حنا مينه، جعل من وفاته لغزا، هي آخر رواياته الخالدة!
---------------------------------------------------
---------------------------------------------------
( أريد أن أنام نوم التفاح،
وأن أبتعد عن جلبة المقابر،
أريد أن أنام رقاد ذاك الطفل،
الذي كان يريد أن ينتزع قلبه في عرض البحر.
لا أريد أن يعيدوا علي، أن الأموات لا تفقد دمها ،
وأن الشفاه المتعفنة تظل متعطشة للماء.
لا أريد أن أعرف شيئاً عن العذاب الذي يعطيه العشب،
ولا عن القمر ذي الفم الأفعواني .
الذي ينشط قبل طلوع الفجر.
أريد أن أغفو برهة،
برهة ، دقيقة، دهراً،
لكن ، ليعلم الجميع أني لست ميتاً،
وأني أحمل بين شقتي إسطبلاً من ذهب،
إني الصديق الصغير لريح الغرب،
وإني الظل الكبير لدموعي.)...
- لوركا -
وأن أبتعد عن جلبة المقابر،
أريد أن أنام رقاد ذاك الطفل،
الذي كان يريد أن ينتزع قلبه في عرض البحر.
لا أريد أن يعيدوا علي، أن الأموات لا تفقد دمها ،
وأن الشفاه المتعفنة تظل متعطشة للماء.
لا أريد أن أعرف شيئاً عن العذاب الذي يعطيه العشب،
ولا عن القمر ذي الفم الأفعواني .
الذي ينشط قبل طلوع الفجر.
أريد أن أغفو برهة،
برهة ، دقيقة، دهراً،
لكن ، ليعلم الجميع أني لست ميتاً،
وأني أحمل بين شقتي إسطبلاً من ذهب،
إني الصديق الصغير لريح الغرب،
وإني الظل الكبير لدموعي.)...
- لوركا -
الروائي السوري الكبيرحنا مينه، يعد، في ظني، هو ونجيب محفوظ الأباء الحقيقيون للرواية العربية، حيث أنهما، معا، نسجوا عوالم أعمالهم في نسيج إنساني وواقعي وفي صف الإنسان، في صف بسطاء وفقراء الناس، صوروا الإنسان في صراعه الضاري مع الطبيعة ومع المجتمع ومع التاريخ أيضا. عوالما تجدها، في جميع وجوهها، ملازمة للصيرورة والتقدم في حياة الإنسان، شخوصهما، كلها، تسعي وتتجلي في الفعل الإنساني الذي يكون في الوعي العميق بقضايا الأمة والشعوب، يفعلان ذلك في أنشودة جماعية تضئ حركة المجتمع وهي في تناغم واتساق معاشه، تستولد رحم التاريخ وتعيشه في آنيته في سماتها العامة، بل هي تستل من التاريخ، كل مرة نظرت إليه، تاريخا جديدا، حاضرا، بالقوة والإمكان، في المجتمع نفسه، برهة لبرهة ولحظة بلحظة. أما حنا مينه، شبيه جوركي، في الحياة والرواية والأيدولوجيا، بهذا المقدار أو ذاك، وهو الشيوعي الملتزم منذ صباه الباكر، فقد ظل قادرا، بمهارة الروائيين العظام، أن يضفي علي رؤياه الأيديولوجية توهج الإبداع والخلق المبتكر في أعماله كلها، تلك التي تزيد عن الثلاثين رواية، عدا المقالات والدراسات والحوارات.
حنا ولد في مدينة اللاذقية السورية في 9/3/1924م وعاش فيها، وفيها كتب كل أعماله تقريبا، وهو، عمليا أحد أهم مؤسسي اتحاد الكتاب السوريين واتحاد الكتاب العرب. توقف تعليمه، لظروف فقر أسرته، عند دراسته الإبتدائية عام 1936م. لهذا فقد عاش، بشرف وقدرات الثوريين العظام والأدباء الكبار، الشقاء والفرح، مشاكسة ومقارعة للأيام وقسوتها وعبثها، فشرع يدير معاركه بجسارة لترويضها بالفعل اليومي وبالكفاح الذي لا يكف تحت رايات وظلال حزبه الشيوعي السوري، وكان، أيضا، كفاحا باللغة، وهذه أحدي أعظم وأغني ثمرات حياته الخصبة. حنا، وهو علي مشارف التسعين من عمره، قام بكتابة رواية عظيمة القدر في تاريخ الرواية العربية، بل أنها علي غير ما درج عليه في سمات وأنساق رواياته، إذ جعلها، برغم قصرها، تدخل في جوهر الحساسية الروائية الجديدة، لكأنه أراد أن يقول أن الرواية في تطورها التاريخي تبدو في سيماء وملامح مغايرة لما هو سائد، تلك هي رؤيته البديعة غير المعهودة في: ( عاهرة ونصف مجنون )، وهي متاحة علي الإنترنت وتستحق قراءة وتأملا فيها مقاربة مع روياته هو والروايات الأخري المعاصرة لها.
حنا ولد في مدينة اللاذقية السورية في 9/3/1924م وعاش فيها، وفيها كتب كل أعماله تقريبا، وهو، عمليا أحد أهم مؤسسي اتحاد الكتاب السوريين واتحاد الكتاب العرب. توقف تعليمه، لظروف فقر أسرته، عند دراسته الإبتدائية عام 1936م. لهذا فقد عاش، بشرف وقدرات الثوريين العظام والأدباء الكبار، الشقاء والفرح، مشاكسة ومقارعة للأيام وقسوتها وعبثها، فشرع يدير معاركه بجسارة لترويضها بالفعل اليومي وبالكفاح الذي لا يكف تحت رايات وظلال حزبه الشيوعي السوري، وكان، أيضا، كفاحا باللغة، وهذه أحدي أعظم وأغني ثمرات حياته الخصبة. حنا، وهو علي مشارف التسعين من عمره، قام بكتابة رواية عظيمة القدر في تاريخ الرواية العربية، بل أنها علي غير ما درج عليه في سمات وأنساق رواياته، إذ جعلها، برغم قصرها، تدخل في جوهر الحساسية الروائية الجديدة، لكأنه أراد أن يقول أن الرواية في تطورها التاريخي تبدو في سيماء وملامح مغايرة لما هو سائد، تلك هي رؤيته البديعة غير المعهودة في: ( عاهرة ونصف مجنون )، وهي متاحة علي الإنترنت وتستحق قراءة وتأملا فيها مقاربة مع روياته هو والروايات الأخري المعاصرة لها.
الوصية.
يقول حنا في وصيته:
( أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب». لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل. لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.
• كلُّ ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكلّ إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه.).
يقول حنا في وصيته:
( أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب». لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل. لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.
• كلُّ ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكلّ إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه.).
اللغز في الوصية، رواية نقرأها بعد رحيله!
في 17/8/2008م، وهو قد شارف الخامسة والثمانين من عمره، أقدم حنا علي عمل لم يسبقه عليه أحد، ولم يقم به أحدا من قبل سواه، إذ كتب وصيته، وعلي غير ما تعارف عليه البشر، قام بنشرها علي الملأ، نشرها مكتوبة بخط يده تفاديا لأي تزوير أو تعديل يمكن أن يطرأ علي محتوياتها. فمن المعهود في طبائع البشر العاديون، وحنا لم يكن، وبكل المقاييس عاديا، أن تنشر الوصية بعد موت صاحبها، ليس في حياته، لكن حنا فعلها! وتلك، في ظني، النافذة / الضوء، الأولي تضئ شيئا من ذلك ( اللغز ) المدهش حول وفاته. طلب، وألح في الطلب، في وصيته أن لا يذاع خبر موته في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، يعني ذلك بوضوح أن يظل خبر موته مخفيا تماما، لا يعرفه أحد ولا يشاع! لهذا، وبعد نشره الوصية، ومنذ 2015م، ظلت كل عام أو عامين تقريبا تتصدر الأخبار في الميديا وغيرها الأنباء عن وفاته، ولا أحد، لا في الناشرين لنبأ الرحيل ولا الكتاب والأدباء والصحفيين الذين يدبجون المقالات في رثائه، بمستطيع أن يجزم بموته. يود أن يكون موته غامضا، سريا وليس في الملأ، لكأنه كان في مثل رؤيا درويش وهو ينادي سليم بركات، ينادي الكرد، فيقول علي لسان حالهم ذاك:
( جنازتي سرية رمزيةٌ، فخذ الهباءَ
الى مصائره، وجر! سماءك الأولى
الى قاموسك السحري. واحذر
لدغة الأمل الجريح، فإنه وحشٌ
خرافيٌ. وأنت الآن.. أنت الآن
حرّ، يا ابن نفسك، أنت حرَ
من أبيك ولعنة الأسماء!)..
الى مصائره، وجر! سماءك الأولى
الى قاموسك السحري. واحذر
لدغة الأمل الجريح، فإنه وحشٌ
خرافيٌ. وأنت الآن.. أنت الآن
حرّ، يا ابن نفسك، أنت حرَ
من أبيك ولعنة الأسماء!)..
هكذا أرادها تكون جنازته، وهكذا يكون موته مثلما أراده أيضا، لغزا يشي بالغموض ولا ضوء يقودك إلي مكمن اللغز وحرزه، الذي جعله مكينا، ليس هينا، لكنه، بدواعي الكتابة والإبداع، وعبر دروبه، مؤشراته وموضوعيته التي في نسق الإبداع نفسه، يمكن أن يكون الضوء إليه، فينكشف سره. وقبل هذا الكشف، الذي رغب أن يكون صيرورة إبداعية تجري علي نسق تأويلي منصف وجاد، أراد أن تكون جنازته ذات مشهد بسيط، لا مشيعون، لا خطب، ولا أدعية من أي نوع، لا بكاء ولا نحيب وحسرات، أراده مشهدا عاديا وليس وداعا لمن ( شبع ) من الحياة علي حد قوله. لكأنه، عبر وصيته، ثم عبر سياق ما تواتر عن وفاته منذ العام 2015م، والأعوام التالية، يقول لنا، لن تجدوني، لا جسدي ولآ تاريخ رحيلي عن دنياكم، لكنكم، إذا ما تأملتم هذه الوقائع في تجلياتها وتداعياتها وانساقها، ستجدوني، حتما ستجدوني في بلبال روايتي الأخيرة هذه، فقد وددت أن تكملوا فصولها بأنفسكم!
ولكن متي كان الرحيل؟
والحال كذلك، فأنني أكاد أوقن أن أبنه الممثل والمسرحي سعد، وأبنته الطبيبة سلوي وسوسن المتخصصة في الأدب الفرنسي، والمهندسة المعمارية أمل، وزوجته مريم، هما عائلته التي عاش بينها وفي كنفها سيرحل متي شاء له أن يرحل، نقول أنهم، جميعا، أرتضوا أن لا يذاع في الناس خبرا عن رحيله، وأن تكون جنازته، نزولا علي وصيته، بسيطة ومحدودة وأن لا يرافقها أي صخب أو ضوضاء أو بكاء أو نواح أيا ما كان، إذن، عملت الأسرة علي تنفيذ وصيته، وكان يتوجب عليهم، هم الذين برفقته في حياته كلها، أن يفعلوا. هكذا ظل خبر رحيله مخفيا عن الملأ، وهذا ما جعل ( شائعات ) وفاته تتواتر وتتناقلها الميديا والصحف والفضائيات في كل مكان، وكم من المراثي والذكريات كتبت في حقه عند ظهور نبأ رحيله عاما بعد أخر! ولكن، في ظني، ارجح أن رحيله كان قبل ثلاثة أعوام، أي في 2015م، بعد حوالي سبع سنوات تقريبا من كتابته وصيته. وبالطبع، كل الإحتمالات واردة هنا، قد يكون رحيله قبل ذلك أو بعده بقليل أو كثير! هذا ما أراده أن نكون فيه، التأويل، علي نسق ما يجريه هو في عديد رواياته. ولكن، كما أسرته، ونزولا علي وصيته، علينا أن نكف عن الرثاء والبكاء والتعازي والوداع، بالدمع أو الكتابة، وبلا أية ضراعات من أية نوع! لنكون، إذن، في هذا ( اللغز ) العجيب الذي جعلنا فيه، نفكر فيه، في تداعياته ومآلاته، في وجوهه التي تسري في مفاصله ومواضعه، حتي يمكننا، ونحن نفعل ذلك، أن نصل إلي جواهره التي أرادها ونظرها هو، واضحة لدي وعيه لا شك، لكننا سنسعي سعيا كثيرا حتي نقترب، شيئا فشيئا، إلي ( صياغة ) الجزء الذي جعله فينا لنكمله. وأنا علي يقين، أن فعلنا ذلك، نستطيع أن نكملها روايته الأخيرة. لربما آثر، عند رحيله، أن يكون في السحب، روحا خالدة معلقة في فضاء الحياة، تماما مثلما بطلة روايته ( حمامة زرقاء في السحب )، تلك الرواية البديعة التي كتبها عن رحيل أبنته بالسرطان عام 1982م، كتبها لأجلها وهو تحت تأثير ذلك اللص الجبان علي حد قول درويش. في تاريخ الرواية العربية أعتبر، شخصيا، حنا ذاكرة وهوية، أفق ممتد إلي وجهة التاريخ الإنساني، صفحات مجيدة ومضيئة في كتاب المعارف والأيديولوجيا والوجود. عوالما شيدها، مثلما فعل للبحر في ثقافتنا، كثير التناقضات، متلبسا فيها وملتبسا بها، بالغموض والأسرار، عوالما، كاملة وغنية، ترافق سيرة الإنسان ومساره ، ترافق أماله وأحلامه، مسربلا بالغواية والإغراء، وإلي ذلك كله، فهو، وحده، من جعل البحر خالدا ومؤثرا في ضميرنا الروائي، مثلما فعل لمدينته الساحلية الجميلة اللاذقية. حنا، أيضا، نسج، بإبداع مدهش، شيئا كثيرا من تفاصيل حياته و المكان فجعلهما في ثنايا ولحمة رواياته، بحيث يكون بمستطاعك، من غير ما عناء، أن تتعرف عليه شخصيا وأنت تقرأ أعماله. ثم أنه، وهو في موضع الإحتفاء بالمكان والزمان في عبورهما التاريخي، جعلهما في وعي الروائي نفسه، ولطالما أشار كثيرا إلي أثر البيئة والواقع من حوله في تكوينه الشخصي وفي إبداعه، في شخوص رواياته وفي لغته الروائية نفسها. هكذا، والحال كذلك، نستطيع أن نقول أن حنا وجه أفق الوعي لدي القارئ لأعماله وقراء الرواية العربية إلي مستويات ثلاثة:
- أهمية الحدث الخارجي، إذ جعل من النموذجي معني يدخل في جوهر وضرورة الخارق والعجائبي.
- ضرورة إنتاج ( بطل ) ملحمي، قادر ومقتدر، أن يقوم بعمليات متواترة ومستمرة للواقع والوعي الاجتماعي.
- تمكين اشكاليات المجتمع العربي الحديث، وهي كثيرة متنوعة ومعقدة، من الإمساك بدلالاتها السياسية والاجتماعية.
يقول حنا: ( لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرِضَ علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى. فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون.)...
هكذا، يمكننا أن نقول أيضا، أن حنا يريدنا، هكذا، أن نكون في صيرورة وجدوي الحياة، لا في الموت، وأن كان موته هو نفسه!
و ... هكذا أيضا، ينبعي أن نكون في رحيله، نراه ولا يراه، نقيا في الغياب وفي الحضور، قلبه نظيفا مثل الرمل الذي يغسله الموج، تماما مثلما قال وأراد!
-----------------------------------------------------------------
- أهمية الحدث الخارجي، إذ جعل من النموذجي معني يدخل في جوهر وضرورة الخارق والعجائبي.
- ضرورة إنتاج ( بطل ) ملحمي، قادر ومقتدر، أن يقوم بعمليات متواترة ومستمرة للواقع والوعي الاجتماعي.
- تمكين اشكاليات المجتمع العربي الحديث، وهي كثيرة متنوعة ومعقدة، من الإمساك بدلالاتها السياسية والاجتماعية.
يقول حنا: ( لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرِضَ علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى. فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون.)...
هكذا، يمكننا أن نقول أيضا، أن حنا يريدنا، هكذا، أن نكون في صيرورة وجدوي الحياة، لا في الموت، وأن كان موته هو نفسه!
و ... هكذا أيضا، ينبعي أن نكون في رحيله، نراه ولا يراه، نقيا في الغياب وفي الحضور، قلبه نظيفا مثل الرمل الذي يغسله الموج، تماما مثلما قال وأراد!
-----------------------------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق