- حنا مينه -
-----------------------
* " سأل الطفل أمه : " لماذا يا أمي تبكي نساء البحارة ؟ " ، قالت الأم : " لأن في عيونهن ماء مالحا يابني ! " . أما أنا فقد ولدت وفي فمي هذا الماء المالح ، لكنه ، هذه المرة ، كان ملح الشقاء ، وملح التجارب ، وملح العذاب ، جسديا وروحيا ، في سبيل العدالة الاجتماعية ، صبوة البشرية إلي الخلاص " .
لذلك كان بدهيا أن أطرح ، منذ وعيي الوجود ، أسئلتي علي هذا الوجود ، وأن أتعمد ، في البحر بماء العاصفة ، وأن أعاين الموت كفاحا ، في البر والبحر معا ، وما الحياة – قولة الطروسي ، بطل " الشراع والعاصفة " – إلا " كفاح في البحر وفي البر " معا ، وبغير انقطاع ، لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة ، أمنا جميعا ! " .
- هذا عن الطفولة الباكرة ، تلك هي أحلام الطفولة وقد تعمدت بماء البحر منذ البواكير اليانعات ، وتلك هي البيئة من حولك في تلك الأيام البيضاء والزرقاء والحمراء ، ليس من صارخ في براريها إلا الكفاح في البر والبحر كما قال " الطروسي " ، كيف وقفت علي قدميك وكيف كان المسير الخشن ؟
* كنت قد بدأت في الثانية عشرة بعجن الصخرة الملعونة ، لكي أصنع منها كسرة خبزي . وكلمت الورقة ، وصرت من بعد ، كاتب رسائل الحي ، لأنني الولد الوحيد ، في حي المستنقع ، الذي تعلم فك الحرففي مدينة إسكندرونة ، في اللواء العربي السليب ، ومن عجب أن كل تلك الرسائل كانت مبللة بالدمع ، سواء التي أكتبها للناس ، أو التي أقرأها لهم ، فالشكوي من الفقر والمرض ، والموت ، تآبين مفجعة في السطور . وكان الذي أكتب له رسالة ، رجلا أو أمرأة ، يملي علي ديباجة تبدأ ، عادة ، بمثل هذا التفجع : " آخ ! علي آخ ! " . هذا ما أنبت في نفسي ، في تلك الطفولة المبكرة ، الشقية ، حبا لا ينتهي للعدالة ، للسعادة ، للفرح ، وزوال الشقاء من الدنيا . وبعد شهادتي الإبتدائية ، وهي الوحيدة التي حصلت عليها ، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات . كان هذا المعلم ، ويدعي عفيف الطويل ، مشبوها ، فقد ضبط ، في أول مايو ، يعلق بيارق صغيرة حمراء علي أعمدة الهاتف ، وفي بيته ، حيث يعيش مع أخته الخياطة ، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع ، الذي كان موضة تلك الأيام . كان معلمي أسمر ، طويلا ، فيه طيبة ، وفيه ملاحة ، لكنه بسيط ، لا يخطر لك ، وأنت تراه ، أنه في حلقة ما ، تعقد اجتماعاتها في المغائر ، علي ضوء الشموع . ولأن معلمي أمي ، فقد كان يأخذني ، مساء ، لأقرأ له بعض النشرات . وفيها ، لأول مرة ، قرأت كلمة فلسفة .
- صف لي ، يا حنا ، مادار بينك ومعلمك الأول ، ذلك الإنسان الأمي ، التقدمي و يري العالم جيدا !
* كنت قد سألته مرة حين قرأت منشوراته تلك ولفتت بصيرتي كلمة " فلسفة " :
قلت أسأله : ما معني فلسفة يامعلمي ؟
قال : معرفة القوانين ...
0 أي قوانين ... ؟
0 القوانين الغربية التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ ، والفقر ، والغني ...
0 وأين يبيعونها ... ؟
0 في بلاد " بره " .
0 ولماذا لا يبيعونها عندنا ؟
0 لأنها ممنوعة ... وهي مكتوبة بالفرنجي ...
0 وكيف عرفت بها أنت ؟ !
0 هذا سر ... أنت صغير بعد ... لا تسألني عن الأسرار !
أضاف :
0 الفلسفة كالبحر ... شئ واسع ، عجيب ، لا يفهمه إلا المتعلمون جدا .
0 ومن الذي صنعها ... ؟
0 رجل نسيت أسمه .
خ إجتمعت به ؟
0 هذا رجل ألماني له لحية كبيرة ... أنا رأيت صورته فقط .
0 وكيف فهمت كلامه ... ؟
0 أنا لم أفهم كلامه ... الفلسفة يابني علم صعب . والفيلسوف رجل عالم ، قرأ كل ما كتب عن العالم ، ويعرف كل شئ ، رأسه يتسع للمعرفة ، كما يتسع البحر للماء !
بعد هذا الحوار مع معلمي ، رحت أتخيل رأس هذا الفيلسوف كبيرا كالجبل ، وجسمه عملاقا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها ، وأنه يحفظ في هذا الرأس ، كل ما كتب ، وأنه عظيم ، لا شبيه له بين الرجال الذين أعرفهم .
- ذلك أول تعرفك علي كلمة " فلسفة " وحوارك الحائر ، الملئ بدهشة الأسئلة ، وما من أجابات ، لكأنك رأيت ملامحا " غمامية " لوجه لم تتبين تفاصيله ... فكيف كان مدخلك الحقيقي لهذه العوالم الفسيحة الفاتنة ، التي غدت ، في ما بعد ، أيقونات وثيمات وأضواء في كل أعمالك تقريبا : الفلسفة والبحر ، كيف وطأت أول العتبات ؟
* ذلك كان عبده حسني ، وقد قتل في الحرب الأهلية اللبنانية ... وا أسفاه ! وهو نفسه العامل خليل في روايتي " الثلج يأتي من النافذة " . قرب صورة الفيلسوف إلي ذهني حين قال لي : الفيلسوف يشبه أبن عبده يني . كان هذا صاحب المطبعة الوحيدة في أسكندرونة ، وله أبن يقرأ كثيرا ، ويمشي في الشوارع وحيدا ، شارد النظرات ، صموتا . مفكرا . وقد سمعته يخطب لأول مرة ، حين زار سياسي كبير أسكندرونة عام 1936 ، وخطب في سينما روكسي . مزقت معطفي اليتيم وأنا أزاحم الناس للدخول وسماع ما سوف يقال في ذلك الاجتماع . منذ ذلك اليوم صار للفيلسوف احترام كبير في نفسي ، وأرتسمت له صورة أقرب إلي النحول ، والشعر المنفوش ، والنظرات الشاردة ، والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب " ألف ليلة وليلة " . ورحت أحلم علي طريقتي الصبيانية ، أن أصير فيلسوفا ، إذا ما قرأت كثيرا ، علي ضوء فانوس الكاز ، بعد أن أغلق دكان الدراجات علي نفسي ، عقب انصراف معلمي عفيف الطويل . ولإضفاء المظهر الفلسفي علي نفسي ، طفقت أنفش شعري ، وأسير وحيدا ، وأحمل كتاب " المدارج " في يدي ، وأتعمد قلة الكلام ، وأقول لأترابي متباهيا : أنا أعرف رجالا لاتعرفونهم ، رجالا يحبون الفقراء ويكرهون الفرنسيين والحكومة التي صنعوها لنا ! وحين سجن معلمي عفيف ، ونقل مع بعض رفاقه إلي حلب ، ليحاكم أمام المحكمة الفرنسية المختلطة ، أغلقت الدكان وعملت في الميناء ، وأختلطت بالعمال ، وصرت أنزل البحر في مواعين الشحن . وهناك أرسم علي الأكياس ، بحبر الكوبيا ، بعض الأرقام والماركات ، وأصغي ، من طرف خفي ، إلي ما يقوله العمال عن " السنديكا "، يعنوا بها النقابة .
- العمال ، النقابة ، الميناء ، السفن ، البحر ، المشورات والسجن ، ما علاقة كل ذلك بالفلسفة ، ما وجدت عندهم حتي أوصلوك لصف الفلسفة و ... هذا البحر الهائل ، الشاسع و المعرفة ؟
* أتذكر الآن ، ذات يوم ، عند الظهر علي ما أذكر ، كنا قد أفرغنا حمولة الماعون ، وتأخر الزورق الذي يأتي من الميناء ليقطرها ، فجلسنا ، العامل فاضل وأنا ، في قاع الماعون ، نتبادل الحديث ، ، عن المدرسة والشهادة الإبتدائية ، وعما أقرأ من كتب ، وما أن أنس فاضل إلي ، وعرف أنني أحب المطالعة ، وكنت أعمل أجيرا عند عفيف الطويل ، حتي أخرج من تكة سرواله ورقة صغيرة مطوية بعناية ، هي المنشور الأول الذي وقع في يدي . كان فيه ذكر للفلسفة ، فدهشت لأن عاملا مثله يحمل منشورا ولا يخاف ، وأنه من جماعة عفيف الطويل ، وعبده حسني ، وإن لم يذكر هو هذين الأسمين ! قرأت المنشور ولم أفهم ما فيه إلا قليلا ، كان فاضل في الأربعين تقريبا ، فقلت له : يا عم فاضل ، أنا أقرأ " المدارج " فأفهمه ، وأقرأ الإنجيل وكدت أحفظه في المدرسة الإبتدائية ، لكنني في هذين الكتابين ، لم أقرأ أسم فيلسوف ولا كلمة فيلسوف ! قال العم فاضل : في هذه الكتب لا يذكرون ، هذا خطر ، ولا يشرحون كلمة فلسفة ، لأنها صعبة . أنا نفسي لا أعرف ما هي ، لكنني ، نتيجة التجربة ، صرت فيلسوفا علي طريقتي ... أعني تعلمت أن الفلسفة ليست " أكلة مجدرة " ، بل هي عمل ... أن تعمل ، كما نعمل نخن ، تصير فيلسوفا ولو بغير كتب . تأليف نقابة مثلا ، هذا ما تقول به الفلسفة ، أن تحتفل بأول أيار ( مايو ) ، عيد العمال ، ، هذا فلسفة ، أن تتظاهر ضد الفرنسيين ، هذا فلسفة ، أن تثق أن الفقراء لن يبقوا فقراء ، وأن أغنياءنا لن يظلوا يمتصون دمهم ، هذا فلسفة ، أن تعرف أن في بلاد " المسكوب " قامت دولة العمال والفلاحين ، وأنها معنا ، هذا فلسفة ... وأخيرا ، أن تؤمن أن العدالة ستنتصر في كل مكان ، هذا فلسفة !
- إذن ، تعرفت علي الفلسفة ، أول ما تعلمته منها ، من العمال ، من السياسة في واقع الحياة وراهنا إن جاز لي أن أصفها هكذا ، لا من النظريات المثوثة في الكتب ؟
* نعم ، وأعترف الآن ، إن هذا العامل البسيط علمني أبجدية الفلسفة ، جعلها مفهومة في نظري . وقد سعيت ، في ركضي وراء الرغيف ، إلي تطبيق نظريته ، وهي – كما تري – ترجمة عملية لمضمون الفلسفة التي قرأتها في المظاهرات ضد فرنسا ، وفي رشق رجال البوليس والدرك بالحجارة . ويوم زار زعيم عربي أسكندرونة قادما من أنطاكية ، وأعتقلته السلطة الفرنسية ، تجمهرت مع الناس أمام السراي ، مطالبين بالإفراج عنه ، ورشقنا السراي بالحجارة ، فكسرنا زجاج نوافذها ، فكان أن أطلقوا النار علينا ، وقتل زميل لي علي مبعدة أمتار مني !
- مهلا ياحنا ، كنت أظنك في اللاذقية مقيما ، وأنت الآن في أسكندرونة ، و... البحر ، البحر ياحنا ؟
* صبرك ، شوي صبرك ياصديقي ، سأريك وأوصلك إلي حيث رأيتني . دارت بنا الأيام دورانها ، دخلت تركيا لواء الإسكندرونة ، فهاجرنا – مضطرين – إلي اللأذقية . عملت هناك في قطاف الزيتون ، قمت بتوزيع الصحف ، تعلمت مهنة الحلاقة ، فتحت دكانة صغيرة قريبا من الثكنة . وكنت أقفل دكاني كلما سمعت بإضراب ، أو خرجت مظاهرة . ثم حضرت اجتماعا لعصبة العمل القومي ، تكلم فيه رجل يلبس الفيصلية ، وبيده عصا ، وعلي الجدار خريطة للبلاد العربية . وكل ما وعيته من كلامه ، أن علينا أن نناضل لتوحيد كل هذه البلاد ، وبذلك نصنع دولة كبيرة تقاوم الفرنسيين والإنجليز وتستعيد اللواء وفلسطين ، ومنذئذ صارت الوحدة العربية حلما جميلا ، ثوريا ، في ذاتي !
- وأين هي القراءة ، إذن ، وأنت في خضم هذا البلبال الثوري المضطرم ، كيف تلمست الخطوة إلي القراءات ، التي ، لا شك ، هي من قادتك - من بعد – إلي بساتين الكتابة ورهقها الجميل ؟
* في دكان الحلاقة قرأت كثيرا . كان يجتمع عندي بعض طلاب المدارس ، وحتي بعض الذين انتسبوا إلي الجامعة في دمشق ، عند عودتهم إلي اللأذقية ، ويناقشونني في بعض المسائل ، وقد أفدت من هذه المناقشات ، ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرا . وفي أحدي الليالي زارني رجل حلبي بطربوش ، وقدم إلي نفسه بأسم عبد الجليل سيرس ، وقال إنه سمع بي ، وإنه يزور اللأذقية في " مهمة " خاصة ، هدفها إنشاء النقابات وأشياء أخري . وسألني عما أقرأ ، وأوصاني بمطالعة بعض الكتب ، وأعطاني كراسات صغيرة ، من بينها كراس مترجم ، مؤلفه " سيجال " علي ما أذكر ، ومنه تعلمت المبادي الأولي للفلسفة ، وأصبحت ، شيئا فشيئا ، مثقفا في نظر نفسي ، وازددت حماسة للنضال ، ودخلت السجن مرات عديدة ، وضربني رقيب في الدرك يدعي أبو حمد ، أشتهر بالقسوة وقوة العضل وعدم الخوف ، لأنني نشرت رسالة ضد فظائعه في جريدة سورية تصدر في دمشق ، ضربني حتي إمتلأ رأسي بالكدمات ، وإزرق وجهي ، وتجمع الدم في عيني . وكتب ، يومها ، المرحوم وصفي البني مقالا استهله ببيت من الشعر يقول : " وظلم ذوي القربي أشد مضاضة " ، علي اعتبار أن هذه الأعمال المنافية للديمقراطية ، يقوم بها رجال الدرك السوريون ، وقد تعلموها من الفرنسيين ، وبزوهم فيها !
- كان هذا أول التعذيب من الدرك السوري ينال منك ، أول جراحات الذي بدأ يري نفسه في آهاب الفيلسوف ، مناضلا لأجل الكاحين والحياة الأفضل ، كيف رأيتها أول نهشات الذئاب للفرايس ؟
* يااااااه ، بدأت أكتب وجعي ، بدافع من هذا التعذيب ، كتبت مسرحية أنا بطلها ، وحوادثها تغير العالم ، أو تصنع عالما جديدا في ستة أيام ... وأرسلت مقالة إلي جريدة " الأحرار " في بيروت ، أستحلف فيها صاحبها ، علي طريقة جبران خليل جبران ، بالمرأة التي هي أكسير روحه ، أن ينشر المقالة ، لكنه لم يفعل ، وإن كان قد بعث لي برسالة صغيرة ، يقول فيها إن مقالتي غير صالحة لأسباب عدة ، أهمها أن فيها أفكارا لاتنسجم وخطة الجريدة !
- وهل توقفت جراء هذا " الرد " المحبط ، الذي قذفه صاحب الجريدة في وجهك المشرئب إلي رؤي الفيلسوف وحمي الكتابة والنضال ؟
* لا ... ما توقفت أبدا . كانت الصحف ، آنذاك ، والحرب العالمية الثانية مشتعلة ، بأربع صفحات ، فلم أيأس ، فكتبت مقالة لجريدة أخري لم تنشرها ، لكنها أشارت إليها بأربعة أسطر ... غمرتني السعادة ، لأنني رأيت أسمي مكتوبا في صحيفة لأول مرة ،كتبت قطعة صغيرة بعنوان " طفلة للبيع " نشرتها أحدي المجلات ، فعمدت نفسي كاتبا ، لا بواسطة القديس يوحنا ، ولا في نهر الأردن ، بل في بحر الأذقية ، وشكلت قلما في سيالة سترتي !
- ذلك كان حالك ، حين " عمدت " نفسك كاتبا ، وبدأ نجمك يصعد ، ويتألق و يتعملق الكاتب فيك ، وتلك اللاذقية التي أحببتها و ... بحرها وخلدتهما في أعمالك الكبيرة ، لكن كيف غادرتها ، وكيف دخلتها ، دمشق المدينة أشرعت ، منذ زمان ، نوافذها للشعراء والكتاب والفنانون من سوريا ومن خارجها ، هل كانت رحيمة بك كما اعتادت مع الآخرين ، هل أحتضنتك ياحنا ؟
* يااااااه ، كم كنت قاسيا علي قلبي حين هاجرت من اللاذقية العام 1947 ... كانت دكانة الحلاقة قد غدت مشبوهة ، ولم يعد أحد يحلق عندي ، فقصدت بيروت أول أمري ، ولم أتوفق في الحصول علي عمل بها فتركتها إلي دمشق . وفيها عملت مجانا في الصحافة لمدة ثلاثة أشهر ، وكان معلمي ، أي سكرتير التحرير ، المرحوم أحمد علوش ، الذي صار صاحب مجلة " الصرخة " فيما بعد . في دمشق اتصلت بالمثقفين ، وأشتركت في تأسيس " رابطة الكتاب السوريين " ، ثم رابطة " الكتاب العرب " . وقرأت
" رأس المال " ، فصارت معرفتي بالفلسفة أوثق. لكن ماقاله لي العامل " العم فاضل " في قاع سفينة الشحن , ظل اساسا عمليا لنشاطي الحياتي ، ودخل باشكال مختلفة ، في كتاباتي الادبية .. ولم يخرج !
- الفلسفة ، إذن ، مرة أخري ، بأفق سياسي وثقافي عال ، هذه المرة ، أتت هي إليك أم استدعيتها لساحتك وقد أصبحت دمشقيا في بعض وجوهك ؟
* يمكنك ، الآن ، أن تراها ، تلك هي ، بسطور ، حكايتي مع الفيلسوف " الذي رأسه بحجم الجبل ، وجسمه عملاق كرجل أسطوري " ، وكلما رأيت صورته الآن ، بلحيته البيضاء ، وجبينه العريض الوضاء ، وشعره المسترسل ، ونظرته النجمية ، ابتسم لطفولتي التي بعد بها العهد ، بمقدار ما أقترب هذا الفيلسوف من قلبي ونفسي ، لأنه ، بفكره العظيم ، أعطاني مفهوما عن العالم ، منحني الرؤية التي فتحت عيني ، وأضفي علي مهنتي الأدبية ، لا الوعي وحده ، ولا المعرفة وحدها ، بل الجمالية أيضا ! يخطئ من يظن أن إنسانا قادر علي فهم العالم دون أن يقرأ الفلسفة ، علي هذا الفيلسوف أو غيره ، ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر علي الكتابة دون الاطلاع علي الفلسفة ، ليس بصفتها " وصفة " ، بل كمرشد عمل في السياسة والأدب علي السواء .
الآن ، من الذي بقي ، في بلادنا وفي الدنيا ، يجهل الفلسفة والفلاسفة ، إذا كان مثقفا ؟ ومن لم يستفد ، كثيرا أو قليلا ، من حقائق الفلسفة التي صارت منارة للمبحرين في المحيطات ، والسائرين في الصحاري ، والبائسين في المدن والأرياف ، والعاملين في الجامعات والمكاتب والمصانع والحقول ؟
أتذكر ، سئل غوركي مرة : كيف تعلمت الأقتصاد ؟ كان عندئذ يعمل حمالا علي نهر الفولغا ، فقال : "
" أنظروا إنه منقوش علي ظهري ! " . تسألونني ، كيف تعرفت إلي الفلسفة ؟ ، أقول لكم : في قاع سفينة شحن ، ومنذ ذلك اليوم الحزين ، أصبحت مفاهيمها منقوشة علي قلبي ، راشحة ، مع عرق التعب ، من مسام جلدي !
- لكن ، عليك أن تخبرني عنه ، من هو ذلك الفيلسوف ياحنا ، شوقتني ، أيضا ، إليه ؟
* ومن غيره ياصديقي ، ماركس ، كارل ماركس ، هو الذي جعلني كيف أراهما : العالم والحياة !
- كنت قد حذرته ، أثناء حديثك ، فعرفته ، لكنني أحببتك تنطق بأسمه ، وها قد فعلت !
تلك حكاية الفلسفة معك ، ماذا عن البحر ، عشقك الأخر ، الكبير وعوالمه المثيرة ، حتي قلنا أنك روائي البحر في أدبنا العربي كله ، ولا أحدا ينازعك عشقه ولا الكتابة عنه ؟
* صدقت ، هو فعلا عشقي الكبير ، لا شك في ذلك عندي ، ولي معه قصة أخري طريفة ... كنت في الثامنة من عمري ، يوم أخذني الإخوان قلفاط ، من زملاء المدرسة بالصف الأول ، إلي البحر في الإسكندرونة ... وقد زعم أصغرهما ، نقولا ، أن الجرأة وحدها ، هي التي تعلم الإنسان السباحة ..
سألته :
- كيف ؟
قال :
- أن تذهب إلي رأس " الصقالة " وترمي نفسك في البحر .
- وإذا غرقت !؟ .
قال الأخ الأكبر دميان :
- يكون هذا أفضل !
قلت خائفا :
- كيف يكون هذا أفضل ؟ الغرق يعني الموت !
فكر دميان ، وكانت له عينان ، جفونهما حمراء ومقلوبة ، نظر إلي بإستخفاف وقال :
- من لا يعرف أن يسبح ، من الأفضل له أن يموت !
أنا ، الآن ، أري هذا القول حكمة ! دميان كان حكيما علي طريقته . فمن لا يعرف أن يسبح ، فمن الأفضل له أن يموت . وقد قال أبو القاسم الشابي ، مترجما هذه الحكمة النثرية إلي شعر :
" ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر " !.
إلا أنني ، في تلك السن من طفولة مبكرة وعليلة ، ما كنت أعرف الحكمة ولا الشابي ولا صعود الجبال أو المغامرة في البحر ، لذلك قلت :
- ألا يمكن أن أتعلم السباحة علي الشط ؟
قال نقولا :
- يمكن ؟
رد دميان ، أكبرنا سنا ، وقائد طفولتنا :
- أنا أقول لا يمكن ، يعني لا يمكن !
سكت . تلبستني حيرة ، تقلدتني مخاوف ... سرت وراء دميان وأنا أرتجف من الخوف والبرد ، لأننا كنا في الخريف ، وكنت ألبس سروالا داخليا من الشيت الأزرق ، ومشينا علي الصقالة ، إلي أن صرنا في البحر ، علي عمق أمتار ، فألقي دميان بنفسه في الماء ، غط وطلع . فعل أخوه نقولا مثله ، بقيت وحيدا ، أري وأتحسر علي نفسي ، إلي أن قررت أن أعود إلي الشاطئ الرملي ، حيث أنزل الماء ، كما يفعل الأطفال الذين في مثل سني ، وفجأة صاح بي دميان :
- إلي أين ؟
- إلي الشاطئ !
- يعني إلي الرمل !؟
- كل الأطفال يسبحون هناك!
- أنت يجب أن تسبح هنا !
- لماذا ؟ !
- هكذا ... أنا لا أحب الخوافين !
- أنا أخاف لأنني لا أعرف العوم !
- علي الرمل لا يعوم أحد ، ولا يتعلم أحد ... فهمت ؟
- ...
- تعال تفرج إذن كيف نسبح نحن ... راقب فقط حركاتنا ، الأيدي والأرجل مثلا ... ألا تعرف الضفدعة ؟
- هذه أعرفها .
- أفعل مثلها .
- أين ؟ في " بركة " المدرسة ؟
- " بركة " البحر !
- الضفادع لا تعيش في البحر .
- بلي ! تعيش ... تعال وأنظر إليها !
سرت إلي رأس الصقالة ، كنت راغبا حقا برؤية ضفادع البحر . وقفت ، حملقت ، انتقلت من طرف إلي آخر ... لم أجد شيئا ، لم أر سمكة واحدة ! كانت هناك فلائك ، مواعين ، وكان عمال وبحارة ، وفي البعيد كانت سفينة ترسو ، وكان سباحون فتيان يتسابقون نحوها . وكان الإخوان قلفاط ، نقولا ودميان ، قد حدثاني أن هناك ، علي طرف السفينة سلما يصعدون عليه بسهولة ، حيث يحظون ، من القبطان ، بالشيكولا والبسكويت ، ويتفرجون علي غرائب السفينة ، مثل السطح ، والقمرات ، والعنابر ، وحتي غرفة القبطان ، وكذلك – وهذا هو الأهم – يرون النساء بثياب البحر ، شبه عاريات تقريبا !
وفجأة دفعت إلي البحر ، عند رأس الصقالة !غطست وأنا أصرخ ، أرتفعت إلي فوق ، هبطت إلي تحت ، شربت الماء المالح ، تابعت الصراخ ، وعندئذ ألقي دميان نفسه ورائي ، أمسكني من يدي قائلا :
- لا تخف !
هتفت من حلاوة الروح ، وأنا أبكي :
- أنا أغرق يا دميان ... أنقذني !
قال دميان :
حرك يديك ورجليك فقط ... أفعل مثل الضفدعة ... هيا ، سأتركك !
تركني ! ومن جديد رحت أتخبط في البحر ، وأنا أحرك أطرافي ، إلي أن عمت ، فعاد يمسكني من كتفي قائلا :
- برافو ... تابع ياضفدعة برية !
تابعت إلي أن تعبت ، شربت كثيرا من ماء البحر ، لم أعد أحتمل . تعلق دميان بقائمة الصقالة الحديدية ..
سحبني نحوه وقال :
- تعلق أنت أيضا ، أفعل مثلي ... أسترح ..
أسترحت ، قال دميان :
- مرة أخري إلي البحر ...
أرغمني علي العودة إلي الماء ، عدت دون صراخ ، تخبطت من جديد ، عمت من جديد ، وقف علي مقربة وقال :
- تعال إلي ...
حاولت ! حاولت ! وصلت إليه ، أسترحت وأنا أتمسك بكتفه ، دفعني كي أعوم ، عمت ... ابتعد وقال :
- تعال إلي ...
ذهبت بصعوبة بالغة نحوه ... وعندئذ قال :
- يكفي اليوم ... تعلق بالصقالة ، هيا نصعد .
عندما صرنا فوق الصقالة الخشبية ، أستلقيت تعبا ، لم أعد خائفا ، إلا أنني تقيأت ماء البحر . ودميان ينظر إلي ويضحك ، ثم جاء واستلقي إلي جانبي قائلا :
- الضفدع وحده يسبح في " البركة " ، أما الإنسان فإنه يسبح في البحر ... وفي البحر العميق جدا يكسر ، مرة واحدة ، خوفه من الغرق ... يصير دلفينا !
نظرت إليه بكره ، لم أتكلم ، ما كنت قادرا علي الكلام ، عيناي فقط ، راتا السماء الزرقاء ، عالية جدا ، وطيور النورس البيضاء تحوم قريبا مني في الفضاء ، والريح رخية ، والسحب البيض ، بتشكيلات بديعة ، تندفع نحو الأفق ، وتأخذني معها . وبعد ذلك ، عندما بلغت السادسة عشرة من عمري وعملت في الميناء وعلي المراكب ، قلت للريس الطنحر ، بعد أن رويت له قصتي :
- هل صحيح أن الفرق الوحيد ، بين الإنسان والضفدع ، هو " البركة " والبحر ، كما يقول دميان ؟
رازني وقال :
- صحيح ... دميان هذا كان " فلسفونا " بحريا !
- فيلسوفا ياريس !
- نعم ! كما تقول ... لو سبحت علي الرمل ، ما كنت اليوم معي علي المركب .
وبعد أن تنهد قال :
- البحر للإنسان و " البركة " للضفدع ، هذه هي القصة كلها ! أين صار دميان هذا ؟
- لا أدري ... أفترقنا منذ تركنا المدرسة ، سمعت أنه هاجر إلي بيروت ...
قاطعني :
- يعني إلي البحر ؟
أضاف :
نعم ! نعم إلي البحر ... وإلا فكيف !؟ أسمع ! النسر له الجبل ، والبحار له البحر ، تعرف لماذا ؟
- لأنه إنسان !
- تماما ، ولكنه إنسان نسر ... نسر بحري ، الطير يصعد إلي فوق ، ونحن ننزل إلي تحت ، إلي الأعماق ... الجبال والأعماق ، والموت ، هناك وهنا ، بكرامة ... إذا مت ، وكلنا سنموت ، فلا تخش القاع ... إذا مت ! في البحر ، فإنك تموت بشكل لائق ، وهذه حال النسر والجبل ... موت النسر يكون في الأعالي !
قلت :
- ولكن الإنسان أقوي من النسر ياريس !
- لا ، هما أخوان ! هما رجلان ، وكل منهما له ساحته ... المسألة ، كلها ، تتوقف علي جواب هذا السؤال : هل أنت رجل أم ضفدع ؟
قلت :
- رجل !
ربت علي كتفي وقال :
- قل هذا غدا ، ودون كلام ، للعاصفة حين تهب !
قلت : سأفعل !
وفعلت ... !
كان هذا درسا بحريا ، لم أنسه أبدا ، حياتي كلها !
- هكذا ، إذن ، ركبت البحر ، فأصبح عالما إليك وياله من عالم ، به عوالم لا حد لها ... ورأيت في حكايتك عن البحر " حكاية " بديعة جدا ، وبها حكم ، وفلسفة ، ومغامرة بحرية وأحلام ...
لن أكون في سؤالك ثانية ، أكتفيت ، منك الليلة ، بحكاية الفلسفة والبحر ، لم تدع لنا الحكاية صقالة نقف عليها في مواجهة البحر ، لأسألك عن الكتابة ، عن القصة والرواية ، كيف تكتبهما بهذه السلاسة ؟
* ههههههههه ، دعنا الليلة ، فقد أكتفيت كما قلت ، وتعبت أنا ، أريد أن أسترح عن الأسئلة برؤية البحر والميناء والنوارس ، والريح والعاصفة ، والسفينة حين تداعبها الأمواج ، كفاية بقي !
لملمت أوراقي ، ورحت ذاهبا عنه ، بعد أن ودعته ، هذا القبطان البحري ، الكائن البحري الذي يجد بحرا في الكتابة أيضا !
-----------------------------------------------------------------------------------------------
* الحوار متخيل ، لكن الأجابات ، هي نفسها أحاديثه ، مستخلصة من كتاباته أيضا ...
قصدت ، أسامره ، هذا الكائن البحري المدهش ، رائد روايات البحر في أدبنا ، بإمتياز ، وتحية إليه !
-----------------------
* " سأل الطفل أمه : " لماذا يا أمي تبكي نساء البحارة ؟ " ، قالت الأم : " لأن في عيونهن ماء مالحا يابني ! " . أما أنا فقد ولدت وفي فمي هذا الماء المالح ، لكنه ، هذه المرة ، كان ملح الشقاء ، وملح التجارب ، وملح العذاب ، جسديا وروحيا ، في سبيل العدالة الاجتماعية ، صبوة البشرية إلي الخلاص " .
لذلك كان بدهيا أن أطرح ، منذ وعيي الوجود ، أسئلتي علي هذا الوجود ، وأن أتعمد ، في البحر بماء العاصفة ، وأن أعاين الموت كفاحا ، في البر والبحر معا ، وما الحياة – قولة الطروسي ، بطل " الشراع والعاصفة " – إلا " كفاح في البحر وفي البر " معا ، وبغير انقطاع ، لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة ، أمنا جميعا ! " .
- هذا عن الطفولة الباكرة ، تلك هي أحلام الطفولة وقد تعمدت بماء البحر منذ البواكير اليانعات ، وتلك هي البيئة من حولك في تلك الأيام البيضاء والزرقاء والحمراء ، ليس من صارخ في براريها إلا الكفاح في البر والبحر كما قال " الطروسي " ، كيف وقفت علي قدميك وكيف كان المسير الخشن ؟
* كنت قد بدأت في الثانية عشرة بعجن الصخرة الملعونة ، لكي أصنع منها كسرة خبزي . وكلمت الورقة ، وصرت من بعد ، كاتب رسائل الحي ، لأنني الولد الوحيد ، في حي المستنقع ، الذي تعلم فك الحرففي مدينة إسكندرونة ، في اللواء العربي السليب ، ومن عجب أن كل تلك الرسائل كانت مبللة بالدمع ، سواء التي أكتبها للناس ، أو التي أقرأها لهم ، فالشكوي من الفقر والمرض ، والموت ، تآبين مفجعة في السطور . وكان الذي أكتب له رسالة ، رجلا أو أمرأة ، يملي علي ديباجة تبدأ ، عادة ، بمثل هذا التفجع : " آخ ! علي آخ ! " . هذا ما أنبت في نفسي ، في تلك الطفولة المبكرة ، الشقية ، حبا لا ينتهي للعدالة ، للسعادة ، للفرح ، وزوال الشقاء من الدنيا . وبعد شهادتي الإبتدائية ، وهي الوحيدة التي حصلت عليها ، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات . كان هذا المعلم ، ويدعي عفيف الطويل ، مشبوها ، فقد ضبط ، في أول مايو ، يعلق بيارق صغيرة حمراء علي أعمدة الهاتف ، وفي بيته ، حيث يعيش مع أخته الخياطة ، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع ، الذي كان موضة تلك الأيام . كان معلمي أسمر ، طويلا ، فيه طيبة ، وفيه ملاحة ، لكنه بسيط ، لا يخطر لك ، وأنت تراه ، أنه في حلقة ما ، تعقد اجتماعاتها في المغائر ، علي ضوء الشموع . ولأن معلمي أمي ، فقد كان يأخذني ، مساء ، لأقرأ له بعض النشرات . وفيها ، لأول مرة ، قرأت كلمة فلسفة .
- صف لي ، يا حنا ، مادار بينك ومعلمك الأول ، ذلك الإنسان الأمي ، التقدمي و يري العالم جيدا !
* كنت قد سألته مرة حين قرأت منشوراته تلك ولفتت بصيرتي كلمة " فلسفة " :
قلت أسأله : ما معني فلسفة يامعلمي ؟
قال : معرفة القوانين ...
0 أي قوانين ... ؟
0 القوانين الغربية التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ ، والفقر ، والغني ...
0 وأين يبيعونها ... ؟
0 في بلاد " بره " .
0 ولماذا لا يبيعونها عندنا ؟
0 لأنها ممنوعة ... وهي مكتوبة بالفرنجي ...
0 وكيف عرفت بها أنت ؟ !
0 هذا سر ... أنت صغير بعد ... لا تسألني عن الأسرار !
أضاف :
0 الفلسفة كالبحر ... شئ واسع ، عجيب ، لا يفهمه إلا المتعلمون جدا .
0 ومن الذي صنعها ... ؟
0 رجل نسيت أسمه .
خ إجتمعت به ؟
0 هذا رجل ألماني له لحية كبيرة ... أنا رأيت صورته فقط .
0 وكيف فهمت كلامه ... ؟
0 أنا لم أفهم كلامه ... الفلسفة يابني علم صعب . والفيلسوف رجل عالم ، قرأ كل ما كتب عن العالم ، ويعرف كل شئ ، رأسه يتسع للمعرفة ، كما يتسع البحر للماء !
بعد هذا الحوار مع معلمي ، رحت أتخيل رأس هذا الفيلسوف كبيرا كالجبل ، وجسمه عملاقا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها ، وأنه يحفظ في هذا الرأس ، كل ما كتب ، وأنه عظيم ، لا شبيه له بين الرجال الذين أعرفهم .
- ذلك أول تعرفك علي كلمة " فلسفة " وحوارك الحائر ، الملئ بدهشة الأسئلة ، وما من أجابات ، لكأنك رأيت ملامحا " غمامية " لوجه لم تتبين تفاصيله ... فكيف كان مدخلك الحقيقي لهذه العوالم الفسيحة الفاتنة ، التي غدت ، في ما بعد ، أيقونات وثيمات وأضواء في كل أعمالك تقريبا : الفلسفة والبحر ، كيف وطأت أول العتبات ؟
* ذلك كان عبده حسني ، وقد قتل في الحرب الأهلية اللبنانية ... وا أسفاه ! وهو نفسه العامل خليل في روايتي " الثلج يأتي من النافذة " . قرب صورة الفيلسوف إلي ذهني حين قال لي : الفيلسوف يشبه أبن عبده يني . كان هذا صاحب المطبعة الوحيدة في أسكندرونة ، وله أبن يقرأ كثيرا ، ويمشي في الشوارع وحيدا ، شارد النظرات ، صموتا . مفكرا . وقد سمعته يخطب لأول مرة ، حين زار سياسي كبير أسكندرونة عام 1936 ، وخطب في سينما روكسي . مزقت معطفي اليتيم وأنا أزاحم الناس للدخول وسماع ما سوف يقال في ذلك الاجتماع . منذ ذلك اليوم صار للفيلسوف احترام كبير في نفسي ، وأرتسمت له صورة أقرب إلي النحول ، والشعر المنفوش ، والنظرات الشاردة ، والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب " ألف ليلة وليلة " . ورحت أحلم علي طريقتي الصبيانية ، أن أصير فيلسوفا ، إذا ما قرأت كثيرا ، علي ضوء فانوس الكاز ، بعد أن أغلق دكان الدراجات علي نفسي ، عقب انصراف معلمي عفيف الطويل . ولإضفاء المظهر الفلسفي علي نفسي ، طفقت أنفش شعري ، وأسير وحيدا ، وأحمل كتاب " المدارج " في يدي ، وأتعمد قلة الكلام ، وأقول لأترابي متباهيا : أنا أعرف رجالا لاتعرفونهم ، رجالا يحبون الفقراء ويكرهون الفرنسيين والحكومة التي صنعوها لنا ! وحين سجن معلمي عفيف ، ونقل مع بعض رفاقه إلي حلب ، ليحاكم أمام المحكمة الفرنسية المختلطة ، أغلقت الدكان وعملت في الميناء ، وأختلطت بالعمال ، وصرت أنزل البحر في مواعين الشحن . وهناك أرسم علي الأكياس ، بحبر الكوبيا ، بعض الأرقام والماركات ، وأصغي ، من طرف خفي ، إلي ما يقوله العمال عن " السنديكا "، يعنوا بها النقابة .
- العمال ، النقابة ، الميناء ، السفن ، البحر ، المشورات والسجن ، ما علاقة كل ذلك بالفلسفة ، ما وجدت عندهم حتي أوصلوك لصف الفلسفة و ... هذا البحر الهائل ، الشاسع و المعرفة ؟
* أتذكر الآن ، ذات يوم ، عند الظهر علي ما أذكر ، كنا قد أفرغنا حمولة الماعون ، وتأخر الزورق الذي يأتي من الميناء ليقطرها ، فجلسنا ، العامل فاضل وأنا ، في قاع الماعون ، نتبادل الحديث ، ، عن المدرسة والشهادة الإبتدائية ، وعما أقرأ من كتب ، وما أن أنس فاضل إلي ، وعرف أنني أحب المطالعة ، وكنت أعمل أجيرا عند عفيف الطويل ، حتي أخرج من تكة سرواله ورقة صغيرة مطوية بعناية ، هي المنشور الأول الذي وقع في يدي . كان فيه ذكر للفلسفة ، فدهشت لأن عاملا مثله يحمل منشورا ولا يخاف ، وأنه من جماعة عفيف الطويل ، وعبده حسني ، وإن لم يذكر هو هذين الأسمين ! قرأت المنشور ولم أفهم ما فيه إلا قليلا ، كان فاضل في الأربعين تقريبا ، فقلت له : يا عم فاضل ، أنا أقرأ " المدارج " فأفهمه ، وأقرأ الإنجيل وكدت أحفظه في المدرسة الإبتدائية ، لكنني في هذين الكتابين ، لم أقرأ أسم فيلسوف ولا كلمة فيلسوف ! قال العم فاضل : في هذه الكتب لا يذكرون ، هذا خطر ، ولا يشرحون كلمة فلسفة ، لأنها صعبة . أنا نفسي لا أعرف ما هي ، لكنني ، نتيجة التجربة ، صرت فيلسوفا علي طريقتي ... أعني تعلمت أن الفلسفة ليست " أكلة مجدرة " ، بل هي عمل ... أن تعمل ، كما نعمل نخن ، تصير فيلسوفا ولو بغير كتب . تأليف نقابة مثلا ، هذا ما تقول به الفلسفة ، أن تحتفل بأول أيار ( مايو ) ، عيد العمال ، ، هذا فلسفة ، أن تتظاهر ضد الفرنسيين ، هذا فلسفة ، أن تثق أن الفقراء لن يبقوا فقراء ، وأن أغنياءنا لن يظلوا يمتصون دمهم ، هذا فلسفة ، أن تعرف أن في بلاد " المسكوب " قامت دولة العمال والفلاحين ، وأنها معنا ، هذا فلسفة ... وأخيرا ، أن تؤمن أن العدالة ستنتصر في كل مكان ، هذا فلسفة !
- إذن ، تعرفت علي الفلسفة ، أول ما تعلمته منها ، من العمال ، من السياسة في واقع الحياة وراهنا إن جاز لي أن أصفها هكذا ، لا من النظريات المثوثة في الكتب ؟
* نعم ، وأعترف الآن ، إن هذا العامل البسيط علمني أبجدية الفلسفة ، جعلها مفهومة في نظري . وقد سعيت ، في ركضي وراء الرغيف ، إلي تطبيق نظريته ، وهي – كما تري – ترجمة عملية لمضمون الفلسفة التي قرأتها في المظاهرات ضد فرنسا ، وفي رشق رجال البوليس والدرك بالحجارة . ويوم زار زعيم عربي أسكندرونة قادما من أنطاكية ، وأعتقلته السلطة الفرنسية ، تجمهرت مع الناس أمام السراي ، مطالبين بالإفراج عنه ، ورشقنا السراي بالحجارة ، فكسرنا زجاج نوافذها ، فكان أن أطلقوا النار علينا ، وقتل زميل لي علي مبعدة أمتار مني !
- مهلا ياحنا ، كنت أظنك في اللاذقية مقيما ، وأنت الآن في أسكندرونة ، و... البحر ، البحر ياحنا ؟
* صبرك ، شوي صبرك ياصديقي ، سأريك وأوصلك إلي حيث رأيتني . دارت بنا الأيام دورانها ، دخلت تركيا لواء الإسكندرونة ، فهاجرنا – مضطرين – إلي اللأذقية . عملت هناك في قطاف الزيتون ، قمت بتوزيع الصحف ، تعلمت مهنة الحلاقة ، فتحت دكانة صغيرة قريبا من الثكنة . وكنت أقفل دكاني كلما سمعت بإضراب ، أو خرجت مظاهرة . ثم حضرت اجتماعا لعصبة العمل القومي ، تكلم فيه رجل يلبس الفيصلية ، وبيده عصا ، وعلي الجدار خريطة للبلاد العربية . وكل ما وعيته من كلامه ، أن علينا أن نناضل لتوحيد كل هذه البلاد ، وبذلك نصنع دولة كبيرة تقاوم الفرنسيين والإنجليز وتستعيد اللواء وفلسطين ، ومنذئذ صارت الوحدة العربية حلما جميلا ، ثوريا ، في ذاتي !
- وأين هي القراءة ، إذن ، وأنت في خضم هذا البلبال الثوري المضطرم ، كيف تلمست الخطوة إلي القراءات ، التي ، لا شك ، هي من قادتك - من بعد – إلي بساتين الكتابة ورهقها الجميل ؟
* في دكان الحلاقة قرأت كثيرا . كان يجتمع عندي بعض طلاب المدارس ، وحتي بعض الذين انتسبوا إلي الجامعة في دمشق ، عند عودتهم إلي اللأذقية ، ويناقشونني في بعض المسائل ، وقد أفدت من هذه المناقشات ، ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرا . وفي أحدي الليالي زارني رجل حلبي بطربوش ، وقدم إلي نفسه بأسم عبد الجليل سيرس ، وقال إنه سمع بي ، وإنه يزور اللأذقية في " مهمة " خاصة ، هدفها إنشاء النقابات وأشياء أخري . وسألني عما أقرأ ، وأوصاني بمطالعة بعض الكتب ، وأعطاني كراسات صغيرة ، من بينها كراس مترجم ، مؤلفه " سيجال " علي ما أذكر ، ومنه تعلمت المبادي الأولي للفلسفة ، وأصبحت ، شيئا فشيئا ، مثقفا في نظر نفسي ، وازددت حماسة للنضال ، ودخلت السجن مرات عديدة ، وضربني رقيب في الدرك يدعي أبو حمد ، أشتهر بالقسوة وقوة العضل وعدم الخوف ، لأنني نشرت رسالة ضد فظائعه في جريدة سورية تصدر في دمشق ، ضربني حتي إمتلأ رأسي بالكدمات ، وإزرق وجهي ، وتجمع الدم في عيني . وكتب ، يومها ، المرحوم وصفي البني مقالا استهله ببيت من الشعر يقول : " وظلم ذوي القربي أشد مضاضة " ، علي اعتبار أن هذه الأعمال المنافية للديمقراطية ، يقوم بها رجال الدرك السوريون ، وقد تعلموها من الفرنسيين ، وبزوهم فيها !
- كان هذا أول التعذيب من الدرك السوري ينال منك ، أول جراحات الذي بدأ يري نفسه في آهاب الفيلسوف ، مناضلا لأجل الكاحين والحياة الأفضل ، كيف رأيتها أول نهشات الذئاب للفرايس ؟
* يااااااه ، بدأت أكتب وجعي ، بدافع من هذا التعذيب ، كتبت مسرحية أنا بطلها ، وحوادثها تغير العالم ، أو تصنع عالما جديدا في ستة أيام ... وأرسلت مقالة إلي جريدة " الأحرار " في بيروت ، أستحلف فيها صاحبها ، علي طريقة جبران خليل جبران ، بالمرأة التي هي أكسير روحه ، أن ينشر المقالة ، لكنه لم يفعل ، وإن كان قد بعث لي برسالة صغيرة ، يقول فيها إن مقالتي غير صالحة لأسباب عدة ، أهمها أن فيها أفكارا لاتنسجم وخطة الجريدة !
- وهل توقفت جراء هذا " الرد " المحبط ، الذي قذفه صاحب الجريدة في وجهك المشرئب إلي رؤي الفيلسوف وحمي الكتابة والنضال ؟
* لا ... ما توقفت أبدا . كانت الصحف ، آنذاك ، والحرب العالمية الثانية مشتعلة ، بأربع صفحات ، فلم أيأس ، فكتبت مقالة لجريدة أخري لم تنشرها ، لكنها أشارت إليها بأربعة أسطر ... غمرتني السعادة ، لأنني رأيت أسمي مكتوبا في صحيفة لأول مرة ،كتبت قطعة صغيرة بعنوان " طفلة للبيع " نشرتها أحدي المجلات ، فعمدت نفسي كاتبا ، لا بواسطة القديس يوحنا ، ولا في نهر الأردن ، بل في بحر الأذقية ، وشكلت قلما في سيالة سترتي !
- ذلك كان حالك ، حين " عمدت " نفسك كاتبا ، وبدأ نجمك يصعد ، ويتألق و يتعملق الكاتب فيك ، وتلك اللاذقية التي أحببتها و ... بحرها وخلدتهما في أعمالك الكبيرة ، لكن كيف غادرتها ، وكيف دخلتها ، دمشق المدينة أشرعت ، منذ زمان ، نوافذها للشعراء والكتاب والفنانون من سوريا ومن خارجها ، هل كانت رحيمة بك كما اعتادت مع الآخرين ، هل أحتضنتك ياحنا ؟
* يااااااه ، كم كنت قاسيا علي قلبي حين هاجرت من اللاذقية العام 1947 ... كانت دكانة الحلاقة قد غدت مشبوهة ، ولم يعد أحد يحلق عندي ، فقصدت بيروت أول أمري ، ولم أتوفق في الحصول علي عمل بها فتركتها إلي دمشق . وفيها عملت مجانا في الصحافة لمدة ثلاثة أشهر ، وكان معلمي ، أي سكرتير التحرير ، المرحوم أحمد علوش ، الذي صار صاحب مجلة " الصرخة " فيما بعد . في دمشق اتصلت بالمثقفين ، وأشتركت في تأسيس " رابطة الكتاب السوريين " ، ثم رابطة " الكتاب العرب " . وقرأت
" رأس المال " ، فصارت معرفتي بالفلسفة أوثق. لكن ماقاله لي العامل " العم فاضل " في قاع سفينة الشحن , ظل اساسا عمليا لنشاطي الحياتي ، ودخل باشكال مختلفة ، في كتاباتي الادبية .. ولم يخرج !
- الفلسفة ، إذن ، مرة أخري ، بأفق سياسي وثقافي عال ، هذه المرة ، أتت هي إليك أم استدعيتها لساحتك وقد أصبحت دمشقيا في بعض وجوهك ؟
* يمكنك ، الآن ، أن تراها ، تلك هي ، بسطور ، حكايتي مع الفيلسوف " الذي رأسه بحجم الجبل ، وجسمه عملاق كرجل أسطوري " ، وكلما رأيت صورته الآن ، بلحيته البيضاء ، وجبينه العريض الوضاء ، وشعره المسترسل ، ونظرته النجمية ، ابتسم لطفولتي التي بعد بها العهد ، بمقدار ما أقترب هذا الفيلسوف من قلبي ونفسي ، لأنه ، بفكره العظيم ، أعطاني مفهوما عن العالم ، منحني الرؤية التي فتحت عيني ، وأضفي علي مهنتي الأدبية ، لا الوعي وحده ، ولا المعرفة وحدها ، بل الجمالية أيضا ! يخطئ من يظن أن إنسانا قادر علي فهم العالم دون أن يقرأ الفلسفة ، علي هذا الفيلسوف أو غيره ، ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر علي الكتابة دون الاطلاع علي الفلسفة ، ليس بصفتها " وصفة " ، بل كمرشد عمل في السياسة والأدب علي السواء .
الآن ، من الذي بقي ، في بلادنا وفي الدنيا ، يجهل الفلسفة والفلاسفة ، إذا كان مثقفا ؟ ومن لم يستفد ، كثيرا أو قليلا ، من حقائق الفلسفة التي صارت منارة للمبحرين في المحيطات ، والسائرين في الصحاري ، والبائسين في المدن والأرياف ، والعاملين في الجامعات والمكاتب والمصانع والحقول ؟
أتذكر ، سئل غوركي مرة : كيف تعلمت الأقتصاد ؟ كان عندئذ يعمل حمالا علي نهر الفولغا ، فقال : "
" أنظروا إنه منقوش علي ظهري ! " . تسألونني ، كيف تعرفت إلي الفلسفة ؟ ، أقول لكم : في قاع سفينة شحن ، ومنذ ذلك اليوم الحزين ، أصبحت مفاهيمها منقوشة علي قلبي ، راشحة ، مع عرق التعب ، من مسام جلدي !
- لكن ، عليك أن تخبرني عنه ، من هو ذلك الفيلسوف ياحنا ، شوقتني ، أيضا ، إليه ؟
* ومن غيره ياصديقي ، ماركس ، كارل ماركس ، هو الذي جعلني كيف أراهما : العالم والحياة !
- كنت قد حذرته ، أثناء حديثك ، فعرفته ، لكنني أحببتك تنطق بأسمه ، وها قد فعلت !
تلك حكاية الفلسفة معك ، ماذا عن البحر ، عشقك الأخر ، الكبير وعوالمه المثيرة ، حتي قلنا أنك روائي البحر في أدبنا العربي كله ، ولا أحدا ينازعك عشقه ولا الكتابة عنه ؟
* صدقت ، هو فعلا عشقي الكبير ، لا شك في ذلك عندي ، ولي معه قصة أخري طريفة ... كنت في الثامنة من عمري ، يوم أخذني الإخوان قلفاط ، من زملاء المدرسة بالصف الأول ، إلي البحر في الإسكندرونة ... وقد زعم أصغرهما ، نقولا ، أن الجرأة وحدها ، هي التي تعلم الإنسان السباحة ..
سألته :
- كيف ؟
قال :
- أن تذهب إلي رأس " الصقالة " وترمي نفسك في البحر .
- وإذا غرقت !؟ .
قال الأخ الأكبر دميان :
- يكون هذا أفضل !
قلت خائفا :
- كيف يكون هذا أفضل ؟ الغرق يعني الموت !
فكر دميان ، وكانت له عينان ، جفونهما حمراء ومقلوبة ، نظر إلي بإستخفاف وقال :
- من لا يعرف أن يسبح ، من الأفضل له أن يموت !
أنا ، الآن ، أري هذا القول حكمة ! دميان كان حكيما علي طريقته . فمن لا يعرف أن يسبح ، فمن الأفضل له أن يموت . وقد قال أبو القاسم الشابي ، مترجما هذه الحكمة النثرية إلي شعر :
" ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر " !.
إلا أنني ، في تلك السن من طفولة مبكرة وعليلة ، ما كنت أعرف الحكمة ولا الشابي ولا صعود الجبال أو المغامرة في البحر ، لذلك قلت :
- ألا يمكن أن أتعلم السباحة علي الشط ؟
قال نقولا :
- يمكن ؟
رد دميان ، أكبرنا سنا ، وقائد طفولتنا :
- أنا أقول لا يمكن ، يعني لا يمكن !
سكت . تلبستني حيرة ، تقلدتني مخاوف ... سرت وراء دميان وأنا أرتجف من الخوف والبرد ، لأننا كنا في الخريف ، وكنت ألبس سروالا داخليا من الشيت الأزرق ، ومشينا علي الصقالة ، إلي أن صرنا في البحر ، علي عمق أمتار ، فألقي دميان بنفسه في الماء ، غط وطلع . فعل أخوه نقولا مثله ، بقيت وحيدا ، أري وأتحسر علي نفسي ، إلي أن قررت أن أعود إلي الشاطئ الرملي ، حيث أنزل الماء ، كما يفعل الأطفال الذين في مثل سني ، وفجأة صاح بي دميان :
- إلي أين ؟
- إلي الشاطئ !
- يعني إلي الرمل !؟
- كل الأطفال يسبحون هناك!
- أنت يجب أن تسبح هنا !
- لماذا ؟ !
- هكذا ... أنا لا أحب الخوافين !
- أنا أخاف لأنني لا أعرف العوم !
- علي الرمل لا يعوم أحد ، ولا يتعلم أحد ... فهمت ؟
- ...
- تعال تفرج إذن كيف نسبح نحن ... راقب فقط حركاتنا ، الأيدي والأرجل مثلا ... ألا تعرف الضفدعة ؟
- هذه أعرفها .
- أفعل مثلها .
- أين ؟ في " بركة " المدرسة ؟
- " بركة " البحر !
- الضفادع لا تعيش في البحر .
- بلي ! تعيش ... تعال وأنظر إليها !
سرت إلي رأس الصقالة ، كنت راغبا حقا برؤية ضفادع البحر . وقفت ، حملقت ، انتقلت من طرف إلي آخر ... لم أجد شيئا ، لم أر سمكة واحدة ! كانت هناك فلائك ، مواعين ، وكان عمال وبحارة ، وفي البعيد كانت سفينة ترسو ، وكان سباحون فتيان يتسابقون نحوها . وكان الإخوان قلفاط ، نقولا ودميان ، قد حدثاني أن هناك ، علي طرف السفينة سلما يصعدون عليه بسهولة ، حيث يحظون ، من القبطان ، بالشيكولا والبسكويت ، ويتفرجون علي غرائب السفينة ، مثل السطح ، والقمرات ، والعنابر ، وحتي غرفة القبطان ، وكذلك – وهذا هو الأهم – يرون النساء بثياب البحر ، شبه عاريات تقريبا !
وفجأة دفعت إلي البحر ، عند رأس الصقالة !غطست وأنا أصرخ ، أرتفعت إلي فوق ، هبطت إلي تحت ، شربت الماء المالح ، تابعت الصراخ ، وعندئذ ألقي دميان نفسه ورائي ، أمسكني من يدي قائلا :
- لا تخف !
هتفت من حلاوة الروح ، وأنا أبكي :
- أنا أغرق يا دميان ... أنقذني !
قال دميان :
حرك يديك ورجليك فقط ... أفعل مثل الضفدعة ... هيا ، سأتركك !
تركني ! ومن جديد رحت أتخبط في البحر ، وأنا أحرك أطرافي ، إلي أن عمت ، فعاد يمسكني من كتفي قائلا :
- برافو ... تابع ياضفدعة برية !
تابعت إلي أن تعبت ، شربت كثيرا من ماء البحر ، لم أعد أحتمل . تعلق دميان بقائمة الصقالة الحديدية ..
سحبني نحوه وقال :
- تعلق أنت أيضا ، أفعل مثلي ... أسترح ..
أسترحت ، قال دميان :
- مرة أخري إلي البحر ...
أرغمني علي العودة إلي الماء ، عدت دون صراخ ، تخبطت من جديد ، عمت من جديد ، وقف علي مقربة وقال :
- تعال إلي ...
حاولت ! حاولت ! وصلت إليه ، أسترحت وأنا أتمسك بكتفه ، دفعني كي أعوم ، عمت ... ابتعد وقال :
- تعال إلي ...
ذهبت بصعوبة بالغة نحوه ... وعندئذ قال :
- يكفي اليوم ... تعلق بالصقالة ، هيا نصعد .
عندما صرنا فوق الصقالة الخشبية ، أستلقيت تعبا ، لم أعد خائفا ، إلا أنني تقيأت ماء البحر . ودميان ينظر إلي ويضحك ، ثم جاء واستلقي إلي جانبي قائلا :
- الضفدع وحده يسبح في " البركة " ، أما الإنسان فإنه يسبح في البحر ... وفي البحر العميق جدا يكسر ، مرة واحدة ، خوفه من الغرق ... يصير دلفينا !
نظرت إليه بكره ، لم أتكلم ، ما كنت قادرا علي الكلام ، عيناي فقط ، راتا السماء الزرقاء ، عالية جدا ، وطيور النورس البيضاء تحوم قريبا مني في الفضاء ، والريح رخية ، والسحب البيض ، بتشكيلات بديعة ، تندفع نحو الأفق ، وتأخذني معها . وبعد ذلك ، عندما بلغت السادسة عشرة من عمري وعملت في الميناء وعلي المراكب ، قلت للريس الطنحر ، بعد أن رويت له قصتي :
- هل صحيح أن الفرق الوحيد ، بين الإنسان والضفدع ، هو " البركة " والبحر ، كما يقول دميان ؟
رازني وقال :
- صحيح ... دميان هذا كان " فلسفونا " بحريا !
- فيلسوفا ياريس !
- نعم ! كما تقول ... لو سبحت علي الرمل ، ما كنت اليوم معي علي المركب .
وبعد أن تنهد قال :
- البحر للإنسان و " البركة " للضفدع ، هذه هي القصة كلها ! أين صار دميان هذا ؟
- لا أدري ... أفترقنا منذ تركنا المدرسة ، سمعت أنه هاجر إلي بيروت ...
قاطعني :
- يعني إلي البحر ؟
أضاف :
نعم ! نعم إلي البحر ... وإلا فكيف !؟ أسمع ! النسر له الجبل ، والبحار له البحر ، تعرف لماذا ؟
- لأنه إنسان !
- تماما ، ولكنه إنسان نسر ... نسر بحري ، الطير يصعد إلي فوق ، ونحن ننزل إلي تحت ، إلي الأعماق ... الجبال والأعماق ، والموت ، هناك وهنا ، بكرامة ... إذا مت ، وكلنا سنموت ، فلا تخش القاع ... إذا مت ! في البحر ، فإنك تموت بشكل لائق ، وهذه حال النسر والجبل ... موت النسر يكون في الأعالي !
قلت :
- ولكن الإنسان أقوي من النسر ياريس !
- لا ، هما أخوان ! هما رجلان ، وكل منهما له ساحته ... المسألة ، كلها ، تتوقف علي جواب هذا السؤال : هل أنت رجل أم ضفدع ؟
قلت :
- رجل !
ربت علي كتفي وقال :
- قل هذا غدا ، ودون كلام ، للعاصفة حين تهب !
قلت : سأفعل !
وفعلت ... !
كان هذا درسا بحريا ، لم أنسه أبدا ، حياتي كلها !
- هكذا ، إذن ، ركبت البحر ، فأصبح عالما إليك وياله من عالم ، به عوالم لا حد لها ... ورأيت في حكايتك عن البحر " حكاية " بديعة جدا ، وبها حكم ، وفلسفة ، ومغامرة بحرية وأحلام ...
لن أكون في سؤالك ثانية ، أكتفيت ، منك الليلة ، بحكاية الفلسفة والبحر ، لم تدع لنا الحكاية صقالة نقف عليها في مواجهة البحر ، لأسألك عن الكتابة ، عن القصة والرواية ، كيف تكتبهما بهذه السلاسة ؟
* ههههههههه ، دعنا الليلة ، فقد أكتفيت كما قلت ، وتعبت أنا ، أريد أن أسترح عن الأسئلة برؤية البحر والميناء والنوارس ، والريح والعاصفة ، والسفينة حين تداعبها الأمواج ، كفاية بقي !
لملمت أوراقي ، ورحت ذاهبا عنه ، بعد أن ودعته ، هذا القبطان البحري ، الكائن البحري الذي يجد بحرا في الكتابة أيضا !
-----------------------------------------------------------------------------------------------
* الحوار متخيل ، لكن الأجابات ، هي نفسها أحاديثه ، مستخلصة من كتاباته أيضا ...
قصدت ، أسامره ، هذا الكائن البحري المدهش ، رائد روايات البحر في أدبنا ، بإمتياز ، وتحية إليه !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق