----------------------------------
تجربة الكتابة – وحتي تكون كتابة إبداعية – يجب عليها أن تتحول إلي وعي ، وأن تكون " منذورة " بكلياتها لمنح الرؤية للناس ، والأخذ بيدهم والسير بهم صوب المعرفة الحقة ، ومساعدتهم للخلاص من حمأة الجهل المحيط بهم ... لتحقيق إنسانيتهم والسير في معيتهم – برفقتهم الحميمة – نحو الغد الأفضل ، الغد الجميل الذي سوف يأتي ، ذلك الذي تقود إليه ، بل وتدلل إليه تجربة الكتابة ، وتجربة القراءة والنقد أيضا ! لكن " إبراهيم عابدين "* وأخرين بدأوا يقرأون الأعمال القصصية ويكتبون عنها من خلال منظور " المحبة " ! فهو يؤكد لنا أنه : " بمحبة نقرأ ... وبمحبة نتأمل "! وهي – القراءة بمحبة أعني – الدعوة التي أطلقها في الناس الطيب صالح في أحدي مقالاته ! نعم ، أننا نقرأ – كل ما نقرأه – بتأمل وعين يقظة وبضمير واع ... ولكننا – أيضا – ننتظر أن يجذبنا العمل القصصي ويبهرنا بما يتجوهر في ثناياه من إبداع ورؤي جديدة يانعة ، ومن ثم ، يجلنا نحبه ونتعلق بخيوط أبداعه وتوهجه ... ، العمل القصصي هو الذي يجعلنا " نحبه " أن كان ثمة " حب " أصلا ، وليس الموقف أن نقف ازاءه " بمحبة " قبل الدخول في العملية المعرفية المعقدة لقراءته !
إبراهيم أيضا ، وفي معرض قراءته لمجموعة محمد عز الدين * ، يذم النقد في بلادنا ذما يكاد يقصف به ويقصيه عن شرف الكتابة وشروطها ! فهو يراه " متقاعسا " و " متجاهلا " لأعمال قصصية يراها جديرة بالتناول وبالنقد ! وهذا رأي نري فيه من الشطط الشئ الكثير ! فالنقد هو – في التحليل النهائي – أبن بيئة الإبداع نفسها بكل تشابكاتها وتعقيداتها وتناقضاتها ومشاكلها التي تكاد لا تنتهئ من فرط تواترها ، كنباتات الطحلب – تنتهئ وتضمحل هنا ، فإذا بها تنمو وتطلع من هناك ، حلقات تأخذ برقاب بعضها البعض و ... تستطيل ! وعلي التأكيد فأن مثل هذا الواقع الخشن يؤثر تأثيرا سالبا علي العملية النقدية ، حد أن تبدو مسيرته وقد أقعدها هذا الواقع ، بل يخيل للبعض الكثير منا أنه قد أستطاع أن يوقف تطورها ويكف عنها مسيرة نموها التصاعدي الذي كان متألقا في فضاءنا الثقافي يوما ما ! نعترف ، أن شيئا من هذا قد يحدث ، هنا أو هناك ، ولكن ، أيضا ، يبقي هذا " الواقع النقدي " ينتظر منا جميعا أن نسعي – السعي كله – لتطويره ومساندته وتعضيده بالكتابة النقدية المبدعة حتي ينهض عفيا ، مديد القامة وباهر القسمات والملامح ... ونكاد نري في تجربة عابدين نفسها دليلا ساطعا علي ما نقول ! فالفن هو أحد أهم وسائل المعرفة . أنه يعيد بناء الواقع الحي حتي يتيح لمتلقي الفنأن يدرك واقعه بعمق . ونعني واقع الحياة في تدفقها السريع ، الحي ، المتوهج الذي يجعل منه بهجة غامضة وفتوة عارمة تضئ عالم القصة فتجعله جديدا مبتكرا وذو دلالة عميقة أيضا ! ثم أن أعظم غنجاز معرفي – في ظني – هو ما قامت به البشرية حين تغلغلت وهي تمشي إلي أمام في طريق وضع نظريات تفسر عبرها الفنون ، لأنها بسلوكها هذا السبيل ، أستطاعت أن تضع يدها علي القوانين التي تصيغ العقل الإنساني وتنوره ، وبالتالي تصل إلي جوهر الأمر كله : الوعي بالذات ، الذي هو مكمن الإبداع ونبعه ذو الرحيق !
ما أعجبني في عرض عابدين لملامح " القصة القصيرة السودانية وآفاق تطورها " ، هو صبره وحرصه علي تتبع ملامح مسيرة القصة القصيرة منذ الستينيات وحتي تسعينيات القرن الماضي . نقول أنه تتبع مسيرتها لكنه لم يقرأ تلك الأعمال الكثيرة التي نجح لحد كبير ، وبجهد مثابر ، في رصدها وتجميع بعضا من الأراء النقدية التي رافقت تلك المسيرة ! إبراهيم ، أيضا ، وفي معرض قراءته لمجموعة القصصية ، يزم النقد في بلادنا ، زما يكاد يعصف به ويقصيه عن شرف الكتابة وشروطها إذ يراه " متقاعسا " و " متجاهلا " لأعمال قصصية يراها هو جديرة بالتناول وبالنقد ! وهذا رأي نري فيه من الشطط الشئ الكثير ! فالنقد هو – في التحليل النهائي – أبن بيئة الإبداع نفسها ، بكل تشابكاتها وتعقيداتها وتناقضاتها ومشاكلها التي تكاد لاتنتهئ من فرط تواترها – كنباتات الطحلب – تنتهئ وتضمحل هنا ، فإذا بها تطلع من هناك ، حلقات تأخذ برقاب بعضها البعض و ... تستطيل ! وعلي التأكيد أن مثل هذا الواقع الخشن يؤثر تأثيرا سالبا علي العملية النقدية ، حتي لتبدو مسيرته وقد قعد بها هذا الواقع ، حد أن يخيل لبعضنا أنه قد أستطاع أن يوقف تطورها ويكف عنها نموها التصاعدي الذي كان ! نعترف ، أن بعضا من هذا قد يحدث ، هنا أو هناك ، ولكن ، أيضا ، يبقي هذا " الواقع النقدي " ينتظر منا جميعا أن نسعي ، السعي كله ، لتطويره ومساندته وتعضيده بالكتابة النقدية المبدعة حتي ينهض عفيا مديد القامة وباهر القسمات والملامح ... ونري في تجربة عابدين نفسها دليلا ساطعا علي ما نقول به ! فالفن هو أحد أهم وسائل المعرفة . أنه يعيد بناء الواقع الحي حتي يتيح لمتلقي الفن أن يدرك واقعه بعمق ، ونعني واقع الحياة في تدفقها الكثير السريع ، الحي ، المتوهج ، الذي يجعل منه بهجة غامضة وفتوة عارمة تضئ عالم القصة فتجعله جديدا ومبتكرا ، وذو دلالة عميقة أيضا ! ثم أن أعظم إنجاز معرفي – في ظني – هو ما قامت به البشرية حين تغلغلت ، وهي تمشي إلي أمام في طريق وضع نظريات تفسر عبرها الفنون ، لأنها بسلوكها هذا السبيل ، إستطاعت أن تضع يدها علي القوانين التي تصيغ العقل الإنساني ، وبالتالي يتاح لها أن تصل إلي جوهر الأمر برمته : الوعي بالذات ، الذي هو مكمن الإبداع ونبعه ذو الرحيق وفتنته !
ما أعجبني في عرض عابدين لملامح " القصة القصيرة السودانية وآفاق تطورها " ، هو صبره وحرصه علي تتبع ملامح القصة القصيرة عندنا منذ الستينيات وحتي تسعينيات القرن الماضي ...نقول ، أنه تتبع مسيرتها ، لكنه ، كما نظن ، لم يتمكن من قراءة كل تلك الأعمال الكثيرة التي نجح لحد كبير ، بجهد مثابر ، في رصدها وتجميع بعضا من الأراء النقدية التي رافقت تلك المسيرة ! لكننا نتحفظ علي تلك المراحل التي رأي أنها تسم تلك الكتابات القصصية بسماتها . فقد لاحظنا إن هنالك كتاب قصة من فترة الستينيات ثم حصرهم وادراجهم ضمن كتاب فترة السبعينيات ، وهكذا في بقية المراحل الزمنية تلك ! ونعتقد إن في مثل هذه التقسيماتكثيرا من التداخلات ، الزمنية والإبداعية ، التي كثيرا أيضا ما تؤدي إلي خلل في الرصد النقدي لتلك المراحل ، ولهذا نري أنه ينبغي دراسة الأعمال القصصية نفسها ، كإبداع قصصي ، في نصوصها نفسها ، في ذات سردها ، بعيدا عن التأثيرات المتعسفة لتلك المراحل الزمنية التي لم يتم ، بعد ، الإتفاق عليها في تقسيمات صارمة ومحددة ! ونعتقد ، أيضا ، إن الإنسياق " العفوي " وراء تلك التقسيمات ، هو الذي جعل عابدين يصنف أعمال القاص أحمد الفضل مثلا بأنها " حفر وتنقيب في التراث وكتب التاريخ والأسطورة في طبقات ود ضيف الله " ! ونفس الشئ فعله للقاص بشري الفاضل الذي جري تصنيف أعماله بأنها محض " إهتمام بجاذبية اللغة وسحر الفنتازيا " ! و القاص مبارك الصادق الذي " ظهرت في معظم أعماله الأولي الإهتمام بالمكان ومظاهر الطبيعة " ! و القاص محمد المهدي بشري " أهتم بالكتابة الواقعية وفضح الظواهر السالبة في المجتمع " ! والقاص محمد الفكي عبد الرحيم " إهتم برصد ومتابعة التحولات التي تحدث في القرية ، وركز لذلك علي إختيار العناوين التي تلفت نظر القارئ مثل ( حواء شبنقو وحمد ابزيط ) ... " ! ونحن نعلم أن هؤلاء الذين جري تصنيفهم ، هكذا ، وفقا لهذا التقسيم الصارم ، قد قدموا أعمالا قصصية تتميز بميزة واحدة ، في ظني ، هي أنها لا تندرج مطلقا تحت أيا من هذه التقسيمات التي وضعهم فيها عابدين ! ونراه قد إنتبه في خاتمة ورقته ، في معرض حديثه عن من أسماهم " جيل التسعينيات والجيل الألفيني " ، لضرورة " أن كل واحد منهم يستحق وقفة منفصلة خاصة به ، لمقاربة ومحاورة نصوصهم " . وهي العملية الوحيدة التي تتيح للناقد الوقوف علي الملامح الحقيقية للإبداع القصصي في أيا من تلك الأعمال القصصية العديدة !
ثم أن عابدين تناول بالقراءة أيضا قصة " رجل شفاف " ، وهي القصة التي تناولها بالمديح العديد من الكتاب من دون الأعمال القصصية الكثيرة للقاص أحمد الفضل أحمد ، وقد أشتهر أحمد بها لكثرة ما تناولها النقد " الإطرائي " فأصبحت دالة علي أعماله ... كثيرا ما ذكرت أنا ، في مناسبات أدبية عديدة ، إنها ليست من أجود قصصه حتي تنال كل هذا الإحتفاء بها من بين جميع أعماله القصصية الأخري ، بل أن هنالك العديد من قصصه تتفوق عليها من حيث تكنيكها الفني أو شكلها أو مضمونها ، وقلت أيضا ، أن النقد قد ظلم أحمد كثيرا حين صنفه وجعله كاتبا يكتب قصصه " متكئا " علي التراث وعلي كتاب " الطبقات " ، وهذا ، كما نظن ، فيه تهوين وإستهانة لأعمال كثيرة للكاتب كانت لتكون كفيلة – لو أنصفه النقد – أن تضعه في غير الموضع الذي وضعوه فيه ، في دائرة التراث وكتاب الطبقات ! وها هو عابدين يتناول قصته " رجل شفاف " ليخرج علينا بعد قراءتها بأن يصنف أحمدا قصاصا يغترف مادة قصصه الأساسية من " التراث ومن طبقات ود ضيف الله وقصص الأولياء والصالحين " ، وهي القصص والروايات الشفاهية والأساطير التي تزدحم بها الذاكرة الشعبية الجماعية للمجتمعات الريفية والرعوية في بلادنا ، وهي في جل سردها تسند إلي الغيبيات ولا تمت للعلم بصلة نافعة أو ذات جدوي ، ونلاحظ إنها بدأت تنحسر كثيرا في سنوات " العولمة والتغيير " من زمان الناس هذا !
غبراهيم عابدين سار في القراءة أيضا حتي أعمال كل من : محسن خالد في مجموعته " كلب السجان " وعيسي الحلو في " قصر المرايا " و قصصا قصيرة ل : سعاد عبد التام " تحدثك الأشياء " ، وأميمة عبد الله " الشرخ " ، ورانيا مأمون " خطي تائهة " ، وأستيلا قايتانو " خرائط لعوالم مجهولة " ثم " تداعيات " يحيي فضل الله ... جميع هذه النصوص القصصية أخضعها عابدين للمنهج الذي يقول به : " القراءة بمحبة " ! وسلط ضوءا كاشفا علي ما رأه فيها من مواضع الجمال والحساسية الجديدة وعبقرية القص كما أعتقد ، وأستند في التدليل علي ما يقول به إلي إجتزاء نصوص بعينها من تلك الأعمال ثم جعلها تتحدث وتفصح عن نفسها . ولكنها – والحق يقال – قد ظلت مجرد اضاءات منتزعة من سياقها الدرامي ومن احداثيات القصة نفسها ، فلم تند عنها إلا اضاءة خافتة تحاول أن تلتمع وتؤمض هنا أو هناك ، لكنها سرعان ما تنطفئ ، لأنها قد أنتزعت قسرا عن بيئتها الحاضنة ومهدها الطبيعي من جسد القصة ذاتها ! وكثيرا ما تسألت : لماذا لا يمضي القاص في عمله القصصي إلي النهايات التي تبهر وتكشف وتضئ العمل نفسه ، ثم لماذا – أيضا – يقف النقد عند نفس هذه النهايات لا يتعداها ، ثم لا يطرح التساؤلات الموضحة التي تنشأ من تراكمات العمل نفسه أمام النص الذي يتناوله ، فتصبح القصة وقتها وكأنها سقف علي ساق واحدة ، تكاد تسقط علي الأرض بعد برهة قصيرة ؟
خذ ، مثلا ، قصة " كلب السجان " لمحسن خالد ، أبانت القصة بعضا يسيرا من أهوال الحرب الأهلية التي أدمت وجه الوطن كله ، بل شرعت تأكل من جسد الوطن الكبير من أطرافه جميعها ، لكنها – للأسف العميق – لم تقف لتسأل عن منشأ تلك الحرب المجنونة ، ومن كان يمول ويدير آلتها الجهنمية تلك ، ومن هو المسئول عن تلك الفظائع الإنسانية المرعبة التي أوقفت العالم بأسره يصرخ في وجهة إيقاف عجلتها المجنونة ؟ سكتت القصة تماما عن هذه الأسئلة ، ناهيك عن أن تجترح إجابات وشهادات إبداعية بشأنها ! وكذلك سكت عابدين عنها ، واكتفي بإبرازه " الإنسيابية " في القصة التي رأها مكمن الإبداع فيها واحد مكوناتها الأساسية ! لكننا نؤكد هنا – في ذات الوقت – أن الحكم علي القصة ، لا يكون بمدي عمق نهاياتها فحسب ، وأنما بحركة السياق العام للقصة ومدي إستيعابها وشمولها للحدث في علاقته الضرورية بالحياة ! أننا نريد أن نقول ، أن الأدب والفن عامة ، و" خطاب " القصة القصيرة بوجه خاص ، هو – بالأساس – بنية حية تزخر بكل ما تمثله البنية الحية من تشكيل ملتحم إلتحاما عضويا بمادته وبوظيفته الفاعلة المؤثرة ... وتأسيسا علي ذلك ، يمكننا أيضا أن نقول ، أن النص القصصي ، الجدير بهذا الأسم ، ليس كينونة مجردة مطلقة ، خارج الحياة أو فوقها ، أي ليس مجرد تشكيل جمالي في ذاته ، وأنما هو تشكيل إبداعي نابع من الحياة نفسها ، وتحقق الحياة عن طريقه إستمرارها وتجاوزها لذاتها ، أنه إضافة خلاقة للحياة ، لا لمجرد وصفها أو حتي نقدها ، بل لأجل تغييرها نحو الأفضل وتجديدها بإستمرار وتثويرها بالأضواء الإبداعية ذات الأشراق التي تتلألأ وتظهر وتلتمع من بين ثنايا العمل القصصي ! ودائما ما نري أن " القوانين " العامة والخيوط الأساسية في كتابة القصة هي " قوانين " معرفية في أساسها ، أي أنها آليات وفعاليات " كاشفة " لحقيقة ما ، ثم أنها " قوانين وأطر " تتضمن حكما وتقييما بالنقد والدحض والأدانة والتحريض والدعوة إلي التجاوز والتغيير ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر . وفي جل هذه القصص يمكنك أن تجد ملامح هذه " القوانين " الإبداعية جميعها ، ثم أنك ستجد أيضا آليات ومؤشرات تتيح للقاص صياغة معادلاتها ، وهي آليات ومؤشرات تجدها – أحيانا كثيرة – واحدة متكررة وإن اختلفت مسمياتها ، أو اختلف شكلها الظاهري !
ولكننا ، نتفق مع عابدين ، بأن هنالك " تقصيرا " نقديا تجاه النتاج القصصي الجديد ، علي الأقل عند المقارنة مع المطروح النقدي تجاه الرواية والشعر والمسرح والتشكيل والموسيقي ، فهو في مواجهة القصة قليل من ناحية الكيف تحديدا . وفي ظني أن ذلك مرده لتخلف مناهج النقد الأدبي نفسها ، وتخلف تقنياته في مجال القصة القصيرة . فأغلب ما يكتب بصدد القصة القصيرة لا يخرج عن أن يكون أحصاءا أو متابعة تاريخية أو تفسير للمعاني أو أصدار الأحكام العامة ...
في قراءته لنص زهاء الطاهر " أسامة أب قرجة ... أسامة مطر الصباح " يقرأ عابدين بالمحبة " كلها " هذا النص البديع ، مثل كتابات زهاء جميعها ، ثم يكتب مأخوذا بحشد الرموز التاريخية والسياسية والثقافية والغنائية ، ثم بالأنهار والبحار ، ويتسأل : " كيف نجمع كل هذه الرموز والشخصيات وكل هذه الأمكنة ، وكل هذه الأنهار والبحار الموزعة علي جسد خارطة هذا النص لفك شفراته المحيرة المدهشة ؟؟ " ! . ويستطرد عابدين موضحا حول تسمية عنوان النص فيقول : " أسامه ، أنه الحفيد ، حفيد جده الأمير أبو قرجة " ، ثم يتسأل عابدين : " فماذا فعل الأحفاد بوصايا الأجداد ، وكيف أجابوا علي الأسئلة التي ستحل اللغز ، لغز الحياة ولغز الإنسان ، وهو يحمل أسئلته الكونية الكبري بحثا عن الأجوبة ، وبحثا عن تحقيق الحياة الحلم " . ولكننا نلاحظ ، أن إبداع زهاء كله كان يتمحور ويتجوهر ، وينمو ويزدهر – بإبداع وحساسية عالية – حول تلك الرموز والشخصيات والأمكنة والأنهار والأحداث التي قرأها عابدين وأشار إليها ، لقد كانت تجربة زهاء القصصية تتمتع بذلك الثراء في تنوعه المثير ، بتلك الفيوضات المشرقة لجدلية الحياة وجدلية الواقع ، في تلاحمه وتناغمه ، ونموه في ذات الوقت ، مع حيوات ومصائر وأمكنة وتجليات كونية تنبض بالحياة ، ويجعلها زهاء جميعها في خدمة الإنسان ، لأجل تقدمه وغده الذي يراه قادما ، جميلا ومعافي برفيف الحياة ونبضها العذب ... أن تجربة زهاء تنتظر منا درسا كثيرا لمعرفة ما فيها من جدل الماضي والحاضر والمستقبل ، جدل الواقع والحلم المرتجي ، تماما كما قال عابدين بنفسه هنا !
أعجبتني جدا إلتفاتة عابدين إلي" مأساة دارفور في فضاء القصة القصيرة " ، وهي الدراسة التي تناول فيها قصص : " مارتجلو ... ذاكرة الحراز " لأحمد ضحية ، و " الرحيل من شارف " لإبراهيم أسحق ، و " هجاء الجبل / دوسنطاريا " لمنصور الصويم ، و " مساويط الرماد " ليوسف عزت الهميري ، و " مومو " لمدي الفاتح ، وهي جميعها قصص قصيرة تتناول – بأبعاد ورؤي تختلف بين قصة وأخري – الحرب في دارفور ، تلك الحرب التي ضج بها ضمير العالم وشغلت الناس حد أن أصبحت توصف بالكارثة الكبري في تاريخ الإنسانية المعاصر ، نحيي عابدين الذي شغلته هذه القصص التي رأي فيها بعضا يسيرا من ملامح الحرب وهولها الرهيب ، ثم أبرزها تحت العنوان البديع ذو الدلالة " الغزالة والبندقية " . ثم بعد أن أضاء ملامحمها ، عبر ما تجمع لديه ، من " محبة " تجاهها ، تسأل بأسي بالغ : " متي تنتهئ الحرب اللعينة لتمسح ( مريومة ) دمعتها ، وتعود لبنات ( التنجر ) وكل بنات دارفور ( سماحتهن ) القديمة ، ليغنن ويرقصن ( المردوم ) ، وعليك يادارفور السلام ، فهذا هو حلمنا ياغزالتنا الجميلة " ! جميل جدا ما أشارت إليه هذه القصص ، وجميل أيضا ما كشفه لنا عابدين من مظاهر وتجليات حرب دارفور " اللعينة " ، لكن يبقي السؤال المؤرق للكتابة والثقافة معا : ماذا فعلت هذه القصص للإقلال من أضرار إنتهاكات وفظائع هذه الحرب ، ولماذا لم تشرع في كف اليد التي تحرك وتدير هذه الألة الجهنمية للحرب ؟ أنني أعلن وأعترف بأننا نحبك جدا أيها الصديق إبراهيم عابدين ، وبسبب من ذلك ننتظرك أن تسلط أضواءك الباهرة فتكشف لنا عن العلامات واللالات والقيم غير المسبوقة ، المعرفية أو الوجدانية ، ذوقية أو سلوكية ، التي تكمن في قصتنا القصيرة ، لأن ذلك الكشف وحده هو الذي يتيح لك – بهذه الكشوفات – تغييرا وتجديدا وتطورا للرؤية وللخبرة الإنسانية ، فليس هنالك ، ياعزيزنا ، في عالم الثقافة اليوم ، ثمة قراءة بريئة !
--------------------------------------------------------------------------------------
* الكتابة مقدمة لكتاب الناقد إبراهيم عابدين " القصة القصيرة السودانية وآفاق تطورها " .
تجربة الكتابة – وحتي تكون كتابة إبداعية – يجب عليها أن تتحول إلي وعي ، وأن تكون " منذورة " بكلياتها لمنح الرؤية للناس ، والأخذ بيدهم والسير بهم صوب المعرفة الحقة ، ومساعدتهم للخلاص من حمأة الجهل المحيط بهم ... لتحقيق إنسانيتهم والسير في معيتهم – برفقتهم الحميمة – نحو الغد الأفضل ، الغد الجميل الذي سوف يأتي ، ذلك الذي تقود إليه ، بل وتدلل إليه تجربة الكتابة ، وتجربة القراءة والنقد أيضا ! لكن " إبراهيم عابدين "* وأخرين بدأوا يقرأون الأعمال القصصية ويكتبون عنها من خلال منظور " المحبة " ! فهو يؤكد لنا أنه : " بمحبة نقرأ ... وبمحبة نتأمل "! وهي – القراءة بمحبة أعني – الدعوة التي أطلقها في الناس الطيب صالح في أحدي مقالاته ! نعم ، أننا نقرأ – كل ما نقرأه – بتأمل وعين يقظة وبضمير واع ... ولكننا – أيضا – ننتظر أن يجذبنا العمل القصصي ويبهرنا بما يتجوهر في ثناياه من إبداع ورؤي جديدة يانعة ، ومن ثم ، يجلنا نحبه ونتعلق بخيوط أبداعه وتوهجه ... ، العمل القصصي هو الذي يجعلنا " نحبه " أن كان ثمة " حب " أصلا ، وليس الموقف أن نقف ازاءه " بمحبة " قبل الدخول في العملية المعرفية المعقدة لقراءته !
إبراهيم أيضا ، وفي معرض قراءته لمجموعة محمد عز الدين * ، يذم النقد في بلادنا ذما يكاد يقصف به ويقصيه عن شرف الكتابة وشروطها ! فهو يراه " متقاعسا " و " متجاهلا " لأعمال قصصية يراها جديرة بالتناول وبالنقد ! وهذا رأي نري فيه من الشطط الشئ الكثير ! فالنقد هو – في التحليل النهائي – أبن بيئة الإبداع نفسها بكل تشابكاتها وتعقيداتها وتناقضاتها ومشاكلها التي تكاد لا تنتهئ من فرط تواترها ، كنباتات الطحلب – تنتهئ وتضمحل هنا ، فإذا بها تنمو وتطلع من هناك ، حلقات تأخذ برقاب بعضها البعض و ... تستطيل ! وعلي التأكيد فأن مثل هذا الواقع الخشن يؤثر تأثيرا سالبا علي العملية النقدية ، حد أن تبدو مسيرته وقد أقعدها هذا الواقع ، بل يخيل للبعض الكثير منا أنه قد أستطاع أن يوقف تطورها ويكف عنها مسيرة نموها التصاعدي الذي كان متألقا في فضاءنا الثقافي يوما ما ! نعترف ، أن شيئا من هذا قد يحدث ، هنا أو هناك ، ولكن ، أيضا ، يبقي هذا " الواقع النقدي " ينتظر منا جميعا أن نسعي – السعي كله – لتطويره ومساندته وتعضيده بالكتابة النقدية المبدعة حتي ينهض عفيا ، مديد القامة وباهر القسمات والملامح ... ونكاد نري في تجربة عابدين نفسها دليلا ساطعا علي ما نقول ! فالفن هو أحد أهم وسائل المعرفة . أنه يعيد بناء الواقع الحي حتي يتيح لمتلقي الفنأن يدرك واقعه بعمق . ونعني واقع الحياة في تدفقها السريع ، الحي ، المتوهج الذي يجعل منه بهجة غامضة وفتوة عارمة تضئ عالم القصة فتجعله جديدا مبتكرا وذو دلالة عميقة أيضا ! ثم أن أعظم غنجاز معرفي – في ظني – هو ما قامت به البشرية حين تغلغلت وهي تمشي إلي أمام في طريق وضع نظريات تفسر عبرها الفنون ، لأنها بسلوكها هذا السبيل ، أستطاعت أن تضع يدها علي القوانين التي تصيغ العقل الإنساني وتنوره ، وبالتالي تصل إلي جوهر الأمر كله : الوعي بالذات ، الذي هو مكمن الإبداع ونبعه ذو الرحيق !
ما أعجبني في عرض عابدين لملامح " القصة القصيرة السودانية وآفاق تطورها " ، هو صبره وحرصه علي تتبع ملامح مسيرة القصة القصيرة منذ الستينيات وحتي تسعينيات القرن الماضي . نقول أنه تتبع مسيرتها لكنه لم يقرأ تلك الأعمال الكثيرة التي نجح لحد كبير ، وبجهد مثابر ، في رصدها وتجميع بعضا من الأراء النقدية التي رافقت تلك المسيرة ! إبراهيم ، أيضا ، وفي معرض قراءته لمجموعة القصصية ، يزم النقد في بلادنا ، زما يكاد يعصف به ويقصيه عن شرف الكتابة وشروطها إذ يراه " متقاعسا " و " متجاهلا " لأعمال قصصية يراها هو جديرة بالتناول وبالنقد ! وهذا رأي نري فيه من الشطط الشئ الكثير ! فالنقد هو – في التحليل النهائي – أبن بيئة الإبداع نفسها ، بكل تشابكاتها وتعقيداتها وتناقضاتها ومشاكلها التي تكاد لاتنتهئ من فرط تواترها – كنباتات الطحلب – تنتهئ وتضمحل هنا ، فإذا بها تطلع من هناك ، حلقات تأخذ برقاب بعضها البعض و ... تستطيل ! وعلي التأكيد أن مثل هذا الواقع الخشن يؤثر تأثيرا سالبا علي العملية النقدية ، حتي لتبدو مسيرته وقد قعد بها هذا الواقع ، حد أن يخيل لبعضنا أنه قد أستطاع أن يوقف تطورها ويكف عنها نموها التصاعدي الذي كان ! نعترف ، أن بعضا من هذا قد يحدث ، هنا أو هناك ، ولكن ، أيضا ، يبقي هذا " الواقع النقدي " ينتظر منا جميعا أن نسعي ، السعي كله ، لتطويره ومساندته وتعضيده بالكتابة النقدية المبدعة حتي ينهض عفيا مديد القامة وباهر القسمات والملامح ... ونري في تجربة عابدين نفسها دليلا ساطعا علي ما نقول به ! فالفن هو أحد أهم وسائل المعرفة . أنه يعيد بناء الواقع الحي حتي يتيح لمتلقي الفن أن يدرك واقعه بعمق ، ونعني واقع الحياة في تدفقها الكثير السريع ، الحي ، المتوهج ، الذي يجعل منه بهجة غامضة وفتوة عارمة تضئ عالم القصة فتجعله جديدا ومبتكرا ، وذو دلالة عميقة أيضا ! ثم أن أعظم إنجاز معرفي – في ظني – هو ما قامت به البشرية حين تغلغلت ، وهي تمشي إلي أمام في طريق وضع نظريات تفسر عبرها الفنون ، لأنها بسلوكها هذا السبيل ، إستطاعت أن تضع يدها علي القوانين التي تصيغ العقل الإنساني ، وبالتالي يتاح لها أن تصل إلي جوهر الأمر برمته : الوعي بالذات ، الذي هو مكمن الإبداع ونبعه ذو الرحيق وفتنته !
ما أعجبني في عرض عابدين لملامح " القصة القصيرة السودانية وآفاق تطورها " ، هو صبره وحرصه علي تتبع ملامح القصة القصيرة عندنا منذ الستينيات وحتي تسعينيات القرن الماضي ...نقول ، أنه تتبع مسيرتها ، لكنه ، كما نظن ، لم يتمكن من قراءة كل تلك الأعمال الكثيرة التي نجح لحد كبير ، بجهد مثابر ، في رصدها وتجميع بعضا من الأراء النقدية التي رافقت تلك المسيرة ! لكننا نتحفظ علي تلك المراحل التي رأي أنها تسم تلك الكتابات القصصية بسماتها . فقد لاحظنا إن هنالك كتاب قصة من فترة الستينيات ثم حصرهم وادراجهم ضمن كتاب فترة السبعينيات ، وهكذا في بقية المراحل الزمنية تلك ! ونعتقد إن في مثل هذه التقسيماتكثيرا من التداخلات ، الزمنية والإبداعية ، التي كثيرا أيضا ما تؤدي إلي خلل في الرصد النقدي لتلك المراحل ، ولهذا نري أنه ينبغي دراسة الأعمال القصصية نفسها ، كإبداع قصصي ، في نصوصها نفسها ، في ذات سردها ، بعيدا عن التأثيرات المتعسفة لتلك المراحل الزمنية التي لم يتم ، بعد ، الإتفاق عليها في تقسيمات صارمة ومحددة ! ونعتقد ، أيضا ، إن الإنسياق " العفوي " وراء تلك التقسيمات ، هو الذي جعل عابدين يصنف أعمال القاص أحمد الفضل مثلا بأنها " حفر وتنقيب في التراث وكتب التاريخ والأسطورة في طبقات ود ضيف الله " ! ونفس الشئ فعله للقاص بشري الفاضل الذي جري تصنيف أعماله بأنها محض " إهتمام بجاذبية اللغة وسحر الفنتازيا " ! و القاص مبارك الصادق الذي " ظهرت في معظم أعماله الأولي الإهتمام بالمكان ومظاهر الطبيعة " ! و القاص محمد المهدي بشري " أهتم بالكتابة الواقعية وفضح الظواهر السالبة في المجتمع " ! والقاص محمد الفكي عبد الرحيم " إهتم برصد ومتابعة التحولات التي تحدث في القرية ، وركز لذلك علي إختيار العناوين التي تلفت نظر القارئ مثل ( حواء شبنقو وحمد ابزيط ) ... " ! ونحن نعلم أن هؤلاء الذين جري تصنيفهم ، هكذا ، وفقا لهذا التقسيم الصارم ، قد قدموا أعمالا قصصية تتميز بميزة واحدة ، في ظني ، هي أنها لا تندرج مطلقا تحت أيا من هذه التقسيمات التي وضعهم فيها عابدين ! ونراه قد إنتبه في خاتمة ورقته ، في معرض حديثه عن من أسماهم " جيل التسعينيات والجيل الألفيني " ، لضرورة " أن كل واحد منهم يستحق وقفة منفصلة خاصة به ، لمقاربة ومحاورة نصوصهم " . وهي العملية الوحيدة التي تتيح للناقد الوقوف علي الملامح الحقيقية للإبداع القصصي في أيا من تلك الأعمال القصصية العديدة !
ثم أن عابدين تناول بالقراءة أيضا قصة " رجل شفاف " ، وهي القصة التي تناولها بالمديح العديد من الكتاب من دون الأعمال القصصية الكثيرة للقاص أحمد الفضل أحمد ، وقد أشتهر أحمد بها لكثرة ما تناولها النقد " الإطرائي " فأصبحت دالة علي أعماله ... كثيرا ما ذكرت أنا ، في مناسبات أدبية عديدة ، إنها ليست من أجود قصصه حتي تنال كل هذا الإحتفاء بها من بين جميع أعماله القصصية الأخري ، بل أن هنالك العديد من قصصه تتفوق عليها من حيث تكنيكها الفني أو شكلها أو مضمونها ، وقلت أيضا ، أن النقد قد ظلم أحمد كثيرا حين صنفه وجعله كاتبا يكتب قصصه " متكئا " علي التراث وعلي كتاب " الطبقات " ، وهذا ، كما نظن ، فيه تهوين وإستهانة لأعمال كثيرة للكاتب كانت لتكون كفيلة – لو أنصفه النقد – أن تضعه في غير الموضع الذي وضعوه فيه ، في دائرة التراث وكتاب الطبقات ! وها هو عابدين يتناول قصته " رجل شفاف " ليخرج علينا بعد قراءتها بأن يصنف أحمدا قصاصا يغترف مادة قصصه الأساسية من " التراث ومن طبقات ود ضيف الله وقصص الأولياء والصالحين " ، وهي القصص والروايات الشفاهية والأساطير التي تزدحم بها الذاكرة الشعبية الجماعية للمجتمعات الريفية والرعوية في بلادنا ، وهي في جل سردها تسند إلي الغيبيات ولا تمت للعلم بصلة نافعة أو ذات جدوي ، ونلاحظ إنها بدأت تنحسر كثيرا في سنوات " العولمة والتغيير " من زمان الناس هذا !
غبراهيم عابدين سار في القراءة أيضا حتي أعمال كل من : محسن خالد في مجموعته " كلب السجان " وعيسي الحلو في " قصر المرايا " و قصصا قصيرة ل : سعاد عبد التام " تحدثك الأشياء " ، وأميمة عبد الله " الشرخ " ، ورانيا مأمون " خطي تائهة " ، وأستيلا قايتانو " خرائط لعوالم مجهولة " ثم " تداعيات " يحيي فضل الله ... جميع هذه النصوص القصصية أخضعها عابدين للمنهج الذي يقول به : " القراءة بمحبة " ! وسلط ضوءا كاشفا علي ما رأه فيها من مواضع الجمال والحساسية الجديدة وعبقرية القص كما أعتقد ، وأستند في التدليل علي ما يقول به إلي إجتزاء نصوص بعينها من تلك الأعمال ثم جعلها تتحدث وتفصح عن نفسها . ولكنها – والحق يقال – قد ظلت مجرد اضاءات منتزعة من سياقها الدرامي ومن احداثيات القصة نفسها ، فلم تند عنها إلا اضاءة خافتة تحاول أن تلتمع وتؤمض هنا أو هناك ، لكنها سرعان ما تنطفئ ، لأنها قد أنتزعت قسرا عن بيئتها الحاضنة ومهدها الطبيعي من جسد القصة ذاتها ! وكثيرا ما تسألت : لماذا لا يمضي القاص في عمله القصصي إلي النهايات التي تبهر وتكشف وتضئ العمل نفسه ، ثم لماذا – أيضا – يقف النقد عند نفس هذه النهايات لا يتعداها ، ثم لا يطرح التساؤلات الموضحة التي تنشأ من تراكمات العمل نفسه أمام النص الذي يتناوله ، فتصبح القصة وقتها وكأنها سقف علي ساق واحدة ، تكاد تسقط علي الأرض بعد برهة قصيرة ؟
خذ ، مثلا ، قصة " كلب السجان " لمحسن خالد ، أبانت القصة بعضا يسيرا من أهوال الحرب الأهلية التي أدمت وجه الوطن كله ، بل شرعت تأكل من جسد الوطن الكبير من أطرافه جميعها ، لكنها – للأسف العميق – لم تقف لتسأل عن منشأ تلك الحرب المجنونة ، ومن كان يمول ويدير آلتها الجهنمية تلك ، ومن هو المسئول عن تلك الفظائع الإنسانية المرعبة التي أوقفت العالم بأسره يصرخ في وجهة إيقاف عجلتها المجنونة ؟ سكتت القصة تماما عن هذه الأسئلة ، ناهيك عن أن تجترح إجابات وشهادات إبداعية بشأنها ! وكذلك سكت عابدين عنها ، واكتفي بإبرازه " الإنسيابية " في القصة التي رأها مكمن الإبداع فيها واحد مكوناتها الأساسية ! لكننا نؤكد هنا – في ذات الوقت – أن الحكم علي القصة ، لا يكون بمدي عمق نهاياتها فحسب ، وأنما بحركة السياق العام للقصة ومدي إستيعابها وشمولها للحدث في علاقته الضرورية بالحياة ! أننا نريد أن نقول ، أن الأدب والفن عامة ، و" خطاب " القصة القصيرة بوجه خاص ، هو – بالأساس – بنية حية تزخر بكل ما تمثله البنية الحية من تشكيل ملتحم إلتحاما عضويا بمادته وبوظيفته الفاعلة المؤثرة ... وتأسيسا علي ذلك ، يمكننا أيضا أن نقول ، أن النص القصصي ، الجدير بهذا الأسم ، ليس كينونة مجردة مطلقة ، خارج الحياة أو فوقها ، أي ليس مجرد تشكيل جمالي في ذاته ، وأنما هو تشكيل إبداعي نابع من الحياة نفسها ، وتحقق الحياة عن طريقه إستمرارها وتجاوزها لذاتها ، أنه إضافة خلاقة للحياة ، لا لمجرد وصفها أو حتي نقدها ، بل لأجل تغييرها نحو الأفضل وتجديدها بإستمرار وتثويرها بالأضواء الإبداعية ذات الأشراق التي تتلألأ وتظهر وتلتمع من بين ثنايا العمل القصصي ! ودائما ما نري أن " القوانين " العامة والخيوط الأساسية في كتابة القصة هي " قوانين " معرفية في أساسها ، أي أنها آليات وفعاليات " كاشفة " لحقيقة ما ، ثم أنها " قوانين وأطر " تتضمن حكما وتقييما بالنقد والدحض والأدانة والتحريض والدعوة إلي التجاوز والتغيير ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر . وفي جل هذه القصص يمكنك أن تجد ملامح هذه " القوانين " الإبداعية جميعها ، ثم أنك ستجد أيضا آليات ومؤشرات تتيح للقاص صياغة معادلاتها ، وهي آليات ومؤشرات تجدها – أحيانا كثيرة – واحدة متكررة وإن اختلفت مسمياتها ، أو اختلف شكلها الظاهري !
ولكننا ، نتفق مع عابدين ، بأن هنالك " تقصيرا " نقديا تجاه النتاج القصصي الجديد ، علي الأقل عند المقارنة مع المطروح النقدي تجاه الرواية والشعر والمسرح والتشكيل والموسيقي ، فهو في مواجهة القصة قليل من ناحية الكيف تحديدا . وفي ظني أن ذلك مرده لتخلف مناهج النقد الأدبي نفسها ، وتخلف تقنياته في مجال القصة القصيرة . فأغلب ما يكتب بصدد القصة القصيرة لا يخرج عن أن يكون أحصاءا أو متابعة تاريخية أو تفسير للمعاني أو أصدار الأحكام العامة ...
في قراءته لنص زهاء الطاهر " أسامة أب قرجة ... أسامة مطر الصباح " يقرأ عابدين بالمحبة " كلها " هذا النص البديع ، مثل كتابات زهاء جميعها ، ثم يكتب مأخوذا بحشد الرموز التاريخية والسياسية والثقافية والغنائية ، ثم بالأنهار والبحار ، ويتسأل : " كيف نجمع كل هذه الرموز والشخصيات وكل هذه الأمكنة ، وكل هذه الأنهار والبحار الموزعة علي جسد خارطة هذا النص لفك شفراته المحيرة المدهشة ؟؟ " ! . ويستطرد عابدين موضحا حول تسمية عنوان النص فيقول : " أسامه ، أنه الحفيد ، حفيد جده الأمير أبو قرجة " ، ثم يتسأل عابدين : " فماذا فعل الأحفاد بوصايا الأجداد ، وكيف أجابوا علي الأسئلة التي ستحل اللغز ، لغز الحياة ولغز الإنسان ، وهو يحمل أسئلته الكونية الكبري بحثا عن الأجوبة ، وبحثا عن تحقيق الحياة الحلم " . ولكننا نلاحظ ، أن إبداع زهاء كله كان يتمحور ويتجوهر ، وينمو ويزدهر – بإبداع وحساسية عالية – حول تلك الرموز والشخصيات والأمكنة والأنهار والأحداث التي قرأها عابدين وأشار إليها ، لقد كانت تجربة زهاء القصصية تتمتع بذلك الثراء في تنوعه المثير ، بتلك الفيوضات المشرقة لجدلية الحياة وجدلية الواقع ، في تلاحمه وتناغمه ، ونموه في ذات الوقت ، مع حيوات ومصائر وأمكنة وتجليات كونية تنبض بالحياة ، ويجعلها زهاء جميعها في خدمة الإنسان ، لأجل تقدمه وغده الذي يراه قادما ، جميلا ومعافي برفيف الحياة ونبضها العذب ... أن تجربة زهاء تنتظر منا درسا كثيرا لمعرفة ما فيها من جدل الماضي والحاضر والمستقبل ، جدل الواقع والحلم المرتجي ، تماما كما قال عابدين بنفسه هنا !
أعجبتني جدا إلتفاتة عابدين إلي" مأساة دارفور في فضاء القصة القصيرة " ، وهي الدراسة التي تناول فيها قصص : " مارتجلو ... ذاكرة الحراز " لأحمد ضحية ، و " الرحيل من شارف " لإبراهيم أسحق ، و " هجاء الجبل / دوسنطاريا " لمنصور الصويم ، و " مساويط الرماد " ليوسف عزت الهميري ، و " مومو " لمدي الفاتح ، وهي جميعها قصص قصيرة تتناول – بأبعاد ورؤي تختلف بين قصة وأخري – الحرب في دارفور ، تلك الحرب التي ضج بها ضمير العالم وشغلت الناس حد أن أصبحت توصف بالكارثة الكبري في تاريخ الإنسانية المعاصر ، نحيي عابدين الذي شغلته هذه القصص التي رأي فيها بعضا يسيرا من ملامح الحرب وهولها الرهيب ، ثم أبرزها تحت العنوان البديع ذو الدلالة " الغزالة والبندقية " . ثم بعد أن أضاء ملامحمها ، عبر ما تجمع لديه ، من " محبة " تجاهها ، تسأل بأسي بالغ : " متي تنتهئ الحرب اللعينة لتمسح ( مريومة ) دمعتها ، وتعود لبنات ( التنجر ) وكل بنات دارفور ( سماحتهن ) القديمة ، ليغنن ويرقصن ( المردوم ) ، وعليك يادارفور السلام ، فهذا هو حلمنا ياغزالتنا الجميلة " ! جميل جدا ما أشارت إليه هذه القصص ، وجميل أيضا ما كشفه لنا عابدين من مظاهر وتجليات حرب دارفور " اللعينة " ، لكن يبقي السؤال المؤرق للكتابة والثقافة معا : ماذا فعلت هذه القصص للإقلال من أضرار إنتهاكات وفظائع هذه الحرب ، ولماذا لم تشرع في كف اليد التي تحرك وتدير هذه الألة الجهنمية للحرب ؟ أنني أعلن وأعترف بأننا نحبك جدا أيها الصديق إبراهيم عابدين ، وبسبب من ذلك ننتظرك أن تسلط أضواءك الباهرة فتكشف لنا عن العلامات واللالات والقيم غير المسبوقة ، المعرفية أو الوجدانية ، ذوقية أو سلوكية ، التي تكمن في قصتنا القصيرة ، لأن ذلك الكشف وحده هو الذي يتيح لك – بهذه الكشوفات – تغييرا وتجديدا وتطورا للرؤية وللخبرة الإنسانية ، فليس هنالك ، ياعزيزنا ، في عالم الثقافة اليوم ، ثمة قراءة بريئة !
--------------------------------------------------------------------------------------
* الكتابة مقدمة لكتاب الناقد إبراهيم عابدين " القصة القصيرة السودانية وآفاق تطورها " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق