-------------------------------------------------------
" كنت أمنح الكثير للمؤول ، ولكنني أجازف الآن بأن أبدو مبالغ الاحترام للنص "
- أمبرتو إيكو -
لربما لم يعمد نص شعري في مشهد " حالتنا الشعرية " الراهنة إلي تكسير الأزمنة والنوايا كما فعل نص " الوردة في مشارقها " . فقد وجدته يتحايل علي القارئ ويربكه ، ثم يأخذه ليورطه في أكثر من علاقة مع أجناس تعبيرية في الشعر ، ومع صورا مبتكرة تدير حوارا يبتدئ هنا فيقدم دلالات وإشارات وإحالات رشيقة وسرعان ما يذهب ليبدأ – أيضا – من هناك ، حوارا مع حوارات ، حوارا مع الاحلام ، حوارا مع الحيوات والشخوص ، مع الكوابيس والظنون و مع الرؤيات !
" الشهادة
مكتوبة في التراب
وفي المعطف الوطني
منذ الأزل
فقط ...
لو نستطيع التعري
أمام الحياة
لو نستطيع صعود
الأمل " !
إنها " الوردة " التي تتمدد علي فضاءات الجهات كلها و ... تضوع ! ثم أراه يلجأ إلي مغايرة الواقع ومجاراته في آن واحد ، باثا إشاراته وسننه ورؤاه في مقاطع شعرية وجودية وأخروية وتاريخية وسياسية . لكأنه يختصر لنا هموم وآمال الوطن وتجليات أطواره ، يفكك عنها دثارها وأرديتها فيجعلها في الناس عارية عارية !
" أحبك
والقلب طين
والشوق نهر صغير
يرفرف بالطيبين ...
كلما اجتاحني موجة
صعدت
أصلي علي جبل
في مقام الحنين .
( موتي
علي راية العاشقين ).
... ... ...
... ... ...
آمين " !.
لكن – في ظني – أن القارئ " يستسيغ " تلك المراوغات الحميمة في جسد القصيدة ، وفي جسد اللغة التي جعل منها ، أحيانا ، آسيانة فتبدو مقهورة ومحزونة ، لكنها مزهرة ومشرقة ! أن الرسائل الذهنية / النفسية وإشتباكات الذاكرة البشرية في تحولاتها وصخبها ، في تجسيداتها كما يبصرها أو يتخيلها أو ينصت إليها ، تجدها في كامل موضوعيتها رغم المراوغة ومهما كانت طبيعة إنثيالاتها صورا وملفوظات مكشوفة أو حلمية ! الواقع ومحاكاته ، الواقع ومغايرته ، ثمة بروق حدسية هنا ، حيث يبدو الواقع إنغماسا في واقع لم نألفه كثيرا ولم تألفه " شعريتنا " الراهنة ! إذ نراه – وهو الواقعي / الخيالي الجميل – يعتمد علي المرايا والذاكرة الموشومة ، والاحلام ، والرؤيات الفسيحة ، وتداخلات الروح بالمادة وتحريكه – كحجر رحي شقي – للكائنات جميعها و ... أرواحها ! أن النص بأكمله يمسك – بحميمية فارطة وبفيوض ليست ذرائعية بل وجودية يجري عليها ويحرقها ألم البرهة – بالإحتمالات من أعناقها ، ولكنه ، في ذات الوقت ، " يزوغ " منها ليترك للقارئ مساحات للحيرة والإرتباك قبل أن تدلق عليه" الوردة " عطرها الذي يضئ !
" سجن هو الماضي
والذكري هي السجان .
وأصيح في الحاضر :
كن أهلا بهذا ( الآن )
رغم فداحة الإنسان " ! .
يفعل ذلك بالقارئ ثم يتركه عند الحدود القلقة متنازعا بين جهات " الوردة " : بين الحلم والواقع ، بين الروح والجسد ، بين الحبيبة والجسد ، بين الوطن والجسد ، بين الكائنات والجسد ، ما أجملها وهي تتمدد وتنطرح لتقف ، بكل جلال عطرها ، في دنيا الناس هذه ، في دنيانا الجميلة و ... بهية رغما عن قسوة الواقع وخشونته !
" يغرق جسمك
من أثر الضحكة ،
من ذاتك ...
فتصيرين مجرد نهر
- نهر الروح -
وأصير البر المفضوح
وراياتك " !
ثم يكون – وقتذاك – في حب " زينب " التي تكون في " ذاكرة الخطوط علي اليدين " و ... يراها !
ولكن ، هل " الوردة " نص صوري ؟ لقد رأيتها – وهي الوحيدة الواحدة – في " التقطيع واللصق والدمج " في لحظات إزدهارها اللماع ، تحقق لها تراكمات التنغيم وأنية الانتظام الموسيقي أيضا ... والصور الشعرية تتعدد ، تماما ، كما تتعددالأزمنة ، وتتمظهر الاحلام كما تتخفي الوقائع و ... تبين فتشرق في " مشارقها " و ... " الوردة " في ضوعها وعنفوان دلالها و " تتيه تيها " ، في تمام شهوتها وإنعتاقها من الزمن الردئ إلي أزمنة تخصها و ... تخصنا ، خصبة وزاهية :
" رجل علي حافة أمرأة
يعيش علي البنات ...
( بنات أفكار الحياة )
ما خاف من أحد
لكنه دوما
يخاف الذكريات " !.
أما إجتراحات الجسد ، وتشيئ القصيدة نفسها إلي براحات في الجسد الإنساني ، تكون فيه فيكون فيها ، فهي من خصيصة " الوردة " وجوهرها المفضوح ... كثيرة هي تلك التجليات ، ,اعدها العقد والحلية في عنق النص ، تلتمع وتضئ و ... تغني ، لأنها طالعة من دم " الوردة " ، أو بالأحري من نخاعها علي قول محمود محمد مدني ! فلننظر لبعضها ، فبريقها يأخذنا إليها رغما عنا :
* " جسمي
قطعة أرض
أرجو أن أبني فيها
أسمي " !
* " ما ألطف عقلي !
... ... ...
... ... ...
أني أسمع هسهسة أمرأة ما
في جسد ما
تقبلني ... " !.
* " ... أحبك أنت
تبا لهذي القصيدة .
وتبا لكل الشواغل عنك ،
في فكرة كافرة ! " .
* " علي جسدي
ولدت قبلة
وازدهرت ذكرياتها
في فمي ...
أني أحسد الكلمات ! " .
* " ... وعندي الحياة جميلة
طالما الروح
كأسي ،
وكأسي
طويلة ! " .
ذلك بعضا من فيوض الجسد في دم " الوردة " . هذا النص ، هذه الوردة العفية اليانعة ، الذائبة – كالخمر – في جسد محكي ، يحكي تجليات البرهة الراهنة في سيماء " المشارق " كلها ، أنها حكايا لا تخص الماضي وحده ، ولا الحاضر وحده ، ولا المستقبل وحده ، المستقبل الذي يبقي " ملغزا " ، قيد التحري والرؤية في أطوار تخليقه المستمر وصورته الباهية عند الطلوع ، نعم ، لايخصها وحدها ، لأنه الآن يخصنا كلنا ، فالوردة قد غدت في سيماء وملامح اناس ، مزهرة و ... مشرقة !
الوسيلة ، ياصاحبي في المواجد المحرقات ، شكرا جميلا إليك لهذا البهاء الجليل : صورة " الوردة في مشارقها " !
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
* " الوردة في مشارقها " المجموعة الشعرية الجديدة تحت الطبع لبابكر الوسيلة !