فَلْنَحْنِ هاماتِنا لشجاعة مريم .
محمد محمود ....
1. مريم (1)
صمدت مريم يحيى أمام قهر الشريعة وانتصرت لقناعتها وضميرها. حمل سيّاف النظام المتدثّر بدثار القضاء سيفه يلوّحه، ويهدّد بسلبها حياتها، ويدفعها لفقهاء الشريعة لاستتابتها --- إلا أنها لم تتزحزح. ورغم محاولات البعض التشكيك في سلامتها العقلية، إلا أن موقف مريم يحيى لا يدلّ على سلامة عقل اختار ما اختار فحسب وإنما يدلّ أيضا على صلابة في الموقف الأخلاقي والشخصية جعلتها تواجه آلة الدولة بكل عسفها وغطرستها وعنجهيتها وهي تبيح لنفسها استباحة المواطنين عبر أحكام الشريعة.
وبعد النطق بالحكم اتضح لكل صاحب عقل راجح وحس أخلاقي سليم إن المأزق الحقيقي ليس مأزق مريم يحيى التي رفضت أن تدخل في مقايضة بائسة فتقبل التنازل عن قناعتها مقابل أن تُوهبَ حياتها --- ولعلها قد تمثّلت في ذلك بقول عيسى "ماذا ينفع الإنسانَ لو ربح العالم كله وخسر نفسه". إن المأزق الحقيقي هو مأزق الإسلام نفسه والمسلمين المعاصرين وهم يحاولون إحياء أحكام الشريعة وخاصة أحكام الحدود في عالم اليوم. ورغم أن أحكام الحدود كلها مفارِقة ومصادمة لقيم عصرنا وحساسيته وروحه إلا أن حكم الرِّدة هو أكثرها مفارقة ومصادمة لأنه يمَسّ حقيّن إنسانيين أساسيين وأصيلين هما حقّ الحياة وحقّ حرية الفكر والاعتقاد والضمير.
2. التوحيد وحرية الفكر
إن قيمة حرية الفكر والاعتقاد والضمير قيمة غريبة على الإسلام، مثلما هي غريبة على اليهودية والمسيحية. والصدام الأصيل بين هذه الأديان وقيمة حرية الفكر يعود لعاملين هما من ناحية عقيدة التوحيد ومن ناحية أخرى مؤسسة النبوة بوصفها الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يدور في ذهن الإله الذي حوّلته هذه الأديان لشخص يشبه البشر من حيث أنه يتكلّم ويغضب وينتقم ويدمّر ويعذّب. كانت عقيدة التوحيد منذ بداياتها عقيدة إقصائية، وخاصة أنها قدمت صورة لإله يعاني من غِيرة حادة من باقي آلهة الشعوب الوثنية التي أحاطت بالعبرانيين. ولقد تميّز تاريخ هذه الأديان، وخاصة المسيحية والإسلام، باضطهادها العنيف للوثنيين. وعندما فرغت المسيحية والإسلام من الوثنية فإن عنفهما تحوّل من ناحية لعنف داخلي بين فرقهما المتناحرة ومن ناحية أخرى لعنف بينهما. (ولقد دخلت اليهودية كطرف فاعل في هذا العنف منذ قيام دولة إسرائيل (فدولة إسرائيل رغم "علمانيتها" تأسست على أساطير التوراة)). ولقد تلازم عداء أديان التوحيد هذا للوثنية مع عداء النبوة للعقل لأن سلطة النبوة وادعائها أنها تقدم للبشر كلام الإله تعارضت مع سلطة العقل الذي ينطلق من تجارب البشر وملاحظاتهم ولا يقبل مزاعم ذاتية لا يقوم عليها دليل. ولذا لم يكن غريبا أن هذه الأديان كانت حربا على العقل عبر تاريخها وأنها قاومت حرية الفكر ما وسعتها المقاومة، إذ رأت فيها خطرا ماحقا على نظامها الاعتقادي.
إلا أن تطورات الواقع الأوربي منذ فجر عصر النهضة ما لبثت أن أجبرت المسيحية على تغيير جلدها والتصالح مع قيمة حرية الفكر والاعتقاد والضمير (وقيم أخرى مثل العلمانية) تصالحا ظاهريا لا يزال مستمرا حتى اليوم (وسارت اليهودية في ركاب المسيحية). وفي القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الثانية وعندما تم الاتفاق على المواثيق المعاصرة لحقوق الإنسان لم تعارض المسيحية واليهودية الواقع الجديد للقيم العالمية لحقوق الإنسان وتجنبتا الاصطدام به.
3. واقع الإسلام
أما الإسلام فقد اتخذ مسارا مختلفا بلغ مداه بصعود الحركات الإسلامية منذ العقود الأخيرة للقرن العشرين، وهو مسار تميّز بمقاومة العلمانية ومحاولة بعث الدولة الإسلامية وبعث الشريعة وعقوباتها على غلاظة هذه العقوبات وقسوتها. ولقد كان من الطبيعي أن يهجم مهندسو المشروع الإسلامي على حرية الفكر والاعتقاد والضمير لأنهم يعلمون حق العلم أن هذه الحرية هي أكبر ما يهدد مشروعهم بل والدين نفسه. وبصعود التيار الإسلامي وهيمنته في بعض البلاد دخل العالَمُ الإسلامي القرنَ الحادي والعشرين وهو يعاني من انحطاط جديد: أصبح الإسلام في عالمنا اليوم أكثر الأديان قهرا لحرية الفكر والاعتقاد والضمير وأكثرها عنفا ضد هذه الحرية، وتمدّد هذا العنف ليشتعل حروبا أهلية بين المسلمين أنفسهم الذين عجزوا عن احتمال خلافاتهم المذهبية وإدارتها إدارة سلمية.
ولكن كيف نفسّر هذا الواقع والإسلام كما يخبرنا دعاته صباح مساء هو دين حرية الفكر والاعتقاد والضمير بامتياز إذ أن القرآن يعلن صراحة "وقل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمِن ومن شاء فليكفُر" (29:18، الكهف)، بالإضافة لآيات أخرى تحمل نفس المعنى؟ كيف نقول إن قيمة حرية الفكر والاعتقاد والضمير قيمة غريبة على الإسلام والقرآن يحوي مثل هذه الآيات؟
إن تفسير هذا الواقع لا ينفصل عن طبيعة الإسلام وتاريخه. فطبيعة الإسلام كدين توحيدي ونبوي حملت منذ بداياته عنف التوحيد والنبوة. هذا العنف الأصيل في فكرة التوحيد بإزاء من يختلفون معها ما كان من الممكن لمحمد أن ينفّذه في فترته المكية لأن دينه كان دين أقلية مستضعَفة (وإن لم يفقد محمد حرية الدعوة لدينه في مكة)، إلا أنه انعكس في التهديد المستمرّ للمشركين وهو بين ظهرانيهم بالعذاب الإلهي. فآية سورة الكهف أعلاه (وهي من الآيات المفضّلة لدى منظرّي حرية الفكر والاعتقاد والضمير في الإسلام) تُورَد عادة مجتزأة إذ أن الآية الكاملة تقول " وقل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمِن ومن شاء فليكفُر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرادِقُها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمُهْل يشوي الوجوه بئس الشرابُ وساءت مُرتفقا". ولقد كان هذا هو الفرق الجوهري بين موقف محمد وموقف المشركين. استمع المشركون لمحمد (وأغلب سور القرآن في المصحف الذي بين أيدينا مكية) ولم يقتنعوا بادعائه النبوة وبكلامه واعتبروه "صابئا". إلا أن الفرق بين شرك العرب وتوحيد محمد أن المشركين لم يعتبروا خروج محمد على دين آبائه إثما وجريمة تستحق عذابا أبديا في نار تعدها آلهتهم لمن لا يؤمنون بها، ولهذا لم يكرهوه على التحول عن ادعائه ودينه. وبالمقابل فإن عنف التوحيد والنبوة الذي حمله محمد منذ فترته المكية انفجر عندما تهيأت له الظروف الموضوعية بعد هجرة محمد للمدينة ليفرض التوحيد والإيمان بنبوته بالسيف. وهكذا إن لم نقرأ ما يوصف بآيات "الإسماح" في القرآن على ضوء الرؤية القرآنية الأصيلة وتاريخ سيرة محمد فإن نظرتنا ستكون مجتزأة ومختلة.
إلا أن ما يجب وضعه في الاعتبار في نفس الوقت هو أن واقع المسلمين اليوم لا يخلو من أصوات إصلاحية تطالب بمراجعة حد الرِّدة وتشكك في شرعيته. وهؤلاء الإصلاحيون على استعداد للتصالح مع حرية الفكر والاعتقاد والضمير وقبولها كحرية كاملة (أي بمعنى حرية خروج المسلم من الإسلام وحريته في التعبير عن هذا الموقف). لا شك أن هذا أمر حميد ولابد من الترحيب به، ولاشك أن صعود مثل هذا التيار سيساعد العالم الإسلامي على الخروج من حالة الانحطاط التي يعاني منها. ونحن نؤمن أنه لا يوجد ما يمنع من تبنّي الإسلام لإصلاحات شبيهة بالإصلاحات التي تبنّتها المسيحية واليهودية إذ أن الإسلام قد صدر من نفس النبع. وكمثال نجد أن المسلمين المعاصرين قد قبلوا مثلما قبل المسيحيون قبلهم بمبدأ التحريم الشامل للرق، رغم أن تشريعات اليهودية والمسيحية والإسلام اعترفت بالرق ولم تحرّمه. إلا أن المسلمين من جهة أخرى ما يزالون يقاومون العلمانية ومبدأ فصل الدولة عن الدين وهو أمر تصالحت المسيحية معه.
وفي تقديرنا أن عجز الإسلام عن حل مشاكل المسلمين المعاصرين والتحوّلات الداخلية في المجتمعات المسلمة والتحديات الآتية من الخارج ستجبر المسلمين في نهاية الأمر على قبول العلمانية وتجاوز الشريعة وقبول الحريات الأساسية ومن بينها حرية الفكر والاعتقاد والضمير.
4. ماذا يريد المسلمون؟
إن مريم يحيى قد وضعت مسلمي السودان والمسلمين في كل بقاع الأرض أمام تحدٍ لا يستطيعون الهروب منه وهو إصلاح دينهم. إن المسلمين مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالتأمل العميق والصادق لما ينطوي عليه خيار القهر والعنف لأن أعلى قيمة في نهاية الأمر هي قيمة الصدق مع النفس والصدق مع الآخرين. إن المسلمين يعلمون أن عنف الإسلام في مرحلته التأسيسية قد نتجت عنه ظاهرة مهلكة وهي ظاهرة النفاق. ولقد أضحى النفاق ظاهرة ملازمة للمجتمعات المسلمة منذ نشوئها إلى يومنا هذا لأنها مجتمعات غابت فيها حرية الفكر والاعتقاد والضمير.
ماذا يريد المسلمون؟ إن كانوا يريدون الصدق مع النفس فعليهم بالاحتفاء بحرية الفكر والاعتقاد والضمير ومحاربة حكم الرِّدة أينما وجد. وماذا يريد مسلمو السودان؟ إن كانوا يريدون الصدق مع النفس فعليهم، قبل غيرهم، مطالبة نظام الخرطوم بإطلاق سراح مريم يحيى وإلغاء المادة 126.
5. مريم (2)
وسواء أطلق نظام الإسلاميين سراح مريم يحيى أم أعدمها شنقا فإنها قد دخلت تاريخنا، امرأة صامدة أخرى تنضمّ لركب النساء والرجال من أهل الصمود في بلادنا، امرأة تستحق أن نَحْنيَ هاماتِنا إكبارا لشجاعتها.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
kassalawi99@hotmail.com