حنا مينه،
نزولا علي وصيتك، لا نبكي رحيلك، فدعنا نسامرك إذن!
اليوم الثلاثاء، أول أيام عيد الأضحي الموافق 21/8/2018م، أعلنت وكالة (سانا)
السورية الرسمية خبر رحيل الروائي اليساري الكبير حنا مينه. وكان حنا قد ولد بمدينة اللاذقية الساحلية عام 1924م. كتب حنا، بخط يده، بتاريخ 17/8/2008م أغرب ( وصية ) عرفها التاريخ الشخصي للأدباء والمفكرين علي الإطلاق. فقد كتب يقول:
(عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدّد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي، في أية وسيلة إعلامية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطا في مماتي).
نزولا علي وصيتك، لا نبكي رحيلك، فدعنا نسامرك إذن!
اليوم الثلاثاء، أول أيام عيد الأضحي الموافق 21/8/2018م، أعلنت وكالة (سانا)
السورية الرسمية خبر رحيل الروائي اليساري الكبير حنا مينه. وكان حنا قد ولد بمدينة اللاذقية الساحلية عام 1924م. كتب حنا، بخط يده، بتاريخ 17/8/2008م أغرب ( وصية ) عرفها التاريخ الشخصي للأدباء والمفكرين علي الإطلاق. فقد كتب يقول:
(عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدّد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي، في أية وسيلة إعلامية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطا في مماتي).
وشدد في وصيته التي أثارت تعاطف المثقفين والقراء إلى الحد الأقصى، لما
تضمنته من إشارات حزينة عن نفسه، على أنه كرّس أدبه في صالح (نصرة الفقراء والبؤساء
والمعذبين في الأرض).
وبعد أن يتقدم بالاعتذار، إلى جميع أقربائه وأصدقائه، يطلب منهم أن لا
يحمَل نعشه، إلا بوساطة (أربعة مأجورين) من دائرة دفن الموتى أو من الكنيسة التي سيتم
تأبينه فيها، إلى إهالة التراب عليه، في (أي قبر متاح) ثم ينفضون التراب عن أيديهم،
كما شدد في الوصية، ويعودون إلى بيوتهم: (فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة).
وأكد الروائي الراحل، في الوصية، على أنه لا يريد أي حزن وأي بكاء وأي
تعاز، من أي نوع، كما قال، وشدد على أنه لا يريد حفلة تأبين له. موضحاً في الوصية بعض
تفاصيل ملكيته التي ترك بعضها لزوجته، وبعضها الآخر لـ(من يدّعون) أنهم أهله، كما رسم
في خطّه منذ 10 سنوات وأربعة أيام، بالضبط.
هكذا، ونزولا علي وصيته، لن نرثيه، لكننا نسامره الآن!
هكذا، ونزولا علي وصيته، لن نرثيه، لكننا نسامره الآن!
مسامرة مع حنا مينه.
* " سأل الطفل
أمه : " لماذا يا أمي تبكي نساء البحارة ؟ " ، قالت الأم : " لأن في
عيونهن ماء مالحا يابني ! " . أما أنا فقد ولدت وفي فمي هذا الماء المالح ، لكنه
، هذه المرة ، كان ملح الشقاء ، وملح التجارب ، وملح العذاب ، جسديا وروحيا ، في سبيل
العدالة الاجتماعية ، صبوة البشرية إلي الخلاص " .
لذلك كان بدهيا أن أطرح ، منذ وعيي الوجود ، أسئلتي علي هذا الوجود ،
وأن أتعمد ، في البحر بماء العاصفة ، وأن أعاين الموت كفاحا ، في البر والبحر معا ،
وما الحياة – قولة الطروسي ، بطل " الشراع والعاصفة " – إلا " كفاح
في البحر وفي البر " معا ، وبغير انقطاع ، لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة ،
أمنا جميعا ! " .
- هذا عن الطفولة
الباكرة ، تلك هي أحلام الطفولة وقد تعمدت بماء البحر منذ البواكير اليانعات ، وتلك
هي البيئة من حولك في تلك الأيام البيضاء والزرقاء والحمراء ، ليس من صارخ في براريها
إلا الكفاح في البر والبحر كما قال " الطروسي " ، كيف وقفت علي قدميك وكيف
كان المسير الخشن ؟
* كنت قد بدأت في
الثانية عشرة بعجن الصخرة الملعونة ، لكي أصنع منها كسرة خبزي . وكلمت الورقة ، وصرت
من بعد ، كاتب رسائل الحي ، لأنني الولد الوحيد ، في حي المستنقع ، الذي تعلم فك الحرففي
مدينة إسكندرونة ، في اللواء العربي السليب ، ومن عجب أن كل تلك الرسائل كانت مبللة
بالدمع ، سواء التي أكتبها للناس ، أو التي أقرأها لهم ، فالشكوي من الفقر والمرض ،
والموت ، تآبين مفجعة في السطور . وكان الذي أكتب له رسالة ، رجلا أو أمرأة ، يملي
علي ديباجة تبدأ ، عادة ، بمثل هذا التفجع : " آخ ! علي آخ ! " . هذا ما
أنبت في نفسي ، في تلك الطفولة المبكرة ، الشقية ، حبا لا ينتهي للعدالة ، للسعادة
، للفرح ، وزوال الشقاء من الدنيا . وبعد شهادتي الإبتدائية ، وهي الوحيدة التي حصلت
عليها ، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات . كان هذا المعلم ، ويدعي عفيف الطويل
، مشبوها ، فقد ضبط ، في أول مايو ، يعلق بيارق صغيرة حمراء علي أعمدة الهاتف ، وفي
بيته ، حيث يعيش مع أخته الخياطة ، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع ، الذي
كان موضة تلك الأيام . كان معلمي أسمر ، طويلا ، فيه طيبة ، وفيه ملاحة ، لكنه بسيط
، لا يخطر لك ، وأنت تراه ، أنه في حلقة ما ، تعقد اجتماعاتها في المغائر ، علي ضوء
الشموع . ولأن معلمي أمي ، فقد كان يأخذني ، مساء ، لأقرأ له بعض النشرات . وفيها ،
لأول مرة ، قرأت كلمة فلسفة .
- صف لي ، يا حنا
، مادار بينك ومعلمك الأول ، ذلك الإنسان الأمي ، التقدمي و يري العالم جيدا !
* كنت قد سألته مرة
حين قرأت منشوراته تلك ولفتت بصيرتي كلمة " فلسفة " :
قلت أسأله : ما معني فلسفة يامعلمي ؟
قال : معرفة القوانين ...
0 أي قوانين ... ؟
0 القوانين الغربية
التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ ، والفقر ، والغني ...
0 وأين يبيعونها
... ؟
0 في بلاد "
بره " .
0 ولماذا لا يبيعونها
عندنا ؟
0 لأنها ممنوعة
... وهي مكتوبة بالفرنجي ...
0 وكيف عرفت بها أنت
؟ !
0 هذا سر ... أنت
صغير بعد ... لا تسألني عن الأسرار !
أضاف :
0 الفلسفة كالبحر
... شئ واسع ، عجيب ، لا يفهمه إلا المتعلمون جدا .
0 ومن الذي صنعها
... ؟
0 رجل نسيت أسمه
.
خ إجتمعت به ؟
0 هذا رجل ألماني
له لحية كبيرة ... أنا رأيت صورته فقط .
0 وكيف فهمت كلامه
... ؟
0 أنا لم أفهم كلامه
... الفلسفة يابني علم صعب . والفيلسوف رجل عالم ، قرأ كل ما كتب عن العالم ، ويعرف
كل شئ ، رأسه يتسع للمعرفة ، كما يتسع البحر للماء !
بعد هذا الحوار مع معلمي ، رحت أتخيل رأس هذا الفيلسوف كبيرا كالجبل ،
وجسمه عملاقا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها ، وأنه يحفظ في هذا الرأس ، كل ما
كتب ، وأنه عظيم ، لا شبيه له بين الرجال الذين أعرفهم .
- ذلك أول تعرفك علي
كلمة " فلسفة " وحوارك الحائر ، الملئ بدهشة الأسئلة ، وما من أجابات ، لكأنك
رأيت ملامحا " غمامية " لوجه لم تتبين تفاصيله ... فكيف كان مدخلك الحقيقي
لهذه العوالم الفسيحة الفاتنة ، التي غدت ، في ما بعد ، أيقونات وثيمات وأضواء في كل
أعمالك تقريبا : الفلسفة والبحر ، كيف وطأت أول العتبات ؟
* ذلك كان عبده حسني
، وقد قتل في الحرب الأهلية اللبنانية ... وا أسفاه ! وهو نفسه العامل خليل في روايتي
" الثلج يأتي من النافذة " . قرب صورة الفيلسوف إلي ذهني حين قال لي : الفيلسوف
يشبه أبن عبده يني . كان هذا صاحب المطبعة الوحيدة في أسكندرونة ، وله أبن يقرأ كثيرا
، ويمشي في الشوارع وحيدا ، شارد النظرات ، صموتا . مفكرا . وقد سمعته يخطب لأول مرة
، حين زار سياسي كبير أسكندرونة عام 1936 ، وخطب في سينما روكسي . مزقت معطفي اليتيم
وأنا أزاحم الناس للدخول وسماع ما سوف يقال في ذلك الاجتماع . منذ ذلك اليوم صار للفيلسوف
احترام كبير في نفسي ، وأرتسمت له صورة أقرب إلي النحول ، والشعر المنفوش ، والنظرات
الشاردة ، والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب " ألف ليلة وليلة " . ورحت أحلم
علي طريقتي الصبيانية ، أن أصير فيلسوفا ، إذا ما قرأت كثيرا ، علي ضوء فانوس الكاز
، بعد أن أغلق دكان الدراجات علي نفسي ، عقب انصراف معلمي عفيف الطويل . ولإضفاء المظهر
الفلسفي علي نفسي ، طفقت أنفش شعري ، وأسير وحيدا ، وأحمل كتاب " المدارج
" في يدي ، وأتعمد قلة الكلام ، وأقول لأترابي متباهيا : أنا أعرف رجالا لاتعرفونهم
، رجالا يحبون الفقراء ويكرهون الفرنسيين والحكومة التي صنعوها لنا ! وحين سجن معلمي
عفيف ، ونقل مع بعض رفاقه إلي حلب ، ليحاكم أمام المحكمة الفرنسية المختلطة ، أغلقت
الدكان وعملت في الميناء ، وأختلطت بالعمال ، وصرت أنزل البحر في مواعين الشحن . وهناك
أرسم علي الأكياس ، بحبر الكوبيا ، بعض الأرقام والماركات ، وأصغي ، من طرف خفي ، إلي
ما يقوله العمال عن " السنديكا "، يعنوا بها النقابة .
- العمال ، النقابة
، الميناء ، السفن ، البحر ، المشورات والسجن ، ما علاقة كل ذلك بالفلسفة ، ما وجدت
عندهم حتي أوصلوك لصف الفلسفة و ... هذا البحر الهائل ، الشاسع و المعرفة ؟
* أتذكر الآن ، ذات
يوم ، عند الظهر علي ما أذكر ، كنا قد أفرغنا حمولة الماعون ، وتأخر الزورق الذي يأتي
من الميناء ليقطرها ، فجلسنا ، العامل فاضل وأنا ، في قاع الماعون ، نتبادل الحديث
، ، عن المدرسة والشهادة الإبتدائية ، وعما أقرأ من كتب ، وما أن أنس فاضل إلي ، وعرف
أنني أحب المطالعة ، وكنت أعمل أجيرا عند عفيف الطويل ، حتي أخرج من تكة سرواله ورقة
صغيرة مطوية بعناية ، هي المنشور الأول الذي وقع في يدي . كان فيه ذكر للفلسفة ، فدهشت
لأن عاملا مثله يحمل منشورا ولا يخاف ، وأنه من جماعة عفيف الطويل ، وعبده حسني ، وإن
لم يذكر هو هذين الأسمين ! قرأت المنشور ولم أفهم ما فيه إلا قليلا ، كان فاضل في الأربعين
تقريبا ، فقلت له : يا عم فاضل ، أنا أقرأ " المدارج " فأفهمه ، وأقرأ الإنجيل
وكدت أحفظه في المدرسة الإبتدائية ، لكنني في هذين الكتابين ، لم أقرأ أسم فيلسوف ولا
كلمة فيلسوف ! قال العم فاضل : في هذه الكتب لا يذكرون ، هذا خطر ، ولا يشرحون كلمة
فلسفة ، لأنها صعبة . أنا نفسي لا أعرف ما هي ، لكنني ، نتيجة التجربة ، صرت فيلسوفا
علي طريقتي ... أعني تعلمت أن الفلسفة ليست " أكلة مجدرة " ، بل هي عمل
... أن تعمل ، كما نعمل نخن ، تصير فيلسوفا ولو بغير كتب . تأليف نقابة مثلا ، هذا
ما تقول به الفلسفة ، أن تحتفل بأول أيار ( مايو ) ، عيد العمال ، ، هذا فلسفة ، أن
تتظاهر ضد الفرنسيين ، هذا فلسفة ، أن تثق أن الفقراء لن يبقوا فقراء ، وأن أغنياءنا
لن يظلوا يمتصون دمهم ، هذا فلسفة ، أن تعرف أن في بلاد " المسكوب " قامت
دولة العمال والفلاحين ، وأنها معنا ، هذا فلسفة ... وأخيرا ، أن تؤمن أن العدالة ستنتصر
في كل مكان ، هذا فلسفة !
- إذن ، تعرفت علي
الفلسفة ، أول ما تعلمته منها ، من العمال ، من السياسة في واقع الحياة وراهنا إن جاز
لي أن أصفها هكذا ، لا من النظريات المثوثة في الكتب ؟
* نعم ، وأعترف الآن
، إن هذا العامل البسيط علمني أبجدية الفلسفة ، جعلها مفهومة في نظري . وقد سعيت ،
في ركضي وراء الرغيف ، إلي تطبيق نظريته ، وهي – كما تري – ترجمة عملية لمضمون الفلسفة
التي قرأتها في المظاهرات ضد فرنسا ، وفي رشق رجال البوليس والدرك بالحجارة . ويوم
زار زعيم عربي أسكندرونة قادما من أنطاكية ، وأعتقلته السلطة الفرنسية ، تجمهرت مع
الناس أمام السراي ، مطالبين بالإفراج عنه ، ورشقنا السراي بالحجارة ، فكسرنا زجاج
نوافذها ، فكان أن أطلقوا النار علينا ، وقتل زميل لي علي مبعدة أمتار مني !
- مهلا ياحنا ، كنت
أظنك في اللاذقية مقيما ، وأنت الآن في أسكندرونة ، و... البحر ، البحر ياحنا ؟
* صبرك ، شوي صبرك
ياصديقي ، سأريك وأوصلك إلي حيث رأيتني . دارت بنا الأيام دورانها ، دخلت تركيا لواء
الإسكندرونة ، فهاجرنا – مضطرين – إلي اللأذقية . عملت هناك في قطاف الزيتون ، قمت
بتوزيع الصحف ، تعلمت مهنة الحلاقة ، فتحت دكانة صغيرة قريبا من الثكنة . وكنت أقفل
دكاني كلما سمعت بإضراب ، أو خرجت مظاهرة . ثم حضرت اجتماعا لعصبة العمل القومي ، تكلم
فيه رجل يلبس الفيصلية ، وبيده عصا ، وعلي الجدار خريطة للبلاد العربية . وكل ما وعيته
من كلامه ، أن علينا أن نناضل لتوحيد كل هذه البلاد ، وبذلك نصنع دولة كبيرة تقاوم
الفرنسيين والإنجليز وتستعيد اللواء وفلسطين ، ومنذئذ صارت الوحدة العربية حلما جميلا
، ثوريا ، في ذاتي !
- وأين هي القراءة
، إذن ، وأنت في خضم هذا البلبال الثوري المضطرم ، كيف تلمست الخطوة إلي القراءات ،
التي ، لا شك ، هي من قادتك - من بعد – إلي بساتين الكتابة ورهقها الجميل ؟
* في دكان الحلاقة
قرأت كثيرا . كان يجتمع عندي بعض طلاب المدارس ، وحتي بعض الذين انتسبوا إلي الجامعة
في دمشق ، عند عودتهم إلي اللأذقية ، ويناقشونني في بعض المسائل ، وقد أفدت من هذه
المناقشات ، ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرا . وفي أحدي الليالي زارني رجل حلبي بطربوش
، وقدم إلي نفسه بأسم عبد الجليل سيرس ، وقال إنه سمع بي ، وإنه يزور اللأذقية في
" مهمة " خاصة ، هدفها إنشاء النقابات وأشياء أخري . وسألني عما أقرأ ، وأوصاني
بمطالعة بعض الكتب ، وأعطاني كراسات صغيرة ، من بينها كراس مترجم ، مؤلفه " سيجال
" علي ما أذكر ، ومنه تعلمت المبادي الأولي للفلسفة ، وأصبحت ، شيئا فشيئا ، مثقفا
في نظر نفسي ، وازددت حماسة للنضال ، ودخلت السجن مرات عديدة ، وضربني رقيب في الدرك
يدعي أبو حمد ، أشتهر بالقسوة وقوة العضل وعدم الخوف ، لأنني نشرت رسالة ضد فظائعه
في جريدة سورية تصدر في دمشق ، ضربني حتي إمتلأ رأسي بالكدمات ، وإزرق وجهي ، وتجمع
الدم في عيني . وكتب ، يومها ، المرحوم وصفي البني مقالا استهله ببيت من الشعر يقول
: " وظلم ذوي القربي أشد مضاضة " ، علي اعتبار أن هذه الأعمال المنافية للديمقراطية
، يقوم بها رجال الدرك السوريون ، وقد تعلموها من الفرنسيين ، وبزوهم فيها !
- كان هذا أول التعذيب
من الدرك السوري ينال منك ، أول جراحات الذي بدأ يري نفسه في آهاب الفيلسوف ، مناضلا
لأجل الكاحين والحياة الأفضل ، كيف رأيتها أول نهشات الذئاب للفرايس ؟
* يااااااه ، بدأت
أكتب وجعي ، بدافع من هذا التعذيب ، كتبت مسرحية أنا بطلها ، وحوادثها تغير العالم
، أو تصنع عالما جديدا في ستة أيام ... وأرسلت مقالة إلي جريدة " الأحرار
" في بيروت ، أستحلف فيها صاحبها ، علي طريقة جبران خليل جبران ، بالمرأة التي
هي أكسير روحه ، أن ينشر المقالة ، لكنه لم يفعل ، وإن كان قد بعث لي برسالة صغيرة
، يقول فيها إن مقالتي غير صالحة لأسباب عدة ، أهمها أن فيها أفكارا لاتنسجم وخطة الجريدة
!
- وهل توقفت جراء
هذا " الرد " المحبط ، الذي قذفه صاحب الجريدة في وجهك المشرئب إلي رؤي الفيلسوف
وحمي الكتابة والنضال ؟
* لا ... ما توقفت
أبدا . كانت الصحف ، آنذاك ، والحرب العالمية الثانية مشتعلة ، بأربع صفحات ، فلم أيأس
، فكتبت مقالة لجريدة أخري لم تنشرها ، لكنها أشارت إليها بأربعة أسطر ... غمرتني السعادة
، لأنني رأيت أسمي مكتوبا في صحيفة لأول مرة ،كتبت قطعة صغيرة بعنوان " طفلة للبيع
" نشرتها أحدي المجلات ، فعمدت نفسي كاتبا ، لا بواسطة القديس يوحنا ، ولا في
نهر الأردن ، بل في بحر الأذقية ، وشكلت قلما في سيالة سترتي !
- ذلك كان حالك ،
حين " عمدت " نفسك كاتبا ، وبدأ نجمك يصعد ، ويتألق و يتعملق الكاتب فيك
، وتلك اللاذقية التي أحببتها و ... بحرها وخلدتهما في أعمالك الكبيرة ، لكن كيف غادرتها
، وكيف دخلتها ، دمشق المدينة أشرعت ، منذ زمان ، نوافذها للشعراء والكتاب والفنانون
من سوريا ومن خارجها ، هل كانت رحيمة بك كما اعتادت مع الآخرين ، هل أحتضنتك ياحنا
؟
* يااااااه ، كم كنت
قاسيا علي قلبي حين هاجرت من اللاذقية العام 1947 ... كانت دكانة الحلاقة قد غدت مشبوهة
، ولم يعد أحد يحلق عندي ، فقصدت بيروت أول أمري ، ولم أتوفق في الحصول علي عمل بها
فتركتها إلي دمشق . وفيها عملت مجانا في الصحافة لمدة ثلاثة أشهر ، وكان معلمي ، أي
سكرتير التحرير ، المرحوم أحمد علوش ، الذي صار صاحب مجلة " الصرخة " فيما
بعد . في دمشق اتصلت بالمثقفين ، وأشتركت في تأسيس " رابطة الكتاب السوريين
" ، ثم رابطة " الكتاب العرب " . وقرأت
" رأس المال
" ، فصارت معرفتي بالفلسفة أوثق. لكن ماقاله لي العامل " العم فاضل
" في قاع سفينة الشحن , ظل اساسا عمليا لنشاطي الحياتي ، ودخل باشكال مختلفة ،
في كتاباتي الادبية .. ولم يخرج !
- الفلسفة ، إذن ،
مرة أخري ، بأفق سياسي وثقافي عال ، هذه المرة ، أتت هي إليك أم استدعيتها لساحتك وقد
أصبحت دمشقيا في بعض وجوهك ؟
* يمكنك ، الآن ،
أن تراها ، تلك هي ، بسطور ، حكايتي مع الفيلسوف " الذي رأسه بحجم الجبل ، وجسمه
عملاق كرجل أسطوري " ، وكلما رأيت صورته الآن ، بلحيته البيضاء ، وجبينه العريض
الوضاء ، وشعره المسترسل ، ونظرته النجمية ، ابتسم لطفولتي التي بعد بها العهد ، بمقدار
ما أقترب هذا الفيلسوف من قلبي ونفسي ، لأنه ، بفكره العظيم ، أعطاني مفهوما عن العالم
، منحني الرؤية التي فتحت عيني ، وأضفي علي مهنتي الأدبية ، لا الوعي وحده ، ولا المعرفة
وحدها ، بل الجمالية أيضا ! يخطئ من يظن أن إنسانا قادر علي فهم العالم دون أن يقرأ
الفلسفة ، علي هذا الفيلسوف أو غيره ، ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر علي الكتابة دون
الاطلاع علي الفلسفة ، ليس بصفتها " وصفة " ، بل كمرشد عمل في السياسة والأدب
علي السواء .
الآن ، من الذي بقي ، في بلادنا وفي الدنيا ، يجهل الفلسفة والفلاسفة
، إذا كان مثقفا ؟ ومن لم يستفد ، كثيرا أو قليلا ، من حقائق الفلسفة التي صارت منارة
للمبحرين في المحيطات ، والسائرين في الصحاري ، والبائسين في المدن والأرياف ، والعاملين
في الجامعات والمكاتب والمصانع والحقول ؟
أتذكر ، سئل غوركي مرة : كيف تعلمت الأقتصاد ؟ كان عندئذ يعمل حمالا علي
نهر الفولغا ، فقال : "
" أنظروا إنه
منقوش علي ظهري ! " . تسألونني ، كيف تعرفت إلي الفلسفة ؟ ، أقول لكم : في قاع
سفينة شحن ، ومنذ ذلك اليوم الحزين ، أصبحت مفاهيمها منقوشة علي قلبي ، راشحة ، مع
عرق التعب ، من مسام جلدي !
- لكن ، عليك أن تخبرني
عنه ، من هو ذلك الفيلسوف ياحنا ، شوقتني ، أيضا ، إليه ؟
* ومن غيره ياصديقي
، ماركس ، كارل ماركس ، هو الذي جعلني كيف أراهما : العالم والحياة !
- كنت قد حذرته ،
أثناء حديثك ، فعرفته ، لكنني أحببتك تنطق بأسمه ، وها قد فعلت !
تلك حكاية الفلسفة معك ، ماذا عن البحر ، عشقك الأخر ، الكبير وعوالمه
المثيرة ، حتي قلنا أنك روائي البحر في أدبنا العربي كله ، ولا أحدا ينازعك عشقه ولا
الكتابة عنه ؟
* صدقت ، هو فعلا
عشقي الكبير ، لا شك في ذلك عندي ، ولي معه قصة أخري طريفة ... كنت في الثامنة من عمري
، يوم أخذني الإخوان قلفاط ، من زملاء المدرسة بالصف الأول ، إلي البحر في الإسكندرونة
... وقد زعم أصغرهما ، نقولا ، أن الجرأة وحدها ، هي التي تعلم الإنسان السباحة ..
سألته :
- كيف ؟
قال :
- أن تذهب إلي رأس
" الصقالة " وترمي نفسك في البحر .
- وإذا غرقت !؟ .
قال الأخ الأكبر دميان :
- يكون هذا أفضل
!
قلت خائفا :
- كيف يكون هذا أفضل
؟ الغرق يعني الموت !
فكر دميان ، وكانت له عينان ، جفونهما حمراء ومقلوبة ، نظر إلي بإستخفاف
وقال :
- من لا يعرف أن يسبح
، من الأفضل له أن يموت !
أنا ، الآن ، أري هذا القول حكمة ! دميان كان حكيما علي طريقته . فمن
لا يعرف أن يسبح ، فمن الأفضل له أن يموت . وقد قال أبو القاسم الشابي ، مترجما هذه
الحكمة النثرية إلي شعر :
" ومن يتهيب
صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر " !.
إلا أنني ، في تلك السن من طفولة مبكرة وعليلة ، ما كنت أعرف الحكمة ولا
الشابي ولا صعود الجبال أو المغامرة في البحر ، لذلك قلت :
- ألا يمكن أن أتعلم
السباحة علي الشط ؟
قال نقولا :
- يمكن ؟
رد دميان ، أكبرنا سنا ، وقائد طفولتنا :
- أنا أقول لا يمكن
، يعني لا يمكن !
سكت . تلبستني حيرة ، تقلدتني مخاوف ... سرت وراء دميان وأنا أرتجف من
الخوف والبرد ، لأننا كنا في الخريف ، وكنت ألبس سروالا داخليا من الشيت الأزرق ، ومشينا
علي الصقالة ، إلي أن صرنا في البحر ، علي عمق أمتار ، فألقي دميان بنفسه في الماء
، غط وطلع . فعل أخوه نقولا مثله ، بقيت وحيدا ، أري وأتحسر علي نفسي ، إلي أن قررت
أن أعود إلي الشاطئ الرملي ، حيث أنزل الماء ، كما يفعل الأطفال الذين في مثل سني ،
وفجأة صاح بي دميان :
- إلي أين ؟
- إلي الشاطئ !
- يعني إلي الرمل
!؟
- كل الأطفال يسبحون
هناك!
- أنت يجب أن تسبح
هنا !
- لماذا ؟ !
- هكذا ... أنا لا
أحب الخوافين !
- أنا أخاف لأنني
لا أعرف العوم !
- علي الرمل لا يعوم
أحد ، ولا يتعلم أحد ... فهمت ؟
- ...
- تعال تفرج إذن كيف
نسبح نحن ... راقب فقط حركاتنا ، الأيدي والأرجل مثلا ... ألا تعرف الضفدعة ؟
- هذه أعرفها .
- أفعل مثلها .
- أين ؟ في
" بركة " المدرسة ؟
- " بركة
" البحر !
- الضفادع لا تعيش
في البحر .
- بلي ! تعيش ...
تعال وأنظر إليها !
سرت إلي رأس الصقالة ، كنت راغبا حقا برؤية ضفادع البحر . وقفت ، حملقت
، انتقلت من طرف إلي آخر ... لم أجد شيئا ، لم أر سمكة واحدة ! كانت هناك فلائك ، مواعين
، وكان عمال وبحارة ، وفي البعيد كانت سفينة ترسو ، وكان سباحون فتيان يتسابقون نحوها
. وكان الإخوان قلفاط ، نقولا ودميان ، قد حدثاني أن هناك ، علي طرف السفينة سلما يصعدون
عليه بسهولة ، حيث يحظون ، من القبطان ، بالشيكولا والبسكويت ، ويتفرجون علي غرائب
السفينة ، مثل السطح ، والقمرات ، والعنابر ، وحتي غرفة القبطان ، وكذلك – وهذا هو
الأهم – يرون النساء بثياب البحر ، شبه عاريات تقريبا !
وفجأة دفعت إلي البحر ، عند رأس الصقالة !غطست وأنا أصرخ ، أرتفعت إلي
فوق ، هبطت إلي تحت ، شربت الماء المالح ، تابعت الصراخ ، وعندئذ ألقي دميان نفسه ورائي
، أمسكني من يدي قائلا :
- لا تخف !
هتفت من حلاوة الروح ، وأنا أبكي :
- أنا أغرق يا دميان
... أنقذني !
قال دميان :
حرك يديك ورجليك فقط ... أفعل مثل الضفدعة ... هيا ، سأتركك !
تركني ! ومن جديد رحت أتخبط في البحر ، وأنا أحرك أطرافي ، إلي أن عمت
، فعاد يمسكني من كتفي قائلا :
- برافو ... تابع
ياضفدعة برية !
تابعت إلي أن تعبت ، شربت كثيرا من ماء البحر ، لم أعد أحتمل . تعلق دميان
بقائمة الصقالة الحديدية ..
سحبني نحوه وقال :
- تعلق أنت أيضا ،
أفعل مثلي ... أسترح ..
أسترحت ، قال دميان :
- مرة أخري إلي البحر
...
أرغمني علي العودة إلي الماء ، عدت دون صراخ ، تخبطت من جديد ، عمت من
جديد ، وقف علي مقربة وقال :
- تعال إلي ...
حاولت ! حاولت ! وصلت إليه ، أسترحت وأنا أتمسك بكتفه ، دفعني كي أعوم
، عمت ... ابتعد وقال :
- تعال إلي ...
ذهبت بصعوبة بالغة نحوه ... وعندئذ قال :
- يكفي اليوم ...
تعلق بالصقالة ، هيا نصعد .
عندما صرنا فوق الصقالة الخشبية ، أستلقيت تعبا ، لم أعد خائفا ، إلا
أنني تقيأت ماء البحر . ودميان ينظر إلي ويضحك ، ثم جاء واستلقي إلي جانبي قائلا :
- الضفدع وحده يسبح
في " البركة " ، أما الإنسان فإنه يسبح في البحر ... وفي البحر العميق جدا
يكسر ، مرة واحدة ، خوفه من الغرق ... يصير دلفينا !
نظرت إليه بكره ، لم أتكلم ، ما كنت قادرا علي الكلام ، عيناي فقط ، راتا
السماء الزرقاء ، عالية جدا ، وطيور النورس البيضاء تحوم قريبا مني في الفضاء ، والريح
رخية ، والسحب البيض ، بتشكيلات بديعة ، تندفع نحو الأفق ، وتأخذني معها . وبعد ذلك
، عندما بلغت السادسة عشرة من عمري وعملت في الميناء وعلي المراكب ، قلت للريس الطنحر
، بعد أن رويت له قصتي :
- هل صحيح أن الفرق
الوحيد ، بين الإنسان والضفدع ، هو " البركة " والبحر ، كما يقول دميان ؟
رازني وقال :
- صحيح ... دميان
هذا كان " فلسفونا " بحريا !
- فيلسوفا ياريس
!
- نعم ! كما تقول
... لو سبحت علي الرمل ، ما كنت اليوم معي علي المركب .
وبعد أن تنهد قال :
- البحر للإنسان و
" البركة " للضفدع ، هذه هي القصة كلها ! أين صار دميان هذا ؟
- لا أدري ... أفترقنا
منذ تركنا المدرسة ، سمعت أنه هاجر إلي بيروت ...
قاطعني :
- يعني إلي البحر
؟
أضاف :
نعم ! نعم إلي البحر ... وإلا فكيف !؟ أسمع ! النسر له الجبل ، والبحار
له البحر ، تعرف لماذا ؟
- لأنه إنسان !
- تماما ، ولكنه إنسان
نسر ... نسر بحري ، الطير يصعد إلي فوق ، ونحن ننزل إلي تحت ، إلي الأعماق ... الجبال
والأعماق ، والموت ، هناك وهنا ، بكرامة ... إذا مت ، وكلنا سنموت ، فلا تخش القاع
... إذا مت ! في البحر ، فإنك تموت بشكل لائق ، وهذه حال النسر والجبل ... موت النسر
يكون في الأعالي !
قلت :
- ولكن الإنسان أقوي
من النسر ياريس !
- لا ، هما أخوان
! هما رجلان ، وكل منهما له ساحته ... المسألة ، كلها ، تتوقف علي جواب هذا السؤال
: هل أنت رجل أم ضفدع ؟
قلت :
- رجل !
ربت علي كتفي وقال :
- قل هذا غدا ، ودون
كلام ، للعاصفة حين تهب !
قلت : سأفعل !
وفعلت ... !
كان هذا درسا بحريا ، لم أنسه أبدا ، حياتي كلها !
- هكذا ، إذن ، ركبت
البحر ، فأصبح عالما إليك وياله من عالم ، به عوالم لا حد لها ... ورأيت في حكايتك
عن البحر " حكاية " بديعة جدا ، وبها حكم ، وفلسفة ، ومغامرة بحرية وأحلام
...
لن أكون في سؤالك ثانية ، أكتفيت ، منك الليلة ، بحكاية الفلسفة والبحر
، لم تدع لنا الحكاية صقالة نقف عليها في مواجهة البحر ، لأسألك عن الكتابة ، عن القصة
والرواية ، كيف تكتبهما بهذه السلاسة ؟
* ههههههههه ، دعنا
الليلة ، فقد أكتفيت كما قلت ، وتعبت أنا ، أريد أن أسترح عن الأسئلة برؤية البحر والميناء
والنوارس ، والريح والعاصفة ، والسفينة حين تداعبها الأمواج ، كفاية بقي !
لملمت أوراقي ، ورحت ذاهبا عنه ، بعد أن ودعته ، هذا القبطان البحري ،
الكائن البحري الذي يجد بحرا في الكتابة أيضا !
-----------------------------------------------------------------------------
* الحوار متخيل ،
لكن ، الإجابات هي نفسها أحاديثه ، مستخلصة من كتاباته أيضا ...
قصدت ، أسامره ، هذا الكائن البحري المدهش ، رائد روايات البحر في أدبنا
، بإمتياز ، وتحية إلي روحه وتراثه الخالد في كتاب ثقافتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق