غافلتنا بالمقاومة ، و ... رحلت ياسميح !
ثمة حزن كثير إذ نقول إليك وداعا يا حبيب ...
--------------------------------------------
مدخل إلينا لا إليك :
سميح القاسم كان قد ولد لعائلة درزية في مدينة الزرقاء في 11/5/ 1939 ، حتي رحل عنا مساء الثلاثاء19/8/2014 في مستشفي مدينة صفد في منطقة الجليل التي نقل إليها قبل حوالي عشرة أيام من يوم وفاته علي أثر تدهور صحته بوتائر عالية جراء إصابته بسرطان الكبد قبل ثلاثة أعوام . وظل من وقتذاك يتعاطي العلاج الكيمائي في مواجهته ، رحل سميح بعمر 75 عاما ، أقل بعام واحد عن درويش ! وطوال هذه السنوات ، ظل البروفسور الفلسطيني جمال زيدان رئيس قسم السرطان بالمستشفي ، يتابع حالته بود كبير وبإهتمام وحرص لمعرفته العميقة بمكانة الشاعر الكبيرة في الشعر والنضال . ظل سميح منتميا – بقناعة فكرية وبوعي معرفي – إلي الحزب الشيوعي الفلسطيني ، وظل طوال تاريخه ملتزما ذلك الإنتماء ومعتزا به . سميح تفرغ تماما للعمل الأدبي في سنواته الأخيرة وتنوعت أعماله بين الشعر – كجوهر نشط ومشع في حياته – والنثر والمسرحية والرواية وفي البحث والترجمة أيضا . حوالي 75 مؤلفا في مناحي المعرفة علي تنوعها واتساعها ، فقد درج أن يكون قارئا جيدا وكاتبا وشاعرا كبيرا و مناضلا في طليعة البواسل من أبناء وبنات فلسطين .
لا ، لم يكن في ذات رؤيا درويش في حياته الشخصية ، فقد تزوج وأصبح أبا جميلا وقدوة للأبناء :
وطن و وضاح ، عمر وياسر .
هل يصل الصوت ياسميح أم قد وصلك الموت ؟
عرف عن سميح في شعره ، وفي سائر أعماله اهتمامه العالي بقضايا شعبه وتوقه العارم للحرية والتقدم والديمقراطية ، هذا كان جوهر سعيه في الحياة ، حريصا علي هذا النهج وحفيا به حد الزهو به ، وبرغم غزارة مؤلفاته وحياته الخصبة ، فلم يبلغ بشعره ما بلغه مواطنه الشاعر الكبير الراحل درويش ، فلقد أخذته الحياة إليها بزخمها وتناقضاتها وصراعاتها ، فظل يعب من مناهلها وعطاياها وهباتها فوظف الشعر لخدمة هذه القضايا ، حافظ علي وظيفة للشعر لم يتخلي عنها فجعله جماهيريا وفي أيدي الجماهير ، راية وساعد ، نشيدا للثورة وأغنية . لكنه – في ظني – بعد أن داهمه السرطان أخذ يتأمل في الموت والحياة بشكل مغاير لما كان يراه عليهما طوال مسيرته الإبداعية . وستظل قصيدته الكبيرة " أشد من الماء حزنا " علامة فارقة في شعره وأعدها أنصع وأشمل سيرة عنه ، سواء تلك التي سردها هو أو تناولها آخرون عنه . فقد حدق في الموت الذي يتربص به ، كما القانصين الرشاق علي قول توفيق صايغ و ... يتأمله بما وهبته إليه الحياة ، ثم نظر إلي نفسه هو ، وإلي حال شعبه وقضاياه ، ونظر أيضا – بعمق أقل – لفكره وموقع ذلك الفكر في راهن الحياة ، حياته نفسها وتلك التي من حوله . وبنصف عين – فقد غدت واهية جراء المرض – إلي الجمال والحب ، وإلي مكونات وعناصر تلك الهبة الجميلة للحياة ، تماما مثلما رأته وكتبته الشاعرة التونسية ماجدة الظاهري التي جعلت في تكوينات الماء واللون عناصر جمالية تخالط الحياة فتجملها إذ ترافق الإنسان في رؤاه وعواطفه أينما حل .
" من الماء كانت هموم السحاب
ومن سمك القرش كانت هموم ( قريش )
وكنت من الماء أنت
ومن سمك القرش كنت
تمهل قليلا ...
تمهل كثيرا .
تمهل ...
همومك أولها ما احتملت
وآخرها ما جهلت
تمهل ! "
ففترة المرض ، حين تلم بالشاعر ، تجعله – بحق – في مفترق الطرق ، وأمامه طريقان لا ثالث لهما : أما الضياع والتوهان في عتمة الموت ونشدان الخلاص ، كما نجده عند السياب وخليل حاوي ، أو أن يري في الموت حياة ، مثلما فعل درويش في " الجدارية " بعد العملية الأولي ، وكما فعل – من بعد – سميح نفسه ، وإن بقدر أقل من عمق الرؤيا وإستبصار ما في الموت من جدوي وخسارة و نصاعة تضاف إلي الحياة ، حياة الناس الذين يحبهم .
أخذ سميح ، إذن ، يري موته قريبا جدا منه ، يتناوشه وينال منه ، من أطرافه الأكثر حيوية ، فلا مناص ، والحال كذلك ، من أن يحاوره في سماته تلك ، في دورة الماء والطين والعشب وفي رفقة الحياة .
لم أخفيت عنا كل مواجعك و ... موتك ياسميح ؟
لربما ، لأول مرة ، يلجأ سميح إلي إعمال التخفي في شعره ، لم يفعلها إلا فيما ندر . لكنه عند مرضه شرع يخفي معاناة المرض والحياة وآلامه التي تقتص الآن منه ، يخفيها ببراعة في متون شعره . فيقول ما لا يود أن يقوله بعد أن يجعله في دثار يخفي – قليلا أو كثيرا – كل تلك المواجد المبرحة التي إنتابته فجعلته يكف عن نهجه ويختار أن يمضي في ما هو فيه ، وقد غدا – جراء المرض - شأنا عظيما في مواجده :
" أشد من الماء حزنا
تغربت في دهشة الموت عن هذه اليابسة
أشد من الماء حزنا ...
وأعتي من الريح توقا إلي لحظة ناعسة ،
وحيدا
ومزدحما بالملايين ،
خلف شبابيكها الدامسة " ...
... ... ...
" لمن علب الأدوية ؟لمن سترة الصوف والأغطية ؟
لمن هاتف الأمبولانس ،
وعنوان عائلة الصيدلي المناوب ؟
أنت تناور ناي المدي ودنو الأجل !
لماذا ؟ وكيف ؟ وأين وهل ؟
دع الأحجية
وأسئلة القلق المزرية
فما أبدي في أزل
وألف نبي وصل
وقبلك ألف نبي رحل .
أشد من الماء حزنا
أشد من الحزن حزنا
أشد من الموت حزنا ! " ...
هكذا ، علي هذا المنوال ظلت تفضحه عواطفه ، وهو يود لو يستطيع اخفاء حكايته مع الموت وتداعي الجسد وتعلق القلب والرؤيا بما وراء الموت ، ذلك اللص الجبان علي قول درويش الذي يغافلنا – بخبث ماهر – فيأخذنا إلي حيث لا ندري ! رأيته خجلان يفصح عنها تلك الوهلة من عمره . لحظات بؤس الكائن إذ يعاين موته قد أقترب حد أخذ يلامسه بخشونة ، لا بليونته التي تترأي له وهو يخوض في بلبال الحياة ، تؤرقه ، أجل ، وتشحذ إليه عواطفه ، فيجعلها صوبه ! لكن سميحا كان خائضا جسورا في الحياة ، في الدوامة التي هي بؤرتها وتوهجها ، فظل يعب منها ولا يكف عنها ، تذكرها ، إذن ، فجعل في قصيدة " أشد من الماء حزنا " الحياة تتناثر في مساحات وساحات واسعة فتشرع تعلن عما فيها ، حشد من الحيوات والنضالات والمقاومة ، حتي نذالة المحتل وقبحه ودمويته جعلها في القصيدة ، لأحد أن يري فيها قصيدة " مقاتلة " ، لربما ، لكن وجه الموت هو أنصع وأوضح ما فيها !
عزيزي سميح ...
لماذا – بالله عليك - قد غافلتنا ، وما غفلنا لحظة عنك ، و ... مت ؟
هل لأن الموت خلاص ؟ هل خايلك السياب إذ يصرخ يطلب موتا ، أم أن الذي صاحبك تلك البرهة هو أبن عربي صائحا في الناس ، متوسلا ، أن يكون أحدا في مقتله ؟ لم ، إذن ، قد أخفيت عنا كل ذلك الألم الممض في الذاكرة إذ تكون في تفكر الموت وكيف كانت الحياة ، وفي الجسد وهو في الإضمحلال والتلاشي ؟ لماذا – وكان في مقدروك – أن ترينا ما رأيت و ... تشرع تصرخ في وجه موتك ، وليصير ما هو ، أصلا ، صائر ؟ هل أدركتك المصائر نفسها التي تحف بالموت حين يأتي فترافقه ، وإلي أين ؟
هل ، حقا ، هي مراوغة الحياة حد تقولها :
" أتعرف ؟
أخطأت حين قرأت الحياة بحبك .
وأخطأت حين رأيت الوجود بقلبك
ولا ...
لا تقل لي " البصيرة " ،
للمرء عينان
والقلب واحد
فكيف تجيد حساب المواجد؟
وكيف تحب كما ينبغي أن تحب ؟
ومن لا يري يتعثر
في تعتعات الرؤي وشعاب المقاصد
فجاهد
كما ينبغي أن تجاهد !
تأمل بعينين مفتوحتين
وقلب بصير ...
تأمل وكابد
كما ينبغي ،
لا تكرر حماقة " سيزيف " ...
قف في أعالي العذاب ،
تأمل وراجع
وطالع وتابع
وشاهد
وصارع .
حزينا قويا كصمت المعابد
حزينا ،
أشد من الماء حزنا " ...
و ... أنت ، ياعزيزنا ، في محنة الموت تلملم جراح روحك و تلملم إليك إنهيارات جسدك ، حين تراه يذهب عنك ، وأنت مشغول إليه بما قد رأيت وعشت وأحببت ، لم لم تستغيث ، لا رعبا ولا خوفا ولا لتستقبل مهرولون إليك لتنجو بهم ، بل لتقهر هذا الذي قد أتاك بعد أن راوغك وأسلمك شيئا من رؤاه البائسة ؟ لكأنك كنت في ذراري الألم حين قلت :
" هل تستغيث ؟
بمن تستغيث ؟
وشمس قميصك تعلو ...
وتهوي جبال الجليد
وتعلو مياه البحار
ويعلو علي المد مد الهلاك
وينأي جناح الملاك
وتدنو رياح الدمار
وأنت علي قمة الأرض تقبع
لا نوح يشفع
لا فلك ينفع
لا غصن زيتونة في المدار
وأنت علي قمة الموت تذوي
وتطوي القميص علي محنة القلب ...
تطوي
وتهوي
غريبا ... حزينا
أشد من الماء حزنا ! " *
عزيزنا الغالي سميح ...
الآن ، الآن قد عرفتك ، عرفت موتك ، ورأيت في ما تقول الحياة .
سلاما إليك حيث ذهبت ، سلاما لقلبك ، علي أية حال ، قد أستراح من الجلجلة ، وهذا كتابك نقرأ فيه أولك ، نقرأ موتك ، و رحلتك ، فكن – يا سميح – كما في الحياة في الخالدين النشيد .
وداعا جميلا ، حزينا حزينا ، أشد من الماء حزنا !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق