان فيها
يا مغنّي النار وزِّع للملايين شظايا
إننا من عابديها!).
- محمود درويش -
العبقرية الإسبانية النقية كالرخام الصافي، أو البلَّور اليدوي في صنعته البديعة؛ خلاصة إسبانيا كلها وأزمانها جميعاً، وأضخم شعرائها وأنبلهم وأجملهم على الإطلاق. إن شعره وإبداعه لهو من (خيرُ ما أبدعته إسبانيا) على مر العصور، كما يقول دارسه العميق الأكاديمي الناقد ج. ل. جيلي). أنتج خلال حياته القصيرة جداً شعراً عميقاً وصافياً ذو دلالاتٍ ضخمة، وصوراً بديعةً مدهشة، وأخرج مسرحيات شعرية رائعة توجهت ـ بعمقٍ صافٍ ونبيل ـ إلى حيث الإنسان والإنسانية في كل الأزمان والأمكنة، كتب أيضاً نثراً جميلاً، جمع فيه بين أسلوبية الشعر، وايحاءات اللغة وعمق الدلالات. وأنشأ أغانٍ رائعة بديعة للأطفال والكبار، استلهمت روح إسبانيا وجوهر وجدانها الشعبي. فارتفع إبداعه هذا وذاك كله فوق سقف الدنيا والتصق بملامح العصر، كل العصور. وقدم فوق هذا وذاك كله حياته القصيرة جداً، نموذجاً حيَّاً لكيف للشاعر أن يحيا حياته فنَّاً وإبداعاً خالصاً وموتاً أيضاً، بصورةٍ كاملةٍ وعميقة!.
لقد عاش الحياة لهذا الإبداع بالذات، ممسكاً كل لحظات الإبداع تلك ملقياً بها ـ هكذا ـ كالرداء على جسده وفنه وحياته كلها!.
قال عنه صديقه في الشعر والحياة والموت بابلونيرودا: (وأيُّ شاعر! أبداً لم أر شاعراً مثله اجتمعت فيه اللطافة والعبقرية، القلب المجنح والشلال الشفاف. لقد كان فيديريكو غارسيا لوركا العبقري المسرف في وحيه وإلهامه، بؤرةُ الفرح التي تشعُّ كالكوكب بسعادة الحياة. كان نابغة وفَكِهَاً، كونياً وريفياً، موسيقياً فذَّاً، ممثلاً رائعاً، فَزِعَاً ومعتقداً بالخرافات، لامعاً ونبيلاً، كان خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها، صفوة الازدهار الشعبي، نتاجاً عربياً ـ أندولسياً، ينير ويفوح من أيكة ياسمين على مسرح إسبانيا. كان كل هذا يا ويلتي: لقد اختفى ذلك المسرح، فأواه وآه!.
كان يفتتتني بمقدرته العظيمة على الاستعارات والمجازات، لقد كان في المسرح والسكون، وسط الجمهرة وفي الانزواء، يضيف إلى الجمال ويزيد الروعة. أبداً مارأيت مثله انموذجاً له هذا السحر العظيم في يديه. قط ما كان لي أخ أكثر منه بهجةً، كان يضحك يغني، يموسق، ينغِّم، يقفز، يبدع، يخترع، يطلق شرراً: يا له من مسكين، لقد كانت له هباتُ العالم كلها، وكما كان صائغ ذهبٍ، كان أيضاً خليةَ نحلٍ من الشعر العظيم. كان يُسرِفُ في نبوغه، يستنفد قريحته، لم يكن يكفُّ عن الضحك والكلام، لقد كان سعيداً وهذا طبعه وهذه عادته، لقد كانت السعادة جلده وبشرته).
كان ريحانة زمانه ذاك، وسيظل ريحانةً للألفية الثالثة، عبقٌ من الشذى الفواح، يمنح الكثير العميق من الشعر، ينثره كرزاز المطر على وجه الدنيا وملامح الأيام عسى أن تتوقف المذبحة الكونية المرعبة ويعم السلام!
( لن ينم الروائيون والشعراء
فالحلم أصدق من واقع؛
قد يغير شكل البنايات،
لكنه لن يغير أحلامنا)
في شعره تجد وجوه الطفولة كلها متلفعة بالدهشة والبراءة حيناً، وبالحزن والموت حيناً آخر، مرة أخرى تجدها ترتدي رداء الحلم الشفيف، نقياً كما الندى، مبتلاً بضوء القمر الذهبي والفضي، المتداخل الألوان، الأصفر بالأرجواني بالأحمر والأخضر، والأزرق الغامض كالماس والكحليّ والبهار!.
إن شعره يقودك بإلفةٍ وخفةٍ إلى حيث محرقةِ الإبداع لدى ينبوع توهجها والتماعها المستمر، وهو إذ يغوص في روح إسبانيا يستخرج منها حشوداً ضخمةً وحيوات ذات فاعلية عالية من الوجوه الفلكلورية والتقاليد العريقة والعادات والأمثال الشعبية والخرافيات والحكم بكل ضروبها وأنواعها، يمسك بكل هذه الحشود ـ في لحظة إيماضةِ الشعر العميقة ـ ويوجهها بطاقته الإبداعية الفذة، ويحركها في أنساقٍ إبداعية طازجة ودافئة، وهو من يعد مدخلها إلى الجوهر من إبداعه في القصيدة، يفعل كل ذلك بعد أن يزوِّدَهَا بطاقةٍ رمزيةٍ دافقةٍ لكيما يوسع من حقل دلالتها، إنه يفعل ذلك كله دون أن يُفقِدَهَا للحظةِ صِلَتِهَا الطبيعية مع محيطها الإنساني، الحياة اليومية للإنسان العادية في أطوارها جميعها، ومن هنا تنبع وتطلع في قصائده كلها الروح الإنسانية؛ روح زمانها والأزمان القادمة.
كانت له طريقة تلقائية في الفن، يعيش التراث والأغنية الشعبية الأندلسية بعمق، ويعيد تمثلها وخلقها مرة ثانية، إنه يغنيها، يحلم بها ويعيد اكتشافها، ومن بعد يحيلها ـ مرةً أخرى ـ شعراً خالصاً عميقاً ومتوهجاً!، كتب روفائيل البرتي يقول عنه: (شحنةٌ من الحنان الكهربائيّ، سحرٌ، جوٌّ لا يقاوم من السحر الذي يطوِّقُ مستمعيه ويأسرهم، ويتدفق منه، وهو يتحدث، ويلقي ويعدِّل مشهداً مسرحياً، أو يغني متصايحاً مع البيانو، ذلك لأن لوركا أينما ذاهبٌ فلابد أنه واجدٌ بيانو)، وقال عنه ساليناس: (كان العيد، البهجة الطالعة أمامنا، ولم يكن أمامنا إلا أن نتبعه)، ولكن أنظر ـ أيضاً ـ كيف رآه صديقه الحميم الشاعر بثنتا الكسندرا: (في قدس الليل ينظر بغتةً، من درابزينٍ غامضٍ، عندما شعَّ القمر كاملاً على وجهه، وأحسست بذراعيه تقفان في الهواء، بينما قدماهُ تغوصانِ في الزمن، في القرون، في أبعد جذرٍ في الأرض الإسبانية).
في روح إسبانيا نكهةُ الموت:
تحدث لوركا كثيراً جداً عن الموت!، وربما لأنه، وكما كان يقول، اكتشف خاصية الموت لدى الأمة الإسبانية وفي روحها بالذات! أو ربما ـ أيضاً ـ لأنه كان يرهص ـ برؤية شاعرٍ في داخله ـ بموته الخاص ومأساته المرعبة!. قال مرة: (إن إسبانيا هي البلد الوحيد حيث الموت مشهد طبيعي، وحيث ينفخ الموت النفير في ألحانٍ طويلةٍ عند حلولِ كل ربيع، وفنها دائماً يحكمه (دويندي) ماكر أعطاه طابعه المميز وخاصيته!). ويضيف في محاضرته ذات القيمة الابداعية الضخمة: (إسبانيا يحركها دائماً (الدويندي)، لأنها بلد موسيقي ورقص قادرين، حيث يعصر الدوينيدي ليموت الشروق، وكذلك لأنها أمة موت، أمة مفتوحةٌ للموت!). ويضيف: (إسبانيا لها الخاصة المعدنية للموت!).
يقول لوركا في قصيدته (غزلية الموت الداكن):
(أشتهي أن أحلم حلم التفاحات،
أن اغادر زحام المقابر.
أشتهي أن أحلم حلم ذلك الطفل،
الذي اشتهى أن يمزق قلبه في البحر الهائج.
لا أريد أن أسمع ثانية أن الموتى لا يفقدون دمهم.
إن الفم المتعفن يظلّ يطلب الماء.
لا أريد أن أعرف عن عذابات العشب،
ولا عن القمر بفم أفعى،
الذي ينشط قبل الشروق!
أشتهي أن أنام لحظة.
لحظة، دقيقة، قرناًَ!
ولكن يجب أن يدرك الجميع أنني لم أمت!
إن في شفتيَّ اصطبلٌ من ذهب!
إنني الصديق الصغير للريح الغربية،
إنني الظلُّ الحالك لدموعي!
غطوني بحجابٍ عند الفجر،
لأنه سيقذفني بحفناتٍ من النمل!
ويغمس حذائي في ماءٍ مالح،
كي تنزلق أذناب عقاربه!
لأنني أشتهي أن أحلم حلم التفاحات.
كي أتعلم مرثيةً تغسلني من الأرض،
لأنني أشتهي أن أعيش مع ذلك الطفل الحزين،
الذي اشتهى أن يمزِّقَ قلبهُ في البحر الهائج!)
إن القصيدة تنقل إليك وجوه الموت جميعها: مذاقه، وطعمه وغموضه وسحره أيضاً!.
لقد ظل لوركا يتحدث بكثرة عن الموت، وبتكرار عجيب!، تحدث عن الموت المفاجئ، المباغت، الموت المدهش العجيب. وجعل من أجمل قصائده تلك التي يتحدث فيها عن الموت، وعن ضرورة مواجهته في بسالةٍ ووضوحٍ ونِديَّة!، ولعله ـ لأجل هذا الولع الغريب بالموت ـ قد عشق مصارعوا الثيران العباقرة، وكتب في موتهم وبسالتهم وجرأتهم في منازلة الموت وجهاً لوجه أجمل وأعذب القصائد في الإنساني والكوني على مر العصور. ومراثيه في مصارعي الثيران ليست مراثي بالمعنى المتعارف عليه وفق دلالات المصطلح، ولكنها محاولة إبداعية عميقة للتعبير بالشعر، لكيما يرتقي بالشعر، آخذاً الموت معه ـ في عناقٍ حميم ـ إلى حيث مرتبة الحياة نفسها. إنه ينشد أن يصعد بالموت إلى مرتبة الخلود على مر الدهور، وفي اعتقادنا أن لوركا قد نال ما أراد تماماً، وبشكلٍ كامل، بقوة الشعر العظيمة وروح الابداع وحدهما!.
يقول لوركا في قصيدة (مرثية أخناثيو سانسز ميخياس) وهي مرثية رائعة بديعة، وتعد من أفضل ما في الشعر الإسباني على مر العصور، وهي القصيدة التي (بكى فيها صديقه ورفيقه مصارع الثيران الشهير، الذي قتله الثور في حلبة المصارعة أمام عشرات الآلاف من المشاهدين)! يقول لوركا:
(لا أريد أن أراه!
قل للقمر أن يأتي.
لأنني لا أريد أن أرى دم (أخناثيو) على الرمل.
لا أريد أن أراه!
القمر منفتح وسيعاً،
جوادٌ من غيم ساكن!
وساحة الحلم الربداء،
ذات شجر صفصاف في الحوافر.
لا أريد أن أراه!).
أما بصدد رؤياه حول الموت، الذي هو يكمن في تضاعيف الروح الإسبانية، في الروح والمكان معاً، أنظر إليه كيف يرى الموت في جوهر كل الأشياء في إسبانيا:
(جبال قرطبة لها ظلال تحت أشجار الزيتون،
ظلال ميتةٌ لا ترى أبداً!
آه، من يكون تحت جذورها؟!
جبال غرناطة لها أقدام نوراية،
وشعرٌ يسرِّحهُ الثلج.
آه، من يكون تحت ينابيعها؟!
أما إشبيلية، فليس فيها جبال!
إنها دروبٌ ممتدةٌ بلونِ البرتقال.
آه، من يضيع عليها؟!).
لقد كان لوركا يعيش روح إسبانيا، في جوهرها العميق وامتدادها المستمر في الزمان والمكان، وبسببٍ من احساسه الضخم بهذه الروح وتجلياتها، فقد كانت جذوةَ إبداعه وإلهامه الشعري والمسرحي لا تنضب قط. وظلت حتى آخر لحظات حياته القصيرة متوهجة، مضيئة، لامعة ولاهبة في ذات الوقت. وكان لوركا قد كتب محاضرة كبيرة وعميقة عن (الدويندي)..وكان يقصد به روح إسبانيا نفسها بهذه التسمية ـ التي بعثها من بين ركام التراث الأندلسي الخصب ـ حيث تحدث عنها كثيراً، وأبان بأنه يعني تلك القوة العميقة التي تجدها في الفنون قاطبة، ولكن في الموسيقى والشعر بصورة خاصة، وتتميز بها روح الإبداع الإسباني في جميع ملامحها.
ولفرط إيمانه بهذه الروح، فإنه قد ألقى محاضرته تلك على جمهورٍ واسعٍ في هافانا وبوينس آيرس وأماكن عديدة أخرى في إسبانيا. يقول: (إن الدويندي يفعل بجسم الرَّاقص ما يفعله النسيم بالرمال، وبقوى سحرية يحوِّل فتاةً إلى شخصٍ يشلّه القمر! أو يغمر بحمرةِ خجلٍ المراهقة عجوزاً محطَّماً يستجدي حول الحانات!، أو هو ينقل في خصلات شعر طويل رائحة مرفأ بالليل، وفي كل لحظة يحرك الأذرع في حركات ولَّدَت كل الأزمان!، إن الدويندي يحب حافة الأشياء، يحب الجرح، إنه ينجذب إلى حيث تذيب الأشكال نفسها في اشتياق أعظم من تعبيراتها المنظورة).
والجدير بالملاحظة هنا، أن معجزة لوركا وجهر عبقريته العميق يكمن في القاء شعره. فهو يقوم بترجمة شعره ـ لدى الإلقاء ـ بجسده الحي! يتخذ له أشكالاً وصوراً وتعبيرات وغناء عذب شهيّ بلا انقطاع، إنه يخلق شعره مرةً أخرى، ولكن بميلاد باهر وحضور دقيق محدَّد، يخرج كالروح الشفافة المضيئة من خلال تشكيلات الجسد جميعها، أو هو ـ وكما قال لوركا نفسه ـ : (إن المؤدي يعيد خلق العمل الأصلي، كأن الدم الحي والعبقرية يوضعان في أجسام خالية من التعبير)! وباستمرار كان يفضل إلقاء شعره في الناس، لأن الشعر ـ في اعتقاده ـ يحتاج إلى جسدٍ حيٍّ يؤديه. نعم كان لوركا إنساناً، ولكن كانت لديه خاصية المعجزة، وكان لدى القاء شعره يخلق طاقات روحية هائلة لشعره ويمتد ليحتوي – بذات الطاقة الهائلة – الناس الذين يسمعون شعره !
أنشأ لوركا فرقة مسرحية كان هو مديرها، أسماها (لابراكا) وتعني بالإسبانية (الكوخ)!. في أحد الأيام الرطبة قبل ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب الأهلية، حلَّ مع فرقته المسرحية الجوالة في قرية قرب قشتالة، (ما استطاع فيديريكو أن ينام تلك الليلة، وقد أضناه المسير، كان مرهقاً مشغول البال بالرحلة وهموم الفرقة ومشاكل السفر. حين تفتق الفجر قليلاًَ، نهض من فراشه، وخرج كي يقوم بجولةٍ وحدَهُ عبر الحقول المترامية هناك. كان ثمة بردٌ لاذع كحدِّ السكين، البردُ الذي تعده قشتالة للمسافر والعابر والدخيل)!.
وكان الضباب ينطلق سحائباً سحائباً، بيضاء تحيلُ كل شيءٍ إلى مداه الشَّجي الرهيب!.
ما كان ثمة إلا حاجز كبير من حديد يتأكسد، تماثيل مهشَّمة، أعمدة مكسرة فلاقاً فلاقاً بين أوراق الأشجار اليابسة الهشة الموشوشة، توقف عند باب نطاق عتيق. كان المدخل إلى مزرعةٍ فسيحةٍ لدارةٍ إقطاعية. كان الخلاء والخواء والوقت والبرد تجعل الوحشة أكثر تغلغلاً وأشد وهرة!، شَعَر (فيديريكو) على حين غرة أنه جذع، فزع، مشدوهٌ بما سيطلع من ذاك الشروق، مشدوهٌ إلى شيءٍ غامضٍ لابد أن يحدث. أن يقع في ذاك القفر، هناك جلس على تاج عمود ساقط.
جاء خروف حولي صغير ليقضم أطراف الأعشاب بين الأطلال والخرائب، كان ظهوره ظهور ملاكٍ صغير، من ضباب يؤنس الوحشة، يثمر عشباً عند انشقاق عمود الصبح. كان وقوعه وقوع زهرةِ حنانٍ فوقَ وحدَةِ الرُّبعِ اليتيم، فشعر الشاعر أن هذا السَّامر يؤنسه ويصحبه. فجأةً، إذا بقطيعٍ من الخنازير يجتاح الحظيرة، اقتربت أربع أو خمس بهائم داكنة اللون، خنازير شبه متوحشة ذات جوع جموح وأظلاف صلدة؛ (فيديريكو) حضر آنذاك مشهداً مفزعاً مرعباً؛ فقد أنقضَّت الخنازير على الخروف تعمل فيه أنيابها فقطَّعته إرباً إرباً، والتقمته، والشاعر يرتعد خوفاً!!.
هذا المشهد الدموي الوحشي جعل (فيديريكو) يأمر فرقته أن تواصل السير تواً، وأن تقلع راحلةً عن ذلك المكان؛ كان يقص عليَّ هذه الحكاية الرهيبة وهو ما يزال ينتفض رعباً، كان ذلك قبل ثلاثة أشهر من الحرب الأهلية!. أنا أدركت من بعد في وضوحٍ جليٍّ، أو غير جليّ، أن هذه الحادثة ما كانت إلا عَرضَاً مسبقاً لتمثيلية مصرعه، إرهاصاً لمأساته التي لا تصدق!).
هكذا كانت ظلال الموت الداكنة تحوم حول الشاعر: في أشعاره العظيمة، وفي بعضٍ من تفاصيل حياته ذاتها، ولكنه استطاع أن يداريها بقدرٍ كبيرٍ من الموهبة والعبقرية، مضفياً على حياته وشعره قدراً ساطعاً من الفرح بالحياة التي كان يراها جميلة بلا حدود!.
أغنية الحرس المدني الاسباني:
ونعني بها تلك القصيدة التي ـ من بين أسبابٍ أخرى عديدة تناولناها فيما سبق ـ قادت الشاعر إلى حتفه؛ اخترت هذه الترجمة من بين ترجمات عديدة لاطمئناني إليها، ولسوف أورد لك عزيزي القارئ مقاطع منتقاة منها، باعتبارها تعطي صورةً وظلالاً ودلالات لقضية الشاعر ورؤياه الشعرية المتوهجة..
(الخيول السوداء.
سوداء حوافر الخيل.
على المعاطف تَلمَع،
بقعُ الحبر والشمع.
جماجمهم من رصاص،
ولذا لا يبكون!
بأرواحٍ من الجلد اللامع
يأتونَ عبر الطريق
محدودبين وليليين
وحيثما يحلون ينتشرون
صمتاً من المطَّاط الداكن
ومخاوفاً من الرمل الناعم
يمرون، إذا شاءوا،
مخبئين في رؤوسهم فَلَكاً غامضاً
من الغدارات غير المتجسدة!).
ثم يمضي ليتحدث في إلفةٍ وحبٍّ عميقٍ عن مدينة الغجر تلك، حيث البراءة والصدق والعفوية والمرح، حيث السجية الإنسانية تنسرح على كامل العلاقات في المجتمع ذاك، مجتمع الغجر، حيث الصدق والوضوح والجسارة هم أهم سماته، لقد أحب الشاعر ذلك العالم المدهش، وكان أحد ينابيع إلهامه الفذ، ويتحدث عن الليل، ليل الغجر العميق، الغامض، الحامض كما الليمون، المحدد كالملح والموت!. ويسميه الشاعر (ليل الليالي العميق)، عندما يبدأ الغجر يطرقون معاولهم في حوانيت الحدادة فتسطع ـ عبر المطارق والطرقات ـ شموساً وسهاماً، وأحصنةً غائرةَ الجروح تطرقُ كل الأبواب، تنشد أن توقظ النيام، والديكة تتصرَّخُ وهي من زجاج!، فهي تنضمُّ إلى الرعيل الغاضب دون أن تمتلك أدواتاً للمقاومة، ولكنها أيضاً تغني؛ والريح تعبر ذلك المشهد بكامله وهي عارية، وهي ترمز للشمس الكاملة والعجب كله في هذا الزمان!.
أم الليل، فهو فضي اللون والسمات والملامح، لأنه (ليل الليالي العميق)؛ يتحدث لوركا أيضاً عن القديس يوسف وعن العذراء، ويصورهما يطلبان الغجر، ويبحثون عن هؤلاء (المغيبون) في ذلك الجب المظلم الذي اختاره رجال الحرس المدني للمعارضين! إنها الحيوات المعذبة في ذلك الوقت الرهيب!.
(آه، يا مدينة الغجر
ذات الأعلام في النواصي.
أطفئي أنوارك الخضراء
فالحرس المدني قادم!
آه، يا مدينة الغجر..
منذا يراك ثم لا ينساك؟!
اتركوها بعيداً عن البحر
دون أمشاطٍ تتمشُّط بها!).
هو الرعب والخوف سيد الموقف بكامله، الذي يذهل الإنسان عما سواه، سوادٌ حالكٌ دبقٌ يجلل الليل البهيم فيكاد يكون إظلاماً محضاً! يتحول فيه ليل البهجة والفرح والانشراح والحرية ـ فذاك ليل الغجر ـ إلى مأساةٍ عميقةِ الشروخ، نازفة ومترعة بالدم والدموع والحشرجات والأنين!.
(يتقدمون إثنين، إثنين
صوب مدينةٍ العيد
حفيفُ أزهارِ الخلود،
يخترقُ أحزمةَ الطلقات.
يتقدمون إثنين، إثنين
أزواجاً من ثيابٍ ليليةٍ
ويتخيلون السماء..
واجهة للمهاميز!).
أنظر كيف بلغ الأمر بهؤلاء الطغاة الجلادين، إن قسوتهم وحقدهم صوَّرَ لهم أنهم فوق اليأس، على رقابهم وجماجمهم يسيرون وأن (السماء نفسها أصبحت واجهةً لمهاميزهم وأحذيتهم!). إنه ليلُ الطغاة يسطع في تلك القرية، قرية الغجر الوديعين؛ ويمضي الشاعر ليصف ما يحدث في مدينته الأثيرة إلى قلبه ووجدانه عندما يجتاحها بليلِ الحقدِ الأعمى البشع الحرس المدني:
(المدينة المطمئنة
ضاعفت أبوابها
وخلالها يدخلُ للنهب
أربعون من الحرس المدني
تتوقف الساعات
والخمرُ في القوارير
تتخفَّى في زي نوفمبر
وحين تصير كل الأسطح
تجاعيدَ في الأرض
يهز الشروق كتفيه
في مشهدٍ صخريٍّ طويل.
آه، يا مدينة الغجر،
الحرس المدني يرحل،
خلال نفقٍ من الصمت
بينما تحوِّطكُ ألسنةُ اللهب
آه، يا مدينة الغجر
منذا يراك ثم ينساك؟
يا من تستقرين في جبيني..،
تماوجاً للقمر، والرمل!)
لأجل هذه الكلمات الرائعات، ولأن القصيدة قد وجدت لها رواجاً واسعاً في الناس، هذه الكلمات الجميلة البديعة كانت من بين أسباب أخرى كثيرة وعميقة، ولكنها مؤكدة، قادت الشاعر العظيم للموت!. وبقيت في ذاكرة التاريخ لوحتان بصدد الحرب الأهلية الإسبانية: قصيدة الحرس المدني الإسباني لشاعر إسبانيا العظيم لوركا، ولوحة الجرنيكا لبابلو بيكاسو. يصوِّران ـ كلٌّ بطريقته الإبداعية الفذة، وبإبداع لا يُبارى ـ بشاعة الحرب وانتهاك وتمزيق آدمية الإنسان!.
وتدخلان معاً الألفية الثالثة لحياةِ البشرية، فهذه الشوكة الدامية لن تُمحى أبداً من ضمير الإنسانية لحقبٍ وأزمانٍ طويلةٍ قادمة.!
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
* الجزء الثالث والأخير من هذه الكتابة يشتمل علي : شهادات عن الشاعر من معاصريه ، وقصائد وصورا للشاعر !
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
* الجزء الثالث والأخير من هذه الكتابة يشتمل علي : شهادات عن الشاعر من معاصريه ، وقصائد وصورا للشاعر !
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)