Powered By Blogger

الأربعاء، أبريل 04، 2018

في شأن الحساسية الجديدة للشعر، أما هي وأما هي!




في شأن الحساسية الجديدة للشعر، أما هي، وأما هي!
كتابة لمناسبة اليوم العالمي للشعر.

( إن الشعر فيه تلك القوة التي تستطيع أن تسقط الأسوار بالغناء ).
                    - لويس أراجون -

الشعر،  أعني الشعر في لبوسه أردية التغيير و ... المغايرة، هو فعل مبهر وضاج في حياتنا،  ينمو ويزهر،  ليصير وردة مكتملة العافية في زمن السلم ... والشاعر نفسه يولد في خميرة السلام،  تماما كما يولد الخبز الدافئ من الدقيق المحايد،  فالسلام يتيح أفضل الظروف لتجري التنمية جريانها و تصفو وتسمو شعارات التقدم والحرية والإزدهار.  إن آلاف الزهور تتفتح لدي مرور أول نسمة للحرية في سماء الوطن،  والإبداع يعلو إلي أعلي الذري في أزمنة الحريات الحقيقية والسلام الحقيقي،  فتشمخ،  بجموح فتي وعنفوان،  أحصنة الشعر وتهب رياحه مدوية وفاعلة و ... رائعة!  هي،  إذن،  حالة ، حالة كتابة مستقبلية،  لكنها أيضا، هي واقعية، فالخيالي هو الواقعي الأكيد علي قول درويش. ومما لا شك فيه إنها ستحوز السيادة علي صعيد الكتابة والإبداع، هي قصيدة التجربة الحياتية المعاشة، بكل مفرداتها وعناوينها وصورها وإيقاعاتها،  بكلمة:  هي قصيدة الحياة،  الحياة اليومية للناس العاديين،  وهي  أيضا،  عنوان حقيقي،  جمالي ودال،  لمراحل تاريخية معاصرة من حياة المجتمع،  تضع رؤاها علي الأرصفة وفي الشوارع حيث الناس وأمام الملأ فيشهدوا ميلادها ودورات حياتها نفسها. هي حالة إذن،  لكنها تبدو رحما رحيما في الناس، تزدهي كل أوقاتها بفيسفياء ملونة وبأكاليل يانعة تتجلي،  بأجمل ما يكون،  في مزهريات مضيئة في شرفات الشعر،  فتجدها مزهرة ومزهوة بما يكفي لتصنع فرحها وتكون في الناس، إشارات وملامح تتراقص بموسيقي لغتها و ... تؤشر للجديد وللتغيير القادم الذي يلامس المجتمع في تجلياته وفي تغيره وتململه الصاعد إلي أعالي الوجهات الجديدة، حيث تكون،  هي بذاتها،  فعل اللحظة في حياة شعوبها وفي أفق الثقافة ومكون ثقافي لامع يتماهي بالجديد في منظور الحاضر نفسه، وهي،  والحال كذلك،  في الفعل الحيوي للتغيير الكبير الذي يصيب العالم في بلبال حياته وضجيج دوراته المتنامية ولكن،  أيضا،  بإتجاه تطورها هي نفسها،  هي  إذن،  من الملامح الأساسية للتغيير نفسه.
و ... كيف نرأها القصيدة؟
                          
يقول إدوارد سعيد ( النصوص دنيوية )، نعم  هي كذلك، ثم إنها موجودة بالفعل والقوة في قلب هذا العالم،  تتفاعل بأقصي حد وبعمق ثر في دنيا الأحداث والصراعات والهيمنات والمقاومات والتناقضات، ودنيوية النصوص هي علة فعاليتها السياسية والتاريخية،  فإذا جردناها من هذه الدنيوية تصبح كائنات خاملة يظللها ويخالطها السكون،  تغدو بلا حراك وبلا حركة،  تصبح تيها محضا يتمترس في نصوصيات مغلقة بلا أية دلالات موحية!  والحال كذلك، فأننا نستطيع أن نقول،   بإطمئنان كامل،  أن النصوص بصفة عامة،  ويعنينا هنا الشعر بصفة خاصة،  لا ينبغي أن تعزل عن ظروفها وسياقاتها والأحداث التي جعلت منها شيئا ممكنا،  وذلك ببساطة لأن النصوص هي في ذاتها دنيوية،  وهي أيضا، بهذا المنظور نفسه، أحداث  بهذا القدر أو ذاك، ثم، هي فوق ذلك كله،  جزء من العالم الإجتماعي والحياة البشرية نفسها.  إذن،  يتوجب أن يقرأ شعرنا الراهن وفق هذا المنظور، بفهم وبوعي عميق لمحيطه وأحداثيات الحياة من حوله. 

وجه الشعر ، و ... كيف يبدو ؟
الآن،  كما يترأي لي، أن الشعر السوداني،  وفي غير السودان، في مفترق طرق،  وللحق يمكننا أن نقول: أنه اختار أن يخطو خطاه الواثقات بجسارة في وجهة مغايرة تماما لمألوف الشعر عندنا،  مغايرا وبرؤي جديدة ذات فرادة وإبتكار، يخوض في تجاريب الكتابة، إنها وجهة جديدة، وللجديد، دائما  في عرف الناس ومسلماتهم دهشة المسافة،  تقف كعمود الملح أمام تطور القصيدة، تنهض، فجأة أمامها عراقيل شتي وهي تشق إليها طريقا خاصا بها إلي حيث منابع الإبداع وتخومه وشمسه الساطعة.  هذا الواقع الملتبس يشكل، في ذاته،  تحديا صارخا ومباشرا أمام الشاعر،  بالأحري يصدمه بعنف كثير صقيل حد أن تهتز منه شعريته وذخائره المعرفية كلها،  فأما أن يدع قصيدته تسير سيرها في وجهتها  (القديمة)،  أو أن يخرج بها في الملأ علي غير ملامحها ، في وجهة ( حداثتها ) المفترضة، غير المألوفة،  المغايرة تماما لما هو سائد،  فتثير الرعشة في جسد الحرس القديم،  تستفزه حد أن تستنفره،  في ذات الوقت،  لكيما يقف أمامها، سادا إليها مخارج إنطلاقها ودروب سيرها وتطورها النامي بإتجاه المستقبل،  مستقبلها كقصيدة جديدة تطلع،  كما الشهب،  باهرة ومتوهجة في فضاء الشعر عندنا.  وهي ،إذ تفعل ذلك، تنفك من عقابيله كلها فتذهب إلي ذراها المشرقة بالبهجة والمعرفة والسمت الفريد. أن الشعر قد أدرك،  بجلاء البصيرة النابهة،  أنه لا يوجد شعر حقيقي خارج المحظور،  ولا إبداع خارج الممنوع ، فالإبداع هو ( إنتهاك دائم للمألوف،  تعد علي ميراث الأجوبة النهائية،  أنه حالة عصيان فكري،  لذا علي من يطمع في إبداع شاهق يخترق سقف الحرية،  أن يكون جاهزا لكل شئ،  بما في ذلك الموت مقابل حفنة من الكلمات )، علي قول مستغانمي.  فالشعر، الآن، في مرحلة تحول عميق، وهو ليس تحولا في طرائق الأداء واساليب الكتابة وحسب، بل  هو أيضا،  تحولا في الرؤية نفسها لكيما يروض العالم المفتت ليجعل منه وجودا متماسكا،  وينشط ، في ذات الوقت، بفعالية تجعل من الوجود نفسه أطروحة فكرية ( مقذوفة ) بإتجاه مستقبل مضئ ،يرأه ويستشفره ويستغرقه، وهو إذ يفعل ذلك، يخرج برؤياه من الأطر الثابتة والجواهر المستقرة  المطمئنة لوجودها لدي عرف الناس،  وإنتسابا، في ذات لحظته،  إلي حيث التاريخ والأعراض المتحولة. الآن، كما نري،  هنالك وعي جمالي بدأ يتكون ويتجوهر و ... يتخلق في رحم الشعرية لدينا،  وهنالك،  أيضا،  وعي معرفي آخذ أيضا في التكون.  لقد بدأت القصيدة تفزع لتختلط إختلاطا ثريا بالحياة المعاصرة بكل تعقيداتها وصراعاتها وإتساع معرفتها بالوجود !

ليست خلاصة إذن، إنها تفكرات ..

لعله – أن صح ظني – أنه منذ بداية الألفية الثالثة من عمر البشرية،  دخلت تجاريب الشعر إلي مناطق عميقة الغور في الذات،  حيث صارت (ومضة) الشعر الخاطفة تطلع من الدواخل ومن بين الشغاف،  حد أن قيل – وذلك ليس كله قولا زائفا – أن الشعر هو ما يصدر عن الذات وما عداه ليس معدودا فيه!  أندثرت، بفعل التقدم الهائل والتقنية المتطورة،  نظريات ومدارس وأنظمة فكرية عديدة،  ومثلها حدث للأدب والشعر والفن بضروبه جميعها،  أنتهت من عالمنا المدارس كلها تقريبا فغدت من الكلاسيكيات والتاريخ الأدبي،، فأصبحت القصيدة هي – وحدها – التي تحدد شكلها وسماتها وصورها ولغتها أيضا،  أصبحت كائنة من ذاتها، من ذات نفسها،  هكذا، كما أري،  بدأت مرحلة جديدة في الشعر وفي توجهاته أيضا! لكنني، وأنا أقرأ بعضا من الشعر هنا، أبحث فيه – رغما عني – عن الحدس! ولعله من المعلوم، أن الحدس هو أدراك حسي للأشياء والأفكار والصيغ، وهو رؤية البصيرة إذ تكون في الإبداع وتتوفر عليها ذائقة المتلقي،  إذ يكونا، كلاهما، المبدع والمتلقي، يستندان إلي مهد الحدس في محاورة الأثر الفني، يقول كروتشه: ( ثمة معرفة تأتي عن طريق التصور والإدراك الذي تفرزه المعرفة العقلية،  وعن طريق الأحساس،  وهو نفسي ذاتي، ويتم تفاعل الأدراك مع الحس، أو تفاعل التصور مع الصورة عن طريق الحدس).  هكذا،  كما نري،  يكون الحدس عالقا في الصورة الشعرية،  في شكل القصيدة،  وشيئا غير قليل في  لغتها أيضا!  و أذكر أنه،  قبل ألف عام تقريبا،  قال أبو حيان التوحيدي شيئا مثل هذا في ( الامتاع والمؤانسة )،  قال مفسرا الإبداع بأنه: ( ينبعث من أول مبادئه،  أما عن عفو البديهية،  وإما عن كد الروية، وإما أن يكون مركبا منهما ). فالحدس إذن، هو بديهة وروية،  أدراك وحس،  صنعة ما وصدفة،  واقع وخيال،  حقيقة و وهم، علم وشعر، وهو في مجال التلقي ذوق سليم ونشاز ، معرفة علمية ومعرفة فنية ، هو تقليد ودهشة،  متوقع وغير متوقع،  برهان وتأويل ... أبحث عن الحدس إذن،  لأري كيف في القصيدة يتآلف الإنشطار مع الإلتحام،  فأحس بذلك الحوار المثير المستمر في سمت القصيدة،  لا حدود لتأويله ولا لتحليل شفراته الظاهرة منها وتلك التي خجلة في سترها،  أليس جميلا أن نكون في متعة التأويل نفسه إذ نمسك بالحدوس في جسد القصيدة، لنري ونعي؟!
لنتأمل، إذن،  وجه القصيدة في سوحها الناعم في هذا البراح، لا بالهتاف ولا بالشعار يعلو عليها وعلي اللغة،  هنا،  حيث نسعي، ونحن نتوجه صوب تلك الذري لنري وجه القصيدة وملامحها الجديدة مثلما نمعن النظر،  في ذات الوقت، لنري الملامح كيف تبدو في القصة والرواية والتشكيل والمسرح وفي الغناء والموسيقي ، لنري ونتأمل ، إذن ، و ... نكتبها رؤانا.

مشافهة النص الشعري وتجربة الشاعر الجوال، تجوال وحراك لا يكف في فضاء النص الشعري.

أعد نفسي في المحظوظين الذين أتاحت الأيام لهم أن يكونوا في معية مسار الحساسية الجديدة، الناهضة، في الشعر. فقد كنت قد رأيت منحي جديدا في ( الوردة في مشارقها ) للشاعر المتجول الأسبق للعام 2017م بابكر الوسيلة، وهو أيضا، كما هو معلوم، من مؤسسي
( مشافهة النص الشعري )، فكتبت ما رأيته فيها، وبالطبع، رأيت فيما رأيت، تلك الوجهة المبتكرة للحساسية الجديدة لدي الوسيلة، الكتابة متوفرة علي النت تحت عنوان: ( الوردة في مشارقها، في تجليات دلالها وأناشيدها ). ذلك ما كان من أمر الشاعر الجوال الأسبق، وأما السابق، مأمون التلب، فأنني أرجو أن تسمحوا لي أن أقف قليلا لدي رؤياه وقصيدته، ما رأيته في وجهة ووجه القصيدة عنده والحساسية، التي هي أحد مشاغلي ومشاغله هو أيضا. كنت قد قلت في شأنها عنده، يقول مأمون في " البذرة " ، لينصفنا :

" لأجلي تَقَدَّمت البذرة،
بينما ينبوع القلق السري يلتفّ حول عنقي وأنا في الرحم؛
مُنِحت مُشاكسة النبات لأصله،
زلة لسان الخريف أمام أمطاره،
مُنحتُ جنون الزهرة بحيوانات تقتبسها،
وما نال من قِيَمِ الظلِّ وجاهر بها؛
مُنحت قبلة الأم، وحيلة الشحاذين تنبضُ في دمِ يقيني،
إلى أين أذهب بكل هذا وأنا فقير الدمع وغنيّ الأصدقاء؟
إلى جنّة الشعر أعتقد؛
إلى خَلفَة رجل الكون،
ورقعة الدم الصغيرة في إصبع القدم الخَالِف.
إلى حرب اليوم التالي،
دون أن يرمش لي جنينٌ كليُّ الوجود،
يخرج من بين الصلب والترائب؛
أذهب إلى حيث كان الجذر أضحوكةً،
وكانت البذرة نكتة العام.
إلى حين ما أطلقته رائحة جثث الحروب وظنّه العالم متعته الأزلية،
إلى حيث الصليب يبقى ذكرى،
والكعبة أمّ التوهان ومقصلة الشرنقة." ...


قليلون من هم مثله ، أحاط بعلم كثير ، ويصغي إلي الناس و ... إلي الحياة في ضجيجها وصخبها وقسوتها ، ولا يؤمن إلا بما يحسه نابعا من أعماقه هو . لا يمل مطالعة كل غريب وما ندر من كتب ومجلات ، من شعر ونثر في العربية والانجليزية . المعرفة لديه وسيلة لطمأنة نفسه حتي يستطيع الحياة ، ويري - وتلك مما أعاتبه عليها – أنه ، بما يؤمن به ، علي حق . يعيش تجربة الكتابة والشعر باعتبارها مقاساة داخلية ، يتفرد بها ، يبحر في تلاطم وهيجان مياهها ، إبحارا في بحر المعرفة لا شك ، لكنه أثخانا لجراحات قلبه و جمرات محرقات تزيده ولعا ووجدا بها . لكنه أبدا لا يتشكك في صحة موقفه من الناس . لتقم قيامتهم إذا كانوا ، في مايري ، علي خطأ ، ما دام هو قانعا بسلامة دخيلته . ودخيلته هي في هذا الذي يكتبه ، في شعره ورؤاه المكتوبة بشغف القلب ونشوته و ... وأوجاعه أيضا ! نعم ، في كتابته غرائبية ، عصية علي الفهم أحيانا ، وتلك مما لا يرضاه الجمهور وقد لا يفهمه .  الجمهور ؟ الجمهور الكلب ، علي قول توفيق صائغ ، ومن يأبه له ! في ظني إن تلك هي أحد أهم ما جوبه بها الشعر في وجهته الجديدة ، في مسيرته صوب تغيير ذاته وتغيير الحياة في ذات الوقت . قال بشئ مثل هذا الكاتب الفذ الغريب مازن مصطفي عندما قال أنه يكتب دواخله ، عواطفه ووعيه ، لا للجمهور!
أحدي مزالق الكتابة لا شك ، لكنها كائنة وحاضرة ، كجرح الخاصرة ، فينا . نعم ، نقول أن مأمونا قد كسر ألف قاعدة ، وتخطي ألف حد ، تماما مثل صائغ ، لكنه في كل أطواره يعطي للناس حبا وللحياة أملا ، فلا يجوز لنا أن نلبسه أكليلا من الشوك جراء أشعارا يستعصي علينا فهمها ! مأمونا هذا ، الذي يضئ دواخله كلها إلينا لنراها ، لا أحد أكثر منه عنادا في تدليل اللغة وهي تهجس بوسوساته ، ولا في " تخليق " العنصر الكتابي و الشعري في مده وجزره ، في تحولاته إلي عناصر وإلي لغة تلامس الكوني ، تمنحه دلالا ، مثلما فعله إليها ، فتجرح وتصرخ في ذات الوقت ، و ... أين ؟ في راهننا الخشن الذي يوردنا الوجع الممض . فالزمن عنده هو الحاضر ، بكل جراحاته وتجلياته ، زمن التأمل والملاحظة والتفكير وزمن الحوار والكتابة . والمكان عنده هو الداخل ، لكنه هو نفسه الخارج أيضا ، والآخر هو ذلك الذي يكون في الكتابة ويصاحبه دون أي تردد ، في براءة الأرانب ... صاحب ذاكرة متروكة لمخزونها ، وهذا المخزون القلبي في شأن قلبه بالذات ، لاسواه ، متشعب ، متداخل حد الإختلاط الرحيم . لهذا نراه " ينغمس " بكلياته في هذا التشعب والتداخل . ولئن كان المخزون الذي ترويه عنه الذاكرة هو ، كما تراه حين تقرأه ، المرئي والمعاش والمسموع أيضا ، هو نفس الواقع ، واقعه وواقعنا ، هو نفسه من حيث علاقة أناسه به ، ومن ثم ، ارتسامهم في ذاكرته ، هل يجوز لي القول بأننا نري هنا جمالية الحقيقي ، جمالية الخيالي حين يغدو جمالية إنتاج الواقعي فينا ، وأن نراه الآن ماثلا بضراوة في هذا (الشعر) ؟!
سترون ، لا شك ، كيف وظف مأمون اللغة " الفنية " في شعره بشكل مميز ، في إنتاج قول يوهم بأنه هو " مرجعيته " ، إذ استطاع ، عبر خلق الصورة المغايرة ، أن يجعل القول يبدو حقيقيا ، مرئيا ومعاشا بيننا . ذلك الوجه في شعره ومن هم علي نفس نسقه وسياقاته مما جعل الغرابة والصعوبة تكسو جسد ذلك الشعر حد يوصفه بعض الغلاة بأنه ليس من الشعر في شئ . ويبدو - أيضا وأيضا – غير مرحب به
 من " الجمهور " في المنابر حين يتلي عليهم .  ويبقي السؤال هو : هل علي القراءة النقدية أن تتنكب النظر في تخوم المستعصي والغريب ؟ أكيد أن ذلك سيكون تعسفا لا يليق ، لا بالنقد ولا بالنص . فالنص يسعي ، سعيه كله ، للإيهام بتوليد جمالياته ، وعلي النقد أن يتحسس تلك التخوم ويلامس ذات الموضع الذي ينهض النص عليه فيقول قوله . عندها ينكشف ذلك المستور الغامض غير المألوف . ومن منظور آخر نسأل أيضا : هل تتماهي القراءة النقدية مع معرفي يولده النص ، ويوهمنا ، فنيا ، بحقيقته أم تقيم المسافة مع هذا المعرفي ، تتمايز عنه ، لتحاوره بإقامة علاقتها مع المرجعي نفسه ، لكن ، لا من موقع حضوره في النص ، بل من موقع حضوره لرؤيتها النقدية له ؟ ذلك مما أعده مأزقا حقيقيا أمام النص ، سيذهب عنه جدواه إن لم يتألف مع النص ويصالحه .
وأنا أتامل في سمات وملامح هذه الشعرية المغايرة ، في إنتباهتها وحدوسها و ... في شروقها ، كنت قد رأيت بعضا كثيرا من كتابة وشعر مأمون ، المنشور في الملأ وغير المنشور ، يومذاك رحت أتأمل - بوعي معرفي وشغف يلازمني للشعر – ذلك الوجه من الشعر الراهن ، أعني المغاير غير المألوف هذا ، الذي يبدو وجها غريبا علي ذائقة " الجمهور " ، يومها كتبت لمأمون ، للآخر، الشاعر والقارئ معا، بالأحري:

أرجوكم ...

لا تتهموا الشاعر بالإبتذال !

أفهموا براءة الموج
أفهموا فوضاه وحزنه المائي

وأمواجه التي تغسل ملوحة المدينة

وتبدلها بالأشجار والريحان !

حتي يري " الجمال الذي يسير أمام الروح "

في حديقة الرمان !

وأنت ، أيتها المدينة ، ياقلبا من الزجاج

والبراءات والشوك واللافتات

ياوترا يرقش ليلهن البنات

لا تتأمري علي الشاعر ...

لا تؤاخذي شعره المحدث

ودعي البحر ينفتح علي المرايا

حيث الشاعر يجلس حالما علي الرمل

يحلم بالتفاحات و" السوسنة " ،

تلك التي في قلبه

حاضرة ... حاضرة !


و ... الآن ، أقول له ، للشاعر الذي في حضرتكم ، بقلبه الكبير ، وبعبارته الملغزة الغريبة ، وهو الذي يسلم الراية، الآن، للشاعر صالح علي صالح ليكون الشاعر المتجول للعام 2018م،  شخصيا أعطي صوتي كله لهذا الإختيار، فصالح صاحب تجربة ثرة وعبارة واعية وبحساسية مغايرة، مغايرة لكنها مبتكرة، وحتما سيأتي الحديث طويلا عن تجربته الشعرية، فشكرا جميلا الأعزاء في ( مشافهة النص ). كنت قلت لمأمون:

يا جمالا ينكل بكل شئ ،
ثم يعود ينشئه بجماليات آخري بهيجة .
يا عبارة تتخفي في الصورة
لتقول كل شئ ...
يا صاحب الصورة التي تتشيأ بالمعني
الذي يكاد لا يعرفه سواك ...
يا معنيا بنا ،
صعبا حد لا نراك
يا غائما ...
هائما تتملكه الطرقات ولا تحتويه ،
فهو فيها وليس فيها ،
وهو يمشي ويمشي ويمشي
فتنفجر أمامه العيون مياها زرقاء
تبتلعه كي تخفيه عنا :
تعال ...
أقرأ الآن شعرا
فسنمشي معك ، نحن وأنت ،
في دروب نري فيها الكثير الكثير
وقد لا يري بعضا شيئا فيها !


هذه الكتابة، عن قصيدة مأمون، كانت في 17/11/2014م، بمنتدي نادي الخريجين بمدني لمناسبة الأمسية الشعرية التي قرأ فيها مأمون بعضا من شعره، رأينا أن نثبتها هنا توضيحنا لما نراه في شأن الحساسية الشعرية، في هذا المحفل الذي نعلي فيه من شأن الشعر لمناسبة اليوم العالمي للشعر، ولسوف تستمر الحوارات والدرس الكثير في وجهة هذا الشعر المغاير، ذلك الكائن الذي أصبح، برغمنا، فينا ومنا!

----------------------------------
- جابر حسين -
ود مدني: 21/3/2018م.
* قدمت هذه الكتابة في إحتفالية يوم الشعر العالمي بمدينة ود مدني بالسودان الأربعاء 21/3/2018م.

ليست هناك تعليقات: