" ذات مناسبة ، كانت مغنية الفلامنكو الاندلسية " باستور يافون " ، الفتاة ذات الأمشاط ، العبقرية الداكنة ، ذات الخيال الذي يباري خيال جويا أو رافائيل أو حاللو ، كانت تغني في حانة صغيرة في قادش ، غنت بصوت الشبح ، وبصوت المعدن السائل ، وبصوتها الذي يغطيه الطحلب ، وبصوتها المشتبك في شعرها الطويل ! كانت تغمس صوتها في العواطف ، أو تفقده في الخمائل النائية الداكنة ، إلا إنها فشلت تماما ، وكان ذلك كله بلا طائل ! فقد ظل الجمهور ساكنا ! ومن بين الجمهور كان أجناثيو اسبيليتا الأنيق كسلحفاة رومانية ، الذي سئل مرة : " كيف لا تعمل أبدا ؟ " وبأبتسامة جديرة باجناثيو أجاب : " لماذا يجب أن اعمل إذا كنت من قادش ؟ " ! كذلك كان بين الحاضرين " الويزا " عاهرة أشبيلية الأرستقراطية النارية ، السليلة المباشرة لسوليداد فارجاس ، التي رفضت سنة 1930م، أن تتزوج أحد أفراد عائلة روتشيلد لانه لم يكن كفؤا لها في الدم ! وكان هناك أيضا آل فلوريد اس الذين يعتقد الكثيرون أنهم جزارون ، بينما هم في الواقع كهنة قدماء ما زالوا يضحون بالثيران للآله جريون ! وفي ركن جلس مربي الثيران المهيب دون بابلو موروبي ، شبيها بقناع كريتي ! وأنهت " باستورا بافون " غناءها وسط الصمت ! رجل ضئيل فقط ، أحد أولئك الراقصين الخصيان ، الذين يندفعون فجأة من خلف زجاجات الخمر البيضاء ، قال بسخرية ، في صوت بالغ الخفوت : " تحيا باريس ! " كما لو كان يقول : " هنا لا تهمنا المقدرة أو التكتيك أو الأجادة ، هنا يهمنا شئ آخر ! في تلك اللحظة ، نهضت الفتاة ذات الأمشاط كأمرأة تملكتها الشياطين ، كسيرة ، كندابة من العصور الوسطي ... وشربت دون توقف كأسا كبيرة من الكاثللا ، البراندي الناري ، وجلست تغني بلا صوت ، لاهثة بلا سمو ، حنجرتها تحترق ، لكن ، ... " بدويندي " .. نجحت في التخلص من أربطة الأغنية ، في أفساح الطريق أمام " دويندي " ناري غاضب ، رفيق الرياح المحملة بالرمال ... جعل المنصتين يمزقون ثيابهم بإيقاع منتظم كزنوج الكاريبي المتحلقين حول صورة القديسة باربارا ! كان علي الفتاة ذات الأمشاط أن تمزق صوتها ، لأنها كانت تعرف أن مستمعينها كانوا نخبة لا تطلب أشكالا ، بل نخاع الأشكال . تطلب موسيقي تسمو حتي تصبح أنقي جوهر .. كان عليها أن تفقد مهاراتها وحرفيتها ، أعني ، كان عليها أن تزيح ربة شعرها وتبقي وحيدة حتي يأتي " الدويندي " ويشتبك في قتال ملتحم ... ويالروعة ما غنت ، الآن كانت جادة ، كان صوتها دفقة دم ، يثير الأعجاب لألمه وإخلاصه ... وكان ينفتح كيد ذات عشرة أصابع في القدم المسمرة ، لكن العاصفة لمسيح من صنع خوان دي خوني ! كل ما نعرفه عن " الدويندي " هو أنه يشعل الدم كالزجاج المسحوق ، أنه يرهق ، أنه ينذ كل الهندسة الحلوة التي تعلمها المرء ، أنه يتخاصم مع كل الأساليب ، أنه يضطر جويا ، أستاذ الألوان الرمادية ، والفضية والقرمزية التي تجدها في أفضل اللوحات الأنجليزية ، أن يرسم بركبتيه وقبضتيه الوانا مرعبة سوداء بلون القار ... أو أنه يترك موسن ثينتو فيرد اجبر عاريا في هواء جبال البرانس البارد ، أو أنه يأخذ خورجه ماتريكه لينتظر الموت في برية اوكانيا ، أو أنه يكسو جسد ريمبو الرقيق ببزة مهرج خضراء ، أو أنه يضع عيون سمكة ميتة في وجه الكونت لوتريامون في الطريق ، في الصباح الباكر ! أن " الدويندي " في الروح ، في الروح الفنانة بلا شك !
" يا صوتها فينا كن كما أنت وتوجد مثلما شئت توجد لك في قلبي وقلوب الناس مهد فتوجد و ... توجد "!
الثلاثاء، سبتمبر 04، 2012
لوركا يكتب عن " الدويندي " ... !
" ذات مناسبة ، كانت مغنية الفلامنكو الاندلسية " باستور يافون " ، الفتاة ذات الأمشاط ، العبقرية الداكنة ، ذات الخيال الذي يباري خيال جويا أو رافائيل أو حاللو ، كانت تغني في حانة صغيرة في قادش ، غنت بصوت الشبح ، وبصوت المعدن السائل ، وبصوتها الذي يغطيه الطحلب ، وبصوتها المشتبك في شعرها الطويل ! كانت تغمس صوتها في العواطف ، أو تفقده في الخمائل النائية الداكنة ، إلا إنها فشلت تماما ، وكان ذلك كله بلا طائل ! فقد ظل الجمهور ساكنا ! ومن بين الجمهور كان أجناثيو اسبيليتا الأنيق كسلحفاة رومانية ، الذي سئل مرة : " كيف لا تعمل أبدا ؟ " وبأبتسامة جديرة باجناثيو أجاب : " لماذا يجب أن اعمل إذا كنت من قادش ؟ " ! كذلك كان بين الحاضرين " الويزا " عاهرة أشبيلية الأرستقراطية النارية ، السليلة المباشرة لسوليداد فارجاس ، التي رفضت سنة 1930م، أن تتزوج أحد أفراد عائلة روتشيلد لانه لم يكن كفؤا لها في الدم ! وكان هناك أيضا آل فلوريد اس الذين يعتقد الكثيرون أنهم جزارون ، بينما هم في الواقع كهنة قدماء ما زالوا يضحون بالثيران للآله جريون ! وفي ركن جلس مربي الثيران المهيب دون بابلو موروبي ، شبيها بقناع كريتي ! وأنهت " باستورا بافون " غناءها وسط الصمت ! رجل ضئيل فقط ، أحد أولئك الراقصين الخصيان ، الذين يندفعون فجأة من خلف زجاجات الخمر البيضاء ، قال بسخرية ، في صوت بالغ الخفوت : " تحيا باريس ! " كما لو كان يقول : " هنا لا تهمنا المقدرة أو التكتيك أو الأجادة ، هنا يهمنا شئ آخر ! في تلك اللحظة ، نهضت الفتاة ذات الأمشاط كأمرأة تملكتها الشياطين ، كسيرة ، كندابة من العصور الوسطي ... وشربت دون توقف كأسا كبيرة من الكاثللا ، البراندي الناري ، وجلست تغني بلا صوت ، لاهثة بلا سمو ، حنجرتها تحترق ، لكن ، ... " بدويندي " .. نجحت في التخلص من أربطة الأغنية ، في أفساح الطريق أمام " دويندي " ناري غاضب ، رفيق الرياح المحملة بالرمال ... جعل المنصتين يمزقون ثيابهم بإيقاع منتظم كزنوج الكاريبي المتحلقين حول صورة القديسة باربارا ! كان علي الفتاة ذات الأمشاط أن تمزق صوتها ، لأنها كانت تعرف أن مستمعينها كانوا نخبة لا تطلب أشكالا ، بل نخاع الأشكال . تطلب موسيقي تسمو حتي تصبح أنقي جوهر .. كان عليها أن تفقد مهاراتها وحرفيتها ، أعني ، كان عليها أن تزيح ربة شعرها وتبقي وحيدة حتي يأتي " الدويندي " ويشتبك في قتال ملتحم ... ويالروعة ما غنت ، الآن كانت جادة ، كان صوتها دفقة دم ، يثير الأعجاب لألمه وإخلاصه ... وكان ينفتح كيد ذات عشرة أصابع في القدم المسمرة ، لكن العاصفة لمسيح من صنع خوان دي خوني ! كل ما نعرفه عن " الدويندي " هو أنه يشعل الدم كالزجاج المسحوق ، أنه يرهق ، أنه ينذ كل الهندسة الحلوة التي تعلمها المرء ، أنه يتخاصم مع كل الأساليب ، أنه يضطر جويا ، أستاذ الألوان الرمادية ، والفضية والقرمزية التي تجدها في أفضل اللوحات الأنجليزية ، أن يرسم بركبتيه وقبضتيه الوانا مرعبة سوداء بلون القار ... أو أنه يترك موسن ثينتو فيرد اجبر عاريا في هواء جبال البرانس البارد ، أو أنه يأخذ خورجه ماتريكه لينتظر الموت في برية اوكانيا ، أو أنه يكسو جسد ريمبو الرقيق ببزة مهرج خضراء ، أو أنه يضع عيون سمكة ميتة في وجه الكونت لوتريامون في الطريق ، في الصباح الباكر ! أن " الدويندي " في الروح ، في الروح الفنانة بلا شك !
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق