* تمثال دون كيشوت وتابعه سانشو في أحد أهم ميادين مدريد في أسبانيا
* دالي *
دائما ، يجلس منتصبا فوق ظهر حصانه ، يمسك رمحه في يد ، بينما يرفع الآخري ، لربما إحتجاجا أو إعتراضا ، فكلاهما في قلبه حافزان للمنازلة ! جسده هزيل نحيف ، وحصانه هزيل أعجف ، ورمحه رفيع ، حاد طويل ، معتزا بنفسه حد مواجهة الخطر ، وبجانبه ، دائما يمشي – كلوحة سريالية – تابعه الأمين " سانشو بنزا " ، بقامته القصيرة وجسده المكوز ، يجلس فوق ظهر حماره وقد وضع علي رأسه خوذة ، لكنها كانت قبل أن يشغلها وعاء يستخدمه الحلاق في إذابة الصابون ... يحدق أمامه ، في شرود حر ، لربما يشغل باله التفكير في الجزر والأرخبيلات الفاتنة والممالك التي وعدها به سيده دون كيشوت ، ولم يف – بعد – بأيا منها ، فظل في سعيه الرحيم المثابر ! لم يكونا – أيا منهما – ليرضخ للهزيمة ولا للمهانة والدعة تنال منهما . دون كيشوت ، ظل لأكثر من أربعمائة عام غير مستعدا للإستسلام ، ولم يكن أبدا غائبا عن عالمنا ومايدور فيه ... ذلك الفارس الوحيد، الذي يقف ، بشموخ وبسالة ونبالة الفرسان ، وقفته ذات الأنفة والكبرياء العالية ليقول قوله في الملأ ، ويعلن موقفه في الناس والعالم ! وحده ، يفعل ذلك ، بعد أن رحلت مواكب الفرسان من كل نوع عن عالمنا بلا رجعة : فرسان المائدة المستديرة ، فرسان الصليب والهيكل والإنكشارية وحتي فرسان المماليك ... وحده ، من بين فرسان كل العصور ، بقي في الذاكرة الإنسانية يعلن مطالعه فينا كل صباح ، ممسكا – بثبات وتماسك عنيد – مبادئه لا يتازل عنها قط ولا يهادن بشأنها ، لكأنه يقول إلينا : أن الصغائر الدنيئة والأكاذيب وألاعيب السحرة والمردة من بني البشر ، ويفعلونها بالقول والفعل والمراوغة ، لا تزال فاشية في الناس ! لذا قرر دونما تردد أن يكرس للأبد خروجه الجسور في مواجهتها ،في ميادين تواجدها ومعاركها بالذات !
ويالعظمة ونبالة قضيته ، ويالعظمة ذاك المدرك أقدار الدنيا والناس : " شافيز " ، نعم ، هو نفسه الذي كان قد أعلن في الملأ ثم شرع لفوره يوزع مليون نسخة من رواية دون كيشوت مجانا علي مواطنيه ... كان شافيز رائيا ، واعيا بالعالم من حوله ، فقد أراد لشعبه الذي يحبه ، أن يتمعن في مثال هذا البطل الذي حارب ، ولا يزال ، طواحين الهواء بلا هوادة أو وهن ، وبعزيمة وأصرار لا يتوقف لحظة ، وهو في ملاحقة مثله وقيمه السامية ... قال شافيز العظيم : " سنقرأ جميعا دون كيشوت ، لنتغذي أكثر من روح مكافحة أرادات إحقاق الحق وتصحيح العالم ، إننا جميعا أتباع دون كيشوت إلي حد ما " ... أبدا ما فعلها أحد غيره ، فيالعظمة روح الإنسان حين تكون في مصاحبة الوعي ، الوعي بوجودنا وبالعالم !
دون كيشوت أمتلك نفسا كبيرة عالية ذات كبرياء وإباء وشموخ ، أبدا لم يقبل يكون في دائرة الواقع الضيقة بصراعاتها وآثامها وتناقضاتها ، لم يرض – أيضا – أن يكون رهينا لإمكانياته الضئيلة التي لا يملك في يديه سواها . فهو نبيل متوسط الحال ، هزيل الجسم وفي الخمسينيات من عمره ، بصره ضعيف جراء كثرة مطالعاته كتب وتراث الفروسية علي مر العصور ... تمرد علي واقعه المترف حين أحس في أعماق قلبهع ورؤاه أن العالم من حوله يضج بالمظالم والبؤس والفقر والتسلط والقهر والعدوان ، ولابد لأحد أن يخرج لمقارعتها ومنازلتها في ميادينها أينما وجدت ، فقرر – في لحظة إنبثاق الرؤية – أن يخرج هو ليخوض غمار المعارك صوب تغيير هذه الوقائع المزرية إلي غد أفضل وأكثر عدالة وجمالا ... فأختار أن يكون فارسا من نبلاء القرون الوسطي ... هذا ، أجمالا ، ما قامت عليه أسس الرواية الخالدة : التناقض بين المثال والواقع ، بين الوهم والحقيقة .... فيثير لدينا الضحك والسخرية ، لكنهما ، معا ، من سمات الفن الراقي والحياة الجليلة ! وسرفانس ، مؤلف الرواية ، نسج روايته علي فن الكوميديا التي تشحذ العقل وتشغل التفكير ، أن حس السخرية والقدرة علي أكتشاف التناقض ، هو الذي ضمن لفن الرواية التميز دون سائر الفنون ، وهو الذي يضمن بقاءها ، علي كونديرا ! إذن ، غادر دون كيشوت قصره وحياته المترفة ليخوض تجربة الفروسية مرتين : في الأولي كان وحيدا ، عديم الخبرة بالعالم من حوله ، لذا كانت هزيمته سريعة وقاسية ، وجروحه مثخنة نازفة ، كان يوشك علي الموت حين عاد إلي بيته ، لكنه لم يمت ... بل سرعان ما أستعاد إليه روح المغامرة والجسارة في مواجهة الأهوال حد أن أمتلأت روحه بها من جديد ، تلك الروح العجيبة التي لا تعرف الهزيمة ولا الوهن ولا الشيخوخة ... هكذا راح يعيد بعث روحه من جديد ، فيجعلها في مرتبة المقاومة والمضي في سبيل نيل المعالي ومطالبها في الأنتصار . هذه المرة ، أستطاع أن بستميل إليه أحد الفلاحين من ضمن الذين يعملون عندهم بأن تابعا له ... فكان " سانشو بنزا " العظيم ، وهكذا بدأت واحدة من أكبر المغامرات في تاريخ الرواية في العالم :
حرب ضد العمالقة التي هي في حقيقتهما طواحين هواء ، وضد الجيوش المسحورة التي هي أغنام ، وتقديم العواطف منقادة بأشواق مزهرات عاليات لأميرات هن في واقع أمرهن بائعات هوي ، وإنقاذ لفرسان ما هم إلا مجرمون سفلة ... هكذا تمضي في سرديات الرواية تلك " الثنائية " العجيبة بين الوهم والحقيقة ، وتتحول - وياللسخرية والمفارقة – كل هزيمة إلي أنتصار ، تماما كما يحدث لدينا هذه الأيام ، حين تتحول – بإفك وضلال المتأسلمين – الهزائم إلي أنتصارات باهرة ، مع فارق النبالة هنا ، والخسة هناك عند المتأسلمين ! يتلقي دون كيشوت من الضربات والطعنات أكثر من تلك التي يوجهها للأعداء ، فيمتلئ جسده بالجروح في نزفها القاسي وخشونته ، لكن روح المغامرة فيه وحبه المجنون للأنتصار لا تموت ، متجاوزا بها جسده الواهن المثخن ، وعظامه الهشة ، وعمره الذي علي مشارف الشيخوخة ! أما ذلك المخلص المتفاني في الحياة ، تابعه الأمين المبارك سانشو بنزا ، الشخصية الضرورية والمكملة بخق لشخصية دون كيشوت ، فقد كان فلاحا عاديا ، محدود الأفق والتفكير ، نهما ولا يدرك كنه الأشياء ، إلا تلك التي يحسها حين تلامسها أصابعه ، أميا لا يعرف القراءة والكتابة ، ولعل تلك هي نقطة ضعفه الأساسية في حياته ... فمن المؤكد أنه لم يصدق دون كيشوت ووعده إليه أن يمنحه لقاء مرافقته إياه ، جزيرة وينصبه ملكا عليها ! لكنه – فيما يبدو – قد أخذ ببلاغة دون كيشوت وسحر بيانه ، بأشواقه المستحيلة وطموحاته النبيلة وسعة معارفه وثقافته وفصاحته ، فها هو يقول إليه : " في الحقيقة ، ياسيدي ، أنك واعظ أفضل منك سيدا " ... لا ، لم يكن به وهم حين سار من خلفه ، فقد كان يري العالم عاريا ، تماما كما هو علي حقيقته القاسية ... وكان ، أيضا ، يعرف أن معاركهما هي في حقيقتها مع طواحين هواء لا مع مردة وشياطين ، وأن ما يعترضهما هي أغنام ليست جيوشا مسحورة ، وأن هؤلاء الذين في الأسر يخوضون المعارك لإطلاقهم ما هم إلا مساجين وقتلة ليسوا فرسانا مهزومين ، بل أن سانشو يعرف أيضا ، أن ما يعتمره فوق رأسه هي " طاسة " حلاق من أدوات شغله ليست خوذة ذهبية ... لكن ، المثير هنا الجدير بالملاحظة ، هو ذلك التحول الغرائبي العجيب في شخصيته ورؤاه ، إذ يتحول – وهو يري كل ذلك ويعيشه في واقعه – ليكون في رؤية العالم ، تماما كما في الرؤية لدي سيده ، هذا التحول المثير ، هو أحد أهم ملامح الإبداع في هذه الرواية الخالدة .
ولكن ، من هو هذا المؤلف الغفل الذي أشهرته الرواية ليصبح – من بعد – من أشهر الروائيين في تاريخ الرواية في عالمنا ، من هو سرفانتس ؟
كان " ميجيل دي سرفانتس " يجلس إلي مائدة منزوية في ميدان " بلازا مايور " حيث السوق الكبير في مدريد ، وتقام فيه مباريات وعروض مصارعة الثيران المثيرة ، ويتجول ، عادة ، في الميدان الكبير رجال الحاشية ، يجلس ويقوم بكتابة الشكاوي و " العرضحالات " للقرويين ليتقدموا بها للمحاكم ، ويختلط بالخادمات الشبقات اللواتي يردن لفت أنظار عشاقهن ، وبالعديد من رواد السوق . كان قد أمضي حياة دعة ورفاه ، لكنها ، بسبب من طبيعته الشخصية ، قادته إلي الميدان وإمتهان هذه المهنة الهامشية ... كان أبوه جراحا ، أنجب تسعة بين ذكور وأناث ، فولد سرفانس العام 1547 ونال قليلا من التعليم الديني ، لكن روحه الوثابة سرعان ما نفرت من تعاليم الدين ، فشل مرات ومرات في الأنتظام في الدراسة حتي فر إلي أيطاليا العام 1568 ، هكذا تغير مسار حياته بعد هذا الخروج / الهروب ، فقد كانت ايطاليا تعيش روح وملامح عصر النهضة بكل ما فيه من تجديد وانطلاق ، وبها زخم كثير من الفنون والآداب ، لكنه – شأن المحتار قليل الحيلة – أنخرط جنديا مرتزقا يخوض المعارك تحت أمرة الدوقات . أصيبت يده اليسري في أحدي المعارك وظلت تعاني عجزا يستشعره بقية حياته .ثم ، وهو في طريقه عائدا إلي موطنه ، هوجمت سفينته من أحدي سفن الأسطول التركي وأخذ أسيرا ليسجن في الجزائر ، ومكث طويلا في سجنه يكتب الرسائل متوسلا ومستعطفا ملك أسبانيا ليقوم بفك أسره ، فلم يعبأ به ، حتي قيض له أخ غير شقيق ليدفع الفدية عنه ويحله من الأسر . العام 1580 عاد إلي أسبانيا يحمل كنزا مثيرا من الذكريات ، رحل بين أكثر من مدينة وتزوج زواجا تعيسا خائبا ، ثم أتخذ له عشيقة وأنجب منها بنتا ، كتب الشعر فلم يأبه إليه أحد ، كتب في المسرح فلم يجد لا قبولا ولا استحسانا ولا رواجا ، بدواخله طاقة ذكريات وحكايات هائلة تبحث لها عن صيغة تكون فيها . كتب قصصا ريفية قحة ... ظل يجرب ويجرب ، حتي قرر ، أخيرا ، أن يكتب عن ذلك الفارس الذي سيخرج إلي العالم شاهرا سيفه طالبا العدل ، وأن يكن في العالم غير العالم الذي يراه ! نشر سرفانتس الجزء الأول من دون كيشوت في 1605 ، ثم نشر الجزء الثاني قبل وقاته بقليل عام 1616 ... يقول أنه كتبها ليسخر من عصر الفرسان ومن الروايات التقليدية التي كانت سائدة وقتذاك ، ويقوم – في الآن نفسه – بأكتشاف الفارس في دخيلة نفسه ، ذلك الفارس التي جعلته أقداره يعيش داخل جسد هزيل تحت واقع وضيع ، محاصر بالديون والأتهامات والجرائرمن كل نوع ، كان يعرف أنه عبقريا جعلته أقداره في الوضاعة الخشنة وقسوة الحياة ، وعليه أن ينهض ليعيد خلق ذاته في ميلاد جديد في مواجهة العالم ، وهو المطارد جراء جرائم تنسب إليه كيفما أتفق فتحاصره الرزايا والهول ثقيل الوطءعليه ، لم يكن بيده من سلاح سوي القلم ، فأشرعه ، وراح يكتب الرواية ... أنتقد بمرارة وقسوة كل عصره والعصور التي سبقته ، هاجم القوانين السائدة وقساوسة محاكم التفتيش المهوسين والكتاب الكذبة والحكام الظلمة الفاسدين والأدعياء والمتملقين والمنافقين من كل نوع والعاطلين عن المواهب ، كتب الفارس الذي يعرفه ويتوق أن يكونه ، كتبه فأخرجه إلي الملأ في مواجهة العالم المشوه الذي يرفضه ويسعي لتغييره ، كتبها رواية كبيرة خالدة ، حين كتب فيها عصره كما هو وكما رأه ، ثم جعل نفسه النبيلة الأبية تقود مسار الرواية كله . والجدير بالذكر هنا ، إنها حوت عبارات ورؤيات قاسية ضد العرب وتذمهم ، فقد رأهم في مراكش وغيرها ، ثم نعتهم بمنبع الشر والسحر والشعوذة ، كالن لاذعا في نقده وهجاء كبيرا !
عاد ، أخيرا ، بعد إنجلاء المعارك ، ونام نومته الأبدية ، تاركا خلفه ، وميض العالم في تغيراته وتجلياته ، وروح الفروسية والنبالة التي لا تنتهي أبدا من النفس الإنسانية علي مر العصور ، ألم يكن شافيز محقا حين رأه يعيش – عبر ملحمته الروائية الخالدة – بيننا ، وأننا ننظر إليها ، إلي القيم النبيلة منها ، ونحذو حذوها طالما نعيش – مثله – تقلبات وتغيرات هذه الحياة ، الحياة في مظالمها ووتناقضاتها ومباذلها و ... عبثها أيضا ؟ لكننا ، أيضا ، نراه جميلا نبيلا ذلك الفارس ، معاصرنا في حياتنا !
--------------------------------------------------------------------------------
الصور :
* تمثال دون كيشوت وتابعه سانشو في مدريد .
* لوحة دون كيشوت وسانشو بالأبيض والأسود لبيكاسو .
* ثم لوحة سلفادور دالي : دون كيشوت وتابعه ستنشو .
* دالي *
دائما ، يجلس منتصبا فوق ظهر حصانه ، يمسك رمحه في يد ، بينما يرفع الآخري ، لربما إحتجاجا أو إعتراضا ، فكلاهما في قلبه حافزان للمنازلة ! جسده هزيل نحيف ، وحصانه هزيل أعجف ، ورمحه رفيع ، حاد طويل ، معتزا بنفسه حد مواجهة الخطر ، وبجانبه ، دائما يمشي – كلوحة سريالية – تابعه الأمين " سانشو بنزا " ، بقامته القصيرة وجسده المكوز ، يجلس فوق ظهر حماره وقد وضع علي رأسه خوذة ، لكنها كانت قبل أن يشغلها وعاء يستخدمه الحلاق في إذابة الصابون ... يحدق أمامه ، في شرود حر ، لربما يشغل باله التفكير في الجزر والأرخبيلات الفاتنة والممالك التي وعدها به سيده دون كيشوت ، ولم يف – بعد – بأيا منها ، فظل في سعيه الرحيم المثابر ! لم يكونا – أيا منهما – ليرضخ للهزيمة ولا للمهانة والدعة تنال منهما . دون كيشوت ، ظل لأكثر من أربعمائة عام غير مستعدا للإستسلام ، ولم يكن أبدا غائبا عن عالمنا ومايدور فيه ... ذلك الفارس الوحيد، الذي يقف ، بشموخ وبسالة ونبالة الفرسان ، وقفته ذات الأنفة والكبرياء العالية ليقول قوله في الملأ ، ويعلن موقفه في الناس والعالم ! وحده ، يفعل ذلك ، بعد أن رحلت مواكب الفرسان من كل نوع عن عالمنا بلا رجعة : فرسان المائدة المستديرة ، فرسان الصليب والهيكل والإنكشارية وحتي فرسان المماليك ... وحده ، من بين فرسان كل العصور ، بقي في الذاكرة الإنسانية يعلن مطالعه فينا كل صباح ، ممسكا – بثبات وتماسك عنيد – مبادئه لا يتازل عنها قط ولا يهادن بشأنها ، لكأنه يقول إلينا : أن الصغائر الدنيئة والأكاذيب وألاعيب السحرة والمردة من بني البشر ، ويفعلونها بالقول والفعل والمراوغة ، لا تزال فاشية في الناس ! لذا قرر دونما تردد أن يكرس للأبد خروجه الجسور في مواجهتها ،في ميادين تواجدها ومعاركها بالذات !
ويالعظمة ونبالة قضيته ، ويالعظمة ذاك المدرك أقدار الدنيا والناس : " شافيز " ، نعم ، هو نفسه الذي كان قد أعلن في الملأ ثم شرع لفوره يوزع مليون نسخة من رواية دون كيشوت مجانا علي مواطنيه ... كان شافيز رائيا ، واعيا بالعالم من حوله ، فقد أراد لشعبه الذي يحبه ، أن يتمعن في مثال هذا البطل الذي حارب ، ولا يزال ، طواحين الهواء بلا هوادة أو وهن ، وبعزيمة وأصرار لا يتوقف لحظة ، وهو في ملاحقة مثله وقيمه السامية ... قال شافيز العظيم : " سنقرأ جميعا دون كيشوت ، لنتغذي أكثر من روح مكافحة أرادات إحقاق الحق وتصحيح العالم ، إننا جميعا أتباع دون كيشوت إلي حد ما " ... أبدا ما فعلها أحد غيره ، فيالعظمة روح الإنسان حين تكون في مصاحبة الوعي ، الوعي بوجودنا وبالعالم !
دون كيشوت أمتلك نفسا كبيرة عالية ذات كبرياء وإباء وشموخ ، أبدا لم يقبل يكون في دائرة الواقع الضيقة بصراعاتها وآثامها وتناقضاتها ، لم يرض – أيضا – أن يكون رهينا لإمكانياته الضئيلة التي لا يملك في يديه سواها . فهو نبيل متوسط الحال ، هزيل الجسم وفي الخمسينيات من عمره ، بصره ضعيف جراء كثرة مطالعاته كتب وتراث الفروسية علي مر العصور ... تمرد علي واقعه المترف حين أحس في أعماق قلبهع ورؤاه أن العالم من حوله يضج بالمظالم والبؤس والفقر والتسلط والقهر والعدوان ، ولابد لأحد أن يخرج لمقارعتها ومنازلتها في ميادينها أينما وجدت ، فقرر – في لحظة إنبثاق الرؤية – أن يخرج هو ليخوض غمار المعارك صوب تغيير هذه الوقائع المزرية إلي غد أفضل وأكثر عدالة وجمالا ... فأختار أن يكون فارسا من نبلاء القرون الوسطي ... هذا ، أجمالا ، ما قامت عليه أسس الرواية الخالدة : التناقض بين المثال والواقع ، بين الوهم والحقيقة .... فيثير لدينا الضحك والسخرية ، لكنهما ، معا ، من سمات الفن الراقي والحياة الجليلة ! وسرفانس ، مؤلف الرواية ، نسج روايته علي فن الكوميديا التي تشحذ العقل وتشغل التفكير ، أن حس السخرية والقدرة علي أكتشاف التناقض ، هو الذي ضمن لفن الرواية التميز دون سائر الفنون ، وهو الذي يضمن بقاءها ، علي كونديرا ! إذن ، غادر دون كيشوت قصره وحياته المترفة ليخوض تجربة الفروسية مرتين : في الأولي كان وحيدا ، عديم الخبرة بالعالم من حوله ، لذا كانت هزيمته سريعة وقاسية ، وجروحه مثخنة نازفة ، كان يوشك علي الموت حين عاد إلي بيته ، لكنه لم يمت ... بل سرعان ما أستعاد إليه روح المغامرة والجسارة في مواجهة الأهوال حد أن أمتلأت روحه بها من جديد ، تلك الروح العجيبة التي لا تعرف الهزيمة ولا الوهن ولا الشيخوخة ... هكذا راح يعيد بعث روحه من جديد ، فيجعلها في مرتبة المقاومة والمضي في سبيل نيل المعالي ومطالبها في الأنتصار . هذه المرة ، أستطاع أن بستميل إليه أحد الفلاحين من ضمن الذين يعملون عندهم بأن تابعا له ... فكان " سانشو بنزا " العظيم ، وهكذا بدأت واحدة من أكبر المغامرات في تاريخ الرواية في العالم :
حرب ضد العمالقة التي هي في حقيقتهما طواحين هواء ، وضد الجيوش المسحورة التي هي أغنام ، وتقديم العواطف منقادة بأشواق مزهرات عاليات لأميرات هن في واقع أمرهن بائعات هوي ، وإنقاذ لفرسان ما هم إلا مجرمون سفلة ... هكذا تمضي في سرديات الرواية تلك " الثنائية " العجيبة بين الوهم والحقيقة ، وتتحول - وياللسخرية والمفارقة – كل هزيمة إلي أنتصار ، تماما كما يحدث لدينا هذه الأيام ، حين تتحول – بإفك وضلال المتأسلمين – الهزائم إلي أنتصارات باهرة ، مع فارق النبالة هنا ، والخسة هناك عند المتأسلمين ! يتلقي دون كيشوت من الضربات والطعنات أكثر من تلك التي يوجهها للأعداء ، فيمتلئ جسده بالجروح في نزفها القاسي وخشونته ، لكن روح المغامرة فيه وحبه المجنون للأنتصار لا تموت ، متجاوزا بها جسده الواهن المثخن ، وعظامه الهشة ، وعمره الذي علي مشارف الشيخوخة ! أما ذلك المخلص المتفاني في الحياة ، تابعه الأمين المبارك سانشو بنزا ، الشخصية الضرورية والمكملة بخق لشخصية دون كيشوت ، فقد كان فلاحا عاديا ، محدود الأفق والتفكير ، نهما ولا يدرك كنه الأشياء ، إلا تلك التي يحسها حين تلامسها أصابعه ، أميا لا يعرف القراءة والكتابة ، ولعل تلك هي نقطة ضعفه الأساسية في حياته ... فمن المؤكد أنه لم يصدق دون كيشوت ووعده إليه أن يمنحه لقاء مرافقته إياه ، جزيرة وينصبه ملكا عليها ! لكنه – فيما يبدو – قد أخذ ببلاغة دون كيشوت وسحر بيانه ، بأشواقه المستحيلة وطموحاته النبيلة وسعة معارفه وثقافته وفصاحته ، فها هو يقول إليه : " في الحقيقة ، ياسيدي ، أنك واعظ أفضل منك سيدا " ... لا ، لم يكن به وهم حين سار من خلفه ، فقد كان يري العالم عاريا ، تماما كما هو علي حقيقته القاسية ... وكان ، أيضا ، يعرف أن معاركهما هي في حقيقتها مع طواحين هواء لا مع مردة وشياطين ، وأن ما يعترضهما هي أغنام ليست جيوشا مسحورة ، وأن هؤلاء الذين في الأسر يخوضون المعارك لإطلاقهم ما هم إلا مساجين وقتلة ليسوا فرسانا مهزومين ، بل أن سانشو يعرف أيضا ، أن ما يعتمره فوق رأسه هي " طاسة " حلاق من أدوات شغله ليست خوذة ذهبية ... لكن ، المثير هنا الجدير بالملاحظة ، هو ذلك التحول الغرائبي العجيب في شخصيته ورؤاه ، إذ يتحول – وهو يري كل ذلك ويعيشه في واقعه – ليكون في رؤية العالم ، تماما كما في الرؤية لدي سيده ، هذا التحول المثير ، هو أحد أهم ملامح الإبداع في هذه الرواية الخالدة .
ولكن ، من هو هذا المؤلف الغفل الذي أشهرته الرواية ليصبح – من بعد – من أشهر الروائيين في تاريخ الرواية في عالمنا ، من هو سرفانتس ؟
كان " ميجيل دي سرفانتس " يجلس إلي مائدة منزوية في ميدان " بلازا مايور " حيث السوق الكبير في مدريد ، وتقام فيه مباريات وعروض مصارعة الثيران المثيرة ، ويتجول ، عادة ، في الميدان الكبير رجال الحاشية ، يجلس ويقوم بكتابة الشكاوي و " العرضحالات " للقرويين ليتقدموا بها للمحاكم ، ويختلط بالخادمات الشبقات اللواتي يردن لفت أنظار عشاقهن ، وبالعديد من رواد السوق . كان قد أمضي حياة دعة ورفاه ، لكنها ، بسبب من طبيعته الشخصية ، قادته إلي الميدان وإمتهان هذه المهنة الهامشية ... كان أبوه جراحا ، أنجب تسعة بين ذكور وأناث ، فولد سرفانس العام 1547 ونال قليلا من التعليم الديني ، لكن روحه الوثابة سرعان ما نفرت من تعاليم الدين ، فشل مرات ومرات في الأنتظام في الدراسة حتي فر إلي أيطاليا العام 1568 ، هكذا تغير مسار حياته بعد هذا الخروج / الهروب ، فقد كانت ايطاليا تعيش روح وملامح عصر النهضة بكل ما فيه من تجديد وانطلاق ، وبها زخم كثير من الفنون والآداب ، لكنه – شأن المحتار قليل الحيلة – أنخرط جنديا مرتزقا يخوض المعارك تحت أمرة الدوقات . أصيبت يده اليسري في أحدي المعارك وظلت تعاني عجزا يستشعره بقية حياته .ثم ، وهو في طريقه عائدا إلي موطنه ، هوجمت سفينته من أحدي سفن الأسطول التركي وأخذ أسيرا ليسجن في الجزائر ، ومكث طويلا في سجنه يكتب الرسائل متوسلا ومستعطفا ملك أسبانيا ليقوم بفك أسره ، فلم يعبأ به ، حتي قيض له أخ غير شقيق ليدفع الفدية عنه ويحله من الأسر . العام 1580 عاد إلي أسبانيا يحمل كنزا مثيرا من الذكريات ، رحل بين أكثر من مدينة وتزوج زواجا تعيسا خائبا ، ثم أتخذ له عشيقة وأنجب منها بنتا ، كتب الشعر فلم يأبه إليه أحد ، كتب في المسرح فلم يجد لا قبولا ولا استحسانا ولا رواجا ، بدواخله طاقة ذكريات وحكايات هائلة تبحث لها عن صيغة تكون فيها . كتب قصصا ريفية قحة ... ظل يجرب ويجرب ، حتي قرر ، أخيرا ، أن يكتب عن ذلك الفارس الذي سيخرج إلي العالم شاهرا سيفه طالبا العدل ، وأن يكن في العالم غير العالم الذي يراه ! نشر سرفانتس الجزء الأول من دون كيشوت في 1605 ، ثم نشر الجزء الثاني قبل وقاته بقليل عام 1616 ... يقول أنه كتبها ليسخر من عصر الفرسان ومن الروايات التقليدية التي كانت سائدة وقتذاك ، ويقوم – في الآن نفسه – بأكتشاف الفارس في دخيلة نفسه ، ذلك الفارس التي جعلته أقداره يعيش داخل جسد هزيل تحت واقع وضيع ، محاصر بالديون والأتهامات والجرائرمن كل نوع ، كان يعرف أنه عبقريا جعلته أقداره في الوضاعة الخشنة وقسوة الحياة ، وعليه أن ينهض ليعيد خلق ذاته في ميلاد جديد في مواجهة العالم ، وهو المطارد جراء جرائم تنسب إليه كيفما أتفق فتحاصره الرزايا والهول ثقيل الوطءعليه ، لم يكن بيده من سلاح سوي القلم ، فأشرعه ، وراح يكتب الرواية ... أنتقد بمرارة وقسوة كل عصره والعصور التي سبقته ، هاجم القوانين السائدة وقساوسة محاكم التفتيش المهوسين والكتاب الكذبة والحكام الظلمة الفاسدين والأدعياء والمتملقين والمنافقين من كل نوع والعاطلين عن المواهب ، كتب الفارس الذي يعرفه ويتوق أن يكونه ، كتبه فأخرجه إلي الملأ في مواجهة العالم المشوه الذي يرفضه ويسعي لتغييره ، كتبها رواية كبيرة خالدة ، حين كتب فيها عصره كما هو وكما رأه ، ثم جعل نفسه النبيلة الأبية تقود مسار الرواية كله . والجدير بالذكر هنا ، إنها حوت عبارات ورؤيات قاسية ضد العرب وتذمهم ، فقد رأهم في مراكش وغيرها ، ثم نعتهم بمنبع الشر والسحر والشعوذة ، كالن لاذعا في نقده وهجاء كبيرا !
عاد ، أخيرا ، بعد إنجلاء المعارك ، ونام نومته الأبدية ، تاركا خلفه ، وميض العالم في تغيراته وتجلياته ، وروح الفروسية والنبالة التي لا تنتهي أبدا من النفس الإنسانية علي مر العصور ، ألم يكن شافيز محقا حين رأه يعيش – عبر ملحمته الروائية الخالدة – بيننا ، وأننا ننظر إليها ، إلي القيم النبيلة منها ، ونحذو حذوها طالما نعيش – مثله – تقلبات وتغيرات هذه الحياة ، الحياة في مظالمها ووتناقضاتها ومباذلها و ... عبثها أيضا ؟ لكننا ، أيضا ، نراه جميلا نبيلا ذلك الفارس ، معاصرنا في حياتنا !
--------------------------------------------------------------------------------
الصور :
* تمثال دون كيشوت وتابعه سانشو في مدريد .
* لوحة دون كيشوت وسانشو بالأبيض والأسود لبيكاسو .
* ثم لوحة سلفادور دالي : دون كيشوت وتابعه ستنشو .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق