مقالة تذكارية لمناسبة رحيله :
أعراس محمد محي الدين ...
---------------------------
إضاءة عن البنفسج :
( ليه يا بنفسج بتبهج
وأنت زهر حزين ؟! ) ...
- بيرم التونسي -
في هذا البيت الشعري ، عظيم الدلالة ، يصور لنا بيرم كيف هو يري البنفسج : حزينا ، صامتا ، يرقب الواقع الخشن من حوله ، يتأمله صابرا علي قسوته ،لكنه ، أيضا ، لم يمتثل لهذا الواقع المفجع فيستكين إليه ، ويظل ، كما الماء محايدا ، بل نراه يضفي ويشيع الإشراق والبهجة في من هم حوله ، لا ، ليس صامتا هنا ، فيشرع يرسل إشاراته الحيوية ثم يؤشر للفعل لمن يقرب منه وينظر إليه . أنه ينقل إليك حالته في جوهرها بالذات ، حالة من البهجة والإنشراح والشروق ، بيرم في حياته كلها ، وفي شعره أيضا ، يحتذي هذه الرؤية ذات الضجيج والفاعلية المستمرة ، فإنتمي بهما معا ،
الحياة والشعر ، إلي صف الفقراء والكادحين ، وكانت أشعاره في جملتها أشعار قلقة ومتوترة وتعايش حياة الناس في تحولاتها المتنوعة بخصوبة بادية وثراء عميقين . وهكذا كان شعره ينتمي إلي الوجه المضئ من البنفسج ، إلي حيث وجهه الحيوي الخلاق بإنبثاقاته اللافحة ودلالاته عميقة الأغوار . هي ، إذن ، رؤيا صاخبة وذات حيوية وخصوبة وثراء عميق للبنفسج في عين الشاعر وقلبه ، وبها تتصاعد معاني ودلالات وصور القصيدة إلي تخوم مشرقة البهاء والتوهج .
رؤية أخري رومانسية :
( البنفسج غادر صهوته / وانتهي للميادين / بين يدي صبية جائعين / يبيعونه فوق جسر الصبابات للعاشقين / وبين إشارات جند المرور / البنفسج لم يرتدع حين غادر أشجاره النائحات / ولم يتعظ بعذاباته / واكتفي بالدموع التي أغرقت جفنه / حينما علم الناس كيف يريقون ماء صباباتهم تحت أهداب فاتنة ... أشعلت نارها كي تصب الرصاص المحمي بأفواه صبوتهم / وأنا مترع بإزدحام الفؤاد إلي أخر السطر بالأمنيات التي أحرقت ألف حقل من الورد / أو ترتدي ثوب صفصافة سطعت بالحماس الربيعي عند إصطدام نوافذه بالغيوم ... / الهموم تدجج أوقاته وتحاصره / والبنفسج فجرئذ تائه ... / يتنقل بين
موائد أسئلة نكأت فرحه / فلماذا الرياحين تغبطه / ولماذا البنات الخجولات شبهنه بالحبيب البعيد ؟ / لماذا الوحيد يعلقه فوق جران غربته وينادي حبيبا نأي وأشتهي غير ذاك الذي يشتهيه الوحيد ؟ / لماذا الحبيبة هاربة من مواعيدها الزئبقية / لماذا أنا أحتفي بنداءات جرحي ثلاثين نوما / ثلاثين برقا هي النار تلدغ صدري / ولا نبع ماء قريب / ولا همس لحن الربابات / قال البنفسج قولته / وأنا قلت : هل للبنفسج بعض القرابات من عائلاتي ؟ / وهل للسلالة نأثيرها في دمائي ؟) . كما نري ، فأن الشاعر المصري عزت الطيري يريد للبنفسج أن يظل حبيس أشجاره وحدائقه ، وأن يكون
جميلا في موضعه ذاك يلون للعاشقين أيامهم ويجعل لأوقاتهم موسيقي كونية بديعة . وقد وجد الطيري أن البنفسج ظل علي ضحكه ، يضحك في وجع بعد أن ظل يرقب حبيبا قد ضيع في زحام الحياة ، فيما بين الحدائق وأشجارها ، حبيبته الغزالة
رؤية ثالثة ، أتكون هي رؤيا محي الدين ؟
للبنفسج رائحة ذكية ، وشذي فواح ، وله سيماء وملامح حلم الرؤيا إذ تنهض أمام ناظريك ، وله وفاء نادر ودافئ ، وهو صامد بقدرة فذة علي إستمرار توهجه ولمعانه ، وله القدرة الكلية علي البقاء المزهر في الذاكرة والزمن ، وهو ، أيضا ، مشروع حقيقي للإزدهار والنمو والإشتجار . يحيلك – وأنت تنظر إليه – إلي جميع الحدائق والبساتين ومواضع النباتات اللطيفة والزهور والورود جميعها ، فتذهب إليها متفقدا ما فيها ، زهرة زهرة ، وشتلة شتلة ، وفسيلا من بعد فسيل ، وترجع إليه – عند نهاية مطافك – ممتلئا بالإمتنان والعرفان وصدق التجربة الدافئة كما الخبز الطازج ،
فتجلس أمامه معترفا إليه بما لديه من قيمة الحياة وجدواها النبيلة . وللعشاق ، هو ثالث الأثنين ، مؤنس نجواهم الرفيقة ، ضوءهم وصاحب النجوي الخصوصية ، قنديله المضاء بزيت أصحابه وأصدقائه الخلص وأحبائه أجمعين . وللشعب والفقراء هو الدموع والحسرات والصبر الجميل ، والسهر والوجد والعزاء ، الحلم في أمل سيغدو أجمل عما قريب ! وهو ، أيضا ، العنفوان والبسالة الجريئة التي تقف ، أحيانا ، علي حافة الخطر وشفير الموت . وهو قدرتهم علي المقاومة والنضال ضد العسف والجور والظلم والطغيان ، هنا بالذات ، تجده قاطعا كالسيف البتار والفولاذ المحمي باللهيب ،
أبدا لا ينكسر ! وهو أيضا المدينة في وجوهها المتعددة جميعها ، هي كما هي ، بلا أية أقنعة زائفة ، فتواجده وحلوله حيث يكون الصدق والبراءة في وجوه النقاء والعذوبة والنبالة حيث ينعدم الزيف تماما ، فهو يستخلص منها ، كما الرحيق ، دفق الفرح وكأساته المترعة حتي حافاتها بالعذوبة وبالنضوج ! و ... لكن ، لم كل هذا الحديث عن البنفسج ؟! ذلك بسبب من أن قصيدة محي الدين ، هي قصيدة الماء والعشب و المقاومة بإمتياز . وقد رأيته ، منذ وقت مبكر ، يحتفي بالبنفسج والنبات والزهور في قصيدته ، وسنري ، من بعد ، كيف سيكون في نداء البنفسج في قصيدته البديعة " أعراس " ،
وكيف قد جعله مفتتحا ضروريا للوحات قصيدته .
عن الشاعر :
محمد محي الدين خلص شعره ، دفعة واحدة وعلي طول مسيرته الشعرية ، من مظاهر ضمور الرومانسية وموتها المبكر ، ففتح أمام قصيدته أفق شاسع في المدي ولإحتمالات عديدة لا تحدها حدود . فلم يكن أمامه من سبيل سوي أن يلخص تجربته ، ويشحنها بلوعة عميقة خاصة لمدينته ولوطنه ، ذلك الوطن الجريح كل مرة ويتناوشه الوحش لينشب فيه مخالبه وأسنانه فيدمي أطرافه وجسده ، ليبدأ منه النزيف ، الذي هو جراح الشاعر ونزيفه أيضا لا محالة ! لكن ، تلتحم معها وتعايشها ، فيجعل القصيدة تقول بما لاتستطيع قوله الكتابة في ظل غياب الديمقراطية ومصادرة أدوات التعبير . الشاعر قد
أمسك – من قبل ومن بعد – بمفردات قصيدته ولغتها ، وجعلهما زادا إليه ومؤنة ، في مسيرته الشعرية . جعلها محكومة بضابط موضوعي وهم شعري واحد هو : الوطن ، بتجلياته المتعددة كلها وبعمق الدلالات الكامنة في موضع الجوهر منه . وهو قد إنتبه ، منذ البدايات الأولي لتجربته الشعرية ، لصوت يناديه من الأعماق النقية التي يلتجئ إليها ، مشدودا بكلياته وقدراته الشعرية إلي صوت " فاطمة " حد أن شرع قي الرحيل إلي صوتها و ... إليها . باكرا قد رحل إليها بالفعل ، وهو في ذروة زمن رحيله ، يجد تمام عافيته الشعرية ولقصيدته لمعانها وتوهجها وإستمرارها الوجودي ، رحل
إليها ، إلي فاطمة / البلاد ، ليعاني عبء مسارات ومتطلبات قصيدته ومن ثم تجربته نفسها ، يعاني ليكتب ، ويكتب ليكون في فعل المصادمة لذلك الواقع المزرئ ويسعي لتغييره عبر رؤياه في القصيدة و الكتابة . فنجد أن مفردات الطبيعة في قصيدته ليست مظاهر جمالية مجردة ، لكنها عنده طبيعة مجسدة في الواقع أمامه ، يلامسها هو وكذلك تلامسها قصيدته نفسها ، فيعايشانها معا كما يفعل الناس من حولهما . لهذا ، نجد أن المفردات اليومية العادية وصور الطبيعة قريبة جدا لمفردة الشاعر ، ولذاته نفسها ، تماما مثلما هي قريبة أيضا للذات الجماعية من المجتمع الذي يعايشه
الشاعر بصدق ونقاء ورضي ! وبعيدا عن أية تهويمات فأن مشاعره الذاتية في قصيدته ، ليست تأملات مجردة مقطوعة السياق عن محيطها الواقعي ، لكنها هي مشاعر وتأملات إلتحمت بقصيدته نتيجة للأسئلة المريرة التي أبهظها واقع قاس أكثر مرارة , والثورة نفسها لديه ليست ، هي الأخري ، صورة لإستكمال شرط رومانتيكي ملحق بالقصيدة ، بل هي أجوبة باهرة ، لكنها أيضا ، نازفة بأوجاعها جراء تلك الأسئلة المقلقة المحرقة . لهذا ، أيضا ، نجد أن إختيارات الشاعر المبكرة في مجال تجديد وتطوير قصيدته ، هي إختيارات منسجمة كليا مع مشروعه الشعري والوجودي ، تتجلي في قصيدته
وكتابته المسرحية علي السواء ، ولعلنا لا نظلم الشاعر فيه أن رأينا أن خير تعبير عن ملامح وسمات هذا المشروع " التجديدي " لديه يظهر بتجليات واضحة في أعماله المسرحية ، حيث يضع تلك الإجابات في صور وتراكيب مسرحية واضحة ومعبرة بدقة لمجمل رؤياه وأفكاره في الحرية والديمقراطية والتحرر والثورة . لهذا ، فجعت شخصيا ، برحيله المفاجئ ، فلم يقل – بعد – كل ما لديه !
القصيدة ، أعراس الشاعر ...
محمد محي الدين يبدأ طقس أعراسه ، بالجلوس العظيم أمامها : أمام البنفسجة التي ذكرنا ، هي نفسها ، بلاده في إتساعها العميق ، في المعني والدلالة ، يدخل إليها بهو جلالها المهيب ، فأمامها وحدها يكون لمثل هذا " الكلام الفصيح " أن يطلع ، كما الرؤيا ، تبثق شاخصة في حضرتها البهية ، في ملكوتها بالذات ! الشاعر يعلم أن الأجساد قد نال منها تعب النضال ومتطلباته الخشنة ، قد أنهكها ، أو يكاد ، ذلك السعي المحموم الذي لا ينتهي لأجل أن ينال الإنسان كرامته وعزته وشموخه وكبرياؤه ، ذلك مما يصيب الناس وهم يكابدون في منازلة القمع والظلم ومحاولات
الديكتاتوريات سحق آدمية الإنسان . هذا النير القاسي الذي تمارسه الديكتاتورية وعلي أوسع نطاق تجاه الآخر ، أؤلئك الذين يملكون أفكارا ورؤي وأطروحات غير تلك السائدة بتوقيع الأنظمة في المجتمع ، وتسعي سعيها كله بوسائلها الهائلة في الإعلام والأمن علي بسطها في المجتمع كله ! الحرية للإنسان كانت هي رهان محمد محي الدين ومطلبه الذي ظل يلح عليه ، كان يمني نفسه ، وشعره أيضا ، أن يجدها متحققه واقعا في الوطن لدي عودته من بعثته في اليمن ! ولكنه ، ويا لحسرة الشاعر فيه ، لم يجده ! بل وجد " مسوخا " قبيحا يتحلقون ويكبرون لسوءاتهم أمام بنفسجته ، بالسلطة
والصولجان والسطوة والقمع والظلم يفعلون ، ويرقصون ، ويا لخطابهم الفج المشوه يسوقونه للمجتمع ! تلك كانت حسرة أخري تقترب من رؤي الشاعر ، تسعي لتنال منها ومن قصيدته . لكنه ، سرعان ما ينفلت من إسارها ، يبيعد عن " المسوخ " ويلتجئ إلي قصيدته ، فتسطع في بلاده التي يعشقها حد الوله ، فيصرخ ، مثلما فعل عبد الصبور ، في وجهها :
( إلي ، إلي ياغرباء ...
يافقراء ، يا مرضي ،
كسيري القلب والأعضاء ! ) ...
لكن ما يميز محي الدين عن عبد الصبور ، أن الأخير إلتجأ إلي التصوف والمرموزات المسيحية زادا لمسيره صوب الخلاص ، لكن محي الدين ، يشهر ، في الملأ ، إلتزامه بشعبه ووطنه وقضاياه الحيوية ، ينادي الناس ليعلن فيهم ، وفي الوطن ، موقفا إيجابيا ومنحازا بكلياته لأجل قضاياهم وخلاصهم !
يقول محي الدين :
( يا بنفسجتي ،
آن للفرح الآن أن يتفجر
فإقترحي رقصة المهرجان
النشيد الموقع بين الدخان
وعينيك تحت اللهب ! ) ...
هو هنا ، يضبط وقته ، في الحياة والشعر ، علي اللحظة الراهنة بالذات ، والتي لا مندوحة من أن يطلع منها الفرح ودماء العافية في الجسد ، هو طلوع ، لكنه في قوة وشدة الإنفجار والإعصار والزلزلة ! ولأجل هذا الطلوع في شموخه فأنه يقترح لبنفسجته " رقصة المهرجان " ، رقصة في بلبال النضال ، التي تدفع بالدماء الحارة في الأجساد المتعبة فتستحيل قوة جبارة تدفع بقوة ومثابرة بإتجاه التغيير المنشود ، وإلي الثورة ، يحدث كل ذلك ونشيد الثورة موقعا عليه " بين الدخان " وعيونها ، التي هي تحت شرارات اللهب ! لكن ، هنا ، يحق لنا أن نسأل الشاعر : لمن تكتب ؟
.. ( للمدينة هذي البطاقة ،
للأصدقاء القدامي
وللجدد المتعبين ...
وللفرح الطالع الآن من قلب
هنالك علاقة متوترة نشأت منذ زمان بعيد بين الشاعر ومدينته . نقول متوترة ، لكننا نعني أنها ذات حساسية عالية ، وتمتاز – تلك العلاقة – بشفافية عميقة ذات دلالات عديدة في شعره ، الذي هو رؤيات الشاعر وبصيرته في الحياة الواقعية في مستويات الراهن واليومي . هذه الألفة للمدينة وناسها أكسب صوته فرادة وخصوصية مبتكرة قل أن تجد لها نظيرا في شعرنا . أن ود مدني ، التي كان يأتيها الخليل ، في لحظات التوتر الحاد بين الرؤية الشعرية ومتطلبات النضال الوطني ، فيرتاح لديها برهة ، علي صدرها وبين ساعديها ، هذه المدينة التي غدت دالة علي محي الدين نفسه ، تجد
لها عرشا وثيرا مشبعا بالشذي وعبير أناشيد وأغاني النضال ، هكذا ، غدت عشقه وأحد أهم ملامح قصيدته . لهذا تراه يعلنه ، هذا العشق ، في الملأ ، هذه المحبة الناضجة ، فيقول أن بطاقات ولوحات قصيدته جميعها هي لأجلها ، لأجلها بالذات ، وللأصدقاء القدامي وللجدد المتعبين ، لكنه ، يؤكد ، دائما ، أن هنالك ثمة فرح سيأتي ، وسيطلع من بؤرة التعب التعب نفسها . ونلاحظ ، كيف للعينين تكونان وهي تحت اللهب ، تحت العسف وتحت الأقدام الغليظة للديكتاتورية . ولكن ، أيضا ، أن لمثل هذه الأقدام – عادة – لغة لدي الشعراء ، تماما مثلما للمدينة لغتها عندهم . فلمن ، تكتب
، أيضا ، أيها الشاعر العظيم كلماتك الساطعة المتوهجة لغة ودلالة ؟
اللوحة الثانية :
... ( لبنفسجتي نلتقي الآن .
أعلن بأسمك ،
أن جديد العصافير – في ظل
يناير المتجدد
في ظله المتمدد
في نجمه المتفرد .
للبحر ،
للشجر المتمرد
هذي البطاقة ...
للبحر ، للبر ، للمتعبين بليل المدينة
للواقفين بشباكها
وعلي باب متجرها ! ) ...
الشاعر ، الآن ، وفي هذا الوقت بالذات يلتقي بنفسجته / حبيبته التي يعشقها بولع وجنون ، يلتقيها ليعلن بأسمها هي ، لا غيرها ، ويقسم أمامها أن " جديد العصافير " سيأتي ، ستأتي في الغد الجميل الحرية والأغنيات ، الأناشيد وشعارات المرحلة ، قادمة لا محالة ! في هذه اللوحة تلبس القصيدة أردية الأمل المرتجي في أعماقه الخصيبة ذات البشارات . فالعصافير هي وعد وأمل مرتجي للشجر وللإخضراروللآمال الكبيرة في صيرورتها المتدفقة واستمرارها . ومعروف أن يناير هو شهر السودان المجيد ، رمزا لعزته وسيادته ، الوطن في تساميه وتعاليه علي الجراحات ونزيفها ، فهو
مجرح ومضرج بالدماء ، لكنه في جوهره ، معافي ونقيا وصلبا ، يتعمد بالدم ليصير صقيلا ناصعا بعد كل جرح ونزيف ، وبعد كل معاناة يخوضها . أن في أشعار محمد محي الدين ، في قاموسه الشعري بالتحديد ، تجد المفردات والعبارات يكسبها معان ودلالات مضيئة فتكرست في القصيدة لتضيئها : النجم المتفرد / البحر / الشجر المتمرد / البر / وليل المتعبين ( القدامي والجدد ) ، وهم أهل المدينة ، جميعهم حاضرين في ليل المدينة ونهاراتها في إصرار عتيد ، هم أناس الشاعر ورفقته الحميمة ، يعيشون أيامهم في قصيدته ، يقفون علي شباك المدينة وأمام أبواب متاجرها ، في أزقتها
وشوارعها ، تحت ظلال أشجارها المتمردة ، وعي شاطئ نهرها الرحيم ، هم ، جميعهم ، شخوص وحيوات قصيدته ومادتها الحية ، خميرة حياتها وزبدة عنفوانها !
اللوحة الثالثة :
... ( أننا ، يا بنفسجتي
الآن ، نترع البهجة القمرية
والفرح القزحي ...
الزغاريد تمرق من فوهات الحديد
المراجيح تخرج من فتحات المخازن
الرقص يشتد
الطبل يحمي – الدلاليك .
يخرج أطفال كل القري
من جيوب التجار
وتخرج هذي القصيدة
للبحر
أو للشوارع
أو لبنفسجتي ! ) ...
الشاعر هنا يقاتل باللغة الشعرية فتثتأثر وحدها بصوت الشاعر وتنتمي إلي وجهه وقصيدته . هو لا يكتفي بصليل الألفاظ وجرسها الحاد ، فيميل أحيانا كثيرة إلي الهمس والبوح الشفاف ، وليقترب – في ذات الوقت – إلي اسلوب مجايليه في القصيدة الحديثة ( الحديثة وقتذاك ) ، ولهذا تجد في قصيدته تتضافر لغته مع النزعة التبشيرية التي تلازم أدواته الشعرية في حميمية عميقة الأبعاد ، حد أن تقترب من لغة الحديث اليومي العادي بما يحاكي الواقع ، ولكن بسمات شعرية راقية وجذابة . يحدث كل ذلك لأن الشاعر يشارك ، شخصيا ، في النشاط التحرري والحراك الثقافي في مجتمعه .
وكل تلك المفردات في قصيدته تأخذ كامل زخمها وحيويتها ونضارتها : " البهجة القمرية " ، و " الفرح القزحي " ، و " الزغاريد " ، والمراجيح " ، ثم " الرقص الذي يشتد ويزداد صخبا وضجيجا وعافية في حضرة " الطبل " الحامي الذي يكاد يلتهب نشوانا وحماسة وفرحا ، و " الدلاليك " توقظ الناس وتلبسهم عافية الصحو الجميل واليقظة للفعل النبيل ، ليخرج ، من بعد ، أطفال كل القري بلا إستثناء ، يخرجون إلي الساحات والشوارع ، إلي حيث الملأ ، إلي حيث الشوارع النديات بالحضور البهي للحشود ، وبعافية الإندلاق علي نيران ذلك المشهد الخلاق ، يخرجون ، أولئك الأطفال الرائعون ،
زرافات كالشموس في سطوعها من " جيوب التجار " ، يخرجون من وسط ذلك الركام والجشع وسطوة رأس المال الطفيلي بكل حيفه وجوره البائن وحقارته ، بخروجهم الجسور يخلقون حالة إبهار ونشوة عارمة و ... عامة ! في معيتهم تكون قصيدة الشاعر ونداءه ، تخرج إلي حيث البحر ، ومن لا بحر له ، لا بر له علي قول درويش ، خروج ، إذن ، إلي الشوارع ، أو للبنفسجة علي قول محي الدين . فأنظر كيف يحيي الشاعر طقوس الفرح والعافية والنضال كاملة البهاء ، تضئ في الناس كما البلور الصافي النقي ، كدوالي القمر في حلته المذهبة تتدلي طقسا رحيما علي العشاق في لحظات نجواهم الحالمة من فوق
، فيجترح البهجة ذات الصفة القمرية ، و ... يعلن فرحا ممكنا في زمن فج دبق ! الشاعر يكسب شعره خاصية الفرح ، تطلع القصيدة أغنية من بين الركام فتندلق الزغاريد تشعل المواجد والنفوس ، ذلك فرح الوطن و إمكانيات إنتصاره الآتي أيضا ، تطلع من
" فوهات الحديد " ، تنسل من بين أصابع القمع والإرهاب ، ميلاد حقيقي مكتمل للفرح الشعبي في إزدهاره ونموه ، بشارة وإشارة بغد جميل سيأتي !
اللوحة الأخيرة :
... ( يا بنفسجتي ،
للمدينة حبي – وكل الحقول لك
النثر والشعر – نيل المدينة ،
أطفالها ومراجيحها ...
والظلال التي نلتقي تحتها ،
والبطاقات ...
هذي البطاقة – يا بنفسجتي
لصديقي الذي كان يرسم عينيك
ها هو الآن يمسح عينيه
من تعب ،
ويلون بالأخضر ...
الآن كفك مخضوبة ! ) ...
هنا ، أيضا ، الشاعر يبدأ طقس إعترافاته أمام بنفسجته ، التي هي بلاده ومدينته وحبيبته في آن ، ليؤكد ، أيضا ، حبه لهما ، وفي إفادته يقول أن كل الحقول لها ، كل النثر والشعر ... أراه يوضح ، بجلاء هنا ، رؤياه في الشعر والمسرح ، أعماله التي في جملتها منحازة بكلياتها لحيثيات الوطن وقضاياه الحيوية الجليلة كلها .ثم ، يضيف أشياء الحياة الجميلة فيجعلها إليها وحدها : نيل المدينة ، أطفال المدينة ومارجيحها ، ظلال أشجارها ملتقي الأصدقاء الجميلين والثائرين ، و البطاقات ، بطاقات الشعر والنثر أيضا ، قرابينك يا محي الدين ! ثم ، يستدرك فجأة ، كمن يصحو
وينتبه لفرط تداعياته وصوره الشعرية التي تمسك ببعضها في دفء حميم ، فيضيف : أن هذه البطاقة بالذات لصديقه الذي كان يرسم لها عينيها ، يراه الآن ، يمسح عينيه من غبارإنتهاكات عسس النظام وجلاوزته ويشرع يلون بالأخضر كفيها ، ذلك لأجل صديقه التشكيلي الشهيد طه يوسف عبيد . يلون كفيها بالأخضر لون الحقول ، لون الغصون والعشب والأشجار وعصافيرها ، لون القلوب أيضا ! ونسأله الشاعر أيضا : كيف له يلون كفيها بالأخضر والدم يسيل من بين يديها ، و ... الأحمر – لون الدم – لا يكذب يأتي ، كيف ؟ لكنه ، نتصوره يجلو عنها لون الدم ليجترح الأخضر يبقي مواتيا للفرح
بعد الإنتصار !
لمحمد محي الدين قصة طويلة الفصول مع الألوان والتشكيل والرسم ( لاحظ علاقته الشخصية العميقة مع التشكيلي الشهيد ) . اللون والألوان جميعها لها في قصيدته علاقة عميقة الأبعاد ، دافئة دفء ليالي الشتاء الجميلة ، ذات دلالات ومعان نبيلة ، واضحة الملامح في قصيدته وفي حياته نفسها . وللشاعر مطولة رائعة وتحتل مكانا مرموقا في تجربته الشعرية ، كرسها بالكامل لصديقه التشكيلي الشهيد طه يوسف عنونها : " عشرة لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر " ، قدمها تحية وتذكرة لروحه ، كتبها في يناير 1982بود مدني ، يقول في اللوحة العشرة منها :
( أخضرا كان لون الحقول
ولون الغصون ،
وأشجارها والعصافير .
كانت مياه الجداول زرقاء ...
والنهر غير أزياؤه
والمدارس
والمصنع ، الدور ...
والأحمر الآن .
أن الشوارع غارقة في الدم الأحمر .
والأحمر
لا يكذب يأتي
في سراويل من الدم يأتي
راجلا يسبق
آلاف الخناجر ! ) ...
أنا علي يقين ، أن علاقة الشاعر بذلك الفنان المرهف المبدع ، ذو الحساسيةالفنية العالية العميقة للفن والتشكيل ، هي التي – من بعض وجوهها – خصبت رؤي وقصيدة محي الدين بتلك الألوان البهية وبتلك اللوحات الرائعة . ولعل قصيدة " أعراس " موضوع هذه الكتابة ، تكون بذاتها دليلا ومؤشرا بالغ الدلالة علي عمق تلك العلاقة الفريدة ، التي أتت بجماليات التشكيل وزخمه البديع إلي رحاب وضفاف قصيدة محي الدين ، بل شكلت ، كما أري ، في تضاعيفها ظلالا لألوان شتي متألقة بتقنية معاصرة في التشكيل ، كمعرفة وكرؤيا بصرية ووجدانية تلتحم في نسيج القصيدة ، ومنها تشع
كما الشهب ، تجدها هنا وهناك ، فيما بين المفردة الشعرية والآخري المجاورة ، فيما بين الصورة والصورة ، فيما طلعة القصيدة وطلوعها ، حضور لوني بهيج يلون كل تخوم قصيدته في أية وجهة نظرت إليها ! هكذا رأيت محي الدين في تماهيه مع التشكيل واللوحة وعناصر الألوان في إختلاطها وبزوغها ، في كامل أبهاء صيرورتها ، ذروة الجمال اللوني مندغما في لغة وصور وروح القصيدة ، ذروة الوسامة الشعرية ، ضد قبح اللحظة الراهنة في الزمان القاسي !
وتمضي القصيدة في تواترها ، ليستدعي الشاعر لبنفسجته المقولة السائرة في الناس : ( أن خضاب الرجال الدماء ، وخضاب النساء الحناء ! ) ، لكنه لا يورها كما شاعت في الناس ، بل يبدو مستدركا لحديث وبوحه وقفة ما ، وتأملا ، فيذهب منحي آخر ، جديد ومبتكر ومخالف للمألوف ، " يعتذر " عنها رغم إنها سارت في الناس كالمسلمات ، يعتذر فيقلب المقولة تماما حد يكاد يقضي عليها ! فالأخضر لون يحبه الشاعر جدا ، تكاد لا تخلوه منه أيا من قصائده ، ثم هو لون ورمز لصديقه الفنان الشهيد ، محببا إليه أيضا ! يعو لقصيدته توا ، إلي حيث توهجها وهيجانها الباقي ، فيطلب من بنفسجته
أن " تقترح رقصة المهرجان " ، وأكاد أري في رقصة المهرجان نفسها خرائط ملونة بإختلاط اللون وتمازجه بالموسيقي و ... بالرقص ذاته ، رقصة ، لكنها لوحة تشكيلية مكتملة الألوان مرقشة علي الجسد ، واللون في مكان الجوهر منها ، أحدي عناصرها الأساسية .
... ( يا بنفسجتي
غير أن خضاب الرجال ...
أعتذر !
أقترحي رقصة المهرجان .
سأعلن بأسم القدامي أو
المتعبين الجدد
بأسمك المتفجر في داخلي
سوف تهتز كل الشوارع بالفرح .
وأحبك ...
سينفجر الحزن بالمزن
والموت بالصوت ! ) ...
عند هذا المستوي من القصيدة ، تجدها مجللة بالكامل بالتوتر الحاد تجاه حركة الواقع وتجلياتها ، والشاعر مولع ومهجوس بالتجريب ، وبالبحث المستمر الذي سيكسب قصيدته وجها وملامح متفردة وذات خصوصية . ومغامرته المدهشة هذه تخلق اشالها من ذات نفسها ، تلك الأشكال والصور الفريدة في قصيدته ، تحتوي في مكان القلب منها ، حسه العميق ، بوتائر عالية مشدودة إلي واقعه وطموحه المحموم إلي إحتواء هذا الواقع دفعة واحدة ، لكنه يعيد خلقه مرة أخري خلقا يتيح له ، من بعد ، معرفة هذا الواقع وتأمل كل قسماته وملامحه وقوانينه ذوات الفعالية المؤثرة التي يرها فيه
ويكتشف تضاريسها ببصيرة الشاعر فيه ، وهي كامنة ، علي ما يبدو ، وساكنة ، علي السطح ! ولكن ، ما الذي يود محمد محي الدين أن يقوله من خلال قصيدته ؟أن الشاعر كما عرفته ، وازددت بها من خلال قصيدته ، هو فنانا واعيا ، والوعي هنا هو قرين كل الكينونات التي عبر بها عن موقفه بإزاء ما هو كائن أمامه ، في ذات اللحظة التي تولد فيها قصيدته . وفيما أري فأن إمتياز محي الدين وإنجازه الكبير في القصيدة ، يكمن في محاولته الجسورة في تخطي وتجاوز اللغة الشعرية السائدة ، إلي حيث تكون اللغة في القصيدة لغة جديدة بالكلية . وهذا ما إستدعي ، بالضرورة ، واقعا فنيا
جديدا لقصيدته . لأن فن الشعر هو علي التأكيد ، بناء لغوي متماسك البني والمستويات ضمن إطار شكلي فريد ، وصور شعرية مبتكرة وراقية و ... نامية . وهذا هو ، بالضبط ، ما نجحت فيه قصيدة محي الدين ، فظلت في الفضاء الشعري في بلادنا ، متفردة وذات خصوصية ، لا تشبه أية قصيدة ماضية ، ولا أية قصيدة راهنة . ولهذا نقول ، بإطمئنان ، أن لمحي الدين صوت هو صوته هو ، لا شبيه له !
بعد أن اقترح الشاعر لبنفسجته " رقصة المهرجان " ، سيبدأ يعلن – أمام شعبه ووطنه ومدينته وأهلها – حيثيات مواقفه كلها ، بصورة يقينية صارمة هذه المرة . وإعلانه يأخذ صيغة " القسم " ، خوفا من النكوص علي ما يبدو ، يقدمه أيضا بين يدي بنفسجته ، ويكون إعلانه بصيغة الجمع ، فلسانه غدا لسانا جماعيا ، وضميره جماعيا ، ووجهته جماعية ، وقصيدته – بمفرداتها وصورها وتراكيبها – تأخذ وجهة هي الأخري جماعية ، ليست ذاتية . أن قصيدته قصيدة الشخوص والدراما والحوار ، جماعية في الرؤي والأخيلة ، بأسم الجميع كما يقول ، هكذا علي اطلاق صيغة الجمع ، " القدامي أو
المتعبين الجدد " ، وبأسمها ، تلك البنفسجة العفية ، بكل الدلالات والإحالات الكامنة ، كالبذرة النامية فيه ، فتتفجر منه اللغة والكلمة والعبارة ، صورا ومعان . عند هذا المنحي يجئ إعلانه ، المنفستو الذي تسعي قصيدته كلها في أثره ببطء وبمثابرة وإصرار عجيب :
... ( سوف تهتز الشوارع بالفرح
وأحبك .
سينفجر الحزن مزنا
والموت بالصوت ! ) ...
ذروة الإنتماء للإنسان ، ، في بساطته وتلقائيته النقية ، ويسعي صوب إكتمال إنسانيته ، والعوة الجهيرة لإحترامها وصيانتها ، تلك المبادئ ترقي لدي الشاعر لمرتبة القداسة . عندما يختلط ذلك الحزن ، الطارئ المؤقت ، بالمطر فسيكون ميلادا وإخصابا جديدا للحياة القادمة ، الحياة الجميلة التي تستحق أن تعاش كما قال درويش ، وأن يضحي الإنسان بحياته نفسها لأجل صيانتها وصيرورة إكتمال دوراتها . عندها سوف " ينفجر الموت بالصوت " ، مطر الحشود يزهر صمودا ومقاومة في الناس ومنازلة للطغيان ، الشاعر هنا جعل من الصوت حياة محضة في مواجهة الموت الذي هو فناء وعدم
كما هو معلوم . قبله كان درويش قد قذف في وجوهنا سؤاله الجارح : (هل يصل الصوت / أم يصل الموت ؟ ) ، وترك للقصيدة كامل حريتها فتتقدم للإجابة علي هذا السؤال الفذ ! محي الدين خلط الصوت بالموت في تلازم رهيب ، في تلازم المصادمة ، ليطلع منهما صوتا منتصرا بالمطر والحب والشعب ، يفصح الشاعر بدواخله ، بيقيناته صوب شعبه ووطنه ومدينته وأهلها :
... ( يا بنفسجتي وأحبك .
يتفجر الوعد بالرعد
والشرق بالبرق
والطرق الجانبية بالفقراء ،
فأنشرحي .
يا بنفسجتي ،
ثم أني أحبك
و ... ... ! ) .
هكذا ، إذن ، تنتهي القصيدة ، هي بالأحري ، تبتدي !
ولكن : هل هذا العالم الذي يكتب من وسط قسوته الشاعر قصيدته ينتمي إلي الغاب ؟ أن فيه ، علي التأكيد ، بعضا كثيرا من ملامح الغاب ! أذكر أن الشيخ أمام كان يغني وهو وسط جموع الفقراء و " المتعبين " في أحياء القاهرة الفقيرة ولياليها المكتظة بالعسس ، بنبرات صوته القوي البليغ : ( غابة كلابها ديابة / نازلين في الناس هم / هم ... هم ... هم ! ) . ولكن ، أن تكون للواقع بعض ملامح الغابة أو جلها ، في زمان يتسيد فيه الطغيان ويستشري ، أو أن الناب والساعد يصبحان هما القانون السائد ، فذلك ليس أمرا قدريا لا فكاك منه علي أية حال ولا مناص منه ، نقول ذلك ، ونحن نعلم ،
يقينا ، أن مثل هذا العالم قد يكون ، علي الأرجح ، خاضعا لقوة ذات سطوة باطشة وجبروت ، مفارقة للموضوعية والعقلانية ، بل هي مخالفة للناموس البشري نفسه ، ومتعالية ، ولربما تكون ، أيضا ، سائدة لبعض الوقت ، يطول أو يقصر ! تلك القوة القسرية المفروضة بأدوات البطش والقمع ، متعددة الأوجه ، لكنها تختلف – كليا – عن الواقع المتسربل بحيثيات اليومي المعاش للناس في راهنهم ! لهذا نجد أن شخوص محي الدين هم أناس بسطاء ، فقراء جدا ومتعبين ، لكنهم نبيلون جدا يعيشون الحياة ببراءة الأطفال وصدقهم ، كما يعايشون ، في ذات الوقت ، العذاب اليومي والعسف يطالهم
فلا ينال من أرواحهم و وعيهم . يحسونها ، النبضات الإنسانية كما هي : الحب ، الحقد الطبقي والوهم ، الإحتيال والزيف والنفاق والخداع ، دسائس ومكر الساسة والمجتمع ، تماما ، مثلما هم يحسونها : صدق الكلمات والعبارات ، والنقاء البشري والطهارة ، النبالة وجسارة الموقف وبسالة الفعل ال يضئ ! لهذا ، نري محي الدين يحتفي أيماء إحتفاء في قصيدته بالفقراء الذين يسلكون في الطرق الجانبية الفقيرة المظلمة ، ليلتقوا مع رصفاءهم تحت ظلال الأشجار المتمردة ، متمردة علي قوانين الإستثمار للقطع الجائر لها ، حياء ونبالة ومواقفا ، حتي السكاري ، والمتعبين الجدد
هم الشخوص الأثيرة لقصيدته !
لأجل هذا كله ، نجده يعلن حبه لبنفسجته مجددا ،علي تواتر مسار القصيدة ، ولا يمل عن تكرار " لازمة " القصيدة ، ذلك الحب الخرافي العميق ، التي هي ، زيت قنديله وضوء شموعه الذي سيتواصل توهجه ولمعانه ، وطويلا جدا سيظل ، فيناشدها بنفسجته ، بتمن وحنان :
... ( فإنشرحي
يا بنفسجتي ...
ثم أني أحبك ،
و ... ... ! ) .
لا ، لا ، حاشا نقول أن أعراس محي الدين تنتهي هنا لا، لكنها ، بحق ، تبتدئ من هنا ! فقد قصد الشاعر أن يتركنا فيها في موضعها هذا ، مشرعة أبوابها ونوافذها كلها صوب إحتمالات وتفسيرات كثيرة محتملة ، عظيمة وخصبة ، وذات ثراء وغني فذ ! أنا ، ذلك فيما يخصني ، لن أكتب عن هذه الخاتمة ، التي هي في قناعتي ، بداية أخري دائرية ، حلزونية الصعود ، متوهجة ولامعة . فالقصيدة تدور وتدور علي محورها نفسه ، مرة بعد أخري ، فتغدو – ويا للعجب – خاتمتها هي نفسها بدايتها ! كنت في أمل كثير أن أجالس الشاعر ، ثم أحاوره ، عن الصيرورة المتنامية لأشعاره ، ولمسرحياته
ومبادراته المسرحية ، و عن بدايات قصيدته هذه وخواتيمها التي جعلها مشرعة كشراع في الريح ! كنت أعلم أن تلك المجالسة ستكون ، لي عل الأقل ، ذات شأن عظيم ، لكنه ، لكنه ، لحسرتي العميقة ، أختار أن يكون منا في الرحيل ! لست أدري ، بعد ، لم قد فعلها ، هكذا ، صباح الثلاثاء 26/ 5 الماضي و ... غادرنا !! ستبقي ، يارفيقنا ، نعم ، رفيقنا الشيوعي ، بالفكر والشعر والأدب ، خالدا في ضمير شعبنا عبر إبداعك الجميل ، و ... في الحزب ، ستظل مثير الأسئلة المحرقة ، لنا جميعا يا محمد !
أعراس محمد محي الدين ...
---------------------------
إضاءة عن البنفسج :
( ليه يا بنفسج بتبهج
وأنت زهر حزين ؟! ) ...
- بيرم التونسي -
في هذا البيت الشعري ، عظيم الدلالة ، يصور لنا بيرم كيف هو يري البنفسج : حزينا ، صامتا ، يرقب الواقع الخشن من حوله ، يتأمله صابرا علي قسوته ،لكنه ، أيضا ، لم يمتثل لهذا الواقع المفجع فيستكين إليه ، ويظل ، كما الماء محايدا ، بل نراه يضفي ويشيع الإشراق والبهجة في من هم حوله ، لا ، ليس صامتا هنا ، فيشرع يرسل إشاراته الحيوية ثم يؤشر للفعل لمن يقرب منه وينظر إليه . أنه ينقل إليك حالته في جوهرها بالذات ، حالة من البهجة والإنشراح والشروق ، بيرم في حياته كلها ، وفي شعره أيضا ، يحتذي هذه الرؤية ذات الضجيج والفاعلية المستمرة ، فإنتمي بهما معا ،
الحياة والشعر ، إلي صف الفقراء والكادحين ، وكانت أشعاره في جملتها أشعار قلقة ومتوترة وتعايش حياة الناس في تحولاتها المتنوعة بخصوبة بادية وثراء عميقين . وهكذا كان شعره ينتمي إلي الوجه المضئ من البنفسج ، إلي حيث وجهه الحيوي الخلاق بإنبثاقاته اللافحة ودلالاته عميقة الأغوار . هي ، إذن ، رؤيا صاخبة وذات حيوية وخصوبة وثراء عميق للبنفسج في عين الشاعر وقلبه ، وبها تتصاعد معاني ودلالات وصور القصيدة إلي تخوم مشرقة البهاء والتوهج .
رؤية أخري رومانسية :
( البنفسج غادر صهوته / وانتهي للميادين / بين يدي صبية جائعين / يبيعونه فوق جسر الصبابات للعاشقين / وبين إشارات جند المرور / البنفسج لم يرتدع حين غادر أشجاره النائحات / ولم يتعظ بعذاباته / واكتفي بالدموع التي أغرقت جفنه / حينما علم الناس كيف يريقون ماء صباباتهم تحت أهداب فاتنة ... أشعلت نارها كي تصب الرصاص المحمي بأفواه صبوتهم / وأنا مترع بإزدحام الفؤاد إلي أخر السطر بالأمنيات التي أحرقت ألف حقل من الورد / أو ترتدي ثوب صفصافة سطعت بالحماس الربيعي عند إصطدام نوافذه بالغيوم ... / الهموم تدجج أوقاته وتحاصره / والبنفسج فجرئذ تائه ... / يتنقل بين
موائد أسئلة نكأت فرحه / فلماذا الرياحين تغبطه / ولماذا البنات الخجولات شبهنه بالحبيب البعيد ؟ / لماذا الوحيد يعلقه فوق جران غربته وينادي حبيبا نأي وأشتهي غير ذاك الذي يشتهيه الوحيد ؟ / لماذا الحبيبة هاربة من مواعيدها الزئبقية / لماذا أنا أحتفي بنداءات جرحي ثلاثين نوما / ثلاثين برقا هي النار تلدغ صدري / ولا نبع ماء قريب / ولا همس لحن الربابات / قال البنفسج قولته / وأنا قلت : هل للبنفسج بعض القرابات من عائلاتي ؟ / وهل للسلالة نأثيرها في دمائي ؟) . كما نري ، فأن الشاعر المصري عزت الطيري يريد للبنفسج أن يظل حبيس أشجاره وحدائقه ، وأن يكون
جميلا في موضعه ذاك يلون للعاشقين أيامهم ويجعل لأوقاتهم موسيقي كونية بديعة . وقد وجد الطيري أن البنفسج ظل علي ضحكه ، يضحك في وجع بعد أن ظل يرقب حبيبا قد ضيع في زحام الحياة ، فيما بين الحدائق وأشجارها ، حبيبته الغزالة
رؤية ثالثة ، أتكون هي رؤيا محي الدين ؟
للبنفسج رائحة ذكية ، وشذي فواح ، وله سيماء وملامح حلم الرؤيا إذ تنهض أمام ناظريك ، وله وفاء نادر ودافئ ، وهو صامد بقدرة فذة علي إستمرار توهجه ولمعانه ، وله القدرة الكلية علي البقاء المزهر في الذاكرة والزمن ، وهو ، أيضا ، مشروع حقيقي للإزدهار والنمو والإشتجار . يحيلك – وأنت تنظر إليه – إلي جميع الحدائق والبساتين ومواضع النباتات اللطيفة والزهور والورود جميعها ، فتذهب إليها متفقدا ما فيها ، زهرة زهرة ، وشتلة شتلة ، وفسيلا من بعد فسيل ، وترجع إليه – عند نهاية مطافك – ممتلئا بالإمتنان والعرفان وصدق التجربة الدافئة كما الخبز الطازج ،
فتجلس أمامه معترفا إليه بما لديه من قيمة الحياة وجدواها النبيلة . وللعشاق ، هو ثالث الأثنين ، مؤنس نجواهم الرفيقة ، ضوءهم وصاحب النجوي الخصوصية ، قنديله المضاء بزيت أصحابه وأصدقائه الخلص وأحبائه أجمعين . وللشعب والفقراء هو الدموع والحسرات والصبر الجميل ، والسهر والوجد والعزاء ، الحلم في أمل سيغدو أجمل عما قريب ! وهو ، أيضا ، العنفوان والبسالة الجريئة التي تقف ، أحيانا ، علي حافة الخطر وشفير الموت . وهو قدرتهم علي المقاومة والنضال ضد العسف والجور والظلم والطغيان ، هنا بالذات ، تجده قاطعا كالسيف البتار والفولاذ المحمي باللهيب ،
أبدا لا ينكسر ! وهو أيضا المدينة في وجوهها المتعددة جميعها ، هي كما هي ، بلا أية أقنعة زائفة ، فتواجده وحلوله حيث يكون الصدق والبراءة في وجوه النقاء والعذوبة والنبالة حيث ينعدم الزيف تماما ، فهو يستخلص منها ، كما الرحيق ، دفق الفرح وكأساته المترعة حتي حافاتها بالعذوبة وبالنضوج ! و ... لكن ، لم كل هذا الحديث عن البنفسج ؟! ذلك بسبب من أن قصيدة محي الدين ، هي قصيدة الماء والعشب و المقاومة بإمتياز . وقد رأيته ، منذ وقت مبكر ، يحتفي بالبنفسج والنبات والزهور في قصيدته ، وسنري ، من بعد ، كيف سيكون في نداء البنفسج في قصيدته البديعة " أعراس " ،
وكيف قد جعله مفتتحا ضروريا للوحات قصيدته .
عن الشاعر :
محمد محي الدين خلص شعره ، دفعة واحدة وعلي طول مسيرته الشعرية ، من مظاهر ضمور الرومانسية وموتها المبكر ، ففتح أمام قصيدته أفق شاسع في المدي ولإحتمالات عديدة لا تحدها حدود . فلم يكن أمامه من سبيل سوي أن يلخص تجربته ، ويشحنها بلوعة عميقة خاصة لمدينته ولوطنه ، ذلك الوطن الجريح كل مرة ويتناوشه الوحش لينشب فيه مخالبه وأسنانه فيدمي أطرافه وجسده ، ليبدأ منه النزيف ، الذي هو جراح الشاعر ونزيفه أيضا لا محالة ! لكن ، تلتحم معها وتعايشها ، فيجعل القصيدة تقول بما لاتستطيع قوله الكتابة في ظل غياب الديمقراطية ومصادرة أدوات التعبير . الشاعر قد
أمسك – من قبل ومن بعد – بمفردات قصيدته ولغتها ، وجعلهما زادا إليه ومؤنة ، في مسيرته الشعرية . جعلها محكومة بضابط موضوعي وهم شعري واحد هو : الوطن ، بتجلياته المتعددة كلها وبعمق الدلالات الكامنة في موضع الجوهر منه . وهو قد إنتبه ، منذ البدايات الأولي لتجربته الشعرية ، لصوت يناديه من الأعماق النقية التي يلتجئ إليها ، مشدودا بكلياته وقدراته الشعرية إلي صوت " فاطمة " حد أن شرع قي الرحيل إلي صوتها و ... إليها . باكرا قد رحل إليها بالفعل ، وهو في ذروة زمن رحيله ، يجد تمام عافيته الشعرية ولقصيدته لمعانها وتوهجها وإستمرارها الوجودي ، رحل
إليها ، إلي فاطمة / البلاد ، ليعاني عبء مسارات ومتطلبات قصيدته ومن ثم تجربته نفسها ، يعاني ليكتب ، ويكتب ليكون في فعل المصادمة لذلك الواقع المزرئ ويسعي لتغييره عبر رؤياه في القصيدة و الكتابة . فنجد أن مفردات الطبيعة في قصيدته ليست مظاهر جمالية مجردة ، لكنها عنده طبيعة مجسدة في الواقع أمامه ، يلامسها هو وكذلك تلامسها قصيدته نفسها ، فيعايشانها معا كما يفعل الناس من حولهما . لهذا ، نجد أن المفردات اليومية العادية وصور الطبيعة قريبة جدا لمفردة الشاعر ، ولذاته نفسها ، تماما مثلما هي قريبة أيضا للذات الجماعية من المجتمع الذي يعايشه
الشاعر بصدق ونقاء ورضي ! وبعيدا عن أية تهويمات فأن مشاعره الذاتية في قصيدته ، ليست تأملات مجردة مقطوعة السياق عن محيطها الواقعي ، لكنها هي مشاعر وتأملات إلتحمت بقصيدته نتيجة للأسئلة المريرة التي أبهظها واقع قاس أكثر مرارة , والثورة نفسها لديه ليست ، هي الأخري ، صورة لإستكمال شرط رومانتيكي ملحق بالقصيدة ، بل هي أجوبة باهرة ، لكنها أيضا ، نازفة بأوجاعها جراء تلك الأسئلة المقلقة المحرقة . لهذا ، أيضا ، نجد أن إختيارات الشاعر المبكرة في مجال تجديد وتطوير قصيدته ، هي إختيارات منسجمة كليا مع مشروعه الشعري والوجودي ، تتجلي في قصيدته
وكتابته المسرحية علي السواء ، ولعلنا لا نظلم الشاعر فيه أن رأينا أن خير تعبير عن ملامح وسمات هذا المشروع " التجديدي " لديه يظهر بتجليات واضحة في أعماله المسرحية ، حيث يضع تلك الإجابات في صور وتراكيب مسرحية واضحة ومعبرة بدقة لمجمل رؤياه وأفكاره في الحرية والديمقراطية والتحرر والثورة . لهذا ، فجعت شخصيا ، برحيله المفاجئ ، فلم يقل – بعد – كل ما لديه !
القصيدة ، أعراس الشاعر ...
محمد محي الدين يبدأ طقس أعراسه ، بالجلوس العظيم أمامها : أمام البنفسجة التي ذكرنا ، هي نفسها ، بلاده في إتساعها العميق ، في المعني والدلالة ، يدخل إليها بهو جلالها المهيب ، فأمامها وحدها يكون لمثل هذا " الكلام الفصيح " أن يطلع ، كما الرؤيا ، تبثق شاخصة في حضرتها البهية ، في ملكوتها بالذات ! الشاعر يعلم أن الأجساد قد نال منها تعب النضال ومتطلباته الخشنة ، قد أنهكها ، أو يكاد ، ذلك السعي المحموم الذي لا ينتهي لأجل أن ينال الإنسان كرامته وعزته وشموخه وكبرياؤه ، ذلك مما يصيب الناس وهم يكابدون في منازلة القمع والظلم ومحاولات
الديكتاتوريات سحق آدمية الإنسان . هذا النير القاسي الذي تمارسه الديكتاتورية وعلي أوسع نطاق تجاه الآخر ، أؤلئك الذين يملكون أفكارا ورؤي وأطروحات غير تلك السائدة بتوقيع الأنظمة في المجتمع ، وتسعي سعيها كله بوسائلها الهائلة في الإعلام والأمن علي بسطها في المجتمع كله ! الحرية للإنسان كانت هي رهان محمد محي الدين ومطلبه الذي ظل يلح عليه ، كان يمني نفسه ، وشعره أيضا ، أن يجدها متحققه واقعا في الوطن لدي عودته من بعثته في اليمن ! ولكنه ، ويا لحسرة الشاعر فيه ، لم يجده ! بل وجد " مسوخا " قبيحا يتحلقون ويكبرون لسوءاتهم أمام بنفسجته ، بالسلطة
والصولجان والسطوة والقمع والظلم يفعلون ، ويرقصون ، ويا لخطابهم الفج المشوه يسوقونه للمجتمع ! تلك كانت حسرة أخري تقترب من رؤي الشاعر ، تسعي لتنال منها ومن قصيدته . لكنه ، سرعان ما ينفلت من إسارها ، يبيعد عن " المسوخ " ويلتجئ إلي قصيدته ، فتسطع في بلاده التي يعشقها حد الوله ، فيصرخ ، مثلما فعل عبد الصبور ، في وجهها :
( إلي ، إلي ياغرباء ...
يافقراء ، يا مرضي ،
كسيري القلب والأعضاء ! ) ...
لكن ما يميز محي الدين عن عبد الصبور ، أن الأخير إلتجأ إلي التصوف والمرموزات المسيحية زادا لمسيره صوب الخلاص ، لكن محي الدين ، يشهر ، في الملأ ، إلتزامه بشعبه ووطنه وقضاياه الحيوية ، ينادي الناس ليعلن فيهم ، وفي الوطن ، موقفا إيجابيا ومنحازا بكلياته لأجل قضاياهم وخلاصهم !
يقول محي الدين :
( يا بنفسجتي ،
آن للفرح الآن أن يتفجر
فإقترحي رقصة المهرجان
النشيد الموقع بين الدخان
وعينيك تحت اللهب ! ) ...
هو هنا ، يضبط وقته ، في الحياة والشعر ، علي اللحظة الراهنة بالذات ، والتي لا مندوحة من أن يطلع منها الفرح ودماء العافية في الجسد ، هو طلوع ، لكنه في قوة وشدة الإنفجار والإعصار والزلزلة ! ولأجل هذا الطلوع في شموخه فأنه يقترح لبنفسجته " رقصة المهرجان " ، رقصة في بلبال النضال ، التي تدفع بالدماء الحارة في الأجساد المتعبة فتستحيل قوة جبارة تدفع بقوة ومثابرة بإتجاه التغيير المنشود ، وإلي الثورة ، يحدث كل ذلك ونشيد الثورة موقعا عليه " بين الدخان " وعيونها ، التي هي تحت شرارات اللهب ! لكن ، هنا ، يحق لنا أن نسأل الشاعر : لمن تكتب ؟
.. ( للمدينة هذي البطاقة ،
للأصدقاء القدامي
وللجدد المتعبين ...
وللفرح الطالع الآن من قلب
هنالك علاقة متوترة نشأت منذ زمان بعيد بين الشاعر ومدينته . نقول متوترة ، لكننا نعني أنها ذات حساسية عالية ، وتمتاز – تلك العلاقة – بشفافية عميقة ذات دلالات عديدة في شعره ، الذي هو رؤيات الشاعر وبصيرته في الحياة الواقعية في مستويات الراهن واليومي . هذه الألفة للمدينة وناسها أكسب صوته فرادة وخصوصية مبتكرة قل أن تجد لها نظيرا في شعرنا . أن ود مدني ، التي كان يأتيها الخليل ، في لحظات التوتر الحاد بين الرؤية الشعرية ومتطلبات النضال الوطني ، فيرتاح لديها برهة ، علي صدرها وبين ساعديها ، هذه المدينة التي غدت دالة علي محي الدين نفسه ، تجد
لها عرشا وثيرا مشبعا بالشذي وعبير أناشيد وأغاني النضال ، هكذا ، غدت عشقه وأحد أهم ملامح قصيدته . لهذا تراه يعلنه ، هذا العشق ، في الملأ ، هذه المحبة الناضجة ، فيقول أن بطاقات ولوحات قصيدته جميعها هي لأجلها ، لأجلها بالذات ، وللأصدقاء القدامي وللجدد المتعبين ، لكنه ، يؤكد ، دائما ، أن هنالك ثمة فرح سيأتي ، وسيطلع من بؤرة التعب التعب نفسها . ونلاحظ ، كيف للعينين تكونان وهي تحت اللهب ، تحت العسف وتحت الأقدام الغليظة للديكتاتورية . ولكن ، أيضا ، أن لمثل هذه الأقدام – عادة – لغة لدي الشعراء ، تماما مثلما للمدينة لغتها عندهم . فلمن ، تكتب
، أيضا ، أيها الشاعر العظيم كلماتك الساطعة المتوهجة لغة ودلالة ؟
اللوحة الثانية :
... ( لبنفسجتي نلتقي الآن .
أعلن بأسمك ،
أن جديد العصافير – في ظل
يناير المتجدد
في ظله المتمدد
في نجمه المتفرد .
للبحر ،
للشجر المتمرد
هذي البطاقة ...
للبحر ، للبر ، للمتعبين بليل المدينة
للواقفين بشباكها
وعلي باب متجرها ! ) ...
الشاعر ، الآن ، وفي هذا الوقت بالذات يلتقي بنفسجته / حبيبته التي يعشقها بولع وجنون ، يلتقيها ليعلن بأسمها هي ، لا غيرها ، ويقسم أمامها أن " جديد العصافير " سيأتي ، ستأتي في الغد الجميل الحرية والأغنيات ، الأناشيد وشعارات المرحلة ، قادمة لا محالة ! في هذه اللوحة تلبس القصيدة أردية الأمل المرتجي في أعماقه الخصيبة ذات البشارات . فالعصافير هي وعد وأمل مرتجي للشجر وللإخضراروللآمال الكبيرة في صيرورتها المتدفقة واستمرارها . ومعروف أن يناير هو شهر السودان المجيد ، رمزا لعزته وسيادته ، الوطن في تساميه وتعاليه علي الجراحات ونزيفها ، فهو
مجرح ومضرج بالدماء ، لكنه في جوهره ، معافي ونقيا وصلبا ، يتعمد بالدم ليصير صقيلا ناصعا بعد كل جرح ونزيف ، وبعد كل معاناة يخوضها . أن في أشعار محمد محي الدين ، في قاموسه الشعري بالتحديد ، تجد المفردات والعبارات يكسبها معان ودلالات مضيئة فتكرست في القصيدة لتضيئها : النجم المتفرد / البحر / الشجر المتمرد / البر / وليل المتعبين ( القدامي والجدد ) ، وهم أهل المدينة ، جميعهم حاضرين في ليل المدينة ونهاراتها في إصرار عتيد ، هم أناس الشاعر ورفقته الحميمة ، يعيشون أيامهم في قصيدته ، يقفون علي شباك المدينة وأمام أبواب متاجرها ، في أزقتها
وشوارعها ، تحت ظلال أشجارها المتمردة ، وعي شاطئ نهرها الرحيم ، هم ، جميعهم ، شخوص وحيوات قصيدته ومادتها الحية ، خميرة حياتها وزبدة عنفوانها !
اللوحة الثالثة :
... ( أننا ، يا بنفسجتي
الآن ، نترع البهجة القمرية
والفرح القزحي ...
الزغاريد تمرق من فوهات الحديد
المراجيح تخرج من فتحات المخازن
الرقص يشتد
الطبل يحمي – الدلاليك .
يخرج أطفال كل القري
من جيوب التجار
وتخرج هذي القصيدة
للبحر
أو للشوارع
أو لبنفسجتي ! ) ...
الشاعر هنا يقاتل باللغة الشعرية فتثتأثر وحدها بصوت الشاعر وتنتمي إلي وجهه وقصيدته . هو لا يكتفي بصليل الألفاظ وجرسها الحاد ، فيميل أحيانا كثيرة إلي الهمس والبوح الشفاف ، وليقترب – في ذات الوقت – إلي اسلوب مجايليه في القصيدة الحديثة ( الحديثة وقتذاك ) ، ولهذا تجد في قصيدته تتضافر لغته مع النزعة التبشيرية التي تلازم أدواته الشعرية في حميمية عميقة الأبعاد ، حد أن تقترب من لغة الحديث اليومي العادي بما يحاكي الواقع ، ولكن بسمات شعرية راقية وجذابة . يحدث كل ذلك لأن الشاعر يشارك ، شخصيا ، في النشاط التحرري والحراك الثقافي في مجتمعه .
وكل تلك المفردات في قصيدته تأخذ كامل زخمها وحيويتها ونضارتها : " البهجة القمرية " ، و " الفرح القزحي " ، و " الزغاريد " ، والمراجيح " ، ثم " الرقص الذي يشتد ويزداد صخبا وضجيجا وعافية في حضرة " الطبل " الحامي الذي يكاد يلتهب نشوانا وحماسة وفرحا ، و " الدلاليك " توقظ الناس وتلبسهم عافية الصحو الجميل واليقظة للفعل النبيل ، ليخرج ، من بعد ، أطفال كل القري بلا إستثناء ، يخرجون إلي الساحات والشوارع ، إلي حيث الملأ ، إلي حيث الشوارع النديات بالحضور البهي للحشود ، وبعافية الإندلاق علي نيران ذلك المشهد الخلاق ، يخرجون ، أولئك الأطفال الرائعون ،
زرافات كالشموس في سطوعها من " جيوب التجار " ، يخرجون من وسط ذلك الركام والجشع وسطوة رأس المال الطفيلي بكل حيفه وجوره البائن وحقارته ، بخروجهم الجسور يخلقون حالة إبهار ونشوة عارمة و ... عامة ! في معيتهم تكون قصيدة الشاعر ونداءه ، تخرج إلي حيث البحر ، ومن لا بحر له ، لا بر له علي قول درويش ، خروج ، إذن ، إلي الشوارع ، أو للبنفسجة علي قول محي الدين . فأنظر كيف يحيي الشاعر طقوس الفرح والعافية والنضال كاملة البهاء ، تضئ في الناس كما البلور الصافي النقي ، كدوالي القمر في حلته المذهبة تتدلي طقسا رحيما علي العشاق في لحظات نجواهم الحالمة من فوق
، فيجترح البهجة ذات الصفة القمرية ، و ... يعلن فرحا ممكنا في زمن فج دبق ! الشاعر يكسب شعره خاصية الفرح ، تطلع القصيدة أغنية من بين الركام فتندلق الزغاريد تشعل المواجد والنفوس ، ذلك فرح الوطن و إمكانيات إنتصاره الآتي أيضا ، تطلع من
" فوهات الحديد " ، تنسل من بين أصابع القمع والإرهاب ، ميلاد حقيقي مكتمل للفرح الشعبي في إزدهاره ونموه ، بشارة وإشارة بغد جميل سيأتي !
اللوحة الأخيرة :
... ( يا بنفسجتي ،
للمدينة حبي – وكل الحقول لك
النثر والشعر – نيل المدينة ،
أطفالها ومراجيحها ...
والظلال التي نلتقي تحتها ،
والبطاقات ...
هذي البطاقة – يا بنفسجتي
لصديقي الذي كان يرسم عينيك
ها هو الآن يمسح عينيه
من تعب ،
ويلون بالأخضر ...
الآن كفك مخضوبة ! ) ...
هنا ، أيضا ، الشاعر يبدأ طقس إعترافاته أمام بنفسجته ، التي هي بلاده ومدينته وحبيبته في آن ، ليؤكد ، أيضا ، حبه لهما ، وفي إفادته يقول أن كل الحقول لها ، كل النثر والشعر ... أراه يوضح ، بجلاء هنا ، رؤياه في الشعر والمسرح ، أعماله التي في جملتها منحازة بكلياتها لحيثيات الوطن وقضاياه الحيوية الجليلة كلها .ثم ، يضيف أشياء الحياة الجميلة فيجعلها إليها وحدها : نيل المدينة ، أطفال المدينة ومارجيحها ، ظلال أشجارها ملتقي الأصدقاء الجميلين والثائرين ، و البطاقات ، بطاقات الشعر والنثر أيضا ، قرابينك يا محي الدين ! ثم ، يستدرك فجأة ، كمن يصحو
وينتبه لفرط تداعياته وصوره الشعرية التي تمسك ببعضها في دفء حميم ، فيضيف : أن هذه البطاقة بالذات لصديقه الذي كان يرسم لها عينيها ، يراه الآن ، يمسح عينيه من غبارإنتهاكات عسس النظام وجلاوزته ويشرع يلون بالأخضر كفيها ، ذلك لأجل صديقه التشكيلي الشهيد طه يوسف عبيد . يلون كفيها بالأخضر لون الحقول ، لون الغصون والعشب والأشجار وعصافيرها ، لون القلوب أيضا ! ونسأله الشاعر أيضا : كيف له يلون كفيها بالأخضر والدم يسيل من بين يديها ، و ... الأحمر – لون الدم – لا يكذب يأتي ، كيف ؟ لكنه ، نتصوره يجلو عنها لون الدم ليجترح الأخضر يبقي مواتيا للفرح
بعد الإنتصار !
لمحمد محي الدين قصة طويلة الفصول مع الألوان والتشكيل والرسم ( لاحظ علاقته الشخصية العميقة مع التشكيلي الشهيد ) . اللون والألوان جميعها لها في قصيدته علاقة عميقة الأبعاد ، دافئة دفء ليالي الشتاء الجميلة ، ذات دلالات ومعان نبيلة ، واضحة الملامح في قصيدته وفي حياته نفسها . وللشاعر مطولة رائعة وتحتل مكانا مرموقا في تجربته الشعرية ، كرسها بالكامل لصديقه التشكيلي الشهيد طه يوسف عنونها : " عشرة لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر " ، قدمها تحية وتذكرة لروحه ، كتبها في يناير 1982بود مدني ، يقول في اللوحة العشرة منها :
( أخضرا كان لون الحقول
ولون الغصون ،
وأشجارها والعصافير .
كانت مياه الجداول زرقاء ...
والنهر غير أزياؤه
والمدارس
والمصنع ، الدور ...
والأحمر الآن .
أن الشوارع غارقة في الدم الأحمر .
والأحمر
لا يكذب يأتي
في سراويل من الدم يأتي
راجلا يسبق
آلاف الخناجر ! ) ...
أنا علي يقين ، أن علاقة الشاعر بذلك الفنان المرهف المبدع ، ذو الحساسيةالفنية العالية العميقة للفن والتشكيل ، هي التي – من بعض وجوهها – خصبت رؤي وقصيدة محي الدين بتلك الألوان البهية وبتلك اللوحات الرائعة . ولعل قصيدة " أعراس " موضوع هذه الكتابة ، تكون بذاتها دليلا ومؤشرا بالغ الدلالة علي عمق تلك العلاقة الفريدة ، التي أتت بجماليات التشكيل وزخمه البديع إلي رحاب وضفاف قصيدة محي الدين ، بل شكلت ، كما أري ، في تضاعيفها ظلالا لألوان شتي متألقة بتقنية معاصرة في التشكيل ، كمعرفة وكرؤيا بصرية ووجدانية تلتحم في نسيج القصيدة ، ومنها تشع
كما الشهب ، تجدها هنا وهناك ، فيما بين المفردة الشعرية والآخري المجاورة ، فيما بين الصورة والصورة ، فيما طلعة القصيدة وطلوعها ، حضور لوني بهيج يلون كل تخوم قصيدته في أية وجهة نظرت إليها ! هكذا رأيت محي الدين في تماهيه مع التشكيل واللوحة وعناصر الألوان في إختلاطها وبزوغها ، في كامل أبهاء صيرورتها ، ذروة الجمال اللوني مندغما في لغة وصور وروح القصيدة ، ذروة الوسامة الشعرية ، ضد قبح اللحظة الراهنة في الزمان القاسي !
وتمضي القصيدة في تواترها ، ليستدعي الشاعر لبنفسجته المقولة السائرة في الناس : ( أن خضاب الرجال الدماء ، وخضاب النساء الحناء ! ) ، لكنه لا يورها كما شاعت في الناس ، بل يبدو مستدركا لحديث وبوحه وقفة ما ، وتأملا ، فيذهب منحي آخر ، جديد ومبتكر ومخالف للمألوف ، " يعتذر " عنها رغم إنها سارت في الناس كالمسلمات ، يعتذر فيقلب المقولة تماما حد يكاد يقضي عليها ! فالأخضر لون يحبه الشاعر جدا ، تكاد لا تخلوه منه أيا من قصائده ، ثم هو لون ورمز لصديقه الفنان الشهيد ، محببا إليه أيضا ! يعو لقصيدته توا ، إلي حيث توهجها وهيجانها الباقي ، فيطلب من بنفسجته
أن " تقترح رقصة المهرجان " ، وأكاد أري في رقصة المهرجان نفسها خرائط ملونة بإختلاط اللون وتمازجه بالموسيقي و ... بالرقص ذاته ، رقصة ، لكنها لوحة تشكيلية مكتملة الألوان مرقشة علي الجسد ، واللون في مكان الجوهر منها ، أحدي عناصرها الأساسية .
... ( يا بنفسجتي
غير أن خضاب الرجال ...
أعتذر !
أقترحي رقصة المهرجان .
سأعلن بأسم القدامي أو
المتعبين الجدد
بأسمك المتفجر في داخلي
سوف تهتز كل الشوارع بالفرح .
وأحبك ...
سينفجر الحزن بالمزن
والموت بالصوت ! ) ...
عند هذا المستوي من القصيدة ، تجدها مجللة بالكامل بالتوتر الحاد تجاه حركة الواقع وتجلياتها ، والشاعر مولع ومهجوس بالتجريب ، وبالبحث المستمر الذي سيكسب قصيدته وجها وملامح متفردة وذات خصوصية . ومغامرته المدهشة هذه تخلق اشالها من ذات نفسها ، تلك الأشكال والصور الفريدة في قصيدته ، تحتوي في مكان القلب منها ، حسه العميق ، بوتائر عالية مشدودة إلي واقعه وطموحه المحموم إلي إحتواء هذا الواقع دفعة واحدة ، لكنه يعيد خلقه مرة أخري خلقا يتيح له ، من بعد ، معرفة هذا الواقع وتأمل كل قسماته وملامحه وقوانينه ذوات الفعالية المؤثرة التي يرها فيه
ويكتشف تضاريسها ببصيرة الشاعر فيه ، وهي كامنة ، علي ما يبدو ، وساكنة ، علي السطح ! ولكن ، ما الذي يود محمد محي الدين أن يقوله من خلال قصيدته ؟أن الشاعر كما عرفته ، وازددت بها من خلال قصيدته ، هو فنانا واعيا ، والوعي هنا هو قرين كل الكينونات التي عبر بها عن موقفه بإزاء ما هو كائن أمامه ، في ذات اللحظة التي تولد فيها قصيدته . وفيما أري فأن إمتياز محي الدين وإنجازه الكبير في القصيدة ، يكمن في محاولته الجسورة في تخطي وتجاوز اللغة الشعرية السائدة ، إلي حيث تكون اللغة في القصيدة لغة جديدة بالكلية . وهذا ما إستدعي ، بالضرورة ، واقعا فنيا
جديدا لقصيدته . لأن فن الشعر هو علي التأكيد ، بناء لغوي متماسك البني والمستويات ضمن إطار شكلي فريد ، وصور شعرية مبتكرة وراقية و ... نامية . وهذا هو ، بالضبط ، ما نجحت فيه قصيدة محي الدين ، فظلت في الفضاء الشعري في بلادنا ، متفردة وذات خصوصية ، لا تشبه أية قصيدة ماضية ، ولا أية قصيدة راهنة . ولهذا نقول ، بإطمئنان ، أن لمحي الدين صوت هو صوته هو ، لا شبيه له !
بعد أن اقترح الشاعر لبنفسجته " رقصة المهرجان " ، سيبدأ يعلن – أمام شعبه ووطنه ومدينته وأهلها – حيثيات مواقفه كلها ، بصورة يقينية صارمة هذه المرة . وإعلانه يأخذ صيغة " القسم " ، خوفا من النكوص علي ما يبدو ، يقدمه أيضا بين يدي بنفسجته ، ويكون إعلانه بصيغة الجمع ، فلسانه غدا لسانا جماعيا ، وضميره جماعيا ، ووجهته جماعية ، وقصيدته – بمفرداتها وصورها وتراكيبها – تأخذ وجهة هي الأخري جماعية ، ليست ذاتية . أن قصيدته قصيدة الشخوص والدراما والحوار ، جماعية في الرؤي والأخيلة ، بأسم الجميع كما يقول ، هكذا علي اطلاق صيغة الجمع ، " القدامي أو
المتعبين الجدد " ، وبأسمها ، تلك البنفسجة العفية ، بكل الدلالات والإحالات الكامنة ، كالبذرة النامية فيه ، فتتفجر منه اللغة والكلمة والعبارة ، صورا ومعان . عند هذا المنحي يجئ إعلانه ، المنفستو الذي تسعي قصيدته كلها في أثره ببطء وبمثابرة وإصرار عجيب :
... ( سوف تهتز الشوارع بالفرح
وأحبك .
سينفجر الحزن مزنا
والموت بالصوت ! ) ...
ذروة الإنتماء للإنسان ، ، في بساطته وتلقائيته النقية ، ويسعي صوب إكتمال إنسانيته ، والعوة الجهيرة لإحترامها وصيانتها ، تلك المبادئ ترقي لدي الشاعر لمرتبة القداسة . عندما يختلط ذلك الحزن ، الطارئ المؤقت ، بالمطر فسيكون ميلادا وإخصابا جديدا للحياة القادمة ، الحياة الجميلة التي تستحق أن تعاش كما قال درويش ، وأن يضحي الإنسان بحياته نفسها لأجل صيانتها وصيرورة إكتمال دوراتها . عندها سوف " ينفجر الموت بالصوت " ، مطر الحشود يزهر صمودا ومقاومة في الناس ومنازلة للطغيان ، الشاعر هنا جعل من الصوت حياة محضة في مواجهة الموت الذي هو فناء وعدم
كما هو معلوم . قبله كان درويش قد قذف في وجوهنا سؤاله الجارح : (هل يصل الصوت / أم يصل الموت ؟ ) ، وترك للقصيدة كامل حريتها فتتقدم للإجابة علي هذا السؤال الفذ ! محي الدين خلط الصوت بالموت في تلازم رهيب ، في تلازم المصادمة ، ليطلع منهما صوتا منتصرا بالمطر والحب والشعب ، يفصح الشاعر بدواخله ، بيقيناته صوب شعبه ووطنه ومدينته وأهلها :
... ( يا بنفسجتي وأحبك .
يتفجر الوعد بالرعد
والشرق بالبرق
والطرق الجانبية بالفقراء ،
فأنشرحي .
يا بنفسجتي ،
ثم أني أحبك
و ... ... ! ) .
هكذا ، إذن ، تنتهي القصيدة ، هي بالأحري ، تبتدي !
ولكن : هل هذا العالم الذي يكتب من وسط قسوته الشاعر قصيدته ينتمي إلي الغاب ؟ أن فيه ، علي التأكيد ، بعضا كثيرا من ملامح الغاب ! أذكر أن الشيخ أمام كان يغني وهو وسط جموع الفقراء و " المتعبين " في أحياء القاهرة الفقيرة ولياليها المكتظة بالعسس ، بنبرات صوته القوي البليغ : ( غابة كلابها ديابة / نازلين في الناس هم / هم ... هم ... هم ! ) . ولكن ، أن تكون للواقع بعض ملامح الغابة أو جلها ، في زمان يتسيد فيه الطغيان ويستشري ، أو أن الناب والساعد يصبحان هما القانون السائد ، فذلك ليس أمرا قدريا لا فكاك منه علي أية حال ولا مناص منه ، نقول ذلك ، ونحن نعلم ،
يقينا ، أن مثل هذا العالم قد يكون ، علي الأرجح ، خاضعا لقوة ذات سطوة باطشة وجبروت ، مفارقة للموضوعية والعقلانية ، بل هي مخالفة للناموس البشري نفسه ، ومتعالية ، ولربما تكون ، أيضا ، سائدة لبعض الوقت ، يطول أو يقصر ! تلك القوة القسرية المفروضة بأدوات البطش والقمع ، متعددة الأوجه ، لكنها تختلف – كليا – عن الواقع المتسربل بحيثيات اليومي المعاش للناس في راهنهم ! لهذا نجد أن شخوص محي الدين هم أناس بسطاء ، فقراء جدا ومتعبين ، لكنهم نبيلون جدا يعيشون الحياة ببراءة الأطفال وصدقهم ، كما يعايشون ، في ذات الوقت ، العذاب اليومي والعسف يطالهم
فلا ينال من أرواحهم و وعيهم . يحسونها ، النبضات الإنسانية كما هي : الحب ، الحقد الطبقي والوهم ، الإحتيال والزيف والنفاق والخداع ، دسائس ومكر الساسة والمجتمع ، تماما ، مثلما هم يحسونها : صدق الكلمات والعبارات ، والنقاء البشري والطهارة ، النبالة وجسارة الموقف وبسالة الفعل ال يضئ ! لهذا ، نري محي الدين يحتفي أيماء إحتفاء في قصيدته بالفقراء الذين يسلكون في الطرق الجانبية الفقيرة المظلمة ، ليلتقوا مع رصفاءهم تحت ظلال الأشجار المتمردة ، متمردة علي قوانين الإستثمار للقطع الجائر لها ، حياء ونبالة ومواقفا ، حتي السكاري ، والمتعبين الجدد
هم الشخوص الأثيرة لقصيدته !
لأجل هذا كله ، نجده يعلن حبه لبنفسجته مجددا ،علي تواتر مسار القصيدة ، ولا يمل عن تكرار " لازمة " القصيدة ، ذلك الحب الخرافي العميق ، التي هي ، زيت قنديله وضوء شموعه الذي سيتواصل توهجه ولمعانه ، وطويلا جدا سيظل ، فيناشدها بنفسجته ، بتمن وحنان :
... ( فإنشرحي
يا بنفسجتي ...
ثم أني أحبك ،
و ... ... ! ) .
لا ، لا ، حاشا نقول أن أعراس محي الدين تنتهي هنا لا، لكنها ، بحق ، تبتدئ من هنا ! فقد قصد الشاعر أن يتركنا فيها في موضعها هذا ، مشرعة أبوابها ونوافذها كلها صوب إحتمالات وتفسيرات كثيرة محتملة ، عظيمة وخصبة ، وذات ثراء وغني فذ ! أنا ، ذلك فيما يخصني ، لن أكتب عن هذه الخاتمة ، التي هي في قناعتي ، بداية أخري دائرية ، حلزونية الصعود ، متوهجة ولامعة . فالقصيدة تدور وتدور علي محورها نفسه ، مرة بعد أخري ، فتغدو – ويا للعجب – خاتمتها هي نفسها بدايتها ! كنت في أمل كثير أن أجالس الشاعر ، ثم أحاوره ، عن الصيرورة المتنامية لأشعاره ، ولمسرحياته
ومبادراته المسرحية ، و عن بدايات قصيدته هذه وخواتيمها التي جعلها مشرعة كشراع في الريح ! كنت أعلم أن تلك المجالسة ستكون ، لي عل الأقل ، ذات شأن عظيم ، لكنه ، لكنه ، لحسرتي العميقة ، أختار أن يكون منا في الرحيل ! لست أدري ، بعد ، لم قد فعلها ، هكذا ، صباح الثلاثاء 26/ 5 الماضي و ... غادرنا !! ستبقي ، يارفيقنا ، نعم ، رفيقنا الشيوعي ، بالفكر والشعر والأدب ، خالدا في ضمير شعبنا عبر إبداعك الجميل ، و ... في الحزب ، ستظل مثير الأسئلة المحرقة ، لنا جميعا يا محمد !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق