* عمر يبكي نقد يوم تشييعه.
وداعا عمر حسين، مدخل الماركسية الكلاسيكية في واقع العمل الشيوعي اليومي!
----------------------------------------------------------------------------
الوديع
الرضي،
قد رحل!
وأورثنا كل ما كان لديه،
كل ما يملك...
أورثنا الأمل!
كان صابرا علي التحولات
يجالدها بالهدوء
يبادلها بالنضال و...
تلك التجليات!
لكن شيئا ما أرهقه:
الزمن الردئ،
الخطايا في السياسة
وجراح الوطن!
ذاك ما كان يوهنه
حد أورد جسده العطن!
... ... ...
كان فيما يكون،
أصدقهم
وأقلهم شهرة
وأهدأهم
وأكثرهم حبا للحزب ...
أبدا لا يقحم عليك شيئا،
حتي بصوته
بضحكاته أو بعزاءه،
بل حتي بحبه
أو بموته!
قد غاب الآن عمر ...
لكنه، ويا لنهجه، الآن حاضرا
براياته الباقيات
تلك التي في محافل الحزب الخالدات!
النبأ، ما قبل وما بعد:
نهار الخميس 7/12/2017م هاتفني رفيقينا الأستاذان محجوب الكناري ومنصور أبو جبل يذفان إلينا النبأ الذي يفطر القلب: عمر حسين توفي بالقاهرة صباح اليوم، سيصل الجثمان حوالي منتصف الليل للخرطوم، علي أن يواري الثري بمقابر الحاج يوسف! كنت متابعا معه مرضه الذي رحل فيه. وكم إستسهله وقلل من شأنه كثيرا، وظل في تماسكه المعهود عنه، ساعيا في يومياته لإنجاز شئون حياته الشخصية والحزبية، سائرا فيها، من إدناها إلي أقصاها، ولا يبالي، لكأن شيئا لم يكن! ومنذ أخطره الإختصاصي، قبل حوالي الثلاثة أشهر، بأن (السرطان) قد أصاب منه ( البروستاتا )، لم ينشغل أو يكترث به، كما هي عادة المصابون، فظل في وجهاته نفسها، مبتسما في وجه الحياة، حياته الشخصية وشئونه الحزبية، فقد شارك حزبه حياته، حتي غدا مسئوله السياسي بكسلا حتي رحيله! تلك كانت هي وجهاته، همومه وشغله الذي لا يبعده عنها شئ أيا ما كان! بعد العملية التي أجراها قبل سفره للقاهرة بحوالي شهر تقريبا بالخرطوم، كان كما هو، هادئا ويعيش الحياة . كنت أهاتفه، ولدهشتي كنت أجده بالخرطوم لاداء مهاما حزبية، يرتب الأمل والجدوي للعمل السياسي بكسلا، تلك المنطقة الحدودية التي تكثر بها تعقيدات وتناقضات السياسة والإجتماع التي تتطلب عملا متواصلا وتفرغا واعيا وحكيما في معالجة قضاياها، فيحول مجري الحديث بعيدا عن تفاصيل مرضه وقريبا إلي حيث القضايا السياسية والاقتصادية في الوطن وفي الشرق. إبان مرض شقيقي الراحل عثمان، وكانا أصدقاء، ظل، كعادته يهاتفني ليهون الأمر عليه وعلينا! آخر مهاتفة بيننا كانت قبل سفره للقاهرة بحوالي أسبوع، ذكر أنه بالخرطوم وسيبقي لإنجاز بعض المهام الحزبية ثم يعود لكسلا، وأقسم أن يزورني بمدني هذه المرة وهو في طريق عودته! لم يحدثني أن هنالك تطورا سالبا قد طرأ علي حالته الصحية ولا ذكر عزمه السفر للقاهرة، لكأنه علي أفضل حال كما كان يؤد أن أراه! هكذا، ظللت مطمئنا حتي فوجئت بسفره بعد خمسة أيام، كان في مهاتفاته هادئا جدا، وعاديا تماما علي قول شريف! هاتفني، للمرة الأخيرة التي سمعته فيها، من سرير مرضه قبل خمسة أيام من رحيله، كان عاديا، صوته وإتزانه وحيويته ووعيه، بل ذكر أنه ( عال العال ) وسيعود خلال العشرة أيام القادمات، تري، هل كان ذلك أملا لديه، أم واقعا أحسه في جسده ووعيه؟! عندما ذكرت حديثه هذا لصديقنا المشترك وإبن حلتنا بحي العمال بكسلا د . آدم فضل المولي، قال أن هذا النوع من السرطان يجعلك، لأنه مراوغا، في الإحساس وكأنك في أفضل حالة، بل وتكون، بسبب من هذا الإحساس، تتمتع بطمأنينة ومعنويات عالية، فلا ألم يصاحبك ولا إضطراب من أي نوع ، لكنه، بغتة، ينال منك فيوردك موتا في دهشة منك والآخرون!
ماركسي كلاسيكي، ويخطو بواقعية للأمام :
ولد عمر حسين فضل الله في مدينة بربر، وفيها تلقي تعليمه الإبتدائي والمتوسط. ثم إلتحق العام 1967م كاتبا عموميا في السكة الحديد بقسم الورش، ظل في وهج نضالات الحركة النقابية الباسلة، ناشطا وفي معية نضالاتها حتي أحيل للصالح العام في يوليو 1972م. لم يمضي عام حتي إلتحق بذات وظيفته كاتبا بهيئة الزراعة الآلية بالقضارف، ثم تخلي عنها عندما واتته الفرصة ليلتحق بالقسم العمومي بولاية كسلا متنقلا بين العمل في البلديات والوزارات المختلفة بكسلا. عمر أنتمي للحزب الشيوعي السوداني في الفترة الهامة من تاريخ شعبنا بعد ثورة أكتوبر المجيدة، ففي 1969م غدا عضوا نشطا في صفوف الحزب، وفيه، عبر مراحل النضال كلها، ظل متمترسا بقناعاته كلها، بين صفوفه ينافح عنه وعن قضايا شعبه بكل قوة وجسارة! أما ( زلزاله ) الشخصي الكبير، الذي كاد يذهب عنه وعيه بالدنيا والأشياء من حوله، فقد كان إنهيار الاتحاد السوفيتي وبعضا من الدول الأشتراكية مطلع تسعينيات القرن الماضي. لم يستوعب، فيما بدأ لي، بعقله ووعيه ومبادئه ذلك السقوط المدوي وما صاحبه من تغيرات كونية هائلة، فبدأ وكأن أحلامه وآماله كلها قد انطفأت وذهبت بعيدا عن عوالمه، عوالمه التي كانت هي نفسها حياته التي يعيشها، أبدا، من بعد ولفترات ليست بالقصيرة، لم أراه في سمت ( التوازن ) المعروفة عنه! لكن، وتلك من حظوظ الكبار في الوعي وفي الحياة، بسبب من الجواهر النقية في دواخله، وبسبب من قناعاته العميقة بأن لابد للشعوب وللكادحين أن ينتصروا ويسود العدل والسلام والحرية مهما طال الأمد. تلك كانت المرحلة ( السوداء ) في حياته، لنقل بالأحري، كانت وقتا ضروريا ليعيد، في وعيه، ترتيب القناعات والرؤي وليشحذ أسلحة جديدة لنضاله الذي حدده منذ بواكير وعيه بالحياة، أن يكون في معية الحزب الشيوعي السوداني. إذن، وبسبب من هذه الينابيع العفية في وعيه، شرع، رويدا رويدا، يستعيد قوي وعيه، بعد أن أعاد ترتيبها وشحذها، فيجعلها في خدمة الواقع وتجلياته، نعم، الواقع هو الذي أخذ، من يومذاك، يراهن عليه ويحارب من فوق حقوله كلها حتي آخر لحظات عمره الخصيب. فقد جعل مسار نضاله يكون، بالكامل، في خدمة واقع الوطن وواقع قضايا شعبه ونضالاته، جعل منه أملا وراية ونشيدا يسير علي هديه، ولا يأبه كثيرا لما يدور في العالم من حوله حيث تجري مجراها تلك التغيرات الكبيرة، علي اتساعها وعمقها وعظيم تأثيرها علي الدول والشعوب، وعلي النظريات في المعرفة والأيدلوجيا، بل في كل حقول الإبداع الكتابي والفني علي كثرة تنوعاتها المثيرة! حدد، عمر إذن، مجال رؤياه بدقة، وظل وفيا ومخلصا لتلك القناعات، فجعلها هي رفيقته طوال مسيرة حياته، إشارة وراية ودربا يمشي الهويني عليه ولا يتعب، والجسد منه، جراء تلك المثابرة العنيدة، يأخذ في التداعي، في الوهن وفي الضعف، وهو أصلا، الطويل النحيف، قليل الإنتباه إلي ملذات الحياة العادية من مأكل ومشرب. الفرح الوحيد الذي وطن نفسه عليه هو ( الإبتسام ) في وجه الحياة وفي وجه الآخر أيا ما كانوا، أبدا لم يراه أحد إلا والإبتسامة تعلو محياه وتضئ، يفعلها، لنفسه ولمن هم حوله، في أشد منعرجات السياسة وأكثرها توترا وقتامة، فلم نري له دمعا وحرقة إلا في لحظات رحيل الرفاق من قادة حزبه، ولكم بكي وأشتد عليه الألم يوم تشييع القائد الخالد نقد حد أن خشي من كانوا حوله أن ينهار وتذهب عنه الحياة!
أهذا أوان الرحيل؟!
عايش عمر وزامل كوكبة لامعة من الشيوعيين والنقابيين، كانوا معا بكسلا، في الحزب منهم الكثير، وفي النضال الديمقراطي: الراحلون محمد خير سيد أحمد، رمضان عبد الله، خضر الفكي، عثمان إبراهيم، عبد الله البشير، والأستذ الراحل عبد اللطيف شريف، والذين هم الآن في جبهات النضال، عثمان بخيت، حسن عثمان فضل، أحمد سر الختم، كمال أحمد علي، عبد الرحمن كمبال( أب عاج)، عصام إبراهيم، حسونه بدوي حجازي، إبراهيم نايل، ومعاوية صالح عبد الوهاب وصالح الخير، د. فؤاد مرسي، د. السر خيري والأستاذ حامد شيخنا ود . عمر وداعة، وأولاد خالد محمد وكمال وفيصل ، الدكاترة قسم الباري مصطفي و يوسف شيا، الشاعر النوبي الكبير كمال عبد الحليم والأستاذ محجوب الكناري وفاروق عبد الله و النقابيان التاج محمد نورومكي قسوم ، سيد أحمد الحاج الدهوتي وعصام سر الختم و غيرهم، وأنشأ صداقات عميقة المعني مع قادة أحزاب سياسية وشخصيات وطنية، القطب الإتحادي العريق محمد الحسن عثمان أحيمر، هاشم خليل، عبد الرحمن وراق وكثر آخرون. تلك الحياة، الآن، يجب أن تصان، و... كيف؟ علي رفاقه في كسلا أن ينظروا إليها كيف تكون، ذلك من باب الوفاء له، ثم، وهذا واجب مقدم أمامهم، أن يلخصوا تلك الواجبات الحزبية التي كان يعكف عليها معهم لإنجازها، لتكن إذن، روحه ومسيرة حياته ملهمة لهم في ترتيبها وإنجازها، تلك هديتهم إلي روحه التي هي، لا شك معهم وهم يخوضون نضالهم اليومي لأجل حرية الوطن والشعب ولأجل الديمقراطية والسلام، أليست تلك هي مهماتكم التي شارككم فيها، كونوا إذن علي دربه سائرون حتي النصر الوشيك. عزاء كثيرا لزوجه ورفيقة نضاله ومشوار حياته الرفيقة الأستاذه زينب الهادي وإلي أهله ومعارفه، العزاء للرفاق في الحزب بكسلا، وللحزب الشيوعي، لأصدقاءه الكثر بكسلا والقضارف والخرطوم ومدني، هكذا، نختصر ألم الفراق بداوخلنا، ونقول إليك وداعا رفيقنا الحبيب.
-----------------------------------------------------------
* الصورة: عمر يبكي نقد يوم تشيعه.
* نشربصحيفة ( الميدان ) أمس الأحد 10 ديسمبر 2017م العدد 3340.
وداعا عمر حسين، مدخل الماركسية الكلاسيكية في واقع العمل الشيوعي اليومي!
----------------------------------------------------------------------------
الوديع
الرضي،
قد رحل!
وأورثنا كل ما كان لديه،
كل ما يملك...
أورثنا الأمل!
كان صابرا علي التحولات
يجالدها بالهدوء
يبادلها بالنضال و...
تلك التجليات!
لكن شيئا ما أرهقه:
الزمن الردئ،
الخطايا في السياسة
وجراح الوطن!
ذاك ما كان يوهنه
حد أورد جسده العطن!
... ... ...
كان فيما يكون،
أصدقهم
وأقلهم شهرة
وأهدأهم
وأكثرهم حبا للحزب ...
أبدا لا يقحم عليك شيئا،
حتي بصوته
بضحكاته أو بعزاءه،
بل حتي بحبه
أو بموته!
قد غاب الآن عمر ...
لكنه، ويا لنهجه، الآن حاضرا
براياته الباقيات
تلك التي في محافل الحزب الخالدات!
النبأ، ما قبل وما بعد:
نهار الخميس 7/12/2017م هاتفني رفيقينا الأستاذان محجوب الكناري ومنصور أبو جبل يذفان إلينا النبأ الذي يفطر القلب: عمر حسين توفي بالقاهرة صباح اليوم، سيصل الجثمان حوالي منتصف الليل للخرطوم، علي أن يواري الثري بمقابر الحاج يوسف! كنت متابعا معه مرضه الذي رحل فيه. وكم إستسهله وقلل من شأنه كثيرا، وظل في تماسكه المعهود عنه، ساعيا في يومياته لإنجاز شئون حياته الشخصية والحزبية، سائرا فيها، من إدناها إلي أقصاها، ولا يبالي، لكأن شيئا لم يكن! ومنذ أخطره الإختصاصي، قبل حوالي الثلاثة أشهر، بأن (السرطان) قد أصاب منه ( البروستاتا )، لم ينشغل أو يكترث به، كما هي عادة المصابون، فظل في وجهاته نفسها، مبتسما في وجه الحياة، حياته الشخصية وشئونه الحزبية، فقد شارك حزبه حياته، حتي غدا مسئوله السياسي بكسلا حتي رحيله! تلك كانت هي وجهاته، همومه وشغله الذي لا يبعده عنها شئ أيا ما كان! بعد العملية التي أجراها قبل سفره للقاهرة بحوالي شهر تقريبا بالخرطوم، كان كما هو، هادئا ويعيش الحياة . كنت أهاتفه، ولدهشتي كنت أجده بالخرطوم لاداء مهاما حزبية، يرتب الأمل والجدوي للعمل السياسي بكسلا، تلك المنطقة الحدودية التي تكثر بها تعقيدات وتناقضات السياسة والإجتماع التي تتطلب عملا متواصلا وتفرغا واعيا وحكيما في معالجة قضاياها، فيحول مجري الحديث بعيدا عن تفاصيل مرضه وقريبا إلي حيث القضايا السياسية والاقتصادية في الوطن وفي الشرق. إبان مرض شقيقي الراحل عثمان، وكانا أصدقاء، ظل، كعادته يهاتفني ليهون الأمر عليه وعلينا! آخر مهاتفة بيننا كانت قبل سفره للقاهرة بحوالي أسبوع، ذكر أنه بالخرطوم وسيبقي لإنجاز بعض المهام الحزبية ثم يعود لكسلا، وأقسم أن يزورني بمدني هذه المرة وهو في طريق عودته! لم يحدثني أن هنالك تطورا سالبا قد طرأ علي حالته الصحية ولا ذكر عزمه السفر للقاهرة، لكأنه علي أفضل حال كما كان يؤد أن أراه! هكذا، ظللت مطمئنا حتي فوجئت بسفره بعد خمسة أيام، كان في مهاتفاته هادئا جدا، وعاديا تماما علي قول شريف! هاتفني، للمرة الأخيرة التي سمعته فيها، من سرير مرضه قبل خمسة أيام من رحيله، كان عاديا، صوته وإتزانه وحيويته ووعيه، بل ذكر أنه ( عال العال ) وسيعود خلال العشرة أيام القادمات، تري، هل كان ذلك أملا لديه، أم واقعا أحسه في جسده ووعيه؟! عندما ذكرت حديثه هذا لصديقنا المشترك وإبن حلتنا بحي العمال بكسلا د . آدم فضل المولي، قال أن هذا النوع من السرطان يجعلك، لأنه مراوغا، في الإحساس وكأنك في أفضل حالة، بل وتكون، بسبب من هذا الإحساس، تتمتع بطمأنينة ومعنويات عالية، فلا ألم يصاحبك ولا إضطراب من أي نوع ، لكنه، بغتة، ينال منك فيوردك موتا في دهشة منك والآخرون!
ماركسي كلاسيكي، ويخطو بواقعية للأمام :
ولد عمر حسين فضل الله في مدينة بربر، وفيها تلقي تعليمه الإبتدائي والمتوسط. ثم إلتحق العام 1967م كاتبا عموميا في السكة الحديد بقسم الورش، ظل في وهج نضالات الحركة النقابية الباسلة، ناشطا وفي معية نضالاتها حتي أحيل للصالح العام في يوليو 1972م. لم يمضي عام حتي إلتحق بذات وظيفته كاتبا بهيئة الزراعة الآلية بالقضارف، ثم تخلي عنها عندما واتته الفرصة ليلتحق بالقسم العمومي بولاية كسلا متنقلا بين العمل في البلديات والوزارات المختلفة بكسلا. عمر أنتمي للحزب الشيوعي السوداني في الفترة الهامة من تاريخ شعبنا بعد ثورة أكتوبر المجيدة، ففي 1969م غدا عضوا نشطا في صفوف الحزب، وفيه، عبر مراحل النضال كلها، ظل متمترسا بقناعاته كلها، بين صفوفه ينافح عنه وعن قضايا شعبه بكل قوة وجسارة! أما ( زلزاله ) الشخصي الكبير، الذي كاد يذهب عنه وعيه بالدنيا والأشياء من حوله، فقد كان إنهيار الاتحاد السوفيتي وبعضا من الدول الأشتراكية مطلع تسعينيات القرن الماضي. لم يستوعب، فيما بدأ لي، بعقله ووعيه ومبادئه ذلك السقوط المدوي وما صاحبه من تغيرات كونية هائلة، فبدأ وكأن أحلامه وآماله كلها قد انطفأت وذهبت بعيدا عن عوالمه، عوالمه التي كانت هي نفسها حياته التي يعيشها، أبدا، من بعد ولفترات ليست بالقصيرة، لم أراه في سمت ( التوازن ) المعروفة عنه! لكن، وتلك من حظوظ الكبار في الوعي وفي الحياة، بسبب من الجواهر النقية في دواخله، وبسبب من قناعاته العميقة بأن لابد للشعوب وللكادحين أن ينتصروا ويسود العدل والسلام والحرية مهما طال الأمد. تلك كانت المرحلة ( السوداء ) في حياته، لنقل بالأحري، كانت وقتا ضروريا ليعيد، في وعيه، ترتيب القناعات والرؤي وليشحذ أسلحة جديدة لنضاله الذي حدده منذ بواكير وعيه بالحياة، أن يكون في معية الحزب الشيوعي السوداني. إذن، وبسبب من هذه الينابيع العفية في وعيه، شرع، رويدا رويدا، يستعيد قوي وعيه، بعد أن أعاد ترتيبها وشحذها، فيجعلها في خدمة الواقع وتجلياته، نعم، الواقع هو الذي أخذ، من يومذاك، يراهن عليه ويحارب من فوق حقوله كلها حتي آخر لحظات عمره الخصيب. فقد جعل مسار نضاله يكون، بالكامل، في خدمة واقع الوطن وواقع قضايا شعبه ونضالاته، جعل منه أملا وراية ونشيدا يسير علي هديه، ولا يأبه كثيرا لما يدور في العالم من حوله حيث تجري مجراها تلك التغيرات الكبيرة، علي اتساعها وعمقها وعظيم تأثيرها علي الدول والشعوب، وعلي النظريات في المعرفة والأيدلوجيا، بل في كل حقول الإبداع الكتابي والفني علي كثرة تنوعاتها المثيرة! حدد، عمر إذن، مجال رؤياه بدقة، وظل وفيا ومخلصا لتلك القناعات، فجعلها هي رفيقته طوال مسيرة حياته، إشارة وراية ودربا يمشي الهويني عليه ولا يتعب، والجسد منه، جراء تلك المثابرة العنيدة، يأخذ في التداعي، في الوهن وفي الضعف، وهو أصلا، الطويل النحيف، قليل الإنتباه إلي ملذات الحياة العادية من مأكل ومشرب. الفرح الوحيد الذي وطن نفسه عليه هو ( الإبتسام ) في وجه الحياة وفي وجه الآخر أيا ما كانوا، أبدا لم يراه أحد إلا والإبتسامة تعلو محياه وتضئ، يفعلها، لنفسه ولمن هم حوله، في أشد منعرجات السياسة وأكثرها توترا وقتامة، فلم نري له دمعا وحرقة إلا في لحظات رحيل الرفاق من قادة حزبه، ولكم بكي وأشتد عليه الألم يوم تشييع القائد الخالد نقد حد أن خشي من كانوا حوله أن ينهار وتذهب عنه الحياة!
أهذا أوان الرحيل؟!
عايش عمر وزامل كوكبة لامعة من الشيوعيين والنقابيين، كانوا معا بكسلا، في الحزب منهم الكثير، وفي النضال الديمقراطي: الراحلون محمد خير سيد أحمد، رمضان عبد الله، خضر الفكي، عثمان إبراهيم، عبد الله البشير، والأستذ الراحل عبد اللطيف شريف، والذين هم الآن في جبهات النضال، عثمان بخيت، حسن عثمان فضل، أحمد سر الختم، كمال أحمد علي، عبد الرحمن كمبال( أب عاج)، عصام إبراهيم، حسونه بدوي حجازي، إبراهيم نايل، ومعاوية صالح عبد الوهاب وصالح الخير، د. فؤاد مرسي، د. السر خيري والأستاذ حامد شيخنا ود . عمر وداعة، وأولاد خالد محمد وكمال وفيصل ، الدكاترة قسم الباري مصطفي و يوسف شيا، الشاعر النوبي الكبير كمال عبد الحليم والأستاذ محجوب الكناري وفاروق عبد الله و النقابيان التاج محمد نورومكي قسوم ، سيد أحمد الحاج الدهوتي وعصام سر الختم و غيرهم، وأنشأ صداقات عميقة المعني مع قادة أحزاب سياسية وشخصيات وطنية، القطب الإتحادي العريق محمد الحسن عثمان أحيمر، هاشم خليل، عبد الرحمن وراق وكثر آخرون. تلك الحياة، الآن، يجب أن تصان، و... كيف؟ علي رفاقه في كسلا أن ينظروا إليها كيف تكون، ذلك من باب الوفاء له، ثم، وهذا واجب مقدم أمامهم، أن يلخصوا تلك الواجبات الحزبية التي كان يعكف عليها معهم لإنجازها، لتكن إذن، روحه ومسيرة حياته ملهمة لهم في ترتيبها وإنجازها، تلك هديتهم إلي روحه التي هي، لا شك معهم وهم يخوضون نضالهم اليومي لأجل حرية الوطن والشعب ولأجل الديمقراطية والسلام، أليست تلك هي مهماتكم التي شارككم فيها، كونوا إذن علي دربه سائرون حتي النصر الوشيك. عزاء كثيرا لزوجه ورفيقة نضاله ومشوار حياته الرفيقة الأستاذه زينب الهادي وإلي أهله ومعارفه، العزاء للرفاق في الحزب بكسلا، وللحزب الشيوعي، لأصدقاءه الكثر بكسلا والقضارف والخرطوم ومدني، هكذا، نختصر ألم الفراق بداوخلنا، ونقول إليك وداعا رفيقنا الحبيب.
-----------------------------------------------------------
* الصورة: عمر يبكي نقد يوم تشيعه.
* نشربصحيفة ( الميدان ) أمس الأحد 10 ديسمبر 2017م العدد 3340.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق