--------------------------------------
* محمد حسين بهنس ، شاعر سوداني وروائي وتشكيلي و ... موهبة موسيقية تطوف بالطرب والأغاني . ولد بالثورة الحارة الخامسة بأمدرمان في 1972 وتوفي يوم الخميس 19 ديسمبر 2013 ، فجرا علي أحد أرصفة ميدان إبراهيم باشا بحي العتبة الفقير بالقاهرة عن 31 عاما ! أنا هنا ، لن أتحدث عن أعماله الفنية والأدبية ، لكنني سأبذل ما لدي من الضوء حول ملابسات موته ، ذلك الموت الذي لقي احتفاءا كثيرا جدا ، أكثر بكثير مما وجده إبداعه ، سواء في حياته أو بعد رحيله الفاجع ! ولست أيضا في موضع الإعتذار لبهنس عنا ، فلإعتذار الحقيقي ينبغي له أن يكون للشعب وللوطن ، تلك هي القضية .
* كتب عنه وعن أسباب وفاته الفاجعة الكثير من المراثي ، نثرا وشعرا ، بكائيات دامعة محرقة لم تتوقف حتي اللحظة ، واعتذارات تشوبها الحسرات ونصال الألم الممض ، مهرجانات كاملة للتفجع وأثارة الأوجاع بجلد الذات حد إسالة النزيف ، و ... لم تتوقف حتي اللحظة ! لم يحمله أحد – حسبما قرأت وعرفت – شخصيا مسئولية ما عن مصيره المأساوي ، لم يفل أحد ، والمبدع ، كما كل الناس ، هو أبن بيئته ومجتمعه ، في أسرته وأصحابه ، وفي المجتمع الكبير ، لم يقول أحد ، إذن ، بمسئوليته عن ما جري له ، لا أحد !
* قالو في أسباب وفاته : الجوع والبرد الذي جمد اطرافه وقلبه ، فمات علي رصيف الشارع ، وحيدا مجهولا لا يكاد يعرفه أحد !
* تقول سيرته الشخصية إنه درس درس عاما واحد في الجامعة الأهلية بأمدرمان وتركها ! منذ ذلك الوقت شرع يمهد لمسار حياته منهجا في الأدب والفن والموسيقي ، وشكل حضورا مستمرا – مستمعا ومشاركا – في الفعاليات والمنتديات واللقاءات الأدبية والفنية علي منابر عديدة في المراكز الثقافية والأندية والقاعات في عاصمة بلاده ، لكنه – والحق يقال – كان مصغيا بإنتباه ويقظة كبيرة أكثر منه مشاركا بأعمالا من انتاجه ، لربما كان يستقوي علي مساره بالمعارف التي يلتقطها بمخيلته اللامعة وقلبه الفنان !
خلال حياته القصيرة تلك أنجز أعمالا قيمة :
- 1999 أقام أول معرض له بالخرطوم .
- 2006 أفتتح معرضه المبهر للرسم بالضوء ( لكن ليس هو مبتدعه بالطبع ) في قصر المهرجانات في باريس ، وفي ظني أن والد زوجته ذو النفوذ والحظوة وزوجته نفسها قد أعانوه في أقامة ذلك المعرض الذي غدا ، من بعد ، علامة مهمة في مسيرته في التشكيل وفن الرسم في ملامحه الغرائبية في راهنه السائد !
- 2004 أقام معرضا في اديس اببا في مدرسة الفنون الأثيوبية العريقة .
- 2003 أقام معرضا بالمركز الثقافي الألماني بالخرطوم
- 2002 شارك مع 50 فنانا أفريقيا في معرض " لغة الألوان " في بون بألمانيا .
- أقتني قصر الإليزيه ، قصر الرئاسة الفرنسية ، أحدي لوحاته معروضة في أحد قاعاته مع أعمالا آخري لفنانين كبار ، وفي ظني أن والد زوجته ذو النفوذ المجتمعي الواسع هو من دفع بتلك الحظوة لتكون في حياته الفنية !
أما أعماله الأدبيه :
- رواية " راحيل " وهي عمله الروائي الوحيد حتي الآن ، فيقال أن هنالك رواية أسماها " الهابر " لم تطبع بعد ولا أدري أين هي !
و " راحيل " قصة حب رومانسي عادية في السرد وفي اللغة ، وفي أحداثها ومضامينها ، حتي شكلها المعماري هو أيضا أتسم بالبساطة والعفوية ، لكأنها – كما أظن – هي نتاج لقصة الحب التي عاشها مع حبيبته الفرنسية ، نتاج لها والحب في لذاذاته ورحيقه العذب ، فلم يعرف القسوة والخشونة والتشظي في بداياته النضرة تلك ، كان حبا جميلا كما ينبغي له أن يكون ، " راحيل " بنت تلك الفترة الحالمة ، المزهرة في قلب ورؤي بهنس !
- مجموعة قصص قصيرة لم تطبع .
- ومخطوطة ديوان شعر لم تطبع أيضا .
يقول في بعض شعره :
«بهديك الفوضى..شجار طفلين في ساحة روضة..أهديك الغربة..ضجيج الموتى..وصوت التربة..أهديك إحباطي..حديث عابر..في مركبة عامة..بصوت واطي..اهديك حزنك..شتات الفول أثنا الخمشة..بعد إذنك..اهديك حروف نقرابة..الفاضل من عمرك..من عمر الفرح الممطوط..اهديك الطلة..لبيوت الطين..وفكرة تفتيش..عن اسواق ارخص..ما فيها حليفة الله..اهديك مرة..الاعبك فيها بالمعدن..اقول ليك حرية..احبك..وله اقمض شارع عنك..اقول ليك..كتابة وطرة..خسرتك..ربحتك مرة..اهديك مرهم للنجمة..يداوي جراحك..في السما تتبسم..اهديك الليل وعرباتو المسرعة..صوب الرئة..في شارع النيل..لاهديك اوصيك....اهديك واهديك..اهديك وله شيء..واقطع عمري مشي».
وهو ، كما قد رأيتم ، شعر جميل سلس ، علي نسق شعر العامية لدي شعراء الشباب اليوم ، بل أنه يستلف لغتهم اليومية في عاديتها ورشاقتها العفوية التي تطلع من ومضات قلوبهم وهم في معمان الحياة ، محاولة جسورة ليجعلونها تبدو جميلة ويعيشونها ! لربما ، لو عاش ، لكان سيقدم نهجا ووجها يانعا في شعر عامية أهل السودان .
ذلك ما رأيت أن أقول به لإلقاء بعض الضوء علي نتاجه وبدايات حياته ، ولكن ماذا عن موته ، ما الذي أودي به إلي ذلك المصير الفاجع ؟ هنالك ، في ظني ، العديد من الأسباب الشخصية والنفسية التي تضافرت – مع واقع حياته الفقير المزرئ – لتجعله في ذلك الموت المجاني المفزع . من المفارقات المؤلمة في حالته ، أن من كانوا حوله كانوا يرونه يضيع ، يزوي و ... يموت رويدا رويدا ، لكن أحدا لم يكن بمستطاعه أن ينتشله من ذلك المصير ، بل أن هنالك من كان يدفعه ، بوعي أو بدونه ، صوب موته !
كان مزهرا ولامعا حين أحب ، وشرع يجعل في عشقه موسيقي وضوء وفرح ، ثيمات حياته وأيقوناته المبجلات .
فقد تعرف ، بدايات العام 2000 علي فتاة فرنسية جميلة وذات ثقافة عالية كانت تعمل ضمن كادر المركز الثقافي الفرنسي بالخرطوم ، تعرف عليها إبان غاراته الدائمة علي المركز الذي يحفل عادة بالعديد من الأنشطة والعاليات الأدبية والفنية والمعرفية ، جمع الحب بينهما إلي جانب حبهما الأدب والفن والشعر ، فتزوجا بالخرطوم في نفس عام تعارفهما . تلك كانت الفترة المزهرة والمطمئنة من حياته . ولما حان عودتها إلي فرنسا أصحبت زوجها معها ، فأنجبا ولدا في العام 2005 ، وعاشا فترة ليست بالطويلة في رحاب حبهما والثقافة ...
لم يكن لديه ما يفعله هناك سوي فنه الذي بدأ تسويقا بطيئا لا يحسنه ، فعاونه والد زوجته وزوجته نفسها ، ماليا في معاشه وفي تسويق فنه. أقامته هناك استمرت عامين ، وسرعان – لأسباب شخصية وعائلية ومعاشية – ما نشبت بينهما شجارات ظلت تتنامي وتتضخم بينهما كزوجين وبينه وأسرة زوجته ، وكان لابد أن يكون الطلاق ، بسبب من تلك الهوة الفكرية والنفسية التي تباعد بين ثقافتين وعالمين في ظلال العائليات ، وكم من تلك التجارب قد آلت إلي مصائر بائسة لمثل هذه الزيجات ، حدث الطلاق ، فسلب منه حب حياته وأبنه ، وجري ابعاده عن فرنسا بواسطة الشرطة ، تلك كانت بدايات بهنس نهوض ملامح بهنس الآخر ، في أزمته الشخصية والنفسية ، منذ ذلك الوقت بدأ ، ذلك الكائن الجميل رحلة ذهوله الغريب عن دنيا الناس ! حين عاد مبعدا إلي وطنه ، وجد أن والدته وشقيقه الأكبر قد توفيا ، ولم يكن له علم برحيلهما إذ أنقطعت أخباره تماما عن أهله وأصدقائه ووطنه خلال فترته الباريسية ... فتضاعف إليه حزنه وذهوله ، وكان يبدو أن أصدقائه كانوا قد " نسوه " جراء غيابه الطويل عنهم والبلد وإنقطاع أخباره ، فلم يجد أحدا حوله إلا صديقه الأثير بكري بقداش فرحل إليه ليساكنه داره خلال فترة توهانه التي أمتدت لحوالي ثلاث سنوات . بدأت فترة عزلته وسلوكه الغريب يحاصره ، فلم يستطيع مقاومته حتي نالت منه ظواهر وتداعيات الإكتئاب والرهق ، وفي ظني أنه كان يري أطواره ويسير فيها ، لكأنه كان يري مصيره المهول المرعب فيذهب إليه مطمئنا إليه ... لهذا ، تراني أحمله بعضا كثيرا من مسئولية ما جره إليه ، وأكاد أقول أن البيئة الشبابية التي كان يحرص علي تواجده فيها حيث حلقات تعاطي المخدارات والخمر ومعايشة التوهانات ودنيا من المرح والوهم ، هي أيضا من مسئولياته الشخصية التي حدد هو ، عبرها ، ملامح ما سيؤل إليه مصيره ، ولم يكن من أحد ليأخذ بيده ، فغدا في الوهم الكثير ، وهو وهم يفضي ، لا مندوحة ، بصاحبه إلي الجنون ، تلك هي بالضبط الفترة التي كان يحتاج أحدا يؤازره ويكون بجانبه ليل نهار وما من أحد ، ذلك ، في ظني ، هو الملمح الموجع في مأساة بهنس ، من هنا بدأت تنمو وتزهر بذرة الجنون في دواخله وتسود إليه مخيلته ورؤاه ، وما من أحد . أسامة الخواض ، أنتبه لهذا الجانب الهام في آخريات حياة بهنس ، وهالته مهرجانات الرثاء بألوانها الزائفة ودموعها المالحة ، فكتب في بعض قصيدته البديعة " سبحانك الثلج " :
( هم أودعوني غياهب نسيانهم،
* محمد حسين بهنس ، شاعر سوداني وروائي وتشكيلي و ... موهبة موسيقية تطوف بالطرب والأغاني . ولد بالثورة الحارة الخامسة بأمدرمان في 1972 وتوفي يوم الخميس 19 ديسمبر 2013 ، فجرا علي أحد أرصفة ميدان إبراهيم باشا بحي العتبة الفقير بالقاهرة عن 31 عاما ! أنا هنا ، لن أتحدث عن أعماله الفنية والأدبية ، لكنني سأبذل ما لدي من الضوء حول ملابسات موته ، ذلك الموت الذي لقي احتفاءا كثيرا جدا ، أكثر بكثير مما وجده إبداعه ، سواء في حياته أو بعد رحيله الفاجع ! ولست أيضا في موضع الإعتذار لبهنس عنا ، فلإعتذار الحقيقي ينبغي له أن يكون للشعب وللوطن ، تلك هي القضية .
* كتب عنه وعن أسباب وفاته الفاجعة الكثير من المراثي ، نثرا وشعرا ، بكائيات دامعة محرقة لم تتوقف حتي اللحظة ، واعتذارات تشوبها الحسرات ونصال الألم الممض ، مهرجانات كاملة للتفجع وأثارة الأوجاع بجلد الذات حد إسالة النزيف ، و ... لم تتوقف حتي اللحظة ! لم يحمله أحد – حسبما قرأت وعرفت – شخصيا مسئولية ما عن مصيره المأساوي ، لم يفل أحد ، والمبدع ، كما كل الناس ، هو أبن بيئته ومجتمعه ، في أسرته وأصحابه ، وفي المجتمع الكبير ، لم يقول أحد ، إذن ، بمسئوليته عن ما جري له ، لا أحد !
* قالو في أسباب وفاته : الجوع والبرد الذي جمد اطرافه وقلبه ، فمات علي رصيف الشارع ، وحيدا مجهولا لا يكاد يعرفه أحد !
* تقول سيرته الشخصية إنه درس درس عاما واحد في الجامعة الأهلية بأمدرمان وتركها ! منذ ذلك الوقت شرع يمهد لمسار حياته منهجا في الأدب والفن والموسيقي ، وشكل حضورا مستمرا – مستمعا ومشاركا – في الفعاليات والمنتديات واللقاءات الأدبية والفنية علي منابر عديدة في المراكز الثقافية والأندية والقاعات في عاصمة بلاده ، لكنه – والحق يقال – كان مصغيا بإنتباه ويقظة كبيرة أكثر منه مشاركا بأعمالا من انتاجه ، لربما كان يستقوي علي مساره بالمعارف التي يلتقطها بمخيلته اللامعة وقلبه الفنان !
خلال حياته القصيرة تلك أنجز أعمالا قيمة :
- 1999 أقام أول معرض له بالخرطوم .
- 2006 أفتتح معرضه المبهر للرسم بالضوء ( لكن ليس هو مبتدعه بالطبع ) في قصر المهرجانات في باريس ، وفي ظني أن والد زوجته ذو النفوذ والحظوة وزوجته نفسها قد أعانوه في أقامة ذلك المعرض الذي غدا ، من بعد ، علامة مهمة في مسيرته في التشكيل وفن الرسم في ملامحه الغرائبية في راهنه السائد !
- 2004 أقام معرضا في اديس اببا في مدرسة الفنون الأثيوبية العريقة .
- 2003 أقام معرضا بالمركز الثقافي الألماني بالخرطوم
- 2002 شارك مع 50 فنانا أفريقيا في معرض " لغة الألوان " في بون بألمانيا .
- أقتني قصر الإليزيه ، قصر الرئاسة الفرنسية ، أحدي لوحاته معروضة في أحد قاعاته مع أعمالا آخري لفنانين كبار ، وفي ظني أن والد زوجته ذو النفوذ المجتمعي الواسع هو من دفع بتلك الحظوة لتكون في حياته الفنية !
أما أعماله الأدبيه :
- رواية " راحيل " وهي عمله الروائي الوحيد حتي الآن ، فيقال أن هنالك رواية أسماها " الهابر " لم تطبع بعد ولا أدري أين هي !
و " راحيل " قصة حب رومانسي عادية في السرد وفي اللغة ، وفي أحداثها ومضامينها ، حتي شكلها المعماري هو أيضا أتسم بالبساطة والعفوية ، لكأنها – كما أظن – هي نتاج لقصة الحب التي عاشها مع حبيبته الفرنسية ، نتاج لها والحب في لذاذاته ورحيقه العذب ، فلم يعرف القسوة والخشونة والتشظي في بداياته النضرة تلك ، كان حبا جميلا كما ينبغي له أن يكون ، " راحيل " بنت تلك الفترة الحالمة ، المزهرة في قلب ورؤي بهنس !
- مجموعة قصص قصيرة لم تطبع .
- ومخطوطة ديوان شعر لم تطبع أيضا .
يقول في بعض شعره :
«بهديك الفوضى..شجار طفلين في ساحة روضة..أهديك الغربة..ضجيج الموتى..وصوت التربة..أهديك إحباطي..حديث عابر..في مركبة عامة..بصوت واطي..اهديك حزنك..شتات الفول أثنا الخمشة..بعد إذنك..اهديك حروف نقرابة..الفاضل من عمرك..من عمر الفرح الممطوط..اهديك الطلة..لبيوت الطين..وفكرة تفتيش..عن اسواق ارخص..ما فيها حليفة الله..اهديك مرة..الاعبك فيها بالمعدن..اقول ليك حرية..احبك..وله اقمض شارع عنك..اقول ليك..كتابة وطرة..خسرتك..ربحتك مرة..اهديك مرهم للنجمة..يداوي جراحك..في السما تتبسم..اهديك الليل وعرباتو المسرعة..صوب الرئة..في شارع النيل..لاهديك اوصيك....اهديك واهديك..اهديك وله شيء..واقطع عمري مشي».
وهو ، كما قد رأيتم ، شعر جميل سلس ، علي نسق شعر العامية لدي شعراء الشباب اليوم ، بل أنه يستلف لغتهم اليومية في عاديتها ورشاقتها العفوية التي تطلع من ومضات قلوبهم وهم في معمان الحياة ، محاولة جسورة ليجعلونها تبدو جميلة ويعيشونها ! لربما ، لو عاش ، لكان سيقدم نهجا ووجها يانعا في شعر عامية أهل السودان .
ذلك ما رأيت أن أقول به لإلقاء بعض الضوء علي نتاجه وبدايات حياته ، ولكن ماذا عن موته ، ما الذي أودي به إلي ذلك المصير الفاجع ؟ هنالك ، في ظني ، العديد من الأسباب الشخصية والنفسية التي تضافرت – مع واقع حياته الفقير المزرئ – لتجعله في ذلك الموت المجاني المفزع . من المفارقات المؤلمة في حالته ، أن من كانوا حوله كانوا يرونه يضيع ، يزوي و ... يموت رويدا رويدا ، لكن أحدا لم يكن بمستطاعه أن ينتشله من ذلك المصير ، بل أن هنالك من كان يدفعه ، بوعي أو بدونه ، صوب موته !
كان مزهرا ولامعا حين أحب ، وشرع يجعل في عشقه موسيقي وضوء وفرح ، ثيمات حياته وأيقوناته المبجلات .
فقد تعرف ، بدايات العام 2000 علي فتاة فرنسية جميلة وذات ثقافة عالية كانت تعمل ضمن كادر المركز الثقافي الفرنسي بالخرطوم ، تعرف عليها إبان غاراته الدائمة علي المركز الذي يحفل عادة بالعديد من الأنشطة والعاليات الأدبية والفنية والمعرفية ، جمع الحب بينهما إلي جانب حبهما الأدب والفن والشعر ، فتزوجا بالخرطوم في نفس عام تعارفهما . تلك كانت الفترة المزهرة والمطمئنة من حياته . ولما حان عودتها إلي فرنسا أصحبت زوجها معها ، فأنجبا ولدا في العام 2005 ، وعاشا فترة ليست بالطويلة في رحاب حبهما والثقافة ...
لم يكن لديه ما يفعله هناك سوي فنه الذي بدأ تسويقا بطيئا لا يحسنه ، فعاونه والد زوجته وزوجته نفسها ، ماليا في معاشه وفي تسويق فنه. أقامته هناك استمرت عامين ، وسرعان – لأسباب شخصية وعائلية ومعاشية – ما نشبت بينهما شجارات ظلت تتنامي وتتضخم بينهما كزوجين وبينه وأسرة زوجته ، وكان لابد أن يكون الطلاق ، بسبب من تلك الهوة الفكرية والنفسية التي تباعد بين ثقافتين وعالمين في ظلال العائليات ، وكم من تلك التجارب قد آلت إلي مصائر بائسة لمثل هذه الزيجات ، حدث الطلاق ، فسلب منه حب حياته وأبنه ، وجري ابعاده عن فرنسا بواسطة الشرطة ، تلك كانت بدايات بهنس نهوض ملامح بهنس الآخر ، في أزمته الشخصية والنفسية ، منذ ذلك الوقت بدأ ، ذلك الكائن الجميل رحلة ذهوله الغريب عن دنيا الناس ! حين عاد مبعدا إلي وطنه ، وجد أن والدته وشقيقه الأكبر قد توفيا ، ولم يكن له علم برحيلهما إذ أنقطعت أخباره تماما عن أهله وأصدقائه ووطنه خلال فترته الباريسية ... فتضاعف إليه حزنه وذهوله ، وكان يبدو أن أصدقائه كانوا قد " نسوه " جراء غيابه الطويل عنهم والبلد وإنقطاع أخباره ، فلم يجد أحدا حوله إلا صديقه الأثير بكري بقداش فرحل إليه ليساكنه داره خلال فترة توهانه التي أمتدت لحوالي ثلاث سنوات . بدأت فترة عزلته وسلوكه الغريب يحاصره ، فلم يستطيع مقاومته حتي نالت منه ظواهر وتداعيات الإكتئاب والرهق ، وفي ظني أنه كان يري أطواره ويسير فيها ، لكأنه كان يري مصيره المهول المرعب فيذهب إليه مطمئنا إليه ... لهذا ، تراني أحمله بعضا كثيرا من مسئولية ما جره إليه ، وأكاد أقول أن البيئة الشبابية التي كان يحرص علي تواجده فيها حيث حلقات تعاطي المخدارات والخمر ومعايشة التوهانات ودنيا من المرح والوهم ، هي أيضا من مسئولياته الشخصية التي حدد هو ، عبرها ، ملامح ما سيؤل إليه مصيره ، ولم يكن من أحد ليأخذ بيده ، فغدا في الوهم الكثير ، وهو وهم يفضي ، لا مندوحة ، بصاحبه إلي الجنون ، تلك هي بالضبط الفترة التي كان يحتاج أحدا يؤازره ويكون بجانبه ليل نهار وما من أحد ، ذلك ، في ظني ، هو الملمح الموجع في مأساة بهنس ، من هنا بدأت تنمو وتزهر بذرة الجنون في دواخله وتسود إليه مخيلته ورؤاه ، وما من أحد . أسامة الخواض ، أنتبه لهذا الجانب الهام في آخريات حياة بهنس ، وهالته مهرجانات الرثاء بألوانها الزائفة ودموعها المالحة ، فكتب في بعض قصيدته البديعة " سبحانك الثلج " :
( هم أودعوني غياهب نسيانهم،
و سلوني،
كأنَّ قميصي- قَدْ قُدَّ من قُبُلٍ،
و أحبّونني هامداً،
و أفاضوا المديح على جثّتي
فسبْحانه "الثلج"،
أحْيا عظام نصوصي| و هْي رميمْ
لا معزَّينَ لي
سوى "أصدقائي" الذين قد استُنْسِخُوا
فجأةً في الأسافيرِ،
كلّتْ من الدمْع و النوْح عينايَ،
هذي المدينةُ،
قالوا،
كمالُ الجمال،
فيا نفْسُ،
في الليلِ،
في أوّل الهزْعِ،
فلتسْكبي
كمياهٍ،
كمياهٍ،
دموعي قبالة وجْه المدينةِ،
أحْسنتُ بالعُشْب ظنّي،
لأنَّ مراحمهُ لا تزولُ،
اضطجعتُ على كَنَبات الميادينِ،
ظهْري تقرّح منها
فصرتُ لشعبي- أغنيةً لهم اليوم كلّهْ
"فباتوا يجرّون
ضاف الدمقْسِ،
وبتُّ أجرْجر أسْماليهْ"
ولو كان لي عِلْم ما في غدٍ" (1)
لما جئتُ مصرَ،
تلطّختُ بالعارِ،
لم يسْتطبْ أحدٌ أنْ يمسَّ ثيابي،
و لم أشتكِ من قصاص خطايايَ،
أعطيتُ خدِّي لضاربهِ،
في الشوارع تهْتُ كأعمى
كان يمشي ورائي الذهولُ،
و سلُّ "التجانيْ" (2)
حين أصرخُ،
أو استغيثُ،
تصدُّ صلاتي،
فرُحْتُ أغنِّي:
"مِصرُ يا أخت
اكتئابي يا شقيّة
يا مَنافٍ،مرّة الطَعْمِ ،قميئةْ"
بينما نسْمةٌ من وراء المقابرِ تهْذي:
"رعي الله مِصْر
فكم للأديب بها ثمّ من عيشةٍ راضيهْ" (3)
........................................
....................................
*و آخرُ دعْواكَ،
يا سيِّدي-شبحي -"بهنس" الباسفيكيّ؟
- آخرُ دعْوايَ،
يا صاحبي:
"لعن الله من
جلبوا المطبعةْ
من ديار النصارى،
و من وزَّعوا كتب الشعرِ،
و السرْدِ،
و الفنِّ ،
و الفكْرِ،
و السّموطيقا ،
و عِلْم الجَمالْ
سامح الربُّ آباءنا في الكتابةِ،
و الفنِّ،
إذْ أنّهم أخْطاوا،
حين شقّوا دروب الخيال
حين شقّوا دروب الخيال
فها نحن نحْمل آثامهم،
ثمّ نصْعدُ نحو الصليبِ،
نكفِّرُ عن مُوبقات الحداثةْ
_______________________________________________
هامشان:
(1) و (3) من أشعار
محمد سعيد العبّاسي.
(2) الشاعر التجاني
يوسف بشير.
قبل منصف العام العام 2011 وصل بهنس إلي
القاهرة ، القاهرة التي يضيع فيها عقلاء الناس ناهيك عن بهنس الذي أتاها ، حين
أتاها ، وهو في ضياعه الكثير. ولكن ما ظل يؤلم قلبي عند تأمل حالة رحيله وملابساتها
، وما ظل يفزعني حتي الآن ، فهو السؤال الجارح : من هو ذاك الذي أعان بهنس وهو علي
تلك الحال المزرية من الذهول والجنون والفقر ، فيأتي به إلي جحيم القسوة التي في
حياة القاهرة ؟ ذلك هو القاتل الحقيقي لبهنس لا سواه ، فقد كان مستحيلا عليه – وهو
علي ما عليه – أن يبلغ القاهرة ، فقد بدأ منذ حوالي ثلاث سنوات " مستطيعا
بغيره " علي قول طه حسين ... كان لا بد من مال ، ولا بد من مرافق له ومعين ،
فأين له كل ذلك من دون مساعدة ليستطيع ! فلنبحث – جميعنا إذن – عن ذلك القاتل أو
القتلة إن كانوا أكثر من واحد فنجعل قاتله في الملأ مشهودا معلوما في الناس ... فشرع
في ذهوله ذاك ، مذهولا مجنونا تتقاذفه ، وحيدا ملفوظا ، شوارع القاهرة ، في حي
العتبة حيث سكن أول أمره ليقيم معرضا ، كما أشيع ، ثم إلي الأرصفة والشوارع والجوع
والبرد ، و لا أحد !!
نعم ، هنالك بعضا في الناس من أهتم به قليلا ، حتي السفارة لم تتجاهله أول أمره ، حتي بعضا من أسرته ، كانوا إليه عند قدومه ثم رافقوه صحبة إليه فترة ، فلما طال جنونه ، لربما لم يكونوا يتوقعونه هكذا ، فتفرقوا عنه ، ولا أحد !
الغريب ، في أمر تجاهل الناس ومعارفه له وانفضاضهم من حوله ، أن الصحفي محمد عثمان يوسف " حبه " قد نشرعنوانا كبيرا لجولته الميدانية هناك ومقابلته بهنس في صحيفة " الدار " السودانية يوم السبت 2 نوفمبر 2013 أي قبل 47 يوما فقط من رحيله ، كتب العنوان / التحقيق المثير بعنوان : ( " الدار " ترصد حالات الوفاة مجهولة الهوية ، والجنون والإدمان وسط الشباب السودانيين بالقاهرة " ...
نعم ، هنالك بعضا في الناس من أهتم به قليلا ، حتي السفارة لم تتجاهله أول أمره ، حتي بعضا من أسرته ، كانوا إليه عند قدومه ثم رافقوه صحبة إليه فترة ، فلما طال جنونه ، لربما لم يكونوا يتوقعونه هكذا ، فتفرقوا عنه ، ولا أحد !
الغريب ، في أمر تجاهل الناس ومعارفه له وانفضاضهم من حوله ، أن الصحفي محمد عثمان يوسف " حبه " قد نشرعنوانا كبيرا لجولته الميدانية هناك ومقابلته بهنس في صحيفة " الدار " السودانية يوم السبت 2 نوفمبر 2013 أي قبل 47 يوما فقط من رحيله ، كتب العنوان / التحقيق المثير بعنوان : ( " الدار " ترصد حالات الوفاة مجهولة الهوية ، والجنون والإدمان وسط الشباب السودانيين بالقاهرة " ...
" ... رصدت
( الدار ) من خلال جولة صحفية موسعة وتقارير ميدانية بين اوساط السودانيين بشوارع القاهرة
خاصه منطقة العتبه وتمثال ابراهيم باشا والمقاهى الخلفية بشارع 26 يوليو ارتفاع حالات
الوفيات المجهولة الهوية بين السودانيين التى وصل عددها الى 5 حالات وظهور بعض الشباب حديثى العهد بالجنون والادمان
.ففى غضون ال6 اشهر الماضية لقى اكثر من 5 سودانيين مصرعهم متوفيين على مقاهى شهيرة
جراء إدمان المخدرات أو الكحول أو بسبب الجوع القاتل الذى يتعرضون له لفترات طويلة
وذلك لعدم وجود مصادر دخل ثابته بالنسبه لهم .
وكشفت مصادر عليمة لـ ( الدار ) أن اثنين من هذه
الحالات المتكررة وجدت ملقاة على قارعة الطريق حيث توفى احدهما بالنجيلة الشهيرة التى
تجاور تمثال ابراهيم باشا ( بالعتبة ) وحالة ثالثة وجدت ميته على ( كنبة ) مطعم اخر
ساعة الشهير خلف شارع 26 يوليو عند الساعة الثالثة فجراً كما ان هناك حالة تعيش هذه
الايام بجوار مترو الدقى بنفس الظروف والمأسى وإيماناً منها بالدور الانسانى واهتماماً
بقضايا السودانيين بمصر ننشر اليوم هذه القصة المأساوية والانسانية للروائى والاديب
والكاتب والفنان التشكيلى محمد حسين بهنس صاحب الرواية الشهيرة ( راحيل ) التى كتب
عنها النقاد فى السودان عند صدورها بأنه اشبه بمولد طيب صالح أخر قادم يحمل الخير للسودان
.حيث يتعرض بهنس لمحنه ويمر بظروف نفسية غاية فى الخطورة منذ اكثر من عام
عندما دخل القاهرة قادماً من الخرطوم .
وقد عاشت ( الدار ) اكثر من ايام وليالى مع هذا
الشاب والاديب الفنان الذى اصبح علامة بارزة فى منطقة (العتبة) خاصة ما بين تمثال ابراهيم
باشا ومطعم الخرطوم وزقاق قهوة ابو المعاطى حيث لا مقر له ثابت يؤوي اليه هذا الفنان
التشكيلى والكاتب القصصى .
وقد اكد شهود عيان لـ ( الدار ) أن محمد بهنس الذى
يعيش فى حالة نفسيه سيئة تعرض لحادث مرورى قبل عدة ايام ولكن العناية الالهية انقذته
والحمد لله ويعيش ( بهنس ) على وجبة طعام نهارية بمطعم الخرطوم وبعدها يخرج هائما بين
المصريين فى شوارع القاهرة الخلفية والتى لا ترحم حتى الاصحاء دعك عن بعض الذين يمرون
بظروف نفسية سيئة فهى لا تطيق أهلها – هذه الايام – ما بالك بالغرباء ، خاصة غرباء
الروح والزمان والمكان .
بهنس الفنان يعيش منذ قدومه من السودان داخل بنطلون
وقميص واحد وهو فى حاله اشبه بالجنون لا يتكلم الا مع بعض المقربين منه ، ينام فى شوارع
القاهرة بجوار مطعم الخرطوم وتمثال ابراهيم باشا ليلاً ونهاراً واصبح شعره طويلاً ومبعثراً
وهيئته لا تطاق عندما ما تراه للوهله الاولى . واكد بعض اصدقائه لـ (الدار) أن بعض
افراد اسرته قد جاءوا من السودان بحثاً عنه فلم يجدوه وعادوا بدونه وتركوه وحيداً خلال
ليالى القاهرة القاتلة من الوحدة والوحشة خاصة عندما يكون الانسان بلا مأوى وبلا رفيق
ويقال ان كثيراً 0من اصدقائه - ايضاً – قد تنكروا له بالفعل لأن منظره اصبح لا يسر
حبيب ولا عدو .
( الدار ) تقرع ناقوس الخطر وتدق جرس الانذار لأكثر من
مرة وتنبه المسئولين عن ضياع مثل هؤلاء الشباب الجميل وتناشد اسرة الفنان والاديب محمد
بهنس واصدقاءه خاصة الدراميين والتشكيليين الموسيقيين بأن يسارعوا بعودة ( بهنس )
الى حضن الوطن سليماً معافى وتطلب ( الدار ) من الرجل الفنان على مهدى نورى
الأب الشرعى لكثير من هذه الحالات الانسانية والفنية للتدخل الفورى والعاجل خاصه وأنه
قريب جداً من كبار المسئولين برئاسة الجمهورية
انقاذاًَ لأبن السودان الفنان( بهنس
) ونحن فىالانتظار ." ...
ذلك بعضا مما جاء في ذلك التقرير ، الذي صاح محذرا من موت قريب سيكون فيه بهنس لا شك ، فلم يلتفت إليه أحد ، حتي جاءه الذي ما كان له إلا أن يجيئه ، و ... قد جاءه ! هكذا كما رحل جماع وأبو ذكري قبله رحل بهنس ، و ... قاتلوه معروفون معروفون !
عند أتساع وتائر مهرجانات الرثاء بعد رحيله ، حتي فاضت بها مواقع النت والتواصل الأجتماعي والصحف والأذاعات والفضائيات ، عندما أدلهمت صيحات التفجع في الوطن المضرج بالقسوة والدم والدجل ، كتب فضيلي جماع صارخا فينا : ( بهنس مات ، ألحقوا محسن خالد ) ، كان قد قصد محسن خالد، الذي هو – ويا للمفارقة – بمدني ولم نستطيع وصولا وتفقده بعد ، وهو يعيش مصيرا مشابها لمعاناة بهنس ، و ... الشاعر ، صديقكم الجميل أبن مدني ، السمؤال محمد الحسن ، هو أيضا هنا ، بيننا الآن ، سادرا في البياض ، وهناك ، ليس بعيدا عنا ، في كسلا الشاعر الحداثوي المجيد حسونه بدوي حجازي ، أيضا وأيضا ، في بياضه ، وحسون هذا هو الشقيق الأكبر والمعلم لكل من شاعرالجزيرة ومدني حمزة بدوي ، ومحمد بدوي الفائزة قبل سنوات بجائزة الطيب صالح في الرواية عن روايته " باب الحياة " ...
لكن ، يا أصدقائي ، صديقاتي ، هل يستحق ، من كان مثلهم ، الحياة ؟ وهم يعيشون في وطن مذبوح و ... النصال القاتلات مبذولات لإعناقهم !
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
* قدمت في " ليلة الإعتذار لبهنس " ، يوم أمس الأثنين 24/2/2013 ، بنادي الخريجين بمدني بمشاركة مع الروائي والقاص مبارك الصادق الذي تناول رواية " راحيل " بالقراءة .