طه حسين ...
* قصة قصيرة : محمد البساطي *
--------------------------------
أراه من بعيد ولا أقترب منه . كان هناك يخوض معركته وحده . منحنيا وذراعاه حول رأسه ، أشبه بطائر يطوي جناحيه . قطع الحجارة تنهال عليه ، لحظة وأخري ويندفع الأولاد مختفين بالحواري ، يقف بعدها مشدودا متلفتا حوله ، ويتخذ طريقه عائدا إلي بيته .
البيت من طين علي الترعة ، حجرتان وحوش . يعيش مع أمه العجوز ، تربي الدواجن وتبيعها في السوق . أتبعه ، يسير وسط ظلال الأشجار علي شط الترعة ، وألمح العجوز أمام البيت تظلل عينيها بيدها في مواجهة الشمس لتراه عائدا .
عادة أجدني ألتفت إليه حين أراه ، لا أدري سببا لذلك ، لم يكن بعد لفت الأنظار إليه . ربما شروده وأستغراقه مع نفسه ، وربما محاولته أن يبدو في هيئة نظيفة ، الجلباب الأبيض المكوي ، الحذاء اللامع ، والمنديل المطوي يمسح به شفتيه من حين لآخر . وما كان يقال من شجاره مع أمه حين تعجز عن توفير طلباته ، وربما أيضا ما يعلنه من شغف شديد بطه حسين ، وكان قرأ كل مؤلفاته وحفظ الكثير منها ، يتلو مقاطع طويلة حين يتصادف وجوده مع زملاء له ، وكانوا يقاطعونه صائحين :
- الله ... الله ... أعد .
لأينتبه لانسحابهم من جواره ، يظل من مشيته المتهادية مستقبلاً الخلاء علي الطريق الزراعي وصوته يعلو متهدجاً .
* قصة قصيرة : محمد البساطي *
--------------------------------
أراه من بعيد ولا أقترب منه . كان هناك يخوض معركته وحده . منحنيا وذراعاه حول رأسه ، أشبه بطائر يطوي جناحيه . قطع الحجارة تنهال عليه ، لحظة وأخري ويندفع الأولاد مختفين بالحواري ، يقف بعدها مشدودا متلفتا حوله ، ويتخذ طريقه عائدا إلي بيته .
البيت من طين علي الترعة ، حجرتان وحوش . يعيش مع أمه العجوز ، تربي الدواجن وتبيعها في السوق . أتبعه ، يسير وسط ظلال الأشجار علي شط الترعة ، وألمح العجوز أمام البيت تظلل عينيها بيدها في مواجهة الشمس لتراه عائدا .
عادة أجدني ألتفت إليه حين أراه ، لا أدري سببا لذلك ، لم يكن بعد لفت الأنظار إليه . ربما شروده وأستغراقه مع نفسه ، وربما محاولته أن يبدو في هيئة نظيفة ، الجلباب الأبيض المكوي ، الحذاء اللامع ، والمنديل المطوي يمسح به شفتيه من حين لآخر . وما كان يقال من شجاره مع أمه حين تعجز عن توفير طلباته ، وربما أيضا ما يعلنه من شغف شديد بطه حسين ، وكان قرأ كل مؤلفاته وحفظ الكثير منها ، يتلو مقاطع طويلة حين يتصادف وجوده مع زملاء له ، وكانوا يقاطعونه صائحين :
- الله ... الله ... أعد .
لأينتبه لانسحابهم من جواره ، يظل من مشيته المتهادية مستقبلاً الخلاء علي الطريق الزراعي وصوته يعلو متهدجاً .
ويوماً ما ناداه أحدهم من
قبيل المزاح "ياشيخ طه" ، والتفت . جأت التفاتته طبيعية وكأنها إسمه ،
حتي أن من ناداه أصابته الدهشة ، وبمرور الوقت أصبح الجميع ينادونه بالأسم الجديد
، وربما وجدوا فيه مايرضيهم من غمز .
كنا في المدرسة الثانوية
نفسها ، هو في السنة النهائية ، يكبرني بعامين ، يقف في الحوش وقت الفسحة في ظل
شجرة ، وقوراً هادئاً ، ينتظر علي مايبدو أن يسعي إليه البعض من زملائه ، غير أنهم
كانوا دائماً منصرفين عنه ، يبحثون عن مكان منزو يدخنون فيه السجائر .
ولبس النظارة القاتمة ، ظهر
بها أول ماظهر بالمدرسة ، نفس وقفته في ظل الشجرة ويده في جيب السترة ، يمد رأسه
ويميل بها خفياً كأنما يرهف السمع لصوت لأيراه . ربما كان ذلك بداية التحرش به
صاحوا به :
_عميت ياشيخ طه ؟
قال أن الضوء يؤلم عينيه .
_أمبارح كانت سليمة ياشيخ طه ؟
_يكون الأستاذ جاءك في المنام ؟
_وقال لك أتبعني يابسيوني .
_طب سمعنا موا من مواويله .
يضحكون حوله في صخب ، يبتسم خفيفاً كأنما يغفر لهم . في وقفته بظل
الشجرة كان هدفاً لضربات الكرة ، تصيبه في
غفله ، وحين تستهدف وجهه ينحني في اللحظه الأخيرة بعيداً عن مسارها ، وأعقاب
السجائر المشتعلة يدسونها في جيب سترته ، وحين يرتفع منها الدخان تظهر فجأة كيزان
المياه يدلقونها فوقه . ويوماً اشتبك معهم ، جذبني الصياح ، كان بينهم نحيلاً
هزيلاً ، يتشاجر كالبنات ، يداه ممدودتان تصدانهم ، يحاولون نزع النظارة عن عينه ،
وأراد إثنان كانا يقفان بجانبه أن يسحباه بعيداً ، لم يستجب لمحاولتهما ، تهدلت
سترته وتمزق جيبها العلوي ، أرتفع صوته رداً
علي همس بجواره :
_ بص لهم . رضو بجهلهم ورضي جهلهم عنهم .
قال مدرس كان مقبلاً علي الصياح :
لم أقرأئها أو أسمع بها من
قبل يابسيوني أهو الأستاذ؟
أنفض الأولاد بعيداً ، كان
يلهث مسوياً سترته :
_هو قالها رداًعلي سفالة نكرة من الكتاب .
كان التحرش به محصوراً في المدرسة ، ثم أمتد الي الخارج حين رأي ان
يكلم الناس بالفصحى ، وأخبرني فيما بعد أن العامية أشبه بمجري ماء عكر يحمل كل
مايقابله من طحالب وقاذورات ، الفصحى رائقة مصفأة .رنينها عذب .
وقال : لأتظنه كلام الأستاذ
، هذا كلامي .
كان يحرص في حديثه معي علي أن يفصل كلام الأستاذ وكلامه . ومع الوقت
كان يسهو ، وأجدني لأفرق بينما .
يخرج من البيت بعد العصر ،
مشواره اليومي ، يسير علي مهل متجهاً إلي الطريق الزراعي ، ربما ليخلو إلي نفسه أو
مبتعداً عن زحام شوارع البلدة ، بيده عصا
يتحسس بها الطريق ، والنظارة القاتمة علي عينيه ، يتعثر أحياناً بحجر ويكاد بنكفئ
، وأشعر لحظتها بأنه لا يبصر ، ويبتعد في الخلاء ، أتوقف وقد أخذ ضوء الغروب يغمر
أطراف الزرع علي جانبي الطريق ، البلدة لا تستريح لمن يخرج علي إيقاعها . كانو
يتناقلون أخبار مشاحناته مع الباعة في السوق ، ومايقوله من كلام لأيفهمه أحد ،
وشتائم لم يسمعوا بها ، والشراسة التي ظهر بها فجأة "طول عمره وهو في حاله" ويضربون كفأ
بكف "عقله شطح واللي كان كان"
وقف أمام محل الجزار ، لم
أراه في مثل هذه الهيئة من قبل . وجهه شاحب مكفهر . جلبابه الذي كان نظيفاً دائماً
ملطخ بالطين الجاف ، أزراره مهشمة ، ماتبقي منها لم يثبت داخل العروات ، كشفت
الياقة المفتوحة عن عظام صدره الناتئة ، صوته عميق النبرة ، ليس الصوت الذي أعرفه
، يشير بعصاه علي اللحم المعلق بالخطاف :
_ ياقصاب . أعطني نصف كيلو دون عظم .
الجزار علي مايبدو قد سمع به أو رأه من قبل .
أخرج مبسم الشيشه من فمه
وغمغم :
_قصاب ؟ قصاب يابن زينب . أمش من هنا
_لغة منحطة . أنا لأ أتسول أعطني ماطلبته .
_ يافتاح ياعليم . ساعة صبح يابن الـ ...
_ حسئت . سباب من فم ملوث .
أندفع الجزار مزمجرأ ، وربما ظن أن بسيوني سيطلق ساقيه للريح أمام
هيجانه ، فوجئ به في وقفته ساكناً ، هدأ
الجزار في لحظه .
_ إستغفر الله العظيم . ياإبني إلهي يسترك ، بلاش لحمة في اليوم
القطران داه . أتكل علي الله .
التفت بسيوني ، بدا أنه
تذكرني كزميل في المدرسة . خاطبني .
_ أرأيت الي هيكلهم المتهالك ، وأصنامهم الغبراء . وإستدار ومضي .
هم أيضل لا يتركونه في حاله ، يناديه البعض من المقاهي والمحلات
مستخدمين كلمات بالفصحي :
_ ياشيخ طه ، إلي أين ؟
_ أنتظر لعنة الله عليك .
يمشي وخلفه جمهرة من الأولاد ، يتوقفون حين يتوقف ليكلم أحدا . يستمعون إلي ما يقول ويتبادلون النظرات . ويوما تبعوه حتي خرج من شوارع البلدة وراحوا يناوشونه بقطع الحجارة ، يقذفونها بتراخ ، تسقط غير بعيدة عنه أو عند قدميه ، كان لا يلتفت إليهم . عادة يتوقف علي الكبري قبل أن ينطلق إلي الطريق الزراعي ، منحنيا علي السياج ينظر إلي المياه . ما إن يستدر حتي يعودوا إلي قذفه بالحجارة التي تنال من ساقيه وظهره ، ويصيح ولد منهم :
_ خسئت يا أبن زينب .
ويوما أصاب حجر رأسه ، لوث الدم أصابع يده وصدر جلبابه . سرت به إلي بيته ، كان طوال الطريق صامتا ، ورعشة تسري فجأة في جسده فيتوقف لاهثا ثم يواصل السير . استقبلتنا أمه بصرخة :
_ يا أبني !
أرقدته علي الكنبة في الحجرة :
_ دثريني يا أمي !
غمغمت بصوتها الباكي :
_ أزاي يا أبني ؟
غسلت له الجرح ، ووضعت عليه قليلا من البن . أسترخي متنهدا :
_ أنت في الفصل الثاني .
الحجرة ضيقة ، طبلية مائلة علي الحائط ، مصباح زجاجته نظيفة ، حصير قديم ، الكتب بإمتداد جدارين ، متراصة فوق بعضها علي ألواح من الخشب تعزلها عن الأرض الطينية . الأم قعدت علي عتبة الحجرة وظهرها لنا ، تبكي دون صوت . تعلقت عيناي ببعض الكتب كانت دون غيرها مغلفة بورق شفاف ، قال :
_ آه كتبه . قرأت له ؟
قلت : لم أقرأ .
_ إن أردت ، خذ منها ما تشأ ، كلها هنا .
صمت قليلا ثم قال :
_ أبدأ بالأيام ، سيرته . ستري كيف ينشأ ويتكون المفكر الكبير ، باية وعيه ، الإصرار ، العناد ، الهدف ، نزع القشرة الزائفة ، كتابه في الشعر الجاهلي ، أو مستقبل الثقافة في مصر ، بحث عميق ، ليس مجرد معلومة جديدة ، لكنه دعوة لإعادة التفكير في الميراث القديم ، هو الأعمي كان يبصر أكثر من غيره !
صوته منفعل ، وعيناه شبه مغمضتين ، سكت فجأة ...
كانت تلك بداية علاقتنا ، يسير وأسير بجواره . هو علي ما يبدو اتخذني تلميذا له . الأولاد حين رأونا معا كفوا عن قذف الحجارة . ظهروا يوما وآخر ، وساروا خلفنا ، ثم أختفوا بعد ذلك . يحدثني عن مواقف الأستاذ ومعاركه :
_ أنظر في آخر كتابه في الشعر الجاهلي ، هذه نسخة نادرة ، ستجد وقائع محاكمته ، ققصتها من مجلة وألصقتها به . كان لابد أن يحاكموه ، أزعجهم ، أفسد طمأنينتهم البلهاء !
لم أكن برفقته يوم حدثت واقعة عم " أحمد " الاسكافي . الرجل منكفئ داخل دكانه الصغير المظلم ، يحسس جوانب فردة حذاء ، متأهبا لدق مسمار ، فوجئ بمن يسد فتحة الدكان ويحجب الضوء ، فمه مطبق علي مسامير صغيرة يستخدمها منعته من الزمجرة ، جاءه صوت بسيوني :
_ يانعال ، أصلح هذا الحذاء إن سمحت .
ورأي عم احمد الحذاء يوضع بجواره ، لم تشفع كلمة " إن سمحت " قذف بالحذاء في عنف ، إلي الشارع فسقط في ماء غسيل كان متجمعا أمام الدكان . كاد ينحني مرة أخري علي فردة الحذاء ، ثم بصق المسامير من فمه وقفز خارجا . أمسك بسيوني الذي وقف ذاهلا أمام ثورته وألصقه بالجدار ، زمجر :
_ نعال يا أبن الجزمة ، أنا يتقال لي نعل ؟
الجسد هزيل طيع بين يديه ، أفلته مغمغما :
_ أنت أبن زينب ؟ طيب . والمسامير اللي ضاعت . هات الجزمة .
غير أن بسيوني التقط حذاءه ومضي .
كان هناك من حذر أبي من رفقتنا ، قال أبي :
_ أبعد عنه . اللي زيه ما يجيش من وراه غير المشاكل .
كنت أتسلل عبر الغيطان لملاقاته علي الطريق الزراعي . أخبرني أن الأولاد حين رأوه وحده عادوا لمناوشته بالحجارة ، وقال :
_ لا أظن أن هناك من يدفعهم . ربما حين رأوا الكبار .
وأخبرني في لقاء آخر أنهم من يومين تبعوه بعد أن غادر الكوبري ، وما أن وصل للطريق الزراعي حتي تكاتفوا عليه ودفعوا به إلي قناة ممتلئة ثم اختفوا . ملابسه المبتلة ، والوحل الذي يغطيه ، أضطر للإختفاء في حوض زرع حتي جاء الليل ، فعاد إلي البيت . أنتظرته يوما ولم يأت . كان ذلك عقب حصوله علي الشهادة الثانوية . ذهبت إليه .أمه أمام البيت تنثر الطعام للفراخ والبط ، لم تلتفت نحوي ، كان مسترخيا علي الكنبة ، جلست علي طرفها .
قال أنه فكر طويلا وقرر أن يذهب .
_ أين ؟
_ أبحث عن عمل في العاصمة ، كما تري ، الظروف لا تسمح بإلتحاقي بالجامعة ، ربما فيما بعد ، الكتب هنا ، وقلت لأمي ، إن أحتجت إليها ، ماذا تقرأ الآن ؟
_ كتاب الأستاذ " مستقبل الثقافة في مصر " .
_ تحدثنا عنه ؟
آه تحدثنا .
سافر بعد أيام ، كنت برفقته علي المحطة ، لم اسمع عنه بعدها !
------------------------------------------------------------
* محمد البساطي ، قاص من مصر .
_ ياشيخ طه ، إلي أين ؟
_ أنتظر لعنة الله عليك .
يمشي وخلفه جمهرة من الأولاد ، يتوقفون حين يتوقف ليكلم أحدا . يستمعون إلي ما يقول ويتبادلون النظرات . ويوما تبعوه حتي خرج من شوارع البلدة وراحوا يناوشونه بقطع الحجارة ، يقذفونها بتراخ ، تسقط غير بعيدة عنه أو عند قدميه ، كان لا يلتفت إليهم . عادة يتوقف علي الكبري قبل أن ينطلق إلي الطريق الزراعي ، منحنيا علي السياج ينظر إلي المياه . ما إن يستدر حتي يعودوا إلي قذفه بالحجارة التي تنال من ساقيه وظهره ، ويصيح ولد منهم :
_ خسئت يا أبن زينب .
ويوما أصاب حجر رأسه ، لوث الدم أصابع يده وصدر جلبابه . سرت به إلي بيته ، كان طوال الطريق صامتا ، ورعشة تسري فجأة في جسده فيتوقف لاهثا ثم يواصل السير . استقبلتنا أمه بصرخة :
_ يا أبني !
أرقدته علي الكنبة في الحجرة :
_ دثريني يا أمي !
غمغمت بصوتها الباكي :
_ أزاي يا أبني ؟
غسلت له الجرح ، ووضعت عليه قليلا من البن . أسترخي متنهدا :
_ أنت في الفصل الثاني .
الحجرة ضيقة ، طبلية مائلة علي الحائط ، مصباح زجاجته نظيفة ، حصير قديم ، الكتب بإمتداد جدارين ، متراصة فوق بعضها علي ألواح من الخشب تعزلها عن الأرض الطينية . الأم قعدت علي عتبة الحجرة وظهرها لنا ، تبكي دون صوت . تعلقت عيناي ببعض الكتب كانت دون غيرها مغلفة بورق شفاف ، قال :
_ آه كتبه . قرأت له ؟
قلت : لم أقرأ .
_ إن أردت ، خذ منها ما تشأ ، كلها هنا .
صمت قليلا ثم قال :
_ أبدأ بالأيام ، سيرته . ستري كيف ينشأ ويتكون المفكر الكبير ، باية وعيه ، الإصرار ، العناد ، الهدف ، نزع القشرة الزائفة ، كتابه في الشعر الجاهلي ، أو مستقبل الثقافة في مصر ، بحث عميق ، ليس مجرد معلومة جديدة ، لكنه دعوة لإعادة التفكير في الميراث القديم ، هو الأعمي كان يبصر أكثر من غيره !
صوته منفعل ، وعيناه شبه مغمضتين ، سكت فجأة ...
كانت تلك بداية علاقتنا ، يسير وأسير بجواره . هو علي ما يبدو اتخذني تلميذا له . الأولاد حين رأونا معا كفوا عن قذف الحجارة . ظهروا يوما وآخر ، وساروا خلفنا ، ثم أختفوا بعد ذلك . يحدثني عن مواقف الأستاذ ومعاركه :
_ أنظر في آخر كتابه في الشعر الجاهلي ، هذه نسخة نادرة ، ستجد وقائع محاكمته ، ققصتها من مجلة وألصقتها به . كان لابد أن يحاكموه ، أزعجهم ، أفسد طمأنينتهم البلهاء !
لم أكن برفقته يوم حدثت واقعة عم " أحمد " الاسكافي . الرجل منكفئ داخل دكانه الصغير المظلم ، يحسس جوانب فردة حذاء ، متأهبا لدق مسمار ، فوجئ بمن يسد فتحة الدكان ويحجب الضوء ، فمه مطبق علي مسامير صغيرة يستخدمها منعته من الزمجرة ، جاءه صوت بسيوني :
_ يانعال ، أصلح هذا الحذاء إن سمحت .
ورأي عم احمد الحذاء يوضع بجواره ، لم تشفع كلمة " إن سمحت " قذف بالحذاء في عنف ، إلي الشارع فسقط في ماء غسيل كان متجمعا أمام الدكان . كاد ينحني مرة أخري علي فردة الحذاء ، ثم بصق المسامير من فمه وقفز خارجا . أمسك بسيوني الذي وقف ذاهلا أمام ثورته وألصقه بالجدار ، زمجر :
_ نعال يا أبن الجزمة ، أنا يتقال لي نعل ؟
الجسد هزيل طيع بين يديه ، أفلته مغمغما :
_ أنت أبن زينب ؟ طيب . والمسامير اللي ضاعت . هات الجزمة .
غير أن بسيوني التقط حذاءه ومضي .
كان هناك من حذر أبي من رفقتنا ، قال أبي :
_ أبعد عنه . اللي زيه ما يجيش من وراه غير المشاكل .
كنت أتسلل عبر الغيطان لملاقاته علي الطريق الزراعي . أخبرني أن الأولاد حين رأوه وحده عادوا لمناوشته بالحجارة ، وقال :
_ لا أظن أن هناك من يدفعهم . ربما حين رأوا الكبار .
وأخبرني في لقاء آخر أنهم من يومين تبعوه بعد أن غادر الكوبري ، وما أن وصل للطريق الزراعي حتي تكاتفوا عليه ودفعوا به إلي قناة ممتلئة ثم اختفوا . ملابسه المبتلة ، والوحل الذي يغطيه ، أضطر للإختفاء في حوض زرع حتي جاء الليل ، فعاد إلي البيت . أنتظرته يوما ولم يأت . كان ذلك عقب حصوله علي الشهادة الثانوية . ذهبت إليه .أمه أمام البيت تنثر الطعام للفراخ والبط ، لم تلتفت نحوي ، كان مسترخيا علي الكنبة ، جلست علي طرفها .
قال أنه فكر طويلا وقرر أن يذهب .
_ أين ؟
_ أبحث عن عمل في العاصمة ، كما تري ، الظروف لا تسمح بإلتحاقي بالجامعة ، ربما فيما بعد ، الكتب هنا ، وقلت لأمي ، إن أحتجت إليها ، ماذا تقرأ الآن ؟
_ كتاب الأستاذ " مستقبل الثقافة في مصر " .
_ تحدثنا عنه ؟
آه تحدثنا .
سافر بعد أيام ، كنت برفقته علي المحطة ، لم اسمع عنه بعدها !
------------------------------------------------------------
* محمد البساطي ، قاص من مصر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق