Powered By Blogger

الأحد، أغسطس 04، 2019

طيب تيزينى، وداعا: راجع التراث، ثم نظر إلى حالنا ورحل!





طيب تيزينى، وداعا...
بالمنهج الجدلى راجع التراث، ثم نظر للواقع الراهن،ورحل!
-----------------------------------------


(مثل رثاء النصر إذا ساوم قلب القائد
وكما يقرأ في المبغى  قرآن
وحزين قلبي
كحديث العمر الذاهب
للمنقذ...
في طرقات مدينتكم حقرتم حزني..
المبغي في ليل مدينتكم أكثر تسلية من حزني
القبر بليل مدينتكم , أكثر أفراحا
وأنا من أقصى الحزن أتيت أبشر
بالإنسان وبالمنقذ
وأخاف على أيام مدينتكم منكم
من لغة أخرى..)...
                     -مظفر النواب-

فى وسط هذا الحريق العربى المرعب، الذى أشعله وأذكى أواره، بالرصاص وبالدم، الإسلام السياسى عبر نواته الحية، الأخوان المسلمين، بتناسلاتهم العديدة وأقنعتهم الكثيرة. وفى أتون ثورتنا السودانية الفريدة وهى تسير سيرها فى انتصاراتها العديدة. وسط هذا العنفوان كله، يأتينا نبأ رحيل طيب تيزينى، أحد ألمع وأعمق المفكرين الماركسيين، لا شك أنه لفقد كبير للفكر العربى التقدمى ولحركة التنوير فى عالمنا. تيزينى المولود فى مدينة حمص السورية عام 1934م، رحل فى مسقط رأسه حمص فجر السبت 18/5/2019م عن 85 عاما. بدأ دراسته الأولية فى حمص
، ثم انتقل لدراسة الفلسفة بجامعة دمشق ومنها إلى تركيا وبريطانيا وألمانيا التي حصل فيها على دكتوراه الفلسفة عام1967م في أطروحة (تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة) ليعود مرة أخرى إلى جامعة دمشق، ليشغل مقعد  أستاذ الفلسفة فيها لعقود، معلما له جولات وصولات فكرية لامعة جعلته يتبوأ مكانا مرموقا وسط الطليعة من مفكرى عالمنا. وتحولت أطروحته للدكتوراه إلى كتابه الأول بعنوان (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط)، من بعد صدرت له كتب (الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى) عام 1982، (من يهوه إلى الله) عام 1985، (مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر) عام 1994.
ثم، من بعد، طور أطروحته لمشروع فكري مكون من 12 جزءا أنجز منها ستة قبل أن يتحول للتركيز على قضية النهضة ومعالجة عوائقها العربية، سواء الذاتية أو الغربية، وفي هذه المرحلة نفسها، أنجز كتابات جديدة أهمها:(من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي) عام 1996، (النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة) عام 1997، (من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني) عام 2001.
 يعد تيزينى أحد أبرز المفكرين والمثقفين السوريين والعرب، وبهذه الصفة الفريدة التى لازمت حياته العلمية، المعرفية والفكرية، يعد مشروعه الفكرى اضاءات جوهرية وأساسية فى الفكر العربى وعلاقاته الفلسفية والمعرفية مع الفكر الغربى وأطروحاتها الحداثوية، فكان أن تم أختياره عام 1998م واحدا من أهم مئة فيلسوف عالمي، بحسب مؤسسة كونكورديا الفلسفية الأوروبية.

التيزيني ناهض النظام السوري لكنه ابى الرحيل على غرار العديد من المعارضين وكان يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية صنيعة الغرب، والواقع العربي محكوماً بما يسميه قانون الاستبداد الرباعي اي الاستبداد بالثروة والاستبداد بالإعلام والحزب المهيمن والاستئثار بالسلطة اما قوام النقطة الأخيرة هو الدولة الأمنية التي تسعى إلى أن تُفسد مَن لم يَفسد بعد، ليصبح الجميع مُدانين تحت الطلب، وعملية الإفساد هذه هي السبيل نحو حماية المُفسد، وبالتالي فإن الوقوف عن الإفساد يُسقط كل هذه المنظومة.
يقول:
 (كان التراكم في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل يقابله تعاظم في تراكم المزبلة، الذي ما اكتشفناه تحت مصطلح "قانون الاستبداد الرباعي" في المجتمعات العربيّة، أي الاستئثار بالسلطة والثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة في أن الحزب الوحيد الحاكم يقود –مع قائده- الدولة والمجتمع، من هذا جاءت عملية التمرد على الواقع المعيشي).
ويُتابع:
(النظم الأمنية العربية حصَّنتْ نفسها تحصيناً قانونياً، حين حافظت على ثنائية الاستثنائي الطارئ والأساسي الثابت في الوضعية القانونية. فحين أدخلت بلدانها في حالة الأحكام الاستثنائية وقانون الطوارئ فإنها لم تعلن أنها ألغت القانون الأساسي العام والثابت، ولكنها تُخضع هذه البلدان لما تقتضيه مصالحها المركّبة -أساساً- على تلك الحالة.
نعم، أمام هذا الوضع القانوني الاستثنائي والطارئ تنسدُّ أمام الناس أبواب المؤسسات الناظمة والموضوعة باسم القانون، فما الذي يتبقى لهم؟ هاهنا وبحكم افتقادهم القوانين المدنية العامة، ينسابون بقوة نحو مؤسساتهم الأهلية، من الأسرة إلى الطائفة والمذهب والإثنية).
  كان هذا القول من طيب تيزيني بعيد الرؤية  إزاء هذا الكمّ الهائل من الخراب والأحقاد والضغائن والفتك والهتك السياسي والثقافي والنفسي والمعرفي، المتوارث عبر الأجيال، سرّاً، أتت لحظة الانفجار في المجتمع.
ثم رأينا، على أرض الواقع، عندنا فى الميدان، كيف أتت لحظة الانفجار وحلت، قيامة بعد القيامة، ثورة وإعتصام ولتستمر الجماهير فى عنفوان ثورتها تخطو، بيقين وبسالة، صوب الإنتصار، كل يوم، بل كل لحظة.
 هل من أمل؟ هكذا ينشأ التساؤل بعد (تشريح) التيزينى لحالتنا العربية.
على التأكيد، هناك أمل، وهناك حلم، وهناك رؤيا، يسير بها، جميعا، وعى الشعوب وارادتها الحرة صوب المستقبل الأجمل.
  لا مناص من الأمل في الارتقاء من هذا الحضيض الاجتماعي الأعمى والمسموم، نحو التماس الطريق المؤدّي إلى النهضة والتنوير والإصلاح والتغيير. ولا يمكن ذلك، إلاّ بعد تغير شامل في مفهوم شرعية السلطة ونسف تلك الأبنية القانونية التعسفية-المخالفة لأبسط حقوق المواطن والمُواطَنة-والتي حكمت المجتمع العربي وأوصلته إلى حالة العبودية بأبشع صورها.  لابدَّ اليوم من الإطاحة بهذه النظم الاستبداديّة التي تشكّل انسداداً كثيفاً وصلباً أمام النمو والتنمية الحضاريّة على الصُعد كافّة. لذا، تبدو حزمة الأفكار التي يطرحها طيب تيزيني، في سياق قراءته للحدث الثوري بالغة الأهميّة، لجهة تحريكها الكثير من الأسئلة الملّحة، أكثر من تقديمه الأجوبة القطعيّة.
من أبرز مؤلفاته:
- (الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى).
- (مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر)،(ستة أجزاء).
- (من التراث إلى الثورة - حول نظرية مقترحة في التراث العربي) 1976.
- (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة) (12 جزءا) 1982.
- (الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، مشروع رؤية جديدة للفكر) 1982.
- (من يهوه إلى الله" مشروع رؤية جديدة للفكر العربي) 1985.
- (دراسات في الفكر الفلسفي في الشرق القديم) 1988.
- (فصول في الفكر السياسي العربي) 1989.
- (من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية) 1996.
- (من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني) 2001.
- (من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة) 2005.

وغلب على مشروع تيزيني الفكري -رغم احتفاظه بالفكر القومي الماركسي واعتماده على المنهج المادي الجدلي- تخليه عن مبدأ صراع الطبقات الماركسي، وانفتاحه على فهم التجربة الدينية والإيمانية من الداخل لإدراك تأثيرها في إنجاز التحول المجتمعي. هكذا نراه قد أشتغل، أواخر تفكيره وكتاباته، على النظر،عميقا، فى التجربة الدينية والإيمانية معا، هذا المنحى الذى، فى ظنى، أنه قد سبق وتجاوزه فى اعماله  السابقة، تلك الأفكار، التى عبرها، قد كرسته مفكرا من طراز رفيع. وفى رأينا أن (تركيزه) على الموضوعات العربية ذوات الجذور، وثيقة الصلة، بالتراث هى التى جعلته فى هذا المسار الوعر. وأنا أقرأ خلاصاته النظرية المتأخرة، كانت تتبدى أمامى (وصية) المنور العظيم حسين مروة التى قال بها أخريات أيام حياته:(أن معركة التحرر العربية تقتضى الحسم مع مسألة التراث)، وهى مما أعده أعظم المعضلات أمام مسيرة فكرنا العربى وتقدمه، وبدونها، نعنى، بدون هذا الحسم الضرورى، لن نتقدم للأمام صوب التحرر والديمقراطية والسلام، فالتفكير العربى يحتاجه لأن يكون فى الجوهر من تفكيرنا الحر.
شرع تيزينى يركز، مؤخرا،على الفكر العربي، لكنه أدخل إليه مرحلة ما قبل ظهور الإسلام باعتباره جزءا من تطور تاريخ الفكر الإنساني، ويرى تيزيني، أنه ازدهر في ظل الحضارة الإسلامية، بل يرفض المركزية الأوروبية التي تنزع عن الفكر العربي أصالته الخاصة. ثم أدخل إلى مشروعه المتأخر، أصالة الفكر العربى، وهى، هكذا كما هو معلوم، ذات صلة لا تخفى مع التراث الماضوى، بل أنه رأى، كما أشرنا، أن الفكر الإنسانى قد أزدهر فى ظل الحضارة الإسلامة، وكان من البدهى، والحال كذلك، أن يرفض المركزية الأوربية، وفى ظنى، أنها لم تحظى عنده بالنقد الموضوعى الذى، من المفترض، أن يؤسس عليه رفضه للمركزية الأوربية برمتها.
تيزينى، إذن، شرع يراجع قناعاته السابقة، فنظر إلى الثورة نفسها، كمصطلح وكمعنى واقعى موضوعى، ثم، على مستوى أيديولوجى، ذهب إلى إستبعاد التحليل التاريخى الطبقى، وقرن بين المادية و(الإيمانية) التى هى، بنظره، دينية، وإسلامية فيما يخص العرب. فى حوار سابق معه فى جريدة الحياة يقول توضيحا لهذا التحول:(
أتحدث هنا عن تجربتي الخاصة. اكتشفت أن المسألة الدينية أهمِلت إهمالاً مرعباً من جانب النخب الثقافية، ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية. واكتشفت أن الخطورة تكمن في حقيقة أن النص الديني يقرأ بطرق متعددة يطالب هو ذاته بها. انه نص مرن. من هنا جاء ذلك الموقف الفظ الذي وقفته الماركسية والوضعية والفكر القومي حيال الفكر الديني. لم ندرك في الماضي أن الحامل الاجتماعي لأي تغيير تعيش نسبة عظيمة من أفراده تبعاً للفكر الديني، ما كان ينبغي له أن يحضنا على قراءة جديدة عقلانية ومنطقية للفكر الديني، أي الفكر الحقيقي الذي يتغذى منه المجتمع حقاً. ومع بروز هوية جديدة لمشروع التغيير (النهضة)، باتت هناك الآن مسوّغات كثيرة أصبح من الضروري امتلاك أدواتها الفكرية. ومن هنا أرى أن من المستحيل الوصول إلى أي فكر نهضوي تغييري حقيقي اليوم، من دون إعادة قراءة الفكر الديني والدخول إلى روح الوسط الإيماني. وهذا ما يدفعني إلى التشديد مجدداً على أن الحامل الاجتماعي – الثقافي الذي يمكنه وحده اليوم مساندة الفكر التغييري، يمتد من أقصى اليمين الوطني والديمقراطي إلى أقصى اليسار التقدمي. كأنك بهذا تعيد الأمور إلى مستوى وجود الطبقة الوسطى التي «غابت» منذ عقود، على رغم أنها هي بانية الأوطان والحضارات عادة... علينا أن نواكب فكرياً إعادة إنتاج الفئات الاجتماعية التي تتسم بسمتين أساسيتين (لبناء المجتمعات): اليُسر الاقتصادي والتنوير الفكري. وهذا يأتي ضمن عملية واسعة هدفها إعادة التوازن إلى المجتمعات العربية، وسط زمن عولمي يكاد أن يلتهم كل شيء... وبطريقة تزيد خبثاً وقوة عما فعلت الدولة الأمنية حتى الآن. (حوار جريدة الحياة).
نقول بذلك، فى هذا الحيز الضيق، لندعوا، مجددا، لقراءة مشروعه الفكرى برمته، لربما تكون، عندها، الحقيقة العلمية الموضوعية فى تجليات وضوحها وجوهر حقيقتنا. تيزينى، نفتقده حقا فى وجودنا ووعينا.




ليست هناك تعليقات: